ناصر بن عبدالله
الريامي، مؤلف كتاب زنجبار شخصيات وأحداث
جريدة عمان السبت, 6 جمادى الأول 1435هـ. 08 مارس 2014م
جميلٌ أن نرى اهتمامًا متزايدًا، خلال السنوات القليلة المنصرمة،
في شأن التاريخي العُماني، والأكثر منه جمالاً أن نرى هذا الاهتمام من أبناء
التاريخ من الشباب العُماني الواعي المثقف والمتسلح بسلاح العلم والمعرفة، بعد أن
ظل هذا التاريخ لسنين خلت حكرًا على الأقلام الأجنبية .. فقرأنا تاريخنا
بعيون غربية .. قرأناه كما تمليه علينا أحادية الهوى والهوية .. فعلاً، فإن قدرًا
كبيرًا من الدراسات العُمانية التي اطلعنا عليها تأثرت بالنهج الاستعماري الذي
كرّس الكثير من المفاهيم الخاطئة، بل والمغرضة في آنٍ معًا. فالشكر كل الشكر أزجيه
إلى المؤسسات الثقافية الرسمية والأهلية، كالنادي الثقافي ودار بيت الغشام للطباعة
والنشر والترجمة، على جهودهم المخلصة في الأخذ بأيدي أصحاب الفكر والقلم من الشباب
العماني، من خلال رعايتهم، و رفد المكتبة العُمَانية بعصارةِ أفكارهم.
فإلى جانب الخطوة الثقافية غير المسبوقة، والمتمثلة في الموسوعة العمانية الثرية
بالمعلومات، التي في حاجة إلى وقفاتِ تأملٍ خاصة؛ كان انبهاري بكثيرٍ من الكتبِ
الصادرةِ حديثاً، والتي جذبت انتباهي خلال تجوالي في المنبر السنوي للثقافة
العُمانية، معرض مسقط الدولي للكتاب في دورته التاسعة عشرة، ومن ذلك الكتاب
الموسوم بـ(زنجبار في عهد السيد سعيد بن سلطان – دراسة في التاريخ الاقتصادي)،
بطبعته الجميلة من جميع النواحي، وغلافه القشيب الأنيق، لصاحبه أحد فرسان القلم،
الأستاذ سليمان بن عُمير بن ناصر المحذوري، الصادر عن دار الفرقد للطباعة والنشر
والتوزيع بدمشق، ضمن مشروع النادي الثقافي في مسقط، المعروف بـ”البرنامج الوطني
لدعم الكتاب”.
سيتمكن القارئ، من خلال هذا الكتاب، الذي يقع في 286 صفحة، الإبحار في أهم المحطات
الاقتصادية التاريخية التي مرت بها سلطنة زنجبار، منذ أن قرر السيد سعيد بن سلطان
أن يتخذ من زنجبار “عاصمةً للشق الأفريقي” من امبراطوريته، في عام 1932م؛ إلى أن
أصبح يحكم عُمَان من زنجبار بدلاً من أن يحكم شرق إفريقيا من عُمَان؛ موضحًا أن
هناك دوافع سياسية، وأخرى استراتيجية وجغرفية؛ وأخيرًا دوافع اقتصادية، هي التي
دفعت بالسيد سعيد بن سلطان إلى الاستقرار في زنجبار، وإدارة شؤون عُمان منها.
وفي هذا السياق، عرّج الباحث إلى مسألةٍ غايةٍ في الأهمية وهي أن زنجبار خضعت
بشكلٍ رسميّ للحكم العُماني منذ منتصف القرن السابع عشر، ومع ذلك، لم تحظَ
بالعناية ولا بالتنمية والتطوير إلا في عهد السيد سعيد بن سلطان، وتحديدًا منذ عام
1832م، حيث أولى اهتمامًا خاصًا بالزراعة، مبتدئا بنخيل النارجيل، لينتقل لاحقًا
إلى إيلاء اهتمامٍ خاص بزراعة القرنفل، إلى أن شغلت مزارع القرنفل أكثر من نصف
مساحة الجزيرتين المكونتين لزنجبار (جزيرة أونجوجا، وجزيرة بيمبا)، وذلك بالنظر
إلى الجدوى الاقتصادية لهذه الشجرة، للطلب المرتفع على القرنفل، ليس في زنجبار
فحسب، وإنما في كثيرٍ من دول العالم التي أضحت تستورده من سلطنة السيد سعيد بن
سلطان، كونها الأكثر انتاجًا على مستوى العالم.
سيتعرّف القارئ، من خلال تصفحه للفصل الثاني من هذا الكتاب على العوامل التي ساعدت
على تنشيط الحركة التجارية في زنجبار، ومن مقدمة ذلك هو السيد سعيد بنفسه الذي كان
مولعًا بالتجارة، وبارعًا مرنًا فيها، إلى أن وصفه بعض المؤرخين الأوروبيين
بـ”التاجر الأمير”، ووصفوا دولته بـ”الإمبراطورية الاقتصادية”. فإلى جانب الحنكة
السياسية التي اتصف بها السيد سعيد، كان تاجرًا ماهرًا ورجل أعمال ناجحا.
يُفنّد المحذوري باقتدار بعض ما جاء في المصادر الأجنبية من عدم صحة ما يشار إلى
امتداد دولة السيد سعيد إلى الداخل الأفريقي، فهم يرون أن تلك الادعاءات إنما هي
ادّعاءات واهية. تظهر هنا فراسة المحذوري، وقدرته في تفنيد الحجة ومقارعتها،
ليس بحجةٍ أخرى فحسب، وإنما بالحجة المُساقة ذاتها. فيقول: أن المؤرّخ
(كوبلاند) ناقض نفسه عندما ذكر ان بريطانيا اعترفت بكامل سيادة وسلطة السيد سعيد
على إفريقيا الشرقية، مقابل تعاونه معها في قمع تجارة الرقيق، وبالتالي تحقيق مصالحها
الاقتصادية. والمعروف أن إفريقيا الشرقية لا تعني الساحل فحسب، وإنما يمتد الشرق
إلى داخل القارة، حيث البحيرات العُظمى، التي يطل ساحلها الغربي على حدود جمهوريات
بروندي ورواندا وأوغندا في وسط القارة. استشهد المؤلف أيضًا بما ذكره بعض
المستكشفين البريطانيين والألمانيين من أن السيد سعيد كان له نفوذ كبير واحترام
زعماء القبائل في داخلية القارة، وأنهم لطالما استلموا رسائل تعريف وتزكية من
السيد سعيد إلى زعماء القبائل لتسهيل مهامهم الاستكشافية، وأن هؤلاء الزعماء كانوا
يحترمون توجيهات السيد سعيد، على الرغم من عدم وجود حاميات عسكرية تجبرهم على ذلك.
وهكذا يستمر الباحث في عرض التاريخ الاقتصادي لسلطنة السيد سعيد بن سلطان، فيتناول
في الفصل الثالث ثلاثة محاور أساسية هي: العلاقات التجارية العُمَانية الأمريكية؛
ثم العلاقات التجارية العُمَانية البريطانية؛ لتأتي أخيرًا العلاقات التجارية
العُمَانية الألمانية. أما الفصل الرابع فلقد خصّصه الباحث لتناول النظم
الاقتصادية في زنجبار، فيعرّج من خلالها على الرسوم الجمركية، فنظام النقد
والعملات، ودخل الدولة، وغير ذلك من الجوانب ذات العلاقة. يأتي الفصل الخامس
أخيرًا ليتناول الآثار السياسية، ثمّ الاجتماعية، فالثقافية للنشاط الاقتصادي في
شرق إفريقيا.
لا أملك في هذا المقام سوى أن أقف للمحذوري وقفةَ إكبارٍ وإجلال على عملِه
المُتميّز هذا. فلقد أثرى بدراسته المكتبة العُمَانية بقضيةٍ قلما عرف عنها أبناء
التاريخ، فكيف بغيرهم. أتي بدراسةٍ مرجعيةٍ للباحثين عن الحقيقة، وللمهتمين في
الشأنِ العُمَاني في الديارِ الإفريقية. أقول هذا من منطلق أن الدراسة اشتملت على
إضافةٍ جديدةٍ متمثلة في الجانب الاقتصادي لدولة السيد سعيد، بعد أن طالعتنا في
السنواتِ القليلةِ المُنصرمة بعض الدراسات التي اختصّت في الجوانب السياسية
والاجتماعية والثقافية، دون الاقتصادية لتلك الدولة؛ أو بالأحرى، دون الاختصاص
والتعمُّق في هذا الجانب الأخير. لهذا السبب، وربما لغيره أيضًا، أرى أن هذه
الدراسة تقف مُشرئبةٌ العُنق، بجانب مثيلاتها من الكتب التي اختصت في الشأن
العُماني في الديار الإفريقية. فهنيئًا للمحذوري، وهنيئًا لنا به.
إن ما يميّز الكتاب أيضًا اعتماد مؤلّفه على قدرٍ كبيرٍ من الوثائق غير المنشورة،
والوثائق المنشورة النادرة، منها الوثائق الفرنسية والأمريكية، ومجموعة من وثائق
وزارة الخارجية البريطانية، حصل عليها المؤلف في مختلف المراكز العلمية، داخل
وخارج السلطنة، أرفَقَ بعضها في خاتمة الكتاب، ليستفيد منها الباحثون. كما طعَّمَ
المؤلف كتابه أخيرًا بمجموعةٍ من الصُّورِ النادرة لهدايا السيد سعيد بن سلطان إلى
الرئيس الأمريكي، التي نقلها مبعوثه على متن السفينة “سلطانة” عام 1840م.
ولما كان الكمال لله تعالى وحده، فإن ما قد يُؤخذ على المؤلِف، تبنيه لتلك الفكرة
المُضللة التي اعتمدها بعضٌ من أصحابِ الأفقِ الضيّقة، الذين يزعمون أن السيد سعيد
بن سلطان اتخذ من زنجبار “عاصمةً ثانية” لإمبراطوريّته؛ أو على حد تعبير المحذوري:
“اتخذ من زنجبار عاصمةً للشق الأفريقي لإمبراطوريته”. مع جُل الاحترام والتقدير
لهذا الرأي، ولمصلحةِ نقل التاريخ إلى الأجيال الآتية سليمًا، دونما تحريفٍ غير
مقصود في الغالب؛ أقول بأن الواقع الذي يؤكّده العالمون ببواطن الأمور ينفي هذا
الاتجاه بشدّة، ويؤكد أنه كلامٌ لا ينهض بجناحين، ولا يسيرُ على قدمين؛ ذلك لأن
سلطنة السيد سعيد، كما يؤكّدون، كانت لها عاصمة واحدة فقط هي زنجبار، تدار منها
شؤون السلطنة بجناحيها الآسيوي والأفريقي. يُستفاد هذا من عدة مظاهر، نذكر منها
التالي: (1) جميع سفراء الدول الصديقة (القناصل حسب التعبير القديم) اتخذوا من
زنجبار مقرًا لهم، ولم يكن في مسقط قناصل، باستثناء القنصل البريطاني والفرنسي،
لدواع سياستهما التنافسية على عُمَان بشكلٍ خاص، ومنطقة الخليج العربي والمحيط
الهندي بشكلٍ عام. ومع ذلك، كان لهاتين الدولتين المتنافستين، كلٍ على حدة، قنصلية
في زنجبار أيضًا، وببعثة أكبر حجمًا من تلك التي في مسقط. (2) منذ عام
1829م، وهي السنة التي وصل فيها السيد سعيد زنجبار، مرورًا بعام 1832م وهي السنة
التي أعلن عن زنجبار “عاصمة”، وحتى وفاته في عام 1856م، كان وجود السيد سعيد في
زنجبار أكثر من وجوده في مسقط التي ما كان ينتقل إليها إلا لحل بعض المشكلات التي
يرى أنها قد يستعصي حلّها على نائبه في مسقط، ابنه السيد ثويني بن سعيد. (3) ومنذ
أن استقر المقام بالسيد في زنجبار، فإن جميع المعاهدات التي أبرمها مع القوى
العظمى، وقعها في زنجبار. (4) كما أن بعثة السيد سعيد التجارية إلى الولايات
المتحدة الأمريكية، في عام 1840م، انطلقت من زنجبار وليس من مسقط، وفق ما أكّده
الباحث في كتابه.
ما عدا هذا الانتقاد البسيط، الذي آمل أن يُحمل على مَحمَل “الانتقاد البنّاء”،
فينتج ثماره عن قريب، فإن الكتاب يعتبر بحق إضافة جديدة للمكتبة العُمانية، ناهيك
عن كونه فريدا من نوعه، لسبر مؤلفه، وبإقتدار، أغوار جانب لم يعطَ حقه في دراسةٍ
مُتخصّصة، وهو الجانب الاقتصادي؛ على عكس ما شاهدنا بالنسبةِ للجوانب السياسية
والاجتماعية والثقافية.
No comments:
Post a Comment