مجلة الكويت:23/10/2014
آدم يوسف
في دراسته المعنونة «ثورة الشيخ بشير الحارثي في شرق أفريقيا «1888 - 1889»
يعالج أستاذ التاريخ في كلية الآداب بجامعة الكويت د.بنيان سعود تركي، هذه الثورة
من أربعة جوانب، يناقش أولها: الاندفاع الاستعماري الألماني في منتصف ثمانينيات
القرن التاسع عشر الميلادي نحو الساحل الشرقي لأفريقيا، وما تبع ذلك من اتفاق
بريطاني ألماني على تقسيم المنطقة بينهما إلى منطقتي نفوذ بريطانية وألمانية،
وتستعرض الدراسة أسباب اندلاع الثورة، ومن ثم تلقي الضوء على شخصية قائدها، وتتناول
في السياق ذاته انطلاق شرارة الثورة من مناطق «باغامويوا» و»فنجاني» وحتى مهاجمة
مقرات الشركة الألمانية، وأخيرا تغير موازين القوة لصالح الألمان، إذ تمكنوا من
القبض على الشيخ وعدد من رفاقه، وتم إعدامهم شنقاً دون محاكمة.
عرف العرب ساحل أفريقيا الشرقي منذ عصور مغرقة في القدم، ونجحوا في تأسيس كثير
من المراكز والمدن العربية على طول الساحل واستمر تدفق العرب إليه سواء للاتجار أو
للاستقرار أو للاثنين معا، وما صاحب ذلك من انتشار للإسلام واللغة العربية لغة
القرآن الكريم. واختلط العرب بأهل الساحل وتزاوجوا وأطلق على التمازج العربي
الأفريقي اسم الشعب السواحيلي وبرزت ثقافة عربية أفريقية ولغة عرفت باللغة
السواحلية التي جلها من اللغة العربية.
ومن جانبه نجح السيد «سعيد بن سلطان
البوسعيدي» «1806-1856م» سلطان مسقط في نقل عاصمته من مسقط على الجانب الآسيوي إلى
زنجبار على الجانب الأفريقي، وتمكن من تأسيس أول إمبراطورية عربية أفريقية في العصر
الحديث، شملت معظم الساحل الشرقي لأفريقيا. وبعد وفاة السيد سعيد وبسبب الصراع بين
أبنائه على الحكم، ونتيجة للتدخل الأجنبي، ولاسيما التدخل البريطاني، تم فصل مسقط
عن زنجبار، حيث حكم السيد «ثويني» مسقط، على حين حكم السيد «ماجد» زنجبار، وكان
معظم الساحل على الأقل اسميا يدين بالولاء للبوسعيديين حكام زنجبار، وكان القنصل
البريطاني في زنجبار يدعم ويعزز الوجود العماني في شرق أفريقيا، لاقتناعه والحكومة
البريطانية من ورائه بأن ذلك أيضا يؤدي إلى دعم وتعزيز النفوذ البريطاني، وعملت
الحكومة البريطانية جهدها لإبعاد القوى الغربية عن الساحل الشرقي لأفريقيا واستمر
الوضع حتى دخلت ألمانيا لاستعماره.
الدراسة التي يقدمها الدكتور بنيان التركي لا
تبحث في إشكالية الوجود الألماني في شرق أفريقيا، وإنما تهدف إلى تسليط الضوء على
ثورة عربية أفريقية قادها الشيخ «بشير بن سالم الحارثي» ضد الاستعمار الألماني في
شرق أفريقيا وتعد هذه الثورة من بين أهم الثورات التي واجهت الوجود الألماني في هذه
المنطقة.
البدايات
في ما يتعلق ببدايات الوجود الألماني في المنطقة توضح
الدراسة أن ألمانيا، وحتى ثمانينات القرن التاسع عشر الميلادي، لا تسيطر على أي جزء
من شرقي أفريقيا، ومع ذلك كان للألمان بوصفهم أفرادا نشاط كشفي، سواء ضمن رجال
الإرساليات الدينية أو ضمن بعض المؤسسات التجارية العاملة في شرق أفريقيا. لقد عرف
عن ألمانيا قناعتها الراسخة بأن مجالها الحيوي يكمن في أوروبا، ومع ذلك قامت مجموعة
من العوامل بدور في إقناع المستشار الألماني «بسمارك» والحكومة الألمانية بالدخول
في السباق الاستعماري، وإنشاء مستعمرات ألمانية في أفريقيا من أبرز تلك العوامل،
الوحدة الألمانية التي تمت في العام 1870م وضغط التجار ورجال الإرساليات الدينية
ورجال الصحافة والرأي العام الألماني على الحكومة الألمانية للتحرك بهدف حماية
المصالح الألمانية وإيجاد مناطق نفوذ لألمانيا في أفريقيا، وتعد مؤسسة «اوزفالت»
1844م من المؤسسات التجارية الألمانية السباقة في المنطقة وتم افتتاح فرع لها في
زنجبار في العام 1849م كما برز عدد من رجال الإرساليات الألمان، وكان من بينهم
«كرابف» 1844م و«ريبمان» 1846 .
كذلك أسست عدة جمعيات ألمانية تدعو
إلى ما عرف بسياسة الاندفاع نحو الشرق، ولعل من أهمها: «الجمعية الألمانية للدراسات
الأفريقية» التي تأسست في العام 1878م، وأسهمت في إنشاء كثير من المراكز في المنطقة
الواقعة بين «باغامويوا» و«بحيرة تنجانيقا». كما عينت ألمانيا «غيرهارد وولفر»
قنصلا عاما لها في زنجبار في العام 1885م وكان وولفر من الرحالة الألمان المشهورين
والمتحمسين للتوسع الاستعماري الألماني في القارة الأفريقية كما أُسست «الجمعية
الألمانية للاستعمار على يد مجموعة من رجال الأعمال الألمان وترأسها كارل بيترز في
مارس 1884م وكان لها دور فعال ومميز في توجيه الأنظار ناحية شرق أفريقيا ومن ثم
استعمارها.
وفي ذات السياق المتعلق ببدايات الوجود الألماني في المنطقة يمضي
الدكتور بنيان تركي موضحا أن مؤسس الجمعية الألمانية للاستعمار «كارل بيترز» وصل
إلى سلطنة زنجبار العربية في 4 نوفمبر 1884م وقام برحلته إلى إقليم أوسجارا الذي
يقع شمال تنجانيقا مع ثلاثة من زملائه، وتمكن خلال ثلاثة أسابيع من توقيع عشر
معاهدات مع زعماء القبائل وملوكها في تلك المنطقة «اوساجارا، ونجورو، واوزيجوا،
وأوكامي» ومنح ذلك الجمعية الألمانية للاستعمار فرصة الادعاء بالحق في السيطرة،
واستغلال تلك المنطقة الواسعة، ولم يغفل بيترز أن يشير في المعاهدات الموقعة إلى أن
السلاطين والملوك الذين عقد المعاهدات معهم مستقلون، ولا يخضعون لسلطان سلطنة
زنجبار العربية، الذي تربطه علاقات تجارية وسياسية مع الحكومة البريطانية، كما أشار
إلى أن رؤساء تلك المناطق موافقون على التنازل عن الأراضي لامبراطور ألمانيا «فلهلم
الكبير» وعلى فرض الحماية الألمانية على تلك الأراضي ونجح الألماني جوهلك في عقد
معاهدات مماثلة لتلك التي عقدها بيترز بلغت عشر معاهدات تعطي لألمانيا حق الحماية
على منطقة «كليمنجارو».
الجانب التجاري
ويتضح من خلال الدراسة أن ألمانيا
كانت تولي اهتماما كبيرا للجانب التجاري، إذ اختيرت «دار السلام» ميناء بحريا مهما
للنشاط الألماني وعقدت شركة شرق أفريقيا الألمانية اتفاقيات مع شيوخ المنطقة لتدعيم
صفتها القانونية، كما أنشأت مراكز تجارية للعمل على محاربة العرب والهنود تجاريا،
بهدف الحد من نفوذهم في المنطقة، وكان العرب والهنود يمارسون الأعمال التجارية على
طول المدن الساحلية والداخلية منذ فترة طويلة في شرق أفريقيا.
وأما في ما يتعلّق
بالعلاقات الألمانية البريطانية فقد كانت خلال فترة تولي بسمارك منصب المستشار
الألماني جيدة إلى حد كبير، ومع ذلك فإن فترة الثمانينات من القرن التاسع عشر
الميلادي شهدت التنافس الألماني البريطاني، وفي شرق أفريقيا تحديدا، وهي المنطقة
التي كانت تعدها بريطانيا ضمن مناطق نفوذها، وقامت مصلحة الطرفين الألماني
والبريطاني بدورها في التوصل إلى تفاهم بينهما على تقسيم مناطق النفوذ في السواحل
الشرقية لأفريقيا وهو ما يعرف باتفاقية 1886م وقسم الإقليم الواقع بين نهري روفوما
وتانا إلى منطقة نفوذ بريطانية ألمانية، ويمر الخط الفاصل بينهما من مصب نهر أومبا
إلى الشمال الغربي، حتى ملتقى خط1 جنوبا بساحل بحيرة فيكتوريا، واعتبرت المناطق
الواقعة شمال هذا الخط ضمن منطقة النفوذ البريطانية بينما اعتبر ما يقع جنوب هذا
الخط ضمن النفوذ الألماني.
خليفة بن سعيد
وتشير الدراسة في جانب منها إلى
الوضع السياسي في زنجبار إبان حدوث الثورة، إذ تولى السيد «خليفة بن سعيد» «1888 ـ
1890» السلطة بعد وفاة شقيقه السيد «برغش» بموافقة بريطانية وألمانية وكان ثمن
توليته الحكم توقيع عدد من الاتفاقيات، منها اتفاقية وقعت في 28 أبريل 1888م تعطي
«شركة شرق أفريقيا الألمانية» حق إدارة المنطقة الممتدة من «أومبا» إلى «رفوما» تحت
علم سلطان زنجبار وسلطته. وبرر السيد خليفة للعرب الغاضبين في الساحل أنه بعمله هذا
حمى استقلال زنجبار، ولم يكن لديه من خيار غير الإذعان للتهديد الغربي.
وترتب
على ذلك رد فعل قوي من السكان المحليين والقوى الوطنية الفاعلة في المنطقة وتعد
ثورة الشيخ بشير بن سالم الحارثي بين الثورات الوطنية التي ناصبت النفوذ الألماني
العداء بهدف إبعاد القوى الغربية التي أخذت تتكالب للسيطرة على المنطقة.
شخصية
عربية
وقبل الخوض في الحديث عن الثورة، يقدم لنا الباحث نبذة تعريفية بتلك
الشخصية التي قامت بدور «مؤثر» و«حيوي» في مقاومة النفوذ الألماني وهو الشيخ بشير
بن سالم بن بشير الحارثي، والشيخ بشير الحارثي شخصية عربية، ينتسب إلى قبيلة الحارث
التي تعد من القبائل العربية العريقة المنتشرة في الجزيرة العربية وشرق أفريقيا
وقامت هذه القبيلة بأدوار مهمة وحيوية في تاريخ عمان وشرق أفريقيا وفي مقاومة
النفوذ الأجنبي كما شاركت في الصراع على السلطة في سلطنة زنجبار العربية، واستعان
كثير من أبناء السيد سعيد بهذه القبيلة العربية للثورة أو الوثوب على السلطة ومنهم
على سبيل المثال لا الحصر السيد برغش بن سعيد وابنه الأمير «خالد بن برغش».
ولد
الشيخ «بشير الحارثي» في سلطنة زنجبار العربية، وتحديدا في جزيرة «بمبا» والتي تسمى
الجزيرة الخضراء في قرية «ويته» في ناحية «فينغة» وهنا لابد من الإشارة إلى أن
كثيرا من الباحثين الغربيين والعرب التبس عليهم مكان موطنه، إذ إن معظم المراجع
تشير إلى أنه من سكان منطقة قريبة من فنجاني في البر الأفريقي إذ كانت المعلومات
شحيحة حول الشيخ بشير ووالده فإنها أكثر شحا عن والدته، فلا تسعفنا المصادر
والمراجع المتوافرة في معرفة الكثير عنها، عدا عن أنها أفريقية من أهل الساحل
الشرقي لأفريقيا كما لا يتوافر إلا النزر اليسير من المعلومات عن وضع أسرته
الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
أسباب الثورة
وثمة أسباب كثيرة لثورة الشيخ
بشير الحارثي، وإن كان جلها يصب في مناهضة الوجود الألماني في المنطقة، هذا الوجود
الذي بدأ يلقي بتبعاته الاقتصادية والدينية على سكان المنطقة، الذين يزداد سخطهم
وغضبهم يوما بعد يوم، ولكنها بلغت ذروتها بعد أن تولى زمام شركة شرق أفريقيا
الألمانية المدير العام الجديد الهر ارنست فوهسن الذي وصل في مايو 1888م خلفا لـ
«كارل بيترز»، وكانت المهمة الملقاة على كاهل «فوهسن» هي نقل تبعية المنطقة للإدارة
الألمانية وتطبيق إجراءات وقوانين جديدة بما يخدم المصالح الألمانية، وقد ترتب على
ذلك ردة فعل قوية من سكان المنطقة المحليين، سواء الأفارقة أو الهنود أو العرب،
تمثلت أولا في الامتعاض والرفض،
وتطورت لاحقا إلى ثورة عارمة ضد
الألمان. هناك الكثير من الأسباب التي أسهمت في إشعال هذه الثورة العربية السواحلية
الأفريقية لعل أبرزها مكانة الشيخ بشير الحارثي بوصفه أحد رجال الدين المعروفين في
سلطنة زنجبار العربية، وعلى طول الساحل الشرقي للقارة الأفريقية، ولقب شيخ هنا له
دلالة دينية لا دنيوية أي أن بشير الحارثي شيخ دين لا شيخ قبيلة، عرف عنه تدينه
وورعه، وهو الموضوع الذي لم يحظ بالكثير من الاهتمام من جانب الباحثين الغربيين أو
العرب الذين تناولوا الوجود الألماني في شرقي أفريقيا، عدا «المغيري» صاحب كتاب
«جهينة الأخبار» فلا عجب أن يستدعي الوطنيون السواحليون والعرب الشيخ «الحارثي» من
سلطنة زنجبار العربية للتصدي للنفوذ الألماني.
حصلت معارك عديدة وعمليات كر وفر
بين السكان المحليين، والألمان، وبدأت أعداد الثوار تتزايد، ويحدثون خسائر بين
الألمان، وأدى النجاح الذي حققه الشيخ الحارثي إلى تحرك قوة ألمانية في 19 أكتوبر
1889م تحت قيادة القائد الألماني «فون جرافتراوت» استدعيت على عجل من المناطق
الشمالية، وتمكن «جرافتراوت» من مهاجمة الشيخ «الحارثي» ومن معه من الثوار في
«يومبو» ويقدر عددهم بحدود ألفي ثائر وطني وكان الهجوم الألماني عنيفا حيث تمكن
القائد الألماني ـ ومن انضم إليه من محاربي قبيلة «وازرامو» الموجودة على الساحل ـ
من تشتيت قوات الشيخ الحارثي ومن معه من الثوار من قبائل الوانجوني والواهيهي
والمافيتي، وقامت الأسلحة الحديثة المتوافرة لدى الألمان بدورها في ترجيح كفة
الألمان ومن معهم من المرتزقة.
وتوضح الدراسة أن القائد الألماني جمع معلومات
حول حصن الشيخ بشير وأدرك بأنه مصنوع من الحطب، فقرر مهاجمته فهاجموه فجراً بالعدة
والعدد والمدافع فضربوا الحصن، وأحرقوا وقتلت أعداد كبيرة من الثوار، وتوالت
الانتصارات الألمانية، فاضطر الشيخ الحارثي إلى اللجوء إلى جبال أوساجارا، قاصدا
ناحية منطقة فنجاني أملا في إعادة تنظيم صفوفه، وتمكن الشيخ بشير بالفعل من الوصول
إلى مكان يعرف بـ«مكواجا» ومن هناك انتقل الى «كومبي» إلا أن القدر كان له
بالمرصاد.
مشهد الإعدام
تم القبض على الشيخ بشير على يد قوة ألمانية بين
فنجاني وكومبي هو ومن معه من المرافقين العرب، ومنهم محمد وأحمد ابني عزيز ابن
عبدالسلام وخلفان بن إبراهيم الضوباني وناصر بن سليم السيابي كما خرج معه عدد من
البلوش وكذلك خادما سليمان وفوندي بن خميس.
أعدم الشيخ بشير الحارثي في فنجاني
شنقا من دون محاكمة بعد ثلاثة أيام من القبض عليه، ويشار إلى أن إعدام الشيخ بشير
تم بمشهد من عموم الطوائف في بلدة فنجاني، ومن المرجح أن القبض عليه كان في 12
ديسمبر وأن إعدامه تم في 15 ديسمبر 1889 في فنجاني حيث دفن ولا يعرف على وجه
التحديد لماذا أُبقي على الشيخ ثلاثة أيام بعد القبض عليه ولماذا لم يحاكم حتى
صوريا قبل شنقه. ويقال أن بعض مستشاري الشيخ بشير قد نجح الألمان في تجنيدهم للتجسس
عليه ولتتبع حركاته، ويشير المغيري إلى أنه لا يستبعد أن يكونوا هم السبب في القبض
عليه وتسليمه للألمان، ويرى المغيري أنه لولا خداع المستشارين وخيانتهم لنجح في
الفرار بنفسه والانتقال عبر البحر إلى سلطنة زنجبار العربية أو أية منطقة أخرى على
غرار ما فعله الشيخ مبارك بن راشد المزروعي أحد الذين قادوا ثورة ضد الألمان في شرق
أفريقيا واختتم المغيري بقوله ولكن الأمر لله من بعد ومن قبل وتمكن الألمان بعد
إعدام الشيخ بشير الحارثي من السيطرة على الوضع في منطقة نفوذهم، وتحقق لهم بعض
الهدوء ولكن جذوة المقاومة سرعان ما اشتعلت على أيدي قوى وطنية أخرى، أكملت مسيرة
المقاومة ضد الهيمنة والنفوذ الألماني في شرق أفريقيا.
No comments:
Post a Comment