Saturday, January 13, 2024

60 عاماً (1964-2024) على جنوسايد العرب في زنجبار

كتبه عبد الله علي إبراهيم

منتديات سودانيزأونلاين 1ديسمبر 2023

تمر اليوم الثاني عشر من يناير الذكرى الستين لمقتلة العرب في زنجبار في أعقاب ثورة 1964 في الجزيرة. وهي ثورة لم تقتصر على نزع سلطان العرب على زنجبار بل قصدت تصفيتهم إثنياً كوجود أجنبي استيطاني ربما أكثر خطرا من الاستعمار البريطاني الذي رحل عنها في 1961.

وكان السلطان سيد سعيد (سلطان عُمان وقتها) قد أشاد دولة العرب في الجزيرة، فقد كان لسلطنته السيادة على زنجبار ومدن الساحل الأفريقي الشرقي منذ 1689 وهو العام الذي نجحت فيه عُمان في تخليص سكان الساحل من البرتغاليين بطلب من أعيانه. ونقل السلطان سعيد سدة حكمه إلى زنجبار عام 1840 في سياق صراعات أوروبية طاغية على الموارد الأفريقية صارت الجزيرة به ميناء لتصدير رقيق الداخل الأفريقي. وكانت تلك التجارة سبباً في اضمحلال مملكة زنجبار حين انقلبت الدول الأوروبية كل في وقتها الخاص، لتُحَرم الرق. وبقي وزر هذه التجارة معلقا على العرب القائمين على بلدة كانت تلك التجارة اقتصاد سكانها أجمعين.

قال الدبلوماسي الأميركي دونالد بيترسون "لو كنا نتكلم في 1964 بلغة اليوم لوصفنا محنة العرب في الجزيرة في تلك السنة بـ(الجنوسايد) لا مواربة". لم يخضع ضحايا المحنة لإحصاء معلوم من فوق تحقيق شامل. ولكن ثمة اتفاق بين دارسين محايدين أن من قتل من العرب كان بين خمسة آلاف و11 ألفاً. ولم يبق من الخمسين ألف عربي بالجزيرة (سدس السكان) سوى 12 ألفاً من فرط التهجير القسري والترويع. وربما تَفَرد تطهير العرب العرقي في زنجبار في أنه مما صورت بعض مشاهده حية بواسطة التلفزيون الإيطالي في الوثائقي "وداعاً أفريقيا" (1966)، وعَرَض الوثائقي لمقتلة زنجبار ضمن فظاعات أفريقية وقعت بعد استقلال بلدان القارة. ويرى المشاهد على الطبيعة كيف يُساق العرب قتلا على الهوية والمقابر الجماعية التي ضمت رفاتهم. وقد احتج سفراء في أفريقيا في إيطاليا على الفيلم الذي صدمهم عنفه واستقلال القارة ما زال بكراً.

ليست محنة العرب المصموت عنها في زنجبار بدعاً. فقد نشأ في الأكاديمية الغربية مؤخراً علم كامل موضوعه الكشف عن مثل هذه "الجنوسايدات". واتخذ العلم مسمى "الدراسات الناقدة للجنوسايد المخفي". والغالب في هذه الدراسات مع ذلك تجاهل نكبة العرب في زنجبار. ولم أقع إلا على فصل وحيد عن جنوسايد زنجبار ورد في كتاب "فظائع بلا عنوان في القرن العشرين" حرره آدم هيربرت. (2011)

تضافرت حوادث في التاريخ المحلي الزنجباري والقاري الأفريقي والعالم على إسدال ستار النسيان على مقتلة العرب في الجزيرة، وأوجزها في ما يلي:

1- كان التغاضي عن ذلك الجنوسايد هو أفضل حيل الحركة القومية الأفريقية الجامعة، وفي نسختها الزنوجية المتطرفة بالذات، التي تعتقد بأن "أفريقيا للأفريقيين".

والمفهوم من الأفريقيين أنهم السود الأصل وما عداهم ممن جاؤوها من أصقاع مختلفة من العالم محض غزاة. فالعرب في رأي مثل هذه القومية غزاة والتخلص من وجودهم الثقيل كسب قومي لا مذمة.

فليس منظورا من هذا الحركة "الأصولية" بالطبع تَذَكر هذا الجنوسايد وهي التي ابتهجت بعودة زنجبار إلى القارة في اتحاد مع تنجانيقا في دولة تنزانيا بعد أشهر قليلة من الثورة والجنوسايد. وعليه دأب كتاب أفريقيون على تكذيب أرقام ضحايا الكارثة ونسبتها للخيال العربي الشاطح.

2- الفكر الماركسي الزنجباري الذي مثله عبد الرحمن بابو، زعيم حزب الأمة وعضو مجلس قيادة ثورة 1964، والفكر الأكاديمي التنزاني في الستينات والسبعينات الذي غلب فيه التحليل على الطبقة، ولم يعتبر العرق الاعتبار الذي صار له مؤخرا في الدراسات السياسية.

فمن رأي بابو أن من قام بالثورة (وما ترتب عليها) هم البروليتاريا الرثة التي سرعان ما جرى استبعادها من دفة الأحداث لتتولى قيادتها قوى ثورية اجتماعية مسؤولة. وظل بابو ومن لف لفه يتفادون النظر في الضغائن العرقية التي تجلت غير خافية في مذبحة العرب. وعليه فتفسير بابو الطبقي كان صرفا للمسألة لا تحليلا لها.

3- الفكرة القومية العربية في نسختها الناصرية التي غلبت تحالفاتها للتحرر الوطني الأفريقي على استنقاذ شعب عربي. فسقوط دولة سلطان عربي، من وجهة نظر تلك الفكرة القومية، مؤشر على صحة مطلبها في التخلص من سلاطين عرب رجعيين آخرين في مركز العرب. وكانت تلك مفارقة مأساوية أن يهلك شعب عربي على ذلك النحو والدعوة إلى قومية هذا الشعب في أوجها.

4- ووقع الجنوسايد في إطار الحرب الباردة التي كان أكبر همها كسب صفوة الحكم والسياسة الأفريقيين لسياسات القوتين العظميين، الاتحاد السوفياتي والغرب. فقد استبشر المعسكر الاشتراكي بثورة زنجبار الموصوفة بـ"كوبا أفريقيا"، واشتغل الغرب بالتخلص منها بضمها لتنجانيقا المعتدلة نسبيا.

هناك بالطبع ما يقال عن سياسات لعرب أفريقيا تنكبت سبل الإخاء الوطني. ولكن سهم النقد، طالما كنا بحضرة ذكرى جنوسايد زنجبار، يطال السردية القومية الأفريقية الجامعة. فسيبوء بناء الدولة الوطنية في أفريقيا بالفشل طالما أنكرت تلك السردية مواطنة العرب في أفريقيا وعدتهم مستوطنين ثقلاء.

وجنوسايد زنجبار، الذي دق إسفينا في دولتها ما يزال طريا، فرضته السردية القومية الأفريقية فرضا على الزنجباريين. فلم يكن في برنامج الحزبين الوطنيين المعارضين في زنجبار بقيادة عبيد كرومي (الأفروشيرازي) أو عبد الرحمن بابو (الأمة) خطة لمحو الوجود العربي. وكان صراعهم مع حزب زنجبار الوطني الحاكم والموالي للسلطان (بقيادة علي محسن) حول نتيجة انتخابات حرة تباينت نتيجتها بين فوز الوطني بالمقاعد الأكثر في البرلمان، بينما نالت المعارضة أكثرية أصوات الناخبين في الجملة. وهذا بعض المعلوم بالضرورة في الانتخابات. وهكذا لم تكن زنجبار وقتها مهيأة لأكثر من خصام انتخابي فظ وطويل واحتكاكات عرقية مقدور عليها. ولا أدل على أن ثورة 1964 والمقتلة التي بعدها هي إفراز للقومية الأفريقية الجامعة، لا الدولة الوطنية الأفريقية الزنجبارية، أن كرومي وعبد الرحمن كانا يغطان في نوم عميق حين انفجرت الثورة. فأيقظ الثوار كرومي فجرا وحملوه إلى دار السلام، عاصمة تنجانيقا بحجة حمايته. أما بابو فقد كان لائذا بدار السلام أصلا، فأيقظه السفير الكوبي هناك لينقل له خبر اندلاع ثورة في وطنه.

بثورة 1964 غَلَبت القومية الأفريقية الجامعة على الوطنية الأفريقية الزنجبارية. ولا أعلم من نوه بسخرية القدر الباهظة في ذلك الوضع مثل البروفسير علي المزروعي. فقد وضع أصبعه على ما انطوت عليه ثورة زنجبار من تناقض بين الدولة الوطنية والأفريقية الجامعة، فقائد الثورة، جون أوكيلو، أفريقي، ولكنه ليس زنجبارياً، وقد جاء الجزيرة في 1959 ضمن أفارقة الداخل ممن ظل يجتذبهم سوق العمل في زنجبار. وهكذا أسقط هذا "الأجنبي" في مفهوم الدولة الوطنية سلطاناً من الجيل الرابع في الجزيرة له الولاية على شعب مسلم بصورة كاملة. وعمقت الهوية الإسلامية من غربة قائد هذه الثورة عن الوطن الزنجباري بصورة دراماتيكية. فهو مسيحي تحول عن ديانة أفريقية خالصة فعمَّدته طائفة الكويكرز في أوغندا. وزاد بأن أصطحب عقيدته المسيحية في ثورته ضد العرب المسلمين.، فقد سماه الكويكرز "قيدون" وهو المخلص في دينهم. وتقمص أوكيلو دور المخلص لأفريقي الجزيرة من ظلم العرب. وحكى عن سفره بالباخرة من الساحل الكيني إلى زنجبار وتعرضه لعاصفة كادت تغرقهم. وقال كاتب لمَّاح إنه إنما تمثل في ذلك بسانت بول الذي كادت سفينته تغرق عند جزيرة مالطا.

ولم تستسلم الوطنية الزنجبارية لـ"غزوة" أوكيلو الثورية. وكان أول هم لكرومي بعد تعيينه رئيساً لمجلس قيادة الثورة بواسطة أوكيلو أن تتخلص منه كغريب زنيم. ونجح في مسعاه خلال خمسين يوما. واختبط قائد الثورة الأجنبي (بالمعني الوطني) الآفاق الأفريقية التي جاء منها أول مرة. علاوة على استمرار هذه الوطنية الزنجبارية في التململ من الاتحاد التنزاني المفروض عليها باسم القومية الأفريقية الجامعة وبغير شورى منها. ولهذه الوطنية حزب ما فتئ يدعو لتفكيك الاتحاد.

إن ما ينبغي أن يتوافر عليه العرب في الذكرى المنسية الستين لجنوسايد زنجبار هو تصميم إستراتيجية تضع هذه النكبة في خريطة الشر في العالم. وسيقع في هذه الهمة رد الاعتبار للعرب كمواطنين أفريقيين بمواجهة ذكرى الرق العربي التي يوظفها "التأصيليون" من القومية الأفريقية الجامعة للتنصل عن جنوسايد زنجبار. والحق أن أوكيلو قائد ثورة 1964 جاء إلى قتل العرب بلا وازع من باب مزارات الرق العربي وشحن الضغن الأفريقي بواسطتها على العرب. فكان زار قلعة المسيح بمومباسا بكينيا، قال إن حيطانها التي انحفر فيها تاريخ الرق لتُخجِل كل عربي. وعرض هنري قيتس، الأستاذ بجامعة هارفارد، هذه المزارات كلها قبل سنوات في وثائقيته عن أفريقيا. فعاب عليه زميله جوناثان قلاسمان، الأستاذ بجامعة نورثوسترن الأميركية، تغفيل سدنة هذه النصب له فيروى عنهم أساطير أدلاء السياحة وكأنها حقائق.

وكشف الأستاذان إبراهيم شريف ومحمد المحروقي في ورقة علمية أخيرا التزوير الذي دخل في صناعة تلك النصب. فقالا مثلا إن صناعة السياحة في الرق العربي تأخذ الزائر إلى كنيسة ست مونيكا ليرى قبوا به أغلال صدئة هي بقايا مزعومة للنخاسة العربية. وإذا علمنا أن الكنيسة مما بني في 1905 بعد سنوات طويلة من إلغاء الرق في زنجبار، وقفنا على الخيال الكاذب الذي من وراء تلك الصناعة. ومما يزعج حاليا أن اليونسكو أشهرت مدينة الحجر في زنجبار، وفيها معظم هذه النصب، أثراً عالميا في 2000. وازدهرت تبعا لذلك سياحة التبغيض في العرب. ولاحظ من قرأ الأدب السياحي التنزاني عن الرق خلوه من أي ذكر لثورة 1964 لتفادي ما تثيره من تاريخ للجنوسايد قد يغطي على تاريخ الرق، أو ربما كشف كيل متطرفي القومية الأفريقية الجامعة بمكيالين: الحرص على تسوئة العرب والتستر على سيئتهم هم.


Wednesday, January 10, 2024

القصور السلطانية في زنجبار

القصور السلطانية في زنجبار” (1)

القصور السلطانية في زنجبار (2)

"القصور السلطانية في زنجبار (3).. قصر "بيت المتوني



"القصور السلطانية في زنجبار (4) "استراحة السعادة

 

الذكرى الستين لاستقلال زنجبار

مجلة الواحة العمانية 9 ديسمبر 2023

بقلم: ناصر بن عبدالله الريامي

مؤلف كتاب (زنجبار: شخصيات وأحداث)

بعد كفاح طويل، تكبّده شعب زنجبار، بمختلف أطيافه، لنيل الاستقلال من سلطة الحماية البريطانية، تُوّج ذلك كله بحفلٍ بهيج، شارك في تنظيمه، وفي تكبّد نفقاته، المقتدرين من أفراد المجتمع، قبل الخزينة العامة. كانت الفرحةُ عارمة، ولم يتخيّل أحد أن توالي الأيام ستكون حُبلى بكثيرٍ من الآهات والانكسارات، وأن الفرحة لن تدوم لأكثر من اثنين وثلاثين يومًا. ففي الأيام القليلة السابقة للعاشر من ديسمبر 1963م، وهو اليوم المحدد للاستقلال، شهدت مدينة زنجبار حركة غير طبيعية للقادمين إليها، من مُختلف دول العالم، لمتابعة هذا الحدث التاريخيّ المهم. امتلأت الفنادق القليلة بالسيّاح؛ وازدحمت شوارع المدينة، بمن تطلّع إلى مُشاهدة معالم جزيرة القرنفل؛ وغصَّت أزقّة المدينة الضّيقة بالسيارات، حتى وقفت حركة السير. كلّ هذا ما كان إلاّ لمُتابعة احتفالات البلاد بيوم الاستقلال. شهد مطار زنجبار، في يوم السبت، الموافق 7 ديسمبر 1963م، وصول ثلاث وثلاثون رحلة من رحلات طيران شرق إفريقيا، لنقل الزوّار الرّسميين وغير الرّسميين للدولة؛ كما بلغت، في اليوم الذي تلاه، ثمان وعشرون رحلة من النّاقل نفسه، مُمتلئة بالمُسافرين؛ في الوقت الذي لا يتجاوز عدد الرحلات التي تصل مطار زنجبار، في الأيام العادية، عن رحلتين في اليوم. أغلب كبار الشخصيّات، وصلوا زنجبار في يوم بداية الاحتفال، الاثنين، الموافق 9 ديسمبر، وفقما ورد تفصيلًا في صحيفة ديلي ناشيون (Daily Nation)، الصادرة من نيروبي، بتاريخ 9 ديسمبر 1963م. على رأس هذه الشخصيات، دوق أدنبرة، الأمير فليب، مُمثلًا عن الملكة أليزابيث الثانية؛ والمستر دنكن (Duncan Sandys)، وزير المستعمرات البريطانية؛ ودوق دوفونشاير، اللورد توينينج (Lord Twining)؛ ورئيس مجلس الشعب المصري آنئذٍ، السيد محمد أنور السادات؛ والسيدة أنديرا غاندي؛ والمستر وليام (G. Mennen Williams)، مساعد وزير الدولة الأمريكي للشؤون الإفريقية. ففي حدودِ العاشرةِ من مساءِ يوم التاسعِ من ديسمبر من عام 1963م، بدأت فعاليات حفل استقلال زنجبار عن سلطةِ التاجِ البريطاني، في الحديقة التي عُرفت باسم (Cooper’s Ground) بحضورِ ممثلين عن سبعين دولة، بتلاوةٍ مُباركةٍ من القرآن الكريم، قراءة الشيخ إبراهيم خليل الحُصري – الذي حضر زنجبار مع الوفد المصري؛ ثم ألقى جلالة السُّلطان جمشيد كلمةً مُقتضبةً، ليعقبه رئيس الوزراء، محمد شامتي بكلمة الحكومة؛ وأخيرًا، ألقى الأمير فِليب، دوق أدنبرة، كلمةً بالنيابة عن جلالة الملكة. سلَّم سمو الأمير، عقب ذلك، وثائق الاستقلال إلى جلالة السلطان جمشيد، وفق التفصيل الواردة في صحيفة الأهرام المصرية، الصادرة في يوم 10 ديسمبر 1963م. تميَّز هذا الحفل بحضورٍ مصريٍّ مكثَّف، ناهز عدده المائة شخص. وحسب الإشارة المتقدّمة، ترأس الوفد المصري رئيس مجلس الشعب، وكان في عضويّته المستشار حلمي الشعراوي، من رئاسة الجمهورية. كما شاركت فرقة رضى للفنونِ الشعبية، ومجموعةٌ من الصحافيين والإعلاميين المصريين. الأمر الذي لفت أنظار الوفد الأمريكي – وفقما جاء في كتاب بيترسون (ثورة في زنجبار، 2002)، وأكده لي المستشار حلمي الشعراوي، في لقائي معه بتاريخ 3 فبراير 2004م – هو الاهتمام الزائد للحكومة الزنجبارية بالوفد المصري في المقام الأول، ثم بالوفود العربية الأخرى؛ على حساب الوفود الأجنبية: كالوفد الأمريكي، ووفود الدول الغربية بعامة، والأفريقية بخاصة. ركَّز بيترسون كثيرًا على تصرف الحكومة الزنجبارية تُجاه الوفد المصري؛ مُؤكّدًا، أن ذاك التصرف، أعطى انطباعًا بأن زنجبار تتّجه نحو الإصطفاف في مصاف العالم العربي. هكذا، آن موعد اللحظة التاريخية عندما انتَّصفت ليلةُ العاشرِ من ديسمبر، وفقما ورد في وصف المستشار حلمي الشعراوي، حيث أُطفِئت الكشَّافات، وجميع أضواء ميدانِ الاحتفال، لتبقى أركان الميدان في ظلامٍ دامِس، باستثناء ساريةِ العلم، التي بقِيَت الأضواءُ مُسلَّطة عليها، مُظهرة علم زنجبار التقليدي الأحمر وهو يُنكَّس، ويُرفع محله علم سلطنة زنجبار المستقلة، ذي اللون الأحمر، المُزوَّد بحبتين من القرنفل – ترمزان إلى الجزيرتين الرئيسيتين المكونتين لأرخبيل زنجبار – مطبوعتين على دائرة خضراء اللون، ترمز إلى الأمن والازدهار. عزفت فرقة موسيقى الشرطة بعد ذلك مقطوعات كلاسيكية، من بينها المقطوعة المشهورة “God Save the Queen” أو “فليحفظ الله الملكة”، وفقما جاء في وصف بيترسون. من ناحية العرق الأفريقي، لم تكن هناك فرحة بهذا اليوم، إذ أن خسارة حزبهم، الأفروشيرازي، في الانتخابات التشريعية الأخيرة، لعام 1963م، أفقدتهم الأمل في تشكيل حكومة إفريقية، كما كانوا يأملون؛ وأن فوز ائتلاف الحزب الوطني وحزب الشعب، إنما هو إعلانٌ لقيام حكومةٌ عربية، وفق منظورهم. لذلك، نظرت أغلبية العرق الأفريقي إلى الاستقلال على أنه استقلالٌ غير حقيقيّ؛ أو بالأحرى، أنه استقلالٌ للعرب، ينبغي الإطاحة به في أسرع وقتٍ ممكن. هذا الإحساس لم يكن مكتومًا، وإنما كانوا يهتفون في أماكن عامة عبارة: “إنه استقلال العرب فحسب”، وفقما جاء في كتاب أنتوني كلايتون (ثورة زنجبار وتبعاتها). وكأنّهم بذلك يقولون إنهم خرجوا من الاستعمار البريطاني إلى الاستعمار العربي. والحق أقول، فإن تأثير هذه الفكرة على العرق الأفريقي الزنجباري، كان ضعيفًا للغاية؛ على عكس نظرائهم من دولة تنجانيقا، ومن دول الجوار. لذلك، نجد الأمين العام لحزب (الكانو) في كينيا، فرع نيروبي، سامي ماينا (Sammy Maina)، يُوجّه نداءً إلى الزنجباريين، عبر التصريح الصّحفي الذي أدلى به فور الإطاحة بالحكومة الشرعية، طالبًا منهم أن يجعلوا من يوم 12 يناير، يوم الانقضاض على الشرعية في زنجبار، يومًا تاريخيًّا يُحتفى به كعيدٍ وطنيّ مشروع. موضّحًا ذلك بالقول: إن الاستقلال الذي تحقّق بتاريخ 10 ديسمبر 1963م، كان يومًا مُزيّفًا غير حقيقيّ؛ إذ لم يكُن سوى إيذان بخروج الأمّة الزنجبارية من الاستعمار البريطاني إلى الاستعمار العربي القديم القائم على العبودية، وفقما جاء في صحيفة ديلي نيشون، الصادرة من نيروبي، بتاريخ 15 يناير 1964م، ص 4. وعليه، فإن فرحة الاستقلال العارمة لم تستمر طويلًا؛ إذ سُرعان ما تفتَّتَتْ، وحلَّت محلها الآهات والانكسارات، نتيجة المذبحة البشريةِ الدامية، التي استتبعت الإطاحة بالحكومة الشرعية، من بعض دول الجوار بتاريخ 12 يناير 1964م. لذلك، نؤكد ههنا أنه من الخطأ، جُل الخطأ، أن نشير إلى ذاك الحراك “الأجنبي” الذي أطاح بالشرعية في زنجبار، بقوةٍ أجنبية، وبسلاحٍ أجنبي، إلى كونه ثورة. فلم يكن الأمر كذلك؛ كما أنه لم يكن إنقلابًا، في الوقت عينه؛ وإنما غزو وعدوان خارجي. ولا أرى أن المقام يستدعي إيراد المعنى القانوني لمصطلح “الثورة”، ولا لمصطلح “الإنقلاب”؛ للتدليل على عدم انطباقهما على تلك الأحداث التي أطاحت بالشرعية. ولمزيد من الإيضاح، يمكن الرجوع إلى كتاب (زنجبار: شخصيات وأحداث)، وتحديدًا فصل سقوط زنجبار.

 

رحلة السلطان حمود بن محمد إلى ساحل إفريقيا الشرقي

ندوة رحلات سلاطين البوسعيد بين سلطنتي زنجبار ومسقط وعُمان بجامع السلطان قابوس بصحار ، النادي الثقافي ، 29 نوفمبر 2023


 

العُمانيون في إفريقيا

 د. سليمان المحذوري

جريدة الرؤية 7 مايو2023

بدعوة كريمة من الزملاء في قسم التاريخ بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس الجامعة العريقة- التي أعتزُ أني كنت أحد طلابها في مناسبتين البكالوريوس والماجستير- حضرت ندوة فريدة من نوعها بعنوان "الكتابات التاريخية المعاصرة: رؤى نقدية وتوجهات مستقبلية" تزامنًا مع الاحتفاء بيوم الجامعة.

استعرضت الندوة أوراق عمل مهمة ركّزت على أهمية ربط الماضي بالحاضر، واستشراف المستقبل، وأنّ الكتابة التاريخية المعاصرة خرجت من العباءة التقليدية، ولم تعد تقتصر سردية الحدث باعتباره خبرًا من الماضي، ولابد من اهتمام المؤرخ بالإنسان البسيط والمجتمع بمختلف فئاته كما ذكر د.علي الريامي رئيس قسم التاريخ في معرض كلمته. ومن بين المداخلات العلمية ورقة العمل التي قدمها ياسر الرحبي وحملت عنوان "المهجر العُماني في شرق أفريقيا: الواقع والتحديات ونظرة مستقبلية" وأجد أنّ فكرة الورقة تتماهى مع أهمية الاستفادة من الوجود التاريخي للعُمانيين في منطقة أفريقيا الشرقية.

ومن المعلوم أنّ الصلات العُمانية بالمنطقة تمتد لقرون طويلة حركتها الرياح الموسمية التي تهب في مياه المحيط الهندي- العمق الاستراتيجي لعُمان– خلال موسمين؛ حيث تبحر السفن الشراعية من مختلف الموانئ العُمانية في فصل الصيف محمّلة بالسلع المحلية وتبدأ تجارتها من الصومال شمالًا مرورًا بالموانئ الكينية حتى تصل زنجبار محطتها الرئيسية، وأحيانًا تصل إلى موزمبيق جنوبًا، ثم تعود محملة بالخيرات الإفريقية إلى عُمان في فصل الربيع مع هبوب الرياح الجنوبية الغربية.

هذه العلاقات التاريخية المتجذرة أثمرت مؤثرات حضارية ثقافية واجتماعية بين الجانبين ولا زالت باقية، ويُمكن للزائر ملاحظتها بسهولة سواء في عُمان أو زنجبار. بيد أنّ السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه كيف يُمكن لعُمان استثمار هذا الإرث التاريخي والحضاري في الوقت الحاضر؟ وكيف يُمكن الاهتمام بالإنسان العادي من أصول عُمانية في محيطه الإفريقي؟ وهل يُمكننا الحفاظ على الهوية الثقافية العربية والمكاسب الحضارية في شرق إفريقيا؟

وخلال استضافة كريمة من مجلس الخنجي قدمت محاضرة بتاريخ 18 يونيو 2022 تتعلق بعُمان وإفريقيا الشرقية وآفاقها المستقبلية. وفي مداخلة لي عبر برنامج "صباح الخير يا بلادي" حلقة الثلاثاء 11 أكتوبر 2022، تحدّثت عن العلاقات التاريخية بين عُمان وزنجبار بالتزامن مع زيارة رئيس زنجبار إلى سلطنة عُمان، وتمّ التركيز كذلك على آفاق هذه العلاقات التي لم تنقطع أساسًا.

إجمالًا.. ورغم أنّ هنالك جهود ومشاريع حكومية في الجوانب الثقافية والاقتصادية، وجهود مقدرة لجمعية الاستقامة العالمية في المجالات التعليمية والاجتماعية من أجل الحفاظ على الإرث التاريخي والحضاري؛ إلّا إنني دائمًا أقول وأكرر إنّ عُمان مؤهلة أكثر من غيرها للبناء على تلك الأرضية الصلبة من الصلات الراسخة وما أفرزته من نتائج، وضرورة استثمار هذه القوى الناعمة لحاضر ومستقبل عُمان انطلاقًا من الإجابة عن الأسئلة المطروحة في صدر المقال.

عُمان وزنجبار.. تاريخ عريق ومستقبل واعد

 د. سليمان المحذوري

جريدة الرؤية 12 يونيو 2022

مُنذ القدم والسفن العُمانية تمخر عباب المحيط الهندي طولًا وعرضًا شرقًا وغربًا، ولا يختلف اثنان على أنّ العُمانيين عرفوا وجهتهم الاقتصادية ومنذ زمن مبكر جدًا، وكانت الصحراء حاجزًا تحول دون الولوج إلى داخل الجزيرة العربية؛ فيما كان البحر يفتح ذراعيه على امتداده، لا سيما وأنّ عُمان تمتلك سواحل طويلة تمتد آلاف الكيلومترات على بحري عُمان والعرب.

وكانت الخبرات العُمانية البحرية حاضرة في ترويض مياه المحيط الهندي لفائدتهم وتحقيق مآربهم. حيث وصلت سفنهم إلى الصين شرقًا، وجنوبًا انسابت مع حركة الرياح الموسمية الشمالية الشرقية إلى موانئ الشرق الإفريقي ابتداءً من الصومال مرورًا بكينيا وصولًا إلى زنحبار المحطة الرئيسة للسفن. وبعض السفن تواصل رحلتها إلى جزر القمر ومدغشقر أو جنوب أفريقيا في بعض الأحيان. وبعد مكوث هذه السفن بضعة أشهر في تلك الموانئ، ونجاح عملياتها التجارية تعود في فصل الربيع إلى عُمان مع الرياح الجنوبية الغربية.

وعندما نذكر زنجبار؛ فإننا نستذكر معها بلاد السواحل كما سمّاها العُمانيون، وتستذكر الجزيرة الخضراء ومتوني، وقصر العجائب، وشجرة القرنفل، واللغة السواحلية، ونستذكر حملات الإمامين سلطان بن سيف ونجله قيد الأرض لتحرير ممباسا وزنجبار من القبضة البرتغالية، ونقل السيد سعيد بن سلطان لبلاط ملكه من مسقط إلى زنجبار التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الإمبراطورية العُمانية؛ الأمر الذي أدى إلى نشوء علاقات اجتماعية وثقافية مميزة بين الجانبين ما زالت باقية إلى يومنا هذا.

ومن سنن الله في أرضه التبدل والتحول "وتلك الأيام نداولها بين الناس"؛ حيث غادر آخر سلطان من دولة البوسعيد زنجبار عام 1964 بعد الأحداث المؤسفة والأليمة التي شهدتها الجزيرة الوادعة لأسباب كثيرة لا مجال للخوض فيها في هذا المقال. وبالتالي ليس من الحكمة البكاء على اللبن المسكوب، واجترار الماضي والتغني به فنحن أبناء اليوم. وما يهمنا الآن أنّ هنالك علاقة خاصة جدًا بين عُمان وزنجبار، وعلاقات مصاهرة فحتى اليوم حركة السفر بين الجانبين لم تتوقف، وهنالك أسر عُمانيّة كثيرة جزء منها هنا، وجزء آخر متوزع على بلدان ومناطق إفريقيا الشرقيّة، وعلى وجه الخصوص جمهورية تنزانيا. كما أنّ النسيج الثقافي متشابه إلى حد كبير إن لم يكن متطابقًا في بعض النواحي. وهذا يدعو وبقوة إلى ضرورة البناء على هذا الإرث التاريخي، واستثمار البعد الحضاري بتأسيس شراكة استثنائية بين الجانبين، وفي مختلف المجالات لفائدة الشعبين في كلا البلدين.

وإن كان ثمة فراغ سيسده آخرون بكل تأكيد؛ وعُمان مؤهلة أكثر من غيرها بفضل ما تملكه من أدوات ناعمة؛ لتأسيس شراكات متفردة مع كافة دول شرق إفريقيا بلا استثناء؛ من خلال تمتين الصلات مع هذه الدول بشتى الوسائل، والحضور العُماني القوي، وتفعيل الدبلوماسية الاقتصادية بما يحقق تطلعات سلطنة عُمان الحالية، ورؤيتها المستقبلية.

Saturday, January 6, 2024

ندوة رحلات سلاطين البوسعيد بين سلطنتي زنجبار ومسقط وعمان

 النادي الثقافي ، جامع السلطان قابوس الأكبر 29 نوفمبر 2023





Friday, January 5, 2024

في الذكرى الـ27 لرحيل السفير أحمد اللمكي

ناصر بن عبدالله الريامي،جريدة الرؤية 3 يناير 2024

 

يخبرنا التاريخ، بأنَّ مكتباتنا العربية ساهمت- على مر العصور والأزمنة- في استحضار القدوات، وفي ترسيخها في عقول النشء .. يخبرنا التاريخ أيضًا، بأنَّ تلكم القدوات، التي كان لها الفضل في إنجاز العديد من الأعمال الوطنية المتميزة، لعبت دورًا محوريًا في بذر بذور الخير في ألباب النشء، وفي تكوين جملة من العقائد البناءة، المكونة في النهاية لكينونتهم، المؤهلة للمساهمة في بناء الأوطان.

وعلى الرغم من أن مكتباتنا العُمانية، ظهر عليها بعض القصور في هذا الجانب؛ إلا أن ما يدعو إلى التفاؤل، سيرها- في السنوات القليلة المنصرمة- في الاتجاه نفسه. إن القدوة محل البيان، اجتمعت عليه العبارة التالية: لو أجاز الشرع تشييد التماثيل للبشر، لحقّ لموضوعنا واحدًا على الأقل.

موضوعنا هو السفير أحمد بن محمد بن ناصر اللمكي، الذي يعود بأصله إلى حلة الظاهر في ولاية الرستاق العمانية. فجده الثاني هو الشيخ الوقور الهمام سليمان بن ناصر اللمكي، الذي أهلته مكانته الاجتماعية أن يعينه عظمة سلطان زنجبار نائبًا عنه، عندما سافر السلطان إلى بريطانيا في شهر مايو من عام 1929م، لحضور حفل تتويج الملك جورج الخامس، ملكًا على بريطانيا. كما أن جده لأمه، هو الشيخ سعيد بن عبدالله الخروصي، الذي كان مديرًا لمديرية زنجبار (يعادل محافظ في الأنظمة الأخرى).

ولد أحمد اللمكي في قلب مدينة زنجبار التاريخية (المدينة الحجرية)، بتاريخ 10 أبريل 1929م؛ ونشأ وترعرع في كنفِ أسرةٍ كبيرة، مكوّنة من سبعة عشرَ شقيقاً وشقيقة، كان ترتيبه الرابع، من حيث التسلسل العمري. عندما بلغ من العمر ثماني سنوات، بعثه والده إلى القاهرة للدراسةِ الابتدائية، وتحديدًا في شهر يونيو من عام 1937م، أسوةً بشقيقه الأكبر بركات، الذي كان قد سبقه إلى الديار المصرية بسنتين تقريبًا. يذكر، فإن السفر كان على متن سفينة شراعية تقليدية عُمانية، المعتمدة في إبحارها على حركة الرياح الموسمية. وفي تلك الديار، التقت أفكار أحمد وتجانست مع الأفكار الثورية، المندِّدة بالاستعمار البريطاني، فانضمّ إلى الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني، المعروفة اختصارًا بحركة (حدتو)؛ وهو ما أدّى إلى اعتقاله في عام 1949م، لتقضي عليه المحكمة بالسّجن لمدة سبع سنوات وطرده من البلاد. وأثناء وجوده في السجن، تعرف على أحد الضباط الأحرار، والذي سيُصبح لاحقًا رئيسًا للجمهورية، محمد أنور السادات، ونشأت بينهما صداقة قوية.

مارَس والد اللمكي- في زنجبار- الشيخ محمد بن ناصر بن سليمان، ضغوطًا شديدة على المقيم البريطاني، للتوسط لدى الإدارة البريطانية في القاهرة للإفراج عن ابنه؛ فتحقق ذلك فعلًا، بعد أن قضَّى سنتين حالكتين من محكوميّته في السّجن؛ وتم ترحيله من القاهرة إلى زنجبار في عام 1951م، تنفيذًا للحكم القضائي.  

وفي زنجبار، مارَس اللّمكي الفكر ذاته الذي ترسَّخَ في عقيدته تُجاه المُستعمر البريطاني، من خلال عمله سكرتيرًا للجمعية العربية، لدورةٍ انتخابيةٍ واحدة؛ ثم وجد ضالته الفعلية في جريدة الفلق التي شارك فيها بمقالاتٍ سياسيةٍ نارية. وبعد أن تولى رئاسة تحريرها، لفترةٍ واحدة، صبَّ من خلالِها جام غضبه على المستعمر؛ وهو الأمر الذي أدَّى إلى اتِّهامِه، ومعه تسعة من أعضاء الجمعية العربية، وعلى رأسهم رئيس الجمعية، الشيخ عبدالله بن سليمان الحارثي، بتهمةِ التحريض على التمرُّدِ والعصيان؛ بسبب المقالاتِ المُحرِّضة على المطالبة بالديموقراطية، وبانتخاب أعضاء المجلس التشريعيّ- بالمخالفة لإرادة الإدارة البريطانية- على أساسٍ وطنيٍّ لا عرقيّ. وبتاريخ 19/6/1954م، أصدرت المحكمة الجنائية- برئاسة القاضي ماكينزي (Mackenzie)- حكمًا بإدانة المتهمين، في جميع التهم الموجهة إليهم، والتي بلغت سبع تهمٍ جنائية؛ من بينها التحريض على العصيان. اشتمل الحكم كذلك على مصادرة مكائن طباعة الجريدة؛ وغلق الجريدة لمدة سنة كاملة. قرّرت محكمة الاستئناف، بتاريخ 13/9/1954، قبول استئناف المحكوم عليهم شكلًا، وفي الموضوع تأييد الحكم المستأنَف. يُذكر أن اللمكي كان ينشر مقالاته باسمٍ مُستعار "ابن الشعب"؛ إلا أنه كان يردفه باسمِه الحقيقي، كنوعٍ من التحدّي لسلطة الحماية البريطانية، وكأنَّ لسانُ حاله بذلك يقول: "لا أخشى المساءلة، وهذا أنا أمامكم، أحمد اللمكي".

سفيرًا لسلطنة زنجبار:

تمخَّض الحراك السياسي الذي مارسه الحزب الوطني الزنجباري ضد سلطة الحماية إلى نيل الاستقلال التام، عن سلطة التاج البريطاني، بتاريخ 10 ديسمبر 1963م؛ وتشاءُ الأقدار أن يُعيّن اللّمكي سفيرًا لسلطنة زنجبار، مقيمًا في الدّولة التي طُرد منها بحكمٍ قضائيّ، قبل اثنتي عشرة سنة؛ نعم، عين سفيرًا إلى القاهرة. وما لبث أن انتهى من الإجراءات الرسمية لافتتاح السفارة، حتى وقع العدوان الغاشم على زنجبار، بتاريخ 12 يناير 1964م، أدى إلى سقوط الحكومة الشرعية المُنتخبة من الشعب؛ وكان ائذاك ما يزال ساكنًا في فندق شيبرد، المجاور لفندق سميراميس إنتركونتننتال حالياً.

في حدود الثانية بعد انتصاف الليل، تلقى السفير أحمد اتصالًا من رئاسة الجمهورية، أخبره محدثه على فاجعة الهجوم المسلح على مراكز الشرطة، وغيرها من مفاصل الدولة الحيوية، وأن النظام بالتالي أضحى في مهب الريح. بذل اللمكي فورًا محاولة للوصول إلى شخص الرئيس عبدالناصر لطلب التدخل العسكري المصري، لإنقاذ الحكومة من الانهيار؛ إلا أن ذلك لم يتحقق بسبب التأخر في الوقت؛ فكان اللقاء، بدلًا من الرئيس، مع مسؤول رفيع في الشأن الأفريقي. أكّد لي هذا المسؤول، في المقابلة التي أجريتها معه في بيته في سنة 2008م، أن اللمكي عرض عليه- من ضمن ما عرض- فكرة توجيه بعضٍ من القوات المصرية المرابطة في اليمن إلى زنجبار، لإنقاذ الموقف؛ إلا أن المسؤول وجد أن هذا الرّأي غير قابل للتنفيذ، لكثيرٍ من الاعتبارات، في مُقدّمتها، ذلك الوضع شديد الحرج الذي كانت تواجهه القوات المصرية في اليمن، والتي كانت في وضعٍ لا يسمح لها بالدخول في مُستنقعٍ جديد؛ ناهيك عن أن مفاصل الدولة الحيوية جميعها، في تلك الأثناء، كانت قد سقطت في أيدي القوات الغازية، أو في أيدي "الثوار"، كما جاء في تعبيره؛ وهو الأمر الذي وجد المسؤول أن بديل التدخّل العسكري، غير وارد من الناحية العمليّاتية.  

لاجئًا سياسيًا في القاهرة:

وفي مقابلة شخصية أجريتها مع السفير أحمد اللمكي في بيته في حيل العوامر، في سنة 1995م، أكد لي أن النظام الجديد، في زنجبار، عرض عليه- فور انقضاضه على الشرعية- الاعتراف بنظامهم الجديد، مُقابل إبقائِه سفيرًا لها في القاهرة؛ إلّا أنه رفض العرض، من دون تردُّد؛ لتنتهي بذلك صفته الرسمية، كسفير لسلطنة زنجبار في القاهرة. وأردف قائلًا: أنه وفِّق في الحصول على اللُّجوء السياسيّ في القاهرة، وبقيَ فيها معززًا مكرمًا، حتى عام 1972م، عند الزيارة الأولى لجلالة السُّلطان قابوس، طيّب الله ثراه، إلى القاهرة (انظر الصورة المرفقة)، حيث استدعاه السلطان الراحل لمقابلته في مقر إقامته، ودار بينهما حوارٌ طويل، وبدا للّمكي أن السلطان قابوس أراد من خلالِه الوقوف على توجهاته وأيديولوجيته، خاصة ما يتعلّق منها بالفكر الشيوعي؛ فتمخض عن اللقاء أن كلَّفه بالقيام بجولةٍ إلى بعض العواصم الأفريقية، لتقييم الوضع فيها، بما يمكّن السلطان من تحديد علاقة السّلطنة بها.

سفيرًا لسلطنة عُمان:

ما أن عاد اللّمكي من الجولة، وقدَّم تقريره إلى جلالة السلطان، حتى عيَّنه سفيرًا في ديوان عام وزارة الخارجية لفترةٍ وجيزة، قبل أن يعينه سفيرًا لسلطنة عُمان لدى صنعاء، ثم الجزائر، ثم ألمانيا، فلندن؛ وأخيرًا، رئيسًا للدائرة الأفريقية في ديوان عام الوزارة، في سنة 1984م؛ ثم جمع مع هذا المنصب، منصب نائب رئيس المجلس الاستشاري للدولة. وبهذا، يكون السفير أحمد بن محمد اللمكي، رحمه الله، خدم سَّلطنتين (عُمان، وزنجبار)، خلال رحلة عمره التي أفَلَت بتاريخ 4/1/1997م.    

لم يثنِه اللُّجوء السياسي عن خدمة مجتمعه:

أكَّد لي عددٌ من المنصفين أن اللّمكي، وخلال فترة وجوده في القاهرة، بصفته لاجئا سياسيا، سخَّرَ نفسه لقضاءِ حوائجِ الجالية التي قُدِرَ له أن يمثل مصالحها رسميًا لمدة شهرٍ واحدٍ فقط- قبل الإطاحة بنظام الحكم في بلده- مُركزًا مُساندته لهم في الجوانب المتصلة بتمكينِهم، لمُستقبلٍ أفضل، كالتأهيلِ العلميّ والتوظيف. كما أنه، لم يكتفِ بعرض ملف القضية الزنجبارية على القيادة المصريةِ فحسب؛ وإنما، تكبَّد عناء السَّفر إلى كلٍّ من العراق، وسوريا، وليبيا، والكويت، والسعودية، وعرض على أمرائها وقياداتها مأساة سلطنة زنجبار، وما آلَ إلى شعبها- ولاسيّما إلى الأقلية العربية- من تنكيلٍ واضطهاد؛ وما أعقب ذلك من تشتتٍ وتشرذُم، في كثيرٍ من دولِ العالم.

نجح اللّمكي من خلال جولاتِه الإنسانيةِ تلك، وبهمَّتِه الوثّابةِ العالية، وبحنكتِه السياسيّةِ الحاذِقة، في تأمين قدر معقول من المِنَح الدراسية، لمختلف المراحل؛ بل، وضمان فُرص عمل للمتخرجين منهم.  ليس ذلك فحسب؛ وإنما، أمَّن – في الوقتِ عينِه- مُساعدات مالية من الدولة المصرية، للطلبة المقيدين في المؤسَّسات التعليمية المصرية. تلك المساعدات المالية جاءت من وزارة الأوقاف أولًا؛ ثم من المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، الذي كان يرأسه اللواء متقاعد محمد توفيق عويضة؛ ثمّ من البعوث الإسلامية أيضًا، التابعة للأزهر الشريف. كنتُ شخصيًا، من جُملة الطلبة الّذين استفادوا من هذه العطاءات المصرية السّخية، التي لا نستطيع، بحالٍ من الأحوال، أن نُنكر فضلها علينا.

يذكر، إننا استمرَرنا في استلام المنح المصرية، إلى سنة 1972م، عندما حلَّت محلها مكرمات وعطاءات الحكومة العُمانية، بعد أن أشرقَ على عُمان فجرٌ جديد، وتوشَّح شعبه بثوبٍ قشيب، باستلام جلالة السُّلطان قابوس، طيَّب الله ثراه، مقاليد الحكم بتاريخ 23 يوليو 1970م.

التماسات الاعتراف بالأصل العماني:

 تشير جملة من الوثائق الرسمية التي اطلعت عليها، أن السفير أحمد اللمكي عمل جاهدًا لأجل الحصول على اعتراف الحكومة العمانية بالأصل العماني لأولئك الزنجباريين، المنحدرين من أصل عماني، ولاسيما المنتمين إلى جملة من القبائل العمانية المعروفة. أوضح اللمكي في التماساته أن هؤلاء العرب أضحوا في الشتات- بعد أن وقع الانقضاض الغوغائي على زنجبار- منهم في مصر، ومنهم في جملة من الدول العربية، ومنهم في بريطانيا (انظر مثالًا لتلك الوثائق: الوثيقة رقم 1471، بتاريخ 24 مايو 1968م؛ والوثيقة رقم 1472، بتاريخ 20 يونيو 1968م؛ والثيقة رقم 1473، بتاريخ 7 يوليو 1968م، الأرشيف القطري). لاشك أن اللمكي حقق نجاحًا واضحًا في هذا المسعى، حيث أنعمت الحكومة العمانية على جملة كبيرة من أولئك المهجّرين، بشرف الاعتراف بالأصل العماني.   

تمثال للَّمكي:

قال لي المرحوم أحمد بن سليمان الغيثي، ذاتَ يومٍ، وأكد مقاله كثير من المنصفين: لو كان الشرع يجيز تشييد التماثيل للبشر، أو للقوميين والأبطال منهم، على أقلّ التقديرات؛ لحُقَّ للَّمكِي، تمجيدًا لما قدّمهُ لمجتمعِه، أن تُخلَّد ذكراه، ولو بتمثالٍ واحد. موضّحًا ذلك بالقول: إن المعطيات التي أحاطت باللَّمكي، بعد سقوط زنجبار، من حصوله على اللّجوء السياسي، ثمّ امتيازٍ ماليٍّ خاص، بفضل علاقته الوثيقة بالسادات، وبالرئيس عبدالناصر أيضًا؛ سوَّغت له أن يعيش في برجٍ عاجيٍّ، أو في صومعةٍ منعزلةٍ عن الناس. أردف قائلًا: أن اللمكي، آثر- بدلًا من ذلك- الوقوف بجانبهم، أيّ بجانب الجالية الزنجبارية في القاهرة، ومساندتهم في الحصول على المعونات المصرية؛ ومِنَحٍ دراسية من بعض الدول العربية؛ بعد أن توقّفت عنهم الحوالات المالية من زنجبار؛ بسبب الاضطرابات السياسية هناك. بالمختصر، يقول الغيثي، إن اللّمكي وقف معهم، كما لو كان لا يزال سفيرًا مُتوّجًا في القاهرة؛ لا كلاجئٍ سياسيّ. مؤكّدًا أخيرًا أن وقفته تلك لم تكن للزنجباريين من أصل عماني فحسب؛ بل، من ذوي الأصل الأفريقي أيضًا.  

ينافحُ عن المظلومين:

فإلى جانب ما تقدَّم؛ وكذا، إلى جانب الكثير من المواقف التي تقطع تجلّياتُها بأن السفير أحمد اللمكي كان مرجعًا وموئلًا، ليس للمشتتين من الزنجباريين فحسب؛ بل، للعمانيين في الوقت عينِه؛ حكى لي أحد الثقات، الذي طلب عدم ذكر اسمه، أن فتاة عِشرينية، من إحدى القبائل العُمانيةِ المشهورةِ، تزوَّجت من أحد الشبان المُتعلمين المصريين، وفق الأصول المرعية؛ ليتضح لها، بعد عِشرَةٍ قصيرة، أنها وقعت في شباكِ نصَّابٍ، طامع فيما كان في يدها من نِعم محدودة؛ حيث أخذ يعاملها بعنفٍ، دونما احترامٍ ولا تقدير لآدميتها، بعدما فشل في الاستيلاءِ على مالها بالخداع. وبعدما باءت مُحاولات الفتاة للطلاق بالفشل؛ استغاثت بالسفير اللَّمكِي، ومعها والدها الوقور، الذي أتى خصيصًا من إحدى الدول العربية، لمؤازرة ابنته في محنتها.

لم يدَّخر اللمكي جهدًا ولا وقتًا في بذلِ المساعي الحميدة التقليدية، لإصلاحِ ذات البين، ولتطبيق مبدأ "إمساكٌ بمعروف، أو تسريحٌ بإحسان"؛ إلّا أنها ذهبت جميعها أدراج الرياح، نتيجة تعنُّت ومُكابرة الزوج. هنا، ثارت في نفس اللّمكي ثورةُ النُصفة، والمنافَحة عن المظلومين؛ بل، ونصرة المستضعفين؛ فقرّر أن ينازل الرجل في معركةٍ سريعة، لم تكن قضائية، بطبيعة الحال؛ وإنما، اختار له ما يناسب طبعه اللئيم من المعارك، والتي لم تكن بأكثر من معركة لَوي الذراع. اقتضت تكتيكات هذه المعركة أن يجنِّد له من يبحث فيه عن مواطنَ ضعفٍ ورهبة؛ ليتمخَّض البحث عن الوقوف على مجموعةٍ منها؛ فاستخدمها اللّمكي كأداة مُساومة، للحصول منه على الطلاق فورًا؛ فتحقق له ذلك في الجلسةِ نفسها.

أسرته:

تزوج السفير أحمد اللمكي من حفيدة زعيم المساكرة، الشيخ سيف بن علي بن عامر المسكري، ورزق منها بأربعة أبناء ذكور، وهم: العميد ركن مهندس متقاعد، من الجيش السلطاني العماني، المكرم محمد اللمكي؛ والعميد ركن طيار مقاتل متقاعد، عمار؛ والمهندس ناصر، المتخصص في هندسة المعدات الطبية؛ وعلي، توفي في سنة 1981م، عن عمر يناهز خمسة عشر عامًا؛ كما رزق بكريمة واحدة، وهي: أستاذة التمريض، فاطمة.

عشقه للعمل الصحفي:

يذكر أخيرًا، أن المعطيات التاريخية تشير إلى أن اللمكي عزّ عليه ترك العمل الصحفي، الذي اعتاد عليه، إبان فترات رئاسته لتحرير صحيفة الفلق في زنجبار؛ فأسس، في الدول التي عين فيها سفيرًا مقيمًا مجلة أو نشرة نصف شهرية باسم (عمان)، بعد أن حصل على دعم من وزارة الإعلام. كانت البداية في اليمن الشمالية (صنعاء)، فأصدرها باللغة العربية؛ ثم في الجزائر، باللغة العربية والفرنسية؛ ثم في ألمانيا، باللغة العربية والألمانية والإنجليزية؛ ثم في لندن أصدرها باللغتين العربية والإنجليزية. كانت المجلة توزع على جميع السفارات التي اعتمد فيها السفير أحمد، سواء المقيم في أو الدول غير المقيم فيها.

رحيله:

استجابت روح السفير أحمد اللمكي لأمر بارئها في بيته، في حيل العوامر، بمحافظة مسقط، بتاريخ 4 يناير 1997م، عن عمرٍ ناهز (67) عامًا، وتسعة أشهر. حضر جنازته، وكذا جلسات العزاء، جمع غفير من الشيوخ والأعيان والوجهاء، من مختلف القبائل؛ بل، ومن مختلف أطياف المجتمع، من عرب وأجانب. 

** مؤلف كتاب "زنجبار: شخصيات وأحداث"

عُمان وأفريقيا الشرقيّة؛ تاريخ عريق وحضارة راسخة

 أثير الالكترونية ، 7 ديسمبر 2023
إعداد:
د. علي بن سعيد الريامي (رئيس قسم التاريخ_جامعة السلطان قابوس)
د. سليمان بن عمير المحذوري (هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية)
د. موسى بن سالم البراشدي (أستاذ التاريخ الحديث المساعد_جامعة السلطان قابوس)

مقدمة:
يقول د.ابراهيم الزين صغيرون إن “الدراسات الأوربية وحتى الكثير من الدراسات الإفريقية والمعاصرة والمتأثرة بالمنهج الاستعماري الغربي قد كرّست مفاهيمها وتصوراتها ومناهجها لتشويه تاريخ العرب في أفريقيا، وحشدت الكثير من المفتريات والشبهات لتخلق نوعًا من الجفوة والتباعد بين العرب والأفارقة”

كانت علاقة عمان وما زالت بشرق أفريقيا علاقة حتمية متجذرة، فرضتها الجغرافيا الطبيعية، وأطّرتها الظروف السياسية، والمصالح الاقتصادية، وهي علاقة إنسانية ذات أبعاد اجتماعية وثقافية قبل أن تكون علاقة وجود ونفوذ، وبالنظر إلى الموقع الجغرافي لعمان، وتموضعها في خارطة العالم، وانفتاحها على ثلاثة مسطحات مائية مهمة هي بحر عمان وبحر العرب والمحيط الهندي فقد مثّلت القلب النابض بالحياة، والشريان الذي يربط بين أجزاء العالم القديم وعالم العصور الوسطى والعالم الحديث والمعاصر، حيث مثلت خطوط الملاحة البحرية بين الشرق والغرب القناة الرئيسة التي تتدفق عبرها البضائع من صادرات وواردات مختلفة ومتنوعة إلى الملايين من البشر.
وفي الجانب الآخر فإن الدول المطلة على الساحل الشرقي لأفريقيا مثل الصومال وكينيا وتنزانيا وموزنبيق إضافة إلى العديد من الجزر المتناثرة ومن أشهرها جزيرة زنجبار وبمبا وجزر القمر ومدغشقر وموريشيوس، بالإضافة إلى غناها بمختلف الموارد الطبيعية، فضلاً عن المناخ المعتدل جعل من هذه المنطقة بموقعها المتميز ملاذاً للعديد من الهجرات المتعاقبة، ودافعاً للتجارة والاستقرار ومن ثم الارتباط الاقتصادي والسياسي المباشر، والثقافي كذلك. ومن أوائل النصوص التاريخية التي أشارت إلى الساحل الشرقي لأفريقيا كتاب: “رحلة في البحر الأريتيري” حوالي سنة 120م من تأليف تاجر مجهول الاسم من الإسكندرية، وفيه تحدث عن سلع مهمة زخرت بها المنطقة مثل: “زيت النخيل، وأصداف السلاحف، وقرون الخرتيت، والقرفة والبخور والعاج والعبيد، كما أرّخ للموجات السكانية الأولى على طول الساحل الأفريقي الشرقي للأقوام الآتية من جنوب غرب الجزيرة العربية”، ثم أن هناك شهادات أخرى عديدة عن هذه المنطقة قدّمت من قبل الجغرافيين العرب الأوائل مثل اليعقوبي والمسعودي ومن جاء بعدهم من الجغرافيين والرحّالة.
هي علاقة ممتدة ومتجذرة عبر آلاف السنين، حيث تعاقبت على هذه المنطقة أمم وحضارات، وحكمتها شعوب وأعراق، وتبدلت فيها أنظمة حكم وحكومات، وقامت فيها حروب ومعارك، وتولدت على إثرها صداقات وعداوات، غير أن العلاقة بين عمان وشرق أفريقيا لم تنقطع والتواصل الإنساني بينهما ظل مستمرا ومتجددا، فالمصالح المشتركة كثيرة، والمؤتلفات كبيرة، وفوق هذا وذاك ارتبطت بفضل الاندماج والانصهار بصلة رحم لا تنفصم عراها، وهذا أكبر دليل على حالة التعايش، والمصير الذي كان يوماً مصيراً مشتركاً. وكما ذكرت بياتريشه نيكوليني في كتابها: “جزيرة زنجبار التاريخ والاستراتيجيا في المحيط الهندي(1799-1856)” “وليس محض صدفة أن الساحل الشرقي قد فضّل على الدوام إقامة روابط مع الخارج، مشكلاً ذلك الجزء الغربي من المحيط الهندي المرتبط بشكل لا ينفصم عراه مع السواحل الثلاثة الأخرى والداخل في نطاق دائري أوسع”
العوامل الداعمة لعلاقة عمان بشرق أفريقيا:
عوامل عدة كان لها الأثر الكبير في قيام تلك العلاقة الدائمة والنشطة يأتي في مقدمتها الموقع الجغرافي الذي سبق الإشارة إليه، والمرتبط بالبعد الاستراتيجي، وخبرة العمانيين في الملاحة البحرية الذي جعل منهم رواداً ومغامرين وتجار ماهرين، والاستفادة من هبوب الرياح الموسمية الشمالية الشرقية التي تهب في فصل الشتاء للإبحار بسفنهم الشراعية المتجهة إلى شرق أفريقيا، ثم الاستفادة من هبوب الرياح الموسمية الجنوبية الغربية في فصل الصيف للعودة من شرق أفريقيا إلى الموانئ العمانية حاملين معهم شتى صنوف البضاع من شرق أفريقيا الغنية بالموارد الطبيعية الزراعية والحيوانية والمعدنية، وقد وصل العمانيون بسفنهم كما ذكر حوراني في كتابه: العرب والملاحة في المحيط الهندي “ابتداءً من ميناء زيلع وسواكن ثم بربرة وزنجبار، وبراوة ومالندي وممباسة وكلوة وكان منتهى مطافهم إلى سفالة في موزنبيق، وقنبلة(مدغشقر)”.
زنجبار لؤلؤة الساحل الشرقي لأفريقيا:
تبقى جزيرة زنجبار الوجهة الأكثر ارتيادا، وليس من المبالغة أن تصبح مدينة كوزموبوليتانية في ظل الحكم العربي في عهد دول البوسعيد وبالأخص فترة سعيد بن سلطان الذي حكم في الفترة من 1804-1856، وقد اتخذها عاصمة ثانية له بعد مسقط، وانتقل للإقامة الدائمة فيها منذ العام 1832، وبالتالي كان يتنقل بين شطري دولته الآسيوي والإفريقي كلما دعت الحاجة لذلك. حيث تعتبر جزيرة زنجبار من أكبر الجزر مساحة في المنطقة، وتبعد بنحو 25 ميلًا عن الساحل مما هيأ لها بعدًا أمنيًا. كما أن الجزيرة تمتاز بجمال الطبيعة، وتوفر المياه العذبة فضلًا عن تربتها الخصبة الصالحة لزراعة عدد من المحاصيل الاستوائية. إضافة إلى ذلك عمق مينائها جعلها نقطة مهمة لرسو السفن التجارية الكبيرة. وخلال منتصف القرن التاسع عشر أصبحت زنجبار مركزًا لامبراطورية تجارية تمتد على المحيط الهندي، ونقطة رئيسية لتوزيع السلع الصادرة والواردة إلى منطقة شرق أفريقيا. ونتيجة لذلك امتدت الامبراطورية العمانية في عهد السيد سعيد فبالإضافة إلى الوطن الأم عمان ضمت جوادر وبندر عباس وجزر قشم ولارك في آسيا، وفي أفريقيا امتدت من رأس جردفويCape Guardafui شمالًا الى رأس دلجادو Cape Delgado جنوبًا، كما وصل نفوذ سلطان عمان وزنجبار إلى أعماق أفريقيا ويدل على ذلك مثل إفريقي ترجمه أحد العرب إلى بيت شعري يقول:
إن تعالى زامر بزنجبار.. رقص الناس في البحيرات رقصًا
وفي ذلك دلالة رمزية إلى التثاقف والتأثير المتبادل ما بين الساحل الشرقي لأفريقيا والبر الأفريقي، في هذا السياق يمكن الإشارة هنا إلى نص مقتبس من كتاب صدر في نيويورك بعنوان:
Africa: A Social, Economic and Political Geography of Its Major Regions
للكاتب Fitzgerald, Walter
جاء فيه:” لا تزال زنجبار أرض التقاء بين أفريقيا والشرق، وتمثل واحدة من أبرز الأمثلة في عالم التعاون المرضي بين مجموعات عرقية واجتماعية متنوعة داخل مجتمع واحد”. لهذا لا عجب أن تصبح زنجبار ملجأ لمرتادي البحر من كل الجنسيات، وكما أشار نورمان بينت في كتابه: دولة زنجبار العربية بالقول: “وبشكل عام وفرت زنجبار موقعاً وسطاً مثالياً للتجارة البحرية من المحيط الهندي، فأصبحت ميناء لاستقبال ما تنتجه اليابسة القريبة وتخزينه ليتم نقله لاحقاً للسفن المبحرة التي تبحر بالرياح الموسمية المعتادة والتي تهب بين شرق أفريقيا وجنوب غرب آسيا والهند”.

علاقة عمان بشرق أفريقيا في العصور الإسلامية:
توطدت علاقة عمان بشرق أفريقيا بصورة أكبر مع مجيء الإسلام، وهذه العلاقة كانت مقدمة لهجرات سكانية متعاقبة لطلب الرزق والتجارة، ونشر الإسلام والثقافة، كما كانت في بعض الظروف ملجأ في أوقات الأزمات سياسية كانت أو طبيعية، من ذلك مثلاً لجوء حكام أسرة بني الجلندى سعيد وسليمان ابني عباد بن عبد بن الجلندى وأسرهم بعد نجاح حملات الحجاج بن يوسف الثقافي في غزو عمان وكان ذلك في فترة حكم الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان(65-86ه/646-705م)، فكان ذلك كما يصفه الدكتور عبد الله الحارثي “أول لجوء سياسي عماني يسجله التاريخ”، وذكرت هدى الزدجالي في دراسة علمية بعنوان: “العمانيون وأثرهم الثقافي والفكري في شرق أفريقيا”: ” استقر آل الجلندى في أماكن متعددة منها منها: مافيا ولامو وباتا وبمبا وممباسا، وتسموا فيها باسم”كلينديني”، وكان مركز إمارتهم في أرخبيل لامو، وتعد هجرة آل الجلندى مقدمة لهجرات أخرى متعاقبة لعل من أهمها هجرة الحرث في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، وقد نجحت هذه القبيلة في تأسيس مدن مهمة في مقديشو وبراوة، وكانت مقديشوا في عهدهم “العاصمة السياسية والدينية والثقافية لساحل الزنج كله، وكان تأثير الحرث بارزاً في نشر الإسلام واللغة العربية بين القبائل الصومالية،… وكانوا دعاة حضارة وثقافة”. ويقول الدكتور محمد روكارا من جمهورية بورندي “لقد أدت الهجرات العربية بشكل عام لساحل شرق أفريقيا إلى تكوين ما يقرب من أربعين مدينة إسلامية، وهذه الهجرات التي وفدت جلبت معها بذور الحضارة والثقافة الإسلامية”.
ويعد الوجود العماني في شرق أفريقيا أكثر كثافة من وجود غيرهم، وهذا عامل اكسبهم ميزة في التعامل مع السكان الأصليين بما حملوه معهم من قيم إنسانية واجتماعية كالصدق والأمانة والتسامح والعدالة والمساواة في المعاملات، كما أنهم أصبحوا جزءاً من النسيج الثقافي والاجتماعي لدى الشعوب الأفريقية، وهذا بلا شك أثّر بمرور الزمن في الثقافة الأفريقية التي تطورت من خلال اكتسابها سمات حضارية جديدة مستمدة من الثقافة العربية ومن روح الإسلام وشريعته.
وفي مطلع القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، لجأ إلى مملكة بات أو باته/باتي في -الطرف الجنوبي لساحل كينيا- الملك النبهاني سليمان بن سليمان بن مظفر النبهاني، حيث أقام فيها حكما ملكيا وراثيا استمر زهاء 300 عام، بعد أن تزوج من ابنة الحاكم الأفريقي إسحاق الباتوي.
التنوع العرقي في الساحل الشرقي لأفريقيا:
العلاقة مع شرق أفريقيا ظلت قوية متماسكة طوال القرون اللاحقة، وهذا ما علق عليه نورمان بينت بالقول:” شهدت معاملات تجارية هامة، وتفاعلاً ثقافياً كان يجري بين السكان المحليين والزوار الخارجيين، والذين جاؤوا في قرون لاحقة للتجارة ومصاهرة أصحاب الأرض من كل المناطق”، أي من البر الأفريقي، ومهاجرين من إندونيسيا ومن مدغشقر، ومن مناطق البحر الأحمر والجزيرة العربية والخليج العربي ومن بلاد فارس ومن شبه القارة الهندية، وهذا يعني الهجرات إلى شرق أفريقيا لم تكن مقتصرة على عُمان فحسب، وإنما شهدت استيطان أعراق وشعوب أخرى وفي هذا ما يدحض نظرية احتلال العرب العمانيين لتلك المنطقة.
منذ القرن التاسع الميلادي بدأت تزدهر العديد من المراكز المهمة على الساحل الشرقي لأفريقيا منها على سبيل المثال مدينة ماندا بالقرب من جزيرة لامو، كما ازدهرت مدن إسلامية على ساحل بنادر الصومال في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، وخلال تلك الفترة نشأ ما يعرف بالشعب الشيرازي، الذين أقاموا مركز استقرار لهم في شنجوايا، وفي النصف الثاني من القرن الثاني عشر الميلادي هاجرت أجناس خليطة من الفرس ومن الخليج العربي ووصلوا إلى كلوة ، التي أصبحت تحت حكم أسرة شيرازية، وبحلول القرن الثالث عشر أصبحت مدينة مقديشو مركز سيطرة على طول ساحل شرق أفريقيا بسبب سيطرتها على تجارة الذهب الذي يأتي من داخل أفريقيا عبر منطقة سفالة في موزمبيق، في حين بدأت زنجبار تنافس كلوة في الأهمية مع القرن الخامس عشر، وكذلك ممباسا.
وبنظرة عامة على تلك المناطق والمراكز يلاحظ وجود العديد من الأنظمة السياسية القوية والمستقلة تحكمها أسر مسلمة من الأصول الأفريقية العربية أو الشيرازية، وأن هؤلاء المهاجرين من الخليج العربي أو الفارسي جاؤوا في الأصل من أجل التجارة، لكن غالبيتهم سرعان ما اندمجوا بعلاقات مصاهرة مع السكان المحليين، فكان هذا “المزيج العرقي والمكون من الأفريقيين والآسيويين (من جنوب غرب آسيا) ومن عرب الجزيرة العربية وبالأخص من اليمن(الحضارمة) وعُمان.
وبحلول القرن السادس عشر بدأت تتكشف ما عرف لاحقا بالثقافة السواحلية، واللغة السواحلية وهي مكونة من لغة البانتو، ومفردات من اللغة العربية والسنسكريتية وكلمات من اللغة البرتغالية، كل ذلك كان يعكس ثراءاً ثقافياً فريداً لا يمكن أن يزدهر في ظل احتلال، لأن المحتل غالباً ما يفرض سياساته ولغته وثقافته على المحتل، وهذا لم يكن موجود في ظل حكم عربي عماني متعايش ومتسامح مع سكان شرق أفريقيا، وقد أشار الأميرال المسيو جيان(1808-1875) إلى ازدهار شرق أفريقيا في ظل الحكم العربي العماني بالقول:” وكان العرب وأعقابهم حيثما استقروا يتركون من دلائل الثروة والرفاهية والنعيم أثراً لا يمحى”. وهذا يدل على أن مناطق الساحل الشرقي لأفريقيا كانت مزدهرة بسبب الوجود العربي هناك وهذا نقيض ما كان عليه الحال في سواحل غرب القارة الأفريقية، حيث يقول المسيو وجيان في موضع آخر: “أن البرتغاليين كانوا يعتقدون أنهم سيلقون فيما وراء رأس الرجاء الصالح أقواماً من الهمج والمتوحشين هم أقرب شبها إلى من رأوهم على السواحل الغربية من القارة الأفريقية”.
اليعاربة وعلاقتهم بشرق أفريقيا:
بعد أن نجح العمانيون من تحرير بلادهم من الاستعمار البرتغالي، ولتأمين حدودهم البحرية، وسلامة الطرق البحرية، فقد حرصوا على تعقّب البرتغاليين لضمان عدم رجوعهم، أسهمو بشكل مباشر في تخليص سواحل الخليج العربي، وأغلب سواحل المحيط الهندي، والساحل الشرقي لأفريقيا من الهيمنة الاستعمارية البرتغالية التي كانت قد بدأت في نهاية القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر، حيث كان من أهدافهم الرئيسة السيطرة على طرق التجارة العالمية التي تمر بالمحيط الهندي، واحتكار تجارة التوابل والعاج الأفريقي، بهدف ضرب النشاط التجاري الذي كان يسيطر عليه العرب، حيث أنهم وبعد نجاحهم في الاستدارة حول رأس الرجاء الصالح، احتلوا الساحل الشرقي لأفريقيا، ومنه أطلت طلائع الحملات البرتغالية على المنطقة العربية وبالأخص المناطق الساحلية على بحر العرب والخليج العربي، وعانت عمان من الاحتلال البرتغالي منذ(1507-1650)، وقد أشاد (Walter) بالدور العماني في ضمان توفير السلم البحري فقال: “نجح عرب عمان في طرد البرتغاليين من أراضيهم عام 1650، وبعد ذلك شرعوا أيضاً في طرد الأوروبيين من شرق أفريقيا، وهكذا بدأ الاتصال السياسي بين عمان وزنجبار جنباً إلى جنب في سواحل الخليج وطاردوهم حتى سواحل شرق أفريقيا لتبدأ مرحلة من العلاقة مع الشاطئ المجاور للبر الرئيسي، والذي كان سمة بارزة من سمات الجغرافيا السياسية للعالم العربي أواخر القرن التاسع عشر”.
خصص الأميرال الفرنسي المسيو جيان الباب الخامس من كتابه المترجم بعنوان: “سلطنة عمان وأفريقيا الشرقية وثائق تاريخية وجغرافية وتجارية”، للحديث عن دور عرب عمان في تحرير سواحل شرق أفريقيا “من رأس دلجادو إلى جردفون” من الاحتلال البرتغالي، وقد أشار إلى معلومة مهمة تتعلق باستنجاد أهل ممبسة بالإمام سلطان بن سيف الذي كان يطارد فلول الغزو البرتغالي، وأنهم سألوه أن يخلصهم من نير الحكم البرتغالي، ثم يدلل على قوة الأسطول العماني في عهد دول اليعاربة، ودور هذا الأسطول في تعقب البرتغاليين في سواحل المحيط الهندي وفي شرق أفريقيا برواية كان قد دونها رحالة برتغالي معاصر لتلك الأحداث وهو القس مانويل جودنهو جاء فيها: “ولم يكتف-أي سلطان بن سيف- بإجلائنا عن بلاده، بل اجترأ على اقتفاء أثرنا حتى بالبلاد التابعة لنا، إذ حاصر منبسة، وعاكسنا في بمباي، وأسرت سفنه سفن برتغالية كثيرة”. ونستنتج مما سبق أن الوجود العماني في شرق أفريقيا، لم يكن بهدف الاحتلال بقدر ما كان الهدف تقديم العون والمساعدة بطلب من الزعامات القبلية في الساحل الشرقي لأفريقيا وتخليصهم من الاحتلال البرتغالي وما ارتكبوه في حق السكان المحليين من عنف وظلم واستبداد.
اليعاربة ودورهم في تحرير أفريقيا الشرقية:
يمكن القول أن عملية تحرير اليعاربة لأفريقيا الشرقية من السيطرة البرتغالية تعكس التضامن الإسلامي في أسمى صوره، وتمثل الكفاح المشترك بين العمانيين وإخوانهم المسلمين في شرق أفريقيا الذين استنجدوا بهم لتخليصهم من السيطرة والاستبداد البرتغالي، وكان ذلك نتيجة للروابط الدينية والتجارية التي ربطت بين العمانيين وسكان الساحل الشرقي لأفريقيا والتي أدت إلى تعميق الصلات وتبادل الأخبار بين المنطقتين، ولاسيما ما يتعلق بالاستعمار البرتغالي الذي كانت تعاني منه المنطقتان، ويُشير السديس في دراسته ” العمانيون والجهاد الإسلامي في شرق إفريقية 1034-1123هـ/1624-1711م إلى أن الانتصارات التي كانت تتحقق في عمان دفعت الأفارقة للثورة على البرتغاليين، وهو ما دفع بالبرتغاليين إلى تكليف فرانسيسكوا كابريرا Francisco Cabreira للقضاء على تلك الثورات، فكان من نتيجة ذلك تواصل سكان شرقي أفريقيا مع الإمام سلطان بن سيف بن مالك اليعربي عام 1063هـ/1652م، ولاسيما بعد وصول الأخبار بنجاحه في طرد البرتغاليين من بلاده عام 1061هـ/ 1650م، وما ترتب عليها من أصداء واسعة في العالم الإسلامي آنذاك.
لبى الإمام سلطان بن سيف الأول نداء الاستغاثة الذي وصله من إخوانه في كل من زنجبار وبته، فأرسل حملة عسكرية بحرية عام 1063هـ/1652م، تمكنت من هزيمة البرتغاليين في كل من زنجبار وبته وفازا، وشجعت المدن الأخرى على الساحل الشرقي لأفريقيا للثورة ضد البرتغاليين، ويرى السديس بأن هدف الإمام كان “التأكيد على الارتباط التاريخي والديني الوثيق بين ساحل شرق أفريقيا وعمان”
نظراً للنجاح الذي حققته البحرية العمانية في سواحل شرقي أفريقيا اتجه البرتغاليون إلى السواحل العمانية مستغلين فرصة وجود بعض قطع الأسطول البحري العماني في السواحل الشرقية لأفريقيا، الأمر الذي دفع بالإمام سلطان إلى سحب قواته من هناك وإعادتها إلى السواحل العمانية لمواجهة عودة البرتغاليين إليها، فكان ذلك مناورة من البرتغاليين الذين عادوا إلى سواحل أفريقيا الشرقية وتمكنوا من إخماد الثورات هناك وتعزيز حاميتهم في ممباسة.
بعد تمكن العمانيين من الدفاع عن سواحلهم أخذوا في تعزيز أسطولهم البحري مستثمرين الصراع الهولندي البرتغالي، وبدأوا في التحول من سياسة الدفاع إلى سياسة الهجوم عندما أرسلوا أسطولهم البحري عام 1071هـ/1660م إلى ساحل شرقي أفريقيا مرة أخرى الذي تمكن من فرض الحصار على ممباسا ومحاصرة قلعة اليسوع التي بناها البرتغاليون عام 1593م، لتكون قلعة برتغالية حصينة حسب تعبير الهنائي في كتابه”العمانيون وقلعة ممباسا”، ويأتي بناؤها بعد محاولة العثمانيين مواجهتهم عندما أرسلوا حملة بقيادة أمير علي بك عام 1558م، وهذا ما دفع بالبرتغاليين إلى معاملة أهالي ممباسا بالقسوة والطغيان.
وفي عام 1073هـ/1662م شن الأسطول العماني عدداً من الهجمات على مواقع متعددة على طول الساحل حتى رأس دليجادو ونجح في استعادة فازا وماليندي وأخضعوا الساحل الشمالي في منتصف ذلك العام ما عدا ممباسا التي دام حصارها مدة قدرها المؤرخون بخمس سنوات حتى سقطت قلعة اليسوع واستسلم قائدها جوزيف دا سيلفا Joseph Da Silva، وبعد التحرير عاد الأسطول العماني أدراجه إلى المياه العمانية، في إشارة واضحة إلى انتهاء المهمة المحددة لذلك الأسطول في تقديم النجدة لسكان ممباسا، دون الحاجة إلى البقاء، وهو ما يُدلل بشكل جلي على عدم سعي العمانيين إلى احتلال تلك المناطق أو استغلال حاجة سكانها وثرواتهم، إلا أن عودة الأسطول العماني إلى مسقط دفع البرتغاليين من جديد إلى استعادة ممباسا عام 1077هـ/1666م، ومعاقبة سكان ساحل أفريقيا الشرقية بسبب تعاونهم مع العمانيين.
ومما أثار الانتباه لدى البرتغاليين بعد عودتهم للسيطرة على قلعة اليسوع أن العمانيين لم يُحدثوا أية أعمال تخريبية في تلك القلعة وجدارنها، وزخارفها التي بقيت على حالتها دون تشويه، وهذا ما أكده إبراهيم البوسعيدي في دراسته “OMAN e PORTUGAL (1650-1730) Politica e Economia” ودلل من خلالها على التسامح الديني القائم على احترام دور العبادة وعقيدة الطرف الآخر؛ وهذا في حد ذاته ينفي ما يذهب إليه البعض من تعامل العمانيين مع القارة الأفريقية بوحشية ونظرة دونية.
استقبلت عمان في زمن قيد الأرض سيف بن سلطان الأول وفد أفريقي برئاسة شيخ بن أحمد الملندي الذي التقى بالإمام وعرض عليه ما جرى في ممباسا من أمر البرتغال، وقد استقبلهم الإمام بالحفاوة وأكرمهم غاية الإكرام، فلبى قيد الأرض النداء وجهز أسطولاً حربياً أرسله إلى ممباسا التي رسا في مرفأها وضرب عليها حصاراً في9 شعبان 1107هـ/ 13 مارس 1696م، وعمل على قطع الإمدادات عن البرتغاليين الذين عانوا من نقص المؤن والمعدات الحربية والبشرية إلى جانب ما عانوه من حالة نفسية وأمراض فتكت بهم أثناء الحصار الذي استمر لما يقرب من ثلاثة وثلاثين شهراُ حتى سقطت قلعة اليسوع وتحررت ممباسا من السيطرة البرتغالية في 11 جمادى الآخرة عام 1110هـ/ 14 ديسمبر 1698م، وبناءً على طلب الأهالي ترك الإمام سيف بن سلطان حاميات عسكرية في كل المراكز المهمة في شرق أفريقيا.
وهكذا نجح اليعاربة في تخليص ساحل أفريقيا الشرقي من النفوذ البرتغالي ووضعوا حداً للتفوق البرتغالي هناك، مما عزز الوجود العماني في الساحل الشرقي لأفريقيا من مقديشو شمالاً حتى خليج دلجادو جنوباً، ويُشير طلال المخلافي في دراسته بعنوان “دور العثمانيين والعمانيين في مقاومة الاستعمار البرتغالي ونشر الحضارة الإسلامية في شرق أفريقيا: القرنين السادس عشر والسابع عشر نموذجاً” إلى أن “ذلك الانتصار أتاح المناخ الملائم للدين الإسلامي وحضارته في الانتشار في شرق أفريقيا، فتم إيقاف انتشار المسيحية الكاثوليكية التي مكّن لها البرتغال طوال مدة استعمارهم للساحل، وبُنيت المساجد وتحفيظ القرآن والعلم الشرعي بدلاً عن الكنائس، وتوقف قتل المسلمين وتدمير منازلهم ونهب ممتلكاتهم وثرواتهم، ووجدت مقومات الحضارة الإسلامية فرصة جديدة للنمو والازدهار والانتشار”.
التجارة في أفريقيا:
كانت التجارة من العوامل الرئيسية التي دفعت العمانيين لخوض غمار مياه المحيط الهندي والوصول إلى ساحل أفريقيا الشرقي. ولم يكتف التجار العمانيون بالمتاجرة مع المناطق الساحلية؛ بل توغلوا في المناطق الداخلية وصولًا إلى منطقة البحيرات الاستوائية. وقد أشار إلى ذلك بوضوح الرحالة الأوربين مثل Speke, Burton Stanley,Livingstone عندما التقوا بالتجار العرب في أواسط أفريقيا. وبالتالي يمكن القول إن العمانيين كانوا الأسبق في الولوج إلى داخلية أفريقيا. وكان التجار العرب محل ترحيب من قبل الملوك الأفارقة. وقد تركزت تجارة القوافل العربية في بيع الملح والأقمشة القطنية والأسلاك النحاسية والبارود التي كانوا يقايضونها مع سلع الداخل.
ومنذ أن أصبحت زنجبار حاضرة من الحواضر العمانية انفتحت على التجارة العالمية وللتجار من مختلف الأمم. وعلى إثر ذلك تاجر العمانيون في مختلف السلع المتوفرة في أفريقيا استيرادًا وتصديرًا مثل العاج والقرنفل والجلود وخشب المانجروف والصمغ وزيت النارجيل وغيرها؛ فيما شحنت السفن العمانية إلى الموانئ الإفريقية سلع متنوعة سواء كانت مصدرها عمان مثل التمور والليمون والسمك المجفف أو إعادة تصدير مثل السجاد والأقمشة والأواني الزجاجية والأسلاك ونحوها.
تجارة الرقيق:
من اللافت أن الكتابات الأوربية قد عنيت كثيرًا بتجارة الرقيق وضخمتها وكأنها التجارة الوحيدة في شرق أفريقيا. لذلك يحمِّل كثير من الكتَّاب الأوربيين أمثال كوبلاند وكيلي عرب عمان وزر هذه التجارة بوصفها أهم نشاط اقتصادي عربي في شرق أفريقيا. وأن زنجبار أصبحت أكبر مركز لتجارة الرقيق في الشرق.
تقول السيدة سالمة في مذكراتها “إن الكلام عن الرق والرقيق من أشد المواضيع حساسية وأكثرها مدعاة لاختلاف الرأي، وإن اثارة موضوع الرقيق واظهاره للوجود لم يكن سببه العواطف الإنسانية عند الفرد الأوربي فحسب بل كان للعوامل والألاعيب السياسية أثر كبير في بعث الأمر والتهويل به”.
ومما تجدر الإشارة إليه أنه لا تتوفر أرقام دقيقة وصحيحة عن حجم تجارة الرقيق يمكن الاعتماد عليها في تحديد أعداد الرقيق الحقيقية وتبقى الأرقام خاضعة لتقديرات وتكهنات المراقبين لذا من الصعوبة بمكان التأكد من العدد الفعلي للرقيق المصدر من مناطق شرق أفريقيا في ظل تضارب الأرقام الخاضعة لتقلبات السياسة البريطانية ومصالحها الخاصة في المنطقة. وحقيقة لا ننكرها إن كان العرب قد مارسوا هذه التجارة فإنها تمت بجهود فردية، وكانت في نطاق ضيق ومحدود ولم تكن بتلك الضخامة التي صورتها بريطانيا التي كانت تتخفى وراء الدوافع الإنسانية بينما كانت تهدف لزعزعة زنجبار اقتصاديًا وتفكيكها سياسيًا.
ومن جهة أخرى فإن الأوربيين مارسوا هذه التجارة مثل الإنجليز والفرنسيين والأسبان والبرتغاليين الذين أسسوا شركات لجلب الرقيق من شرق القارة وغربها لاستخدامهم في سد الحاجة المتزايدة من الأيدي العاملة الرخيصة في العالم الجديد. كما أن الأفارقة أنفسهم يتحملون جزءًا من المسؤولية باعتبارهم هم من يبيعون الرقيق إلى تجار الرقيق، والتجار الهنود كذلك لهم دور بسبب تمويلهم للقوافل التجارية للرقيق.
وعلى المستوى الرسمي أبرم السيد سعيد عدة اتفاقيات مع بريطانيا للحد من تجارة الرقيق مثل اتفاقية عام 1822 وذلك بتحريم بيع الرقيق في ممتلكاته الإفريقية، كما تضمن اتفاقية 1839-التجارة والصداقة مع الحكومة البريطانية – مواد تتعلق بوقف تجارة الرقيق، وفي عام 1845 تعهد السيد سعيد بمنع نقل الرقيق من ممتلكاته الإفريقية إلى ممتلكاته العربية . كما وقع سلطان زنجبار السيد برغش بن سعيد (1870-1888) معاهدة مع بريطانيا في عام 1873 تتعلق بإلغاء تجارة الرقيق، وفي عام 1897 وقع السلطان حمود بن محمد(1896-1902) معاهدة الغاء الرق من محمية زنجبار. وعلى ضوء ذلك كانت السفن البريطانية تجوب البحار بداعي التفتيش بغرض تحجيم هذه التجارة. ورغم الإجراءات المشددة التي اتخذتها سفن التفتيش البريطانية إلا أن السفن الفرنسية كانت لا تخضع للتفتيش لعدم توقيعها على الصك العام لمؤتمر بروكسل المعقود في 1889-1890، واستمرت في نقل الرقيق عبر مياه المحيط الهندي. كما أن أسبانيا والبرتغال لم تنضم إلى معاهدة تحريم تجارة الرقيق إلا نظير تعويضات مالية ضخمة؛ فيما ظلت الولايات المتحدة تراوغ في سياستها حتى لا تتورط في التزام جدي بوقف تجارة الرقيق.
الدور الحضاري للعمانيين في شرق أفريقيا:
أثمر الوجود العماني المتجذر والمتواصل في شرق القارة السمراء عن مؤثرات حضارية في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. يقول مؤلف مخطوطة “شرق أفريقيا زنجبار” “بانتقال العرب من مسقط إلى زنجبار تعمرت السواحل، وشيدوا بها القصور، وعمروا فيها البساتين والضياع، وأجروا فيها العيون والأنهار فكثرت فيها النعمة والخيرات ، واصفى لهم الزمان زمام الأمان وهرعوا اليهم الخلق من كل فج، فشمروا عن ساعد مجد في الصناعة والتجارة والتقاط منها المال، فتعمرت الضياع والقرى ..”
العمانيون وشجرة القرنفل:
كانت خصوبة أرض جزيرتي زنجبار وبمبا كانت من ضمن الأسباب المهمة لاستقرار العمانيين في المنطقة فضلًا عن العوامل الجغرافية والطبيعية الأخرى الأمر الذي مكنهم من الاشتغال بالزراعة الحرفة التي كانوا يمارسونها في عمان.
ويعد محصول القرنفل من أهم المحاصيل الزراعية على الاطلاق في المنطقة وهو من الركائز الاقتصادية التي اعتمدت على زنجبار في إيراداتها وما زالت. ويعود الفضل للعمانيين في ادخال هذه الشجرة من جزيرة موريشيوس الى زنجبار، وبالتالي تحولت هذه الشجرة الى عامل اقتصادي واجتماعي مهم لسكان جزيرتي زنجبار وبمبا.
بداية جرب السيد سعيد زرعة بذور هذه الشجرة في مزارعه الخاصة ولما نجحت التجربة وآتت ثمارها شجع رعاياه على زراعتها في مزارع شاسعة مما أدى الى ازدياد اعداد الأشجار المثمرة، وجذب هجرات بشرية الى زنجبار للعمل في مزارع القرنفل، وأضحت زنجبار تنتج حوالي 90% من إجمالي الإنتاج العالمي كما تذكر بعض المصادر. وكان الإنتاج يصدر الى الجزيرة العربية والهند والصين وأوروبا والولايات المتحدة.
انتشار الإسلام:
اختلف المؤرخون في تحديد الفترة الزمنية التي وصل فيها الإسلام الى شرق أفريقيا؛ إلا أنه من الحقائق الثابتة أن انتشار الإسلام في شرق ووسط أفريقيا اعتمد بدرجة كبيرة على جهود التجار العرب؛ وذلك من خلال ما تحلوا به من صدق وأمانة في المعاملة، وما بذلوه من جهد في استمالة أعداد كبيرة من الأفارقة لاعتناق الإسلام.
وبسبب الصلات التجارية والبشرية القديمة بين عمان وساحل أفريقيا الشرقي كان للعمانيين دور في توصيل الدعوة الإسلامية إلى المنطقة بجانب المهاجرين الآخرين من العرب والمسلمين. ويأتي انتشار الإسلام في طليعة الدور الحضاري للعمانيين الذي لا يمكن أن تخطئه العين. وجنبًا إلى جنب انتشر الإسلام مع التجارة، ووصل إلى البرّ الإفريقي حتى أوغندا والكونغو وراوندا وبروندي وغيرها من المناطق. بيد أن انعدام تدوين هذه الجهود أضاع كثير من المعلومات في هذه الجانب ولعل قصة التاجر العماني أحمد بن إبراهيم العامري مع ملك بوغندا في منتصف القرن التاسع عشر تعد الأشهر بسبب توثيقها من قبل أمين باشا – حاكم جنوب السودان – في عهد الخديوي توفيق في مذكراته اليومية التي نشرت في المجلة الأوغندية. حيث استطاع هذا التاجر اقناع الملك بدخول الإسلام كنموذج رائع للداعية المسلم بشخصيته القوية المؤثرة، وأخلاقه السامية وكان هذا الحدث تمهيدًا لانتشار الإسلام في داخلية أفريقيا. ويشير حامد كرهيلا في كتابه “صراع الحب والسلطة” إلى أن الفضل في اعتناق السلطان عبد الرحمن سلطان موهيلي – إحدى جزر القمر- ومئات من مرافقيه الملجاش للإسلام في منتصف القرن التاسع عشر يعود بعد الله الى سلطان عمان وزنجبار.
وغني عن القول أن المذهب الاباضي وهو مذهب سلاطين زنجبار لم ينتشر كثيرًا في شرق أفريقيا رغم خضوع المنطقة ولفترة طويلة لسلاطين زنجبار. فقد غلب روح التسامح الديني والمذهبي، وساد جو من الألفة والتجانس والصلات الوثيقة بين كافة الأوساط الاجتماعية في سلطنة زنجبار. وفي هذا الصدد يذكر المغيري في “جهينة الأخبار” أنّ السيد سعيد بن سلطان أصدر أوامره إلى عماله بعدم التعرض للمذاهب الدينية في رسالة مؤرخة في 2 ربيع الأول سنة 1261ه/1845مـ ” من سعيد بن سلطان إلى جناب كافة ربعنا بحال القضاة، كل من حكم بحكم وأخطأ فيه يرجع إلى السؤال إلى من أعلم منه ، كل مذهب يتبع مذهبه ، هذا ما جرت العادة من قديم بذلك ، والسلام”.
العلماء في زنجبار:
على الرغم من أن المذهب الإباضي هو المذهب الرسمي للدولة في زنجبار إلا أن السيد سعيد خص العلماء من مختلف المذاهب برعايته واهتمامه. حيث ظهر العلماء والفقهاء والقضاة على قدم المساواة في مجالس السلاطين وفي تعينهم لمناصب الدولة واتخاذهم مستشارين.
وقد أسهم هؤلاء العلماء بدور كبير في نشر الوعي والثقافة تدريسًا وتأليفًا، وهم من مذاهب مختلفة وتتلمذ على أيديهم أعداد غفيرة من سكان زنجبار والمناطق المجاورة لها. ومن هؤلاء العلماء في عهد الدولة البوسعيدية الشيخ عبد الله بن مبارك النزوي من أشهر القضاة، والشيخ ناصر بن جاعد الخروصي، والشيخ علي بن خميس البرواني، والشيخ محمد بن سليمان المنذري، والشيخ محي الدين بن شيخ القحطاني الذي يُعد أيضاً من أبرز القضاة، والشيخ علي بن عبدالله المزروعي، والشيخ عبدالعزيز الأموي، والشيخ ناصر بن سالم الرواحي، والشيخ عبدالله بن محمد باكثير وهو عالم من أصل حضرمي، والشيخ الأمين بن علي المزروعي قاضي قضاة كينيا، والشيخ عبدالله بن صالح الفارسي من أغزر العلماء تأليفًا بالسواحليه.
اللغة السواحلية:
السواحلية من حيث الاسم مستمد من اللغة العربية، ومأخوذ من كلمة ساحل وسواحل ويعني الانتماء إلى الشريط الساحلي لشرق أفريقيا وجزره المتاخمة. يُشير بعض الباحثين مثل ر.روش إلى أن اللغة السواحلية بدأت في الظهور في الفترة ما بين القرن السابع والثامن الميلادي خلال فترة تدفق الهجرات العمانية إلى المنطقة خاصة هجرة النباهنة، فيما يذكر آخرون أنها كانت معروفة قبل الإسلام بحكم اختلاط التجار والمهاجرين العرب بالأفارقة.
واللغة السواحلة ولدت نتيجة لامتزاج اللغات واللهجات الإفريقية مثل البانتو يتخللها كثير من المفردات العربية خاصة الألفاظ المستخدمة في الشؤون التجارية؛ حيث تشير بعض التقديرات إلى أن المفردات العربية في هذه اللغة كما يذكر المختصون من أبناء السواحلية أنفسهم تقدر ما نسبته 22%، وظلت اللغة السواحلية تكتب بحروف عربية على مدى أكثر من خمسة قرون حتى دخول الاستعمار الأوروبي الذي بدأ بمحاربة المظاهر العربية في المنطقة. وفي عام 1891م ظهرت أول ترجمة بالسواحلية للإنجيل مكتوبة بالحروف اللاتينية. اقتضت سياسة الإدارة البريطانية في مجال التعليم في شرق أفريقيا استبدال كتابة اللغة السواحلية من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية مع بداية القرن العشرين.
إن الهجرات العمانية المتواصلة واستقراها في المنطقة، إلى جانب النشاط التجاري المستمر كان له دور مؤثر في تطور اللغة السواحلية وانتشارها وتوغلها في أواسط أفريقيا. وفي هذا المقام تجدر الإشارة إلى أن العمانيين تمكنوا من هذه اللغة، ونظموا قصائد باللغة العربية تنتهي بقافية سواحلية على سبيل المثال نظم علي بن سعيد الريامي قصيدة غرامية قال في مطلعها:
أحبائي رحلتم عني جُوزي(قبل أمس).. فراقكم حشى قلبي مجُونزي(حزن)
رحلتم نحو الأرض بيمبا(الجزيرة الخضراء).. زيارتكم عوام أو نميزي(شهور)
وهنالك أبيات شعرية تنسب إلى ناصر بن سالم الرواحي – الذي أبدع في تطوير اللغة السواحلية – معاتبًا خادمه حيث يقول:
يا خميسا يا مهوكا.. لا تقل اني مشوكا (تعبان)
كلما أدعوك دوما.. قيل لي هاكوكتوكا(خرج غير موجود)
السكان في شرق أفريقيا:
أصبحت زنجبار ملتقى للعديد من الأجناس والشعوب فهي إفريقية بموقعها وطقسها وشرقية إسلامية بسكانها وحكامها حيث تنوعت الأصول العرقية في المجموعات التي كونت مجتمع شرق أفريقيا. وإلى جانب المجموعات السكانية بمختلف قبائلها والسواحليين استوطن زنجبار عرب عمان والحضارمة من اليمن، إضافة الى الهجرات القادمة من البحرين والإحساء، والشيرازيين والافريقيين والسواحليين وبعض منهم من جزر القمر والهنود بمختلف طوائفها، ومجموعات قليلة من الأوربيين.
ومن الظواهر الاجتماعية الجديرة بالتسجيل روح الاندماج والانصهار التي ميزت عرب عُمان في المجتمع الإفريقي من مختلف الأعراق والطوائف التي استوطنت زنجبار. وأصبحت هنالك علاقات نسب ومصاهرة مع المجتمع الإفريقي، وهذا ما نلاحظه بجلاء من وجود أسر عُمانية لها أقارب في مختلف دول شرق أفريقيا والعكس صحيح. إلى جانب روح التسامح الديني والمذهبي التي انتهجها العمانيون، وفي هذا الصدد يقول المغيري في جهينة الأخبار “ومن جميل أخلاق سلاطين زنجبار عدم التعصب في الجنسية والأديان، فجميع الأجناس النازلة بزنجبار من غير الجنس العربي قد قابلهم سلطان زنجبار بغاية الاحترام والمواساة في جميع أمور الحكومة وغير ذلك، ومهما تصفحت تاريخ زنجبار لا تجد فرقًا بين العرب وسائر الأجناس”.

خاتمة:
أورد جمال زكريا قاسم في بحثه المضمّن كتاب “العرب في أفريقيا” مقولة في غاية الأهمية لوزير الدولة في حكومة الكونغو “لقد زور البلجيكيون كل شئ في الكونغو فليست مدينة ستنانلي فيل سوى مدينة تيبو تيب التي أقامها ذلك التاجر العربي قبل قدوم الرحّالة ستانلي، وليس العرب كما قالوا لنا تجار رقيق وإنما هم تلك الموجة الإنسانية التي اختلطت بنا وصاهرتنا وتركوا لنا على أرضنا دماءهم والبلجيكيون يحصدونهم بالأسلحة الحديثة وليس أعز علينا سوى هذا الدم العربي الذي سال في الماضي كما سال ويسيل دمنا الآن في بلادنا ..”
كما ذكر جيان في كتابه ” وثائق تاريخية وجغرافية عن أفريقيا الشرقية” ” ومما يملأ الفؤاد ويملأ القلب أسى وحزنا أنك إذا قارنت تلك البلاد] أي شرق أفريقيا [وهي في قبضة البرتغاليين بعرب عمان علمت أي الفريقين فريق البرتغال أم فريق عمان يحمل علمه منكسا إلى أسفل خزيًا وخجلًا وفسادًا وخللًا مع ما هو مشهور من وصف البرتغاليين بأنهم أمة متمدنة ووصف العرب بأنهم قوم برابرة متوحشون”
المراجع:
– بينيت، نورمان، دولة زنجبار العربية: لمحة تاريخية، (ترجمة: رحمة الحبسي)، الرافدين، بيروت، 2020م.
– جيان، سلطنة عمان وأفريقيا الشرقية: وثائق تاريخية وجغرافية وتجارية، (نقله إلى العربية: الأمير يوسف كمال باشا)، دار الفضيلة، القاهرة، 2015م.
– روكارا، محمد، “دور العمانيين في نشر الثقافة الإسلامية في شرق أفريقيا: البناء والأصداء”، سلسلة البحوث والدراسات في الوثائق الوطنية والدولية (4)، الحضارة والثقافة الإسلامية والدور العماني في النواحي التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في دول شرق أفريقيا، ج1، هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، مسقط: 2014م.
– الزدجالي، هدى، العمانيون وأثرهم الثقافي والفكري في شرق أفريقيا 1870-1970م، الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، مسقط، 2021م.
– السديس، عبد الرحمن بن علي. العمانيون والجهاد الإسلامي في شرق إفريقية 1034-1123هـ/1624-1711م، أطروحة دكتوراه، جامعة أم القرى، مكة المكرمة: 1413هـ/1993م.
– سلطان، سالمة بنت سعيد، مذكرات أميرة عربية، ترجمة عبد المجيد القيسي، مسقط، وزارة التراث القومي والثقافة، 2001.
– صغيرون، إبراهيم الزين، “الاسهام العماني في المجالات الثقافية والفكرية والكشف عن مجاهل القارة الافريقية في العهد البوسعيدي “، مسقط، المنتدى الأدبي، 1993.
– العرب في أفريقيا الجذور التاريخية والواقع المعاصر، اشراف رؤوف عباس حامد ، القاهرة :دار الثقافة العربية ، 1987.
– المحذوري، سليمان بن عمير، زنجبار في عهد السيد سعيد بن سلطان(1804-1856 ) ، دمشق، دار الفرقد، 2014
– المخلافي، طلال حمود عبده. “دور العثمانيين والعمانيين في مقاومة الاستعمار البرتغالي ونشر الحضارة الإسلامية في شرق أفريقيا: القرنين السادس عشر والسابع عشر نموذجا”، سلسلة البحوث والدراسات في الوثائق الوطنية والدولية(4)، الحضارة والثقافة الإسلامية والدور العماني في النواحي التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في دول شرق أفريقيا، ج1، هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، مسقط: 2014م.
– المغيري، سعيد بن علي، جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار، تحقيق محمد بن علي الصليبي، ط5، مسقط: وزارة التراث والثقافة، 2017.
– مؤلف مجهول، مخطوطة شرق أفريقيا زنجبار، دائرة الوثائق والمخطوطات، وزارة التراث والثقافة، مسقط، رقم المخطوط 2170.
– النعماني، سعيد، الهجرات العمانية إلى شرق أفريقيا ما بين القرنين الأول والسابع الهجريين (دراسة سياسية وحضارية)، دار الفرق، دمشق، 2012م.
– نيكوليني، بياتريشة، جزيرة زنجبار التاريخ والاستراتيجيا في المحيط الهندي (1799-1856)، دار النهضة للنشر، بيروت، 1988م.
– الهناوي، مبارك بن علي. العمانيون وقلعة ممباسا، ط1، بيت الغشام للنشر والترجمة، مسقط: 2015م.
Al-busaidi, Ibrahim Yahya Zahran, Oman e Portugal (1650-1730) Politica e Econmia, Doutoramento em História, Universidade de Lisboa: 2010.
– G.S.P. Freeman, Grenville, The East African cost, Oxford. 1962.
– Hourani, George.F. Arab Seafaring in the Indian Ocean, Princeton University press, New Jersey, 1951.
– Walter F. Fitzgerald, Africa: A social, Econimic and Political Geography of its Major Regions, New York, 1939.