Tuesday, April 28, 2015

الدور الثقافي العُماني في شرق إفريقيا في العصر الحديث

الدكتور/ سعيد بن محمد بن سعيد الهاشمي

hashimys@squ.edu.om



بحث مقدم إلى المؤتمر الدولي للحضارة الإسلامية في شرق إفريقيا
زنجبار
2-4 سبتمبر 2013م
   

Monday, April 27, 2015

أسرار العلاقة الثَّقافيَّة بين عمان وجزر القمر

محمد بن سليمان الحضرمي
مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي، جامعة نزوى

 تشهد جزر القمر خلال الأسبوعين الجاريين فعالية "الأيَّام العُمانيّة القمريَّة"، بتنظيم من مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدِّراسات العرابيَّة بجامعة نزوى، ومكتبة الندوة الأهلية ببهلا، وبيت الغشام للنشر والترجمة، ومن جزر القمر تشارك مؤسسة الوفاء للتنمية والأعمال الإنسانية في هذا التنظيم، وحول هذه الفعالية أجرى عمان الثقافي حوارا مع الدكتور المفكر حامد كرهيلا، تحدث فيه عن أهمية إقامة هذه الفعالية، كما تحدث أيضا عن الوجود العُماني القديم في هذه الجزر، والعلاقة الحضارية والمعاصرة بين السلطنة وجمهورية جزر القمر المتحدة.
        حصل كرهيلا على الدّكتوراه في الدراسات الإسلامية، حملت أطروحته عنوان "أثر الإسلام في تشكيل السلوك الاجتماعي في جزر القمر"، وتقلَّد عدة مناصب فيمركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدِّراسات العربيَّة ومكتبة النَّدوة وبيت الغشّام تكشف أسرار العلاقة الثَّقافيَّة بين السَّلطنة وجزر القمر الحكومة القمرية ويعد ناشطا سياسيا، وباحثا مهتما بالتاريخ العربي في شرق أفريقيا، أصدر خمسة كتب عن العلاقات التاريخية العربية بجزر القمر، وفيما يخص العلاقة الحضارية العُمانية القمرية صدر له كتاب بعنوان "العلاقات التاريخية العُمانية بين الدّولة البوسعيديَّة وجزر القمر"، وكذلك كتاب "صراع الحب والسّلطة السلطانة جومبيه فاطمة (1841 - 1878م)"، و"التنافس العُماني الفرنسي على جزيرة موهيلي القمريّة"، وغيرها من الكتب التي تبحث في الشأن القمري، وإلى جانب ذلك فهو عضو مؤسس لمؤسسة الوفاء للتنمية والأعمال الإنسانية، حيث يعمل فيها عضوا في مجلس الإدارة، وعضوا مؤسسا في اتحاد علماء أفريقيا.
- ماذا يعني لكم إقامة فعالية ثقافية عمانية في بلدكم جزر القمر؟
        هذه الفعالية تعني لنا الشي الكثير، لأنها تشكل عودة حميدة للأصالة والتواصل مع الشعب العماني الشقيق، الذي كان بيننا وبينه علاقات متأصلة، تعود إلى عمق التاريخ، وجزر القمر حكومة وشعبا سعيدة بهذه الفعالية التي تشكل سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ بلادنا.
- كيف خططتم لإنجاح هذه الفعالية في جزر القمر مع الجهات العمانية المنظمة؟
       أولا وقبل كل شيء مؤسسة الوفاء هي مؤسسة أهلية أخذت على عاتقها مهمة تعريب وإحياء الثقافة الإسلامية في هذه البلاد، ومن أنشطتها إقامة منتديات باللغة العربية، وهي الأولى من نوعها في تاريخ بلادنا، لأننا تعودنا أن تكون المحاضرات والأنشطة التي نقدمها كلها باللغة المحلية واللهجة القمرية، ومنذ سنتين بدأنا في مؤسسة الوفاء بتقديم ندوات ومحاضرات وأمسيات شعرية باللغة العربية، من هنا كان تواصلنا مع الأشقاء في السلطنة، من أجل إقامة هذا النشاط، والذي سيكون له أثر كبير في بلادنا.

أول فعالية عربية
- هل هي أول فعالية تنظمها مؤسسة الوفاء مع وفد من خارج الجزر؟
        نعم هي أول فعالية عمانية وعربية، لكن لدينا فعاليات محلية، عبارة عن محاضرات وندوات كما أننا نحتفل سنويا بيوم اللغة العربية، وهذه مناسبة نحتفل بها سنويا.
- بخصوص التعريب والعودة إلى العربية، حدثنا عن الجهود التي تبذلونها إزاء هذا الشأن؟
        هناك جهود حكومة رسمية، من قبل مؤسسات الدولة لتحقيق هذا الغرض، أما ما نقوم به كجمعية من جمعيات المجتمع المدني فإننا نبذل ما في وسعنا، من أجل التعريب وخاصة في إقامة دورات باللغة العربية، ومحاضرات إلى جانب اهتمامنا بكتابة التاريخ العربي في هذه البلاد.
علاقة قديمة وأصيلة
- أنت أحد الكتّاب الذين كتبوا عن العلاقة بين عُمان وجزر القمر، حدثنا عن تجربتك في هذا الجانب، وعن طبيعة هذه العلاقة، وكيف توصِّفها تاريخيا؟
        هذه العلاقة بالفعل علاقة قديمة وأصيلة، ولقد وقفت على بعض جوانبها، عندما كنت أكتب عن أثر الإسلام في تشكيل السلوك الاجتماعي في جزر القمر، ومن خلال هذا البحث المتواضع بدأت أقف وأكتشف عن العلاقة القديمة بين عمان وجزر القمر، ووجدت بالفعل محطات مهمة ينبغي إعادة صياغتها، لكي تكون في متناول الجميع.
- هل لديكم معرفة عن أول مرة دخل فيها العمانيون جزر القمر؟ وهل قاموا بنشر رسالة الإسلام؟
        الوثائق المتوفرة تشير إلى علاقة العمانيين بالجزر، قبل الإسلام، وبعد دخول الإسلام، كما توافدت إلى جزر القمر هجرات عمانية إلى الجزر، وقد ذكرت تفاصيل هذه الجانب في كتابي حول العلاقات العمانية والقمرية، وكان لهم جهود جبارة في نشر الإسلام، وقد وقفت على رسائل فرنسية، وهي ليست أكثر من تقارير إدارية واستخباراتية، تتهم الوجود العماني بمحاولة أسلمة الجزر، ونشر الإسلام، وهذه شهادة فرنسية تفيد أن الدولة العمانية لم يكن لديها أطماع توسعية، بقدر ما كان لها رسالة إسلامية سامية.
- متى دخل الإسلام جزر القمر؟
        دخل الإسلام الجزر في أواخر القرن الأول الهجري، وهناك من يذهب إلى القول أن العمانيين هم أول من أدخل الاسلام إلى جزر القمر، وذلك في فترة حكم سليمان وسعيد ابني عباد بن عبد بن الجلندى، وهناك مؤرخ قمري أشار إلى أن اٌسلام دخل الجزر ما بين 82 و 92هـ.
العربية لغة التعليم
- وبالنسبة للغة العربية متى سادت هنا في الجزر؟
        اللغة العربية كان لها وجودها في الجزر مثل فترة مبكرة، حيث كانت هي اللغة الرسمية، واللغة الإدارية، ولغة الدواوين، ولغة التعليم، وحتى المكاتبات بين الجزر والفرنسية عندما دخلوا محتلين هذه البلاد، كتبت باللغة العربية، ثم تترجم ثانية إلى اللغة الفرنسية.
- ألا تشعرون أنكم تأخرتم في إقامة علاقة مباشرة مع النخبة المثقفة العمانية؟
        نعم هذه أول مرة يزورنا فيها مثقفون، ولكن تواصلنا مع عمان لم تنقطع، هناك تواصل دائم، بين السلطنة والجزر، منذ فجر حصول الجزر على استقلالها، وكان ذلك في عام 1975م، وعمان وقفت بجانبنا ماديا وأدبيا وسياسيا واقتصاديا، عمان لم تكنن غريبة علينا، ونحن نعيش التأثير العماني حتى اليوم، وسعداء بهذا التأثير، حيث تجد هذا التأثير في الزي الذي نلبسه، والعادات والتقاليد.
- بصفتك أحد الباحثين في العلاقات العمانية القمرية حدثنا عن التأثير العماني في جزر القمر؟
       التأثير العُماني علينا كبير جدا، وهو ملحوظ وملموس، ويذهب ذلك في كل شيء، في العادات الاجتماعية واللغة والأزياء والفكر والثقافة، بل إننا نجد أسماء قمرية تحمل مسميات عمانية، مثل (من صور)، ويعني أن هذا الرجل قدم من مدينة صور العمانية، وعندنا أكثر من شخص يسمون مسقط، وعندنا قبيلة وأسرة، ولدينا قبيلة تسمى (وادي سما)، نسبة إلى وادي سمائل في محافظة الداخلية بالسلطنة، وكثير من القبائل العمانية ما تزال تحمل اسماءها القديمة، وهذا يدل على الترابط القديم بين الإنسان العماني وأخيه الإنسان القمري، بالإضافة إلى وجود أثر سياسي، فقبل الاستعمار كان لدينا نظام السلطانات، وكل جزيرة من جزر القمر لديها سلطان يحكمها، وأثبت التاريخ بأن جزيرة "مايوت"، وهي إحدى جزر القمر، حكمها النباهنة العمانيون مدة تصل إلى أكثر من قرن من الزمان، ثم جاء المناذرة بعدهم، وتوجد لدينا مصادر تفيد عن وجود اتصالات بين السلاطين القمريين ودولة اليعاربة العمانية.
أحفاد العُمانيين في الجزر
- هل لديكم قبائل عمانية ما تزال تحمل ذات الاسم العُماني؟
        نعم، لدينا الكثير من القبائل العمانية، أصولها عمانية، وما يزال أحفاد العمانيين الأوائل الذين عاشوا في الجزر موجودين حتى اليوم، ولكن الإشكالية التي وقعنا فيها أنه حدث منع في فترة من الفترات الانتساب إلى القبيلة، حفاظا على الوحدة الوطنية، ومن هنا يصبح الآن من الصعوبة بمكان أن نميز ونعرف أن هذا الشخص من أي قبيلة ينتمي، لقد ذابت مسميات القبائل، وتداخلت مع بعضها بحكم التزاوج، وعدم الاعتراف بالقبيلة، بسبب رغبة الحكومة في توحيد الناس، وحفاظا على الوحدة الوطنية، وإلا فالتواصل مع عمان موجود بشكل كبير.
- نعود إلى الفعالية التي تنظمها مؤسسات عمانية في جزر القمر هذه الأيام، وحملت عنوان (الأيام العمانية القمرية)، ما هو الدور الذي قامت به مؤسسة الوفاء للتنمية والأعمال الإنسانية؟
       فور تلقينا الخبر من أصدقائنا العُمانيين، بدأنا في اتصالاتنا مع الجهات المختصة في الجزر، وخاصة وزارة التعليم العالي والشباب والثقافة، فهي الجهة الرسمية الراعية للشأن الثقافي في الجزر، فتجاوب معنا معالي محمد إسماعيل، وزير التعليم العالي والشباب والثقافة، فتشكلت لجنة تنظيمية مشتركة بين مؤسسة الوفاء وبين الوزارة، ونحن منذ شهرين نستعد ونحضر لهذا العرس الثقافي الذي أنتم قادمون به.
 الوفد العُماني يلتقي رئيس البرلمان القمري:     
      وكان الوفد العُماني المكوَّن من مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي بجامعة نزوى، ومكتبة الندوة ببهلا، وبيت الغشام، وعددٍ من الأكاديميّين من جامعة نزوى، والأدباء والمثقفين والإعلاميين العُمانيّين،  قد التقى عددًا من المسؤولين في جمهوريَّة جزر القمر، حيث التقوا أمس رئيس البرلمان القمري معالي الأستاذ برهان حامد، وعددًا من المسؤولين والمثّقفين في جزر القمر، وزار الوفد عددًا من المؤسسات القمرية والسوق الشعبيَّة للجزر. ويشارك من الجامعة إلى جانب مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربية في الأيام الثقافية العُمانيّة القمرية الدُّكتور سليمان بن سالم الحسيني -مدير معهد التَّأسيس في الجامعة-، والدكتور عبدالله الغافري -مدير وحدة الأفلاج بكلية العلوم والآداب بالجامعة-، والفاضل سيف الحارثي -من دائرة الشؤون الماليَّة-، والفاضل سليمان الصقري -من الدعم الفني بمركز نظم المعلومات بالجامعة. 

جومبيه فاطمة والصراع العُماني الفرنسي على جزيرة موهيلي القمريَّة: صراع الحب والسلطة

د.محمد المحروقي
١ اغسطس 2011م
القدس العربي


2011-1\08\


 في صيف  2010 الفائت كنت على موعد لزيارة جزء عزيز من وطننا العربي الإسلامي الكبير، يبعد عنَّا جغرافيّاً ـ نوعاً ما ـ ويربطنا به رابط متين من عرى الدين والتاريخ المشترك.
وعلى الرغم من قوّة الآصرة المشار إليها إلا أنَّ علاقتنا الحاضرة به في الغالب الأغلب علاقة ناقصة، ومشوبة بكثير من الضبابيّة والمعلومات الناقصة. إنها دولة جزر القمر الاتحاديّة، الدولة العضو بجامعة الدول العربيّة، التي لا نكاد نعرف كيف يُنطق اسمها على وجه اليقين. هل هي الـُقـمر؟ أم الـَقمر؟ ولا تسل عن معرفتنا بتاريخها وعناصرها البشريّة وآمالها وتطلّعاتها. وما ذلك إلا دليل على قوة ضعف العلاقات العربيّة، في أبهى تجلِّياتها.
زرتُ الجزر في ذلك الصيف ضمن الرحلات العلميّة لمشروع 'مصادر تاريخ العلاقات العمانيّة بشرق أفريقيا خلال الفترة (1624م-1963م)، وكنت قد زرت دول تنزانيا وأوغندا وكينيا في الإطار ذاته. وعدت ـ والحمد لله ـ بحصيلة طيبة من الوثائق والتقارير بعد أن غطّيت سبعة مراكز علميّة هناك، هي إرشيف زنجبار، وإرشيف بمبا، ومتحف القوميّة التنزانيّة بدار السلام، وجامعة مكاريري، والإرشيف الوطني الأوغندي بعنتبي، والإرشيف الوطني الكيني بنيروبي، ومتحف قلعة يسوع بممباسا. كما التقيت في تلك الدول الثلاث شخصيّات أكاديميّة وعلميّة على معرفة دقيقة بتاريخ العلاقات العمانيّة بشرق أفريقيا.
قبل ذهابي إلى جزر القمر بذلت جهداً للحصول على معلومات كافية تساعدني في مهمتي الصعبة القادمة، فالتقيت ببعض الشخصيّات القمريّة هنا في مسقط، أبرزها الأستاذ المرحوم جعفر جمل الليل، الذي فاجأنا رحيله في ريعان شبابه. وقد زوّدني الأستاذ جعفر بأسماء وعناوين شخصيّات علميّة في الجزر الثلاث؛ القمر الكبرى ومهيلي وهنزوان. لكنّ الصورة ظلّت ضبابيّة. وكان الدرس الأهم الذي تعلمته من خلال زياراتي المتكررة، تقريباً، لشرق أفريقيا أنك هناك على الأرض، وببعض الحنكة ستجد حتماً ما تبحث عنه. فمضيت إلى الجزر وكان ذاك.
ما ان اطمأنت قدماي ـ ولا أقول اطمأن مقامي- بفندق في مروني، العاصمة الرسميّة للدولة ولجزيرة القمر الكبرى، حتى بدأت بالاتصال بقائمة الشخصيّات العلميّة التي لديّ، وأولها الدكتور حامد كرهيلا حمد. في صباح اليوم التالي شرّفني الدكتور كرهيلا بالزيارة، وشرحت له مهمتي العلميّة وتحادثنا قليلاً، ثمّ انطلقنا بسيارته لترتيب أمور السكن التي لم تكن مستقرة بعدُ، وفي وضع مقترحات وتوفير معلومات لمهمتي العلميّة. منذ البداية كان تواصلنا مباشراً ورائعاً. أذكر بالضبط أن الدكتور كرهيلا انطلق يحدِّثني عن مشروع علمي شغل ذهنه طويلاً، ثم انصرف عنه لمقتضيات الحياة الدبلوماسيّة والسياسيّة لبعض الوقت. حدّثني بشغف وتفصيل عن جُومْبيه فاطمة، سلطانة موهيلي، وحياة القصر، والصراع حول نيل قلبها، للنيل تالياً بمملكتها، من قِبل متسلقي الداخل والقوى الإقليميّة العمانيّة والفرنسيّة، حينها.
أخذ نفساً طويلاً وقال الدكتور كرهيلا: يشغلني العنوان الذي يمكن أن أضعه لكتاب كهذا! قلت له: يا عزيزي، إنه صراع الحبّ والسلطة. أعجبته العبارة كثيراً، بل أسرته، وأخذ قلماً، وكأنما يخاف أن يفقد العبارة إن لم يدوّنها، ودوّنها. هذه هي اللحظات الأولى التي عرفت فيها الدكتور حامد كرهيلا، ووجدت فيه المثقّف والباحث والدبلوماسي المقتدر. كلّ ذلك يجتمع في شخصه، ليكوِّن شخصيّة قمريّة معتدّة بجذورها ومتطلّعة إلى غد أفضل لبلادها، يتناسب وحجم مقدّراتها التاريخيّة وثرواتها في البحر والبرّ.
لقد أثرى الدكتور حامد كرهيلا المكتبة العربيّة بأبحاثه المهمّة عن جزر القمر، ثقافتها وبعدها الإسلاميِّ العربيّ، ككتابه 'أثر الإسلام في تشكيل السلوك الاجتماعي في جزر القمر'، وكتاب 'العلاقات التاريخيّة بين الدولة البوسعيديّة وجزر القمر'. وهو بذلك يؤسس لمعرفة علميّة بهذه الدولة العربيّة التي نسيها إخوانها العرب أو تناسوها. ويأتي كتابه ' صراع الحب والسلطة: السُّلطانة جُومْبيه فاطمة (1841-1887) التنافس العُماني الفرنسي على جزيرة موهيلي القمريّة' تفصيلاً لنقطة توقـّف عندها في كتابه الثاني المشار إليه. وهو كتاب مهمُّ جداً في تاريخ جزر القمر من ناحية، وفي تاريخ دولة السيّد سعيد بن سلطان البوسعيدي (1804-1856) المترامية الأطراف في قارتي آسيا وأفريقيا. إنه يرصد بدايات التغلغل الاستعماري الغربي في شرق أفريقيا. ذلك الاستعمار الذي هيأ له المنصِّرون والمستكشفون والمغامرون الأوروبيون، بوصولهم إلى قارة الظلام، ودراسة هذه القارّة وإمكانياتها وعناصرها دراسة مستفيضة، كان لها جوانبها الإيجابيّة على مستوى معرفة العالم بمنابع نهر النيل، أهم نهر في الحضارة الإنسانية، والبحيرات الكبرى وغير ذلك من الكشوفات الجغرافيّة، كما كان لها جوانبها السلبيّة ؛ إذ قادت إلى استعمار هذه الأراضي واستنزاف مقدّراتها. وهو جانب، بل فكر غدا واضحاً من خلال قرينه 'الاستشراق'، الذي كتب عنه البروفسور إدوارد سعيد كتابه المهم بالاسم نفسه. و 'الاستفراق' على وزن المصطلح الأول لا يختلف عنه فكراً وممارسة، بل هو امتداد له.
وإلى جانب العنصرين؛ العماني والفرنسي، اللذين تنافسا على جزر القمر في هذه الفترة هناك عنصر ثالث، طالما تداخل ـ بحكم الجغرافيا- في مجريات الأحداث بجزر القمر، ألا وهو العنصر الملجاشي. فأقرب يابسة إلى الجزر هي جزيرة مدغشقر. ولهذا التقارب كان المؤرخون العرب القدامى يشيرون بجزائرالقمر إلى مدغشقر والجزر الأربع الأخرى. وأطماع سلاطين مدغشقر في الجزر قديمة قدم التاريخ، وكثيراً ما كانوا يغيرون على الجزر وينهبونها. والسلطانة فاطمة مثال جيّد على ذلك النفوذ الملجاشي. فأبوها السلطان 'رامنتاكا' ملجاشي الأصل، هرب من بلاده لصراعات على السلطة هناك، واستولى عنوة على الحكم في جزيرة موهيلي الوادعة في عام 1832م، وتسمّى باسم عبد الرحمن، وأعلن إسلامه، وتحالف مع السلطان سعيد بن سلطان.
العنصر الرابع هم الطرف الأضعف في هذه الحلقة، وهم سكّان البلاد الأصليون، الذين انقسمت ولاءاتهم بشكل متوزّع بين العناصر الثلاثة المشار إليها. ولا شك أن هناك قسم ثالث كان ولاؤه للأرض نفسها، أرض جزر القمر.
وفي فصول الكتاب يسرد الدكتور كرهيلا ذلك الصراع بين تلك العناصر المختلفة على الفوز بالأرض والفوز بالزواج من الأميرة الصغيرة. وهو يوضّح كيف أن الفرنسيين خططوا لهذا الأمر تخطيطاً بعيد المدى، حتى ظفروا برعاية الأميرة الصغيرة، مسخّرين لذلك المربيّة 'مدام درواة'، لتنشئتها تنشئة مسيحيّة 'صافية'. وقد اعتمد الدكتور كرهيلا في هذا الشأن وفي أغلب الكتاب على المصادر التاريخيّة الفرنسيّة، التي اعتمدت بدورها على تقارير رسميّة، ووثائق، ومراسلات محفوظة . ولا شكّ أن هذا أمر إيجابي. أعني به الاستفادة من المصادر الفرنسيّة، لأنها الأكثر إحاطة ودقة بتاريخ جزر القمر الحديث. وإن كان لذلك الأمر إشكاليّة لا تغيب عن العارف هنا. وهي أن الرؤية الفرنسيّة هي رؤية الآخر/ العدو، الذي من مصلحته تشويه صورتنا. إلا أننا لا نملك بديلاً عن ذلك بسبب غياب المصادر العربيّة، فضلا عن ضياع الوثائق العربيّة. والدكتور لم يقف أمام تلك الروايات الفرنسيّة المتحاملة على الوجود العربيِّ موقفاً سلبياً بل نقدها، ورفض منها ما لا يستقيم مع المنطق والواقع.
وكما دخل الفرنسيون بخططهم دخل السلطان سعيد بثقله، فأبدى رغبته في الزواج من هذه الأميرة، تتويجاً لعلاقة أبيها عبد الرحمن بالسلطان سعيد. ثمّ كان أن حالت مشاغل السلطان دون إتمام ذلك فأرسل قريبه سعيد بن محمد بن ناصر البوسعيدي، الملقّب بـ'مكدارا' (ت 1864م). وكان أن ظفر رسول السلطان سعيد بالزواج، وضمن بالتالي تبعيّة موهيلي لزنجبار. ولا تشير المصادر الموجودة إلى هذه الشخصيّة. وقد عرفت أن هناك منطقة بممباسا، يقطنها البلوش تسمّى 'مكدارا'. وأصل تسميتها أن سكّانها نقلوا، لأسباب نجهلها، من مساكنهم إلى مواضع أخرى. فكان الناس يسألونهم : لماذا نُقلوا؟ فيقولون: 'قدّر الله وما شاء فعل'. ويقولون أيضاً: مقادير. فسمّيت المنطقة 'مقدارا' أو 'مكدارا' بالنطق السواحلي. وربما سكن سعيد هذا بهذا المكان، فـُنسب إليه على عادة الثقافة السواحليّة.
ونشير أن أبناء 'مكدارا' حكموا موهيلي، وكذلك أبناؤه. ولم يمتد نفوذهم طويلاً هناك. وفي زيارتنا للجزر في العام الماضي التقينا باثنين من نسل 'مكدارا' هذا، وأطّلعنا على الوثائق الفرنسيّة والعربيّة التي تثبت أصولهم العمانيّة، وصوّرنا تلك الوثائق، والحفيدين الاثنين.
وقبل أن نختم هذا التقديم السريع نود العودة إلى نقطة ذكرناها في صدر هذه المقالة هي، كيف ننطق اسم هذه الدولة؟ كنت قبيل وصولي إليها أنطقها بضم القاف، نسبة إلى طيور القـُمارى، وهي بضم القاف أيضا، التي قيل إنها تكثر بها. وقد قرأت هذه المعلومة في مصدر لا أذكره الآن. وأذكر جيداً أن أحد طلاب أبي مسلم ناصر بن سالم البهلاني النابهين هو برهان الدين بن مكلا القمري، الذي برَّز في علم النحو وأصبح يشار إليه بسيبويه زنجبار. وكان شاعرا لا بأس بنظمه. وعندما ُتوفي أستاذه رثاه بقصيدة تذوب أسفاً على خسارة زنجباز علـَمَها الأمكن. وأذكر أنني صوّرت هذه القصيدة الصيف الماضي من مكتبة المعلم محمد إدريس بزنجبار. وقد ضُبطت قبيلة برهان مكلا، كما يتراءى لي الآن، بضم القاف. ويتبدَّى لي أمر جديد في اسم هذا العلم وهو أنه يحمل إشارتين إلى مكانين (مكلا، بحضرموت اليمن) و القمري، نسبة إلى موطنه الأخير. وهجرات الحضارمة إلى هذه الجزر وتأثيرهم فيها لا ينافسه إلا الأثر العماني، هجرة ً وحكماً.
أما النطق السائد لاسمها فهو جزر القـَمر، بفتح القاف، لا بضمها. وذلك ـ حسب الرواية المتداولة ـ أن المهاجرين العرب الأوائل في القرن الثامن الميلادي قبيل أن ترسو سفنهم على شواطىء هذه البلاد، وكان القـَمر بدراً، رأوا أشعته منعكسة على صفحة مياه البحر الهادئة، فقالوا: هذه جزر القمر. وهكذا أخذت هذه الجزر هذا الاسم الحالم الجميل.
ونحن نميل ـ رغم شيوع التسمية الثانية ـ أن التسمية الأُولى هي الأَولى، ذلك أنّ التسمية الفرنسية لها ـ وهي مأخوذة عن التسمية العربية ـ ترِد بضم القاف (Comoros). وما نقوله هنا لا يجاوز حدود الفرضيـّة، ومحاولة التفسير. والمسمّى الرسمي الآن بفتح القاف، والقوم أدرى ببلادهم.
أخيراً، وليس آخراً، نقول إن هذا الكتاب يسدُّ فراغاً في المعرفة التاريخيّة بالعلاقات العمانيّة ـ القمريّة، ويفتح باباً واسعاً للباحثين في عمان وجزر القمر، والباحثين، عامّة لنفض الغبار عن تاريخ مشترك علينا معرفته والاستفادة من جوانبه الإيجابيّة، دون تباطؤٍ ولا
تقصير.

ملحوظة: هذا تعليق يصاحب الصورة:
السلطانة جومبيه فاطمة
(المصدر: المركز الوطني للتوثيق والبحث العلمي ـ موروني )CNDRS

جزر القمر بين الحضارة والحاضر.. وتأثير عماني يصارع متغيرات الزمان

محمد بن سليمان الحضرمي
جريدة عمان : 15 ديسمبر 2013م

علاقة تاريخية ضاربة في القدم وحاضر تجمعه الوشائج والقربى

Share Button

جزر القمر بين الحضارة والحاضر.. وتأثير عماني يصارع متغيرات الزمان –
دور مهم للسلطنة في دعم المشاريع التنموية وتطوير للطرق والموانئ والقوات المسلحة –
متابعة: محمد بن سليمان الحضرمي –
منذ الدقائق الأولى التي نزلنا فيها جزر القمر، في النصف الأول من شهر يونيو الماضي، شعرنا فيها أننا بين أهلنا، وفي أرض تنتمي إلينا، وكان التأثير العماني ماثلا أمامنا، فنحن الآن في جزر القمر، الجزر الجميلة التي أصبحت من الجزر المعدودة بجمالها، واخضرار ساحاتها، وطيب شعبها، والذي يفخر بأصوله العمانية، مثلما يفخر بانتمائيه الإفريقي لهذه الجزر، التي تعرف اليوم بجمهورية جزر القمر المتحدة، وهي دولة مكونة من جزر تقع في المحيط الهندي، على مقربة من الساحل الشرقي لإفريقيا، وعلى النهاية الشمالية لموزمبيق، بين شمالي مدغشقر وشمال شرق موزمبيق.
في تلك الدقائق لاح لنا جمال الجزر في عيون أهاليها، فالبساطة التي يتسمون بها وحفاوة الترحاب، له تماس قوي مع الثقافة العمانية بلا شك، ناهيكم عن اللباس الذي شعرنا وكأننا في قرية من قرى عُمان، وليس في جزر تقع في عمق المحيط الهندي، كانت الدشداشة العمانية، والعمامة السعيدية والخنجر هي لباس المواطن القمري، ومن هذا المشهد لاح في ذهني تاريخ طويل من العلاقات بين عُمان وجزر القمر، أمجاد عريقة نراها تلوح في كل شيء، وتاريخ ينضح من الوجوه، ويشرق في مرايا العيون، وتلفظ الشفاه جملا رقيقة، وتجلى كثيرا في أكثر من استقبال شعبي، والذي امتد من المطار إلى كل الدروب التي سلكناها في الجزر، فنحن أحفاد العمانيين الذين سكنوا هذه الجزر قبل عقود وقرون من السنين، وفي كل مدينة من المدن الواقعة في إحدى جزر القمر، كان القمريون يستقبلوننا بابتهاج ومحبة، كمن يستقبل أهله الغائبين عنه زمنا طويلا، وذلك يدل على أن العلاقة بين الدولتين والشعبين لم تكن مجرد جمل تتناثر في كتب التاريخ، بل هي واقع وحقيقة معاشة، واقع يفخر به الانسان القمري المقيم في الجزر قبلنا، وتجلّى تأثير الحضارة العمانية على شعب جزر القمر في شكل المعمار، وبعض العادات التي تظهر في الأفراح والمناسبات، وغنائياتهم وأهازيجهم، وكثير من العادات لها أصول عمانية، وكانت مفاجأتنا أكثر حين عرفنا أن القبائل العمانية ما تزال تتسمى باسمها، رغم محاولة الاستعمار طمس الهوية العربية عنها.

صراع الاستعمار على هوية الجزر

تعد جزر القمر ثالث أصغر دولة إفريقية من حيث المساحة، وسادس أصغر دولة إفريقية من حيث العدد، وأقصى دولة جنوبية في جامعة الدول العربية، تتألف حاليا من ثلاث جزر، تقع في أرخبيل بركاني وهي: (إنجازيجيا)، وتسمى الجزيرة الكبرى، وفيها العاصمة “موروني”، و”موهيلي”، و”هنزوان” أما الجزيرة الرابعة فهي “مايوت”، لكنها اليوم مستعمرة فرنسية، ويرجع ذلك إلى أن هذه الجزيرة كانت الوحيدة التي صوتت ضد الاستقلال عن فرنسا، واستخدمت فرنسا حق الفيتو، وأبدت اعتراضها على قرارات مجلس الأمن، التابع لمنظمة الأمم المتحدة، التي تؤكد سيادة جزر القمر على الجزيرة، وقوبل الاستفتاء الذي تم في التاسع والعشرين من مارس عام 2009، حول أن تصبح الجزيرة جزءا من الوطن الفرنسي في عام 2011 باحتفاء غامر.
من جانب آخر يتميز هذا الأرخبيل البحري بالتنوع الثقافي والتاريخي، وللاتحاد القمري ثلاث لغات هي اللغة القمرية، وتأتي في المرتبة الأولى، ثم تأتي العربية والفرنسية، على تفاوت بينهما، ولكن العربية آخذة في النمو كثيرا، بسبب افتتاح الكثير من المعاهد التي تعلم العربية، ودور التعريب الكبير الذي تمارسه بعض المؤسسات والجمعيات الأهلية في المجتمع القمري، وبلا شك فإن الأعوام القادمة ستشهد اللغة العربية نموا كبيرا في الوسط الثقافي بجزر القمر، بسبب إقبالهم على التعليم، وحبهم الكبير للتعريب، وشعورهم أن العربية هي الأصل والجذور ولغة الأجداد.

جذور التأثير العماني على جزر القمر

بلا شك ان للعمانيين تأثير كبير، كما ذكرت سلفا، وهو تأثير عريق وعميق، يبدأ منذ إطلاق التسمية على هذه الجزر، وفي هذا الشأن يقول الدكتور حامد كرهيلا في كتابه “العلاقات التاريخية بين الدولة البوسعيدية وجزر القمر” نقلا  عن الباحث محمد بن ناصر العبودي، أن سبب تسمية “جزر القمر” بدأت عندما كان جماعة من العرب تائهين بسفنهم في خضم البحر, فإذا بهم يرون جزيرة “هنزوان” وقد انعكس على جبلها ضوء القمر فقالوا: هذه جزيرة القمر (بفتح القاف) ثم عمت التسمية”، ويعلق الباحث هاشم محمد علي باعلوي في بحث له بالقول: إن هذه الجماعة من العرب وسفنهم الّتي يتحدث بها العبودي، بلا شك هم عرب من عُمان، لكونهم ماهرين في صناعة السفن، إشارة إلى قول الشيخ عامر بن علي بن عمير في كتابه: “كان العمانيون القدامى يمارسون مهنة السفن من قديم الزمان”.
ويضيف الدكتور كارهيلا بالقول: إن الوثائق المتوفرة تشير إلى علاقة العمانيين بالجزر قبل الإسلام، وبعد دخول الإسلام، وتوافدت إلى جزر القمر هجرات عمانية، وقد ذكرت تفاصيل هذه الجانب في كتابي حول العلاقات العمانية والقمرية، وكان لهم جهود جبارة في نشر الإسلام، وقد وقفت على رسائل فرنسية، وهي ليست أكثر من تقارير إدارية واستخباراتية، تتهم الوجود العماني بمحاولة أسلمة الجزر، ونشر الإسلام، وهذه شهادة فرنسية تفيد أن الدولة العمانية لم يكن لديها أطماع توسعية، بقدر ما كان لها رسالة إسلامية سامية.
ومنذ ذلك الزمان، والتاريخ القمري يفخر بالكثير من القبائل العمانية التي استوطنتها، مثل قبيلة الأزد، حيث يشير المسعودي في كتابه (مروج الذهب)، أنّ هنزوان فتحت سنة 824م، على أيدي الأزد الإباضيين, والّذين استقروا فيها داعين إلى الإسلام, وما تزال لهذه القبيلة سلالاتها إلى اليوم كما يؤكد الباحث هاشم محمد علي، في بحث له بحث فيه “العلاقات التاريخية بين جزيرة هنزوان وسلطنة عمان منذ قديم الزمان”، وقدمه خلال الأيام الثقافية العمانية القمرية الماضية، ويؤكد أيضا في بحثه، أن ثمة قبائل أخرى سكنت هنزوان مثل الخروصيين، والنباهنة، وكانوا سلاطين في هذه الجزيرة، ولعبوا دورا هاما فيها منذ القرن الرابع عشر الميلادي إلى القرن التاسع عشر الميلادي، وما يزال للبوسعيديين تأثير حضاري وإنساني كبير، ومن المعلوم أن السلطانة ” جُمْبِي فاطمة” بنت السلطان عبدالرحمن الملقاشي الأصل, سلطانة جزيرة موهيلي، تزوجها السيد العماني سعيد بن محمد بن ناصر بن سعيد البوسعيدي (ابن عم السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي) سلطان عمان وزنجبار، وأنجبت منه ثلاثة أولاد وهم: محمد بن سعيد، وعبدالرحمن بن سعيد، ومحمود بن سعيد، وما تزال هذه الأسرة تعيش في موهيلي، وأثناء وجودنا فيها، قمنا بزيارة أطلال السلطانة، ومكان إقامتها، على ساحل البحر، كما تعرفنا على أسرتها المتبقية، وعائلتها التي تنتمي نسبا إلى السيد سعيد بن محمد البوسعيدي، وهناك قبائل عمانية أخرى سكنت في جزر القمر، من بينها قبيلة آل سعد، والقاسمي، وأصله من مدينة صور العمانية، وله أولاد وأحفاد ما يزالون أحياء، ومن المعروف تاريخيا أن العمانيين نزلوا في جزر القمر إبان نشر الدعوة الإسلامية، وفي فترة انتشاره المبكرة، وذلك خلال القرن الثاني الهجري بحسب المصادر التي تؤكد ذلك.

التأثير العماني في الحاضر

ما يزال الحاضر في جزر القمر مفعما بالتأثير العماني، ففي إحدى لقاءاتنا الشعبية مع المواطنين في موروني، وهنزوان وموهيلي، لمسنا ذلك التأثير متجليا في الكثير من التفاصيل التي شعرنا بها متجذرة وأصيلة، وزرنا الكثير من الحارات الأثرية التي شيدها العمانيون سابقا، وكان المعمار العماني يظهر في النقش على أسقف البيوت، وفي الشرفات والواجهات، وكان الخط العربي واضحا في كل ناحية، ومنقوشا في عتبات المنازل والقصور والمساجد، وبلا شك فإن التأثير العماني لم يكن ليبقى إلى يومنا هذا لو لم يجد قبولا واستحسانا من الشعب، فالشعب القمري يفخر بأصوله العمانية، وبعاداته العربية، لأن العلاقة بين عمان وجزر القمر لم تكن علاقة مستعمر، بل كانت علاقة فاتح وناشر للدين الإسلامي، ومحرر، علاقة رأى فيها الإنسان القمري سموا في أصله وجذوره، وهويته العربية.
وما يزال الحاضر ممتدا مع الماضي بوشائج كثيرة، وما تزال الحكومة العمانية تمد يدها للتعاون مع الحكومة القمرية وشعبها، وكانت فرحتنا غامرة حين رأيت لوحة رصف شارع بالإسفلت بتمويل من حكومة السلطنة تنتصب في أحد الشوارع بمدينة موروني، وتجددت فرحتنا أكثر ونحن نرى الأكف القمرية  تعترف بالجهود العمانية اتجاه واقعها اليوم، حيث شيدت الكثير من الجوامع بتمويل من الحكومة العمانية، كما أكد لنا وجهاء جزيرة موهيلي، والذي رافقنا إلى أطلال قصر السلطانة جمبي فاطمة، حيث هدم القصر المتداعي، وشيد محله جامع كبير يؤمّه أهالي الجزيرة، ويزدحم بالناس في صلاة الجمعة.
وما تزال الحكومة العمانية تدعم جزر القمر في مشاريعها التنموية، وفي حوار أجريته مع فخامة الرئيس الدكتور إكليل ظنين رئيس جمهورية جزر القمر، حيث قابلته مع الوفد العماني، وأجريت معه حوارا أكد فيه أنه منذ أن تولى رئاسة جمهورية الجزر، باشر في توطيد العلاقة مع حكومة السلطنة، في المجالات الدبلوماسية والسياسية، وأشاد في ذلك الحوار بما قدمته حكومة السلطنة من مساعدات مالية متنوعة لجمهورية الجزر، من بينها رصف الطريق الواصل بين مدينتي موروني وإيكوني داخل العاصمة، ورصف طريق آخر في جزيرة هنزوان، كما أشاد بمساهمة السلطنة في تطوير الصيد البحري بالجزر، ودفع ديون جزر القمر لدى البنك الإسلامي، ودعم الجيش البحري القمري.
وكان فخامته متابعا لتحركات الوفد العماني داخل الجزر، حيث قام بتسهيل المهمة المتطلبة لإنجاح الأيام الثقافية العمانية، وشكر حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم -حفظه الله ورعاه، على وقوفه مع جمهورية جزر القمر الاتحادية منذ استقلالها، حيث كانت السلطنة أول من اعترف باستقلال الجمهورية عام 1975م، وأول من ساندتها في الانضمام إلى جامعة الدول العربية عام 1993م.

القمر يسطع مجددا في الجزر
خلال تلك الأيام التي زرنا فيها الجزر، كانت أعيننا تسهم نحو الفضاء الصافي البعيد بحثا عن القمر، لتتعانق فيها نظرة أجدادنا العمانيين إليه، حيث رأوه صافيا وجميلا، ونحن رأيناه كذلك، ربما يعود إلى طيبة الشعب القمري، الذي غمرنا بالمحبة والحفاوة، وكان المشهد مؤثرا جدا، حين أقترب مني أحد القمريين، ليطوقنا بالأكاليل، شعرنا فيها أن ما يجمعنا أواصر رحمية، ملامح الوجوه تتحلى بدماثة وحسن معشر، السُّمرة التي تلوح في الوجوه تخفي قلوبا بيضاء كوضح النهار القمري، ودافئ كأشعة الشمس التي لا يصلنا منها إلا خيوطها الذهبية، كنا في عز الصيف، وكان الطقس معتدلا ودفئا، المناخ الاستوائي يعطي للجزيرة انتعاشا ونشوة، والنسائم التي تهب من سفوح الجبال وعمق البحر تلهب المشاعر، لقد تأثرت كثيرا حين تركت طوق الياسمين ينسدل على دشداشتي العمانية، وتأثرت كثيرا حين كانت الأيادي تتشابك بحرارة، وتأثرت كثيرا حين ودعنا هذه الجزر، وكأنما غصنا في أنفاق الزمن، وزرنا جزر السندباد العذراء، سلكنا فيها ذات الدروب التي سلكها العمانيون الفاتحون قبل قرون.

Sunday, April 26, 2015

الأدب العُماني في المهجر الإفريقي

 جوخة بنت علي بن صالح الشماخية
ورقة عمل ضمن فعاليات الملتقى الأدبي الأول “ميلاد حلم” تنظيم أسرة كتّاب وأدباء محافظة الظاهرة
نُشرت بملحق " أشرعة" بجريدة الوطن ٢٠ ابريل 2014م

الأدب العماني بشقيه داخل عمان وفي شرق أفريقيا وزنجبار بحاجة إلى دراسة
فن أدب الرحلات
فن أدب الرِّحلات نوع من الأدب الذي يصور فيه الكاتب ما جرى له من أحداث وما صادفه من أمور في أثناء رحلة قام بها لأحد البلدان. وتُعد كتب الرحلات من أهم المصادر الجغرافية والتاريخية والاجتماعية، لأن الكاتب يستقي المعلومات والحقائق من المشاهدة الحية، والتصوير المباشر، مما يجعل قراءتها غنية، ممتعة ومسلية. عدد كبير من الروايات والقصص يمكن أن يندرج بصورة ما تحت مسمى أدب الرحلات، ومن أشهر كتب رحلات الرحالة والجغرافيين والأدباء العرب المسلمين، رحلة ابن جبير في كتابه ” تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار”، ورحلة ابن بطوطة في كتابه ” تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” ورحلة المسعودي في كتابه ” مروج الذهب “، ورحلة المقدسي في كتابه ” أحسن التقاسيم ومعرفة الأقاليم “، ورحلة الإدريسي في كتابه ” نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”.
وفي الأدب العُماني ما يمثل هذا الجنس الأدبي، كتاب ” رحلة أبي الحارث ” لخميس بن علي البرواني المذكور سلفا عند الحديث عن المقامة، والذي طُبع طبعته الأولى بمطبعة النجاح بزنجبار في عام 1333 للهجرة- 1915 للميلاد. بينما الطبعة الثانية كانت سنة 2010م، من قِبَل وزارة التراث والثقافة، وتجدر الإشارة هنا إلى أنه كانت للبرواني مؤلفات أخرى نثرية وشعرية بجانب المؤلف السابق إلا ان معظم مؤلفاته فقدت بزنجبار إبان ثورة الزنوج على العرب.
والبرواني يؤرخ هذه الرحلة بأنها كانت في الصباح من يوم الجمعة الموافق العشرين من شهر جمادى الأول سنة 1332 للهجرة، السابع عشر من شهر أبريل سنة 1914 للميلاد. كما يستهلها بآيات من الذكر الحكيم من سورة غافر آية: 82، وبالصلاة على النبي الكريم، واصفًا لوعة الفراق حيث يقول:” بينما هي (أي الباخرة ) تمخر عباب اليم على ضفاف مدينة زنجبار، إذ لاحت مني التفاتة إلى تلك الديارِ التي ألفتها ومنازلِ أحبائي وخلاني الذين فارقتهم فأحسست بألم الفراق” ثم بعد ذلك يذكر سبب رحلته بقوله: ” ومما خفف عني ذلك الألم اشتياقي لرؤية تلك الأقطار التي أزمعت الرحيل إليها “.
ثم يشرع إلى وصف كل ميناء وكل بلد ومدينة تطأها قدماه مثل: عدن، والسويس، وقلب مدينة القاهرة وضواحيها، وبلاد الشام من دمشق، ويافا… إلخ.، وهو في كل ذلك لا يعتني بالرصد الجغرافي والتاريخي للمكان فحسب، بل يهتم بوصف أدق التفاصيل لعادات وتقاليد أُناس كل بلد، مازجًا كل ذلك بتجربته الذاتية ومشاعره تجاه ما يراه وما يحس به، خلال لقاءاته بأصدقائه الذين لم يرهم منذ أمد، فضلاً عن سرده لخصال كل واحد منهم. وقد جمع البرواني في رحلته بين أسلوبي النثر والشعر.
فن الرواية:
الرواية هي سرد نثري طويل تصف شخصيات خيالية وأحداثا على شكل قصة متسلسلة، كما أنها أكبر الأجناس القصصية من حيث الحجم وتعدد الشخصيات وتنوع الأحداث، تعتمد السرد بما فيه من وصف وحوار وصراع بين الشخصيات وما ينطوي عليه ذلك من تأزم في الأحداث.
ومن أبرز الروايات التي برزت في الأدب العربي ثلاثية نجيب محفوظ (بين القصرين وقصر الشوق والسكرية)، والمنفلوطي في رواياته (الشاعر والفضيلة ومجدولين).
وأبرز رواية “الطواف حيث الجمر” للدكتورة: بدرية الشحي، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1999م، إن أهمية هذه الرواية ليس في كونها أنها تمثل أول سرد نسائي روائي عٌماني فحسب؛ بل أيضا في مضمونها بما فيه من صدى تاريخي يمثل المهجر العُمانى الأفريقي وبجزيرة زنجبار خاصة.
إن الرواية للوهلة الأولى تبدو رومانسية الحدث حيث السرد لقصة حب البطلة (زهرة) لابن عمها (سالم) الذي تركها مسافرا من عُمان عبر البحر إلى زنجبار ليتزوج من امرأة أفريقية سوداء، فينجب ابنا من تلك الأفريقية المناقضة لزهرة في جمال ملامحها، ومن ثَمْ بدافع من أحاسيس الغيرة الأنثوية والشعور بتضخم (الأنا) مع الرغبة في إثبات الذات عبر التحدي للغريمة، تكسر البطلة (زهرة ) قيود العرف والعادات التي تحد من حرية المرأة في مجتمع عربي تقليدي فتهرب من عُمان عبر رحلة بحرية وحيدة وسط الرجال، بحثًا عن حبيبها المفقود وفضولاً لرؤية المرأة المُؤثَرة. لكن البطلة بعد رحلة البحث المضنية لا تعثر على الحبيب ولا على الزوجة ولا على الابن، بينما تعثر على ما هو أهم، تعثر على ذاتها، فعبر معاناة البحث عن الآخر نكتشف رسالة الكاتبة ألا وهي؛ إن بحث البطلة عن الحبيب بوصفه رجلاً لا يعد سوى لهثًا وراء سراب غُرس داخل المرأة بفعل الموروث الثقافي؛ لتقتنع بأن كينونَتها لا تتحقق إلا بوجود الرجل في حياتها وأن قوتها تكمن في الخارج ؛ أي من خلال الرجل، بينما الحقيقة التي تكتشفها البطلة بعد استقرارها في زنجبار وامتلاكها وإدارتها لمزرعة بكافة مزارعيها، أن قوتها تنبع من داخلها عبر اكتشافها مناطق في هذه الذات لم تكن تعرفها، وأن رحلة الخروج هذه لم تكن سوى رحلة البحث عن الذات وتحقيقا لها.
هذه أهم الألوان الأدبية الموجودة في الأدب العماني في المهجر الأفريقي، حسب استقصائي لها من خلال المراجع التي وقعتّ تحت يدي، وكلي أمل بأن أطور ورقة العمل هذه إلى ورقة بحثية بصورة أوسع وأشارك بها في مؤتمر من مؤتمرات اللغة العربية داخلَ السلطنة أو خارجَها.
وأخيرا أنوّه بأن الأدب العماني بشقيه داخل الموطن الأم (عمان) وفي المهجر العماني في شرق أفريقيا وزنجبار على وجه الخصوص لا يزال بحاجة إلى دراسة. وأوجه رسالة إلى وزارة التراث والثقافة بزيادة الاهتمام بتحقيق المخطوطات الموجودة في زنجبار والمتعلقة بعلماء وأدباء العرب العمانيين، إذ ان الحقبة الزمنية التي عاشها السلاطين البوسعيديون ومن هاجر معهم من العمانيين ليست قصيرة فهي تستحق العناء لما لها من قيمة تاريخية ووطنية.

المراجع :
- مدخل إلى دراسة الأدب في عمان، الدكتور أحمد درويش، 1992م.
- زنجبار في نماذج من الأدب العُماني، د.آسية البوعلي مستشار الثقافة والعلوم الإنسانية بمجلس البحث العلمي، مسقط – سلطنة عُمان. ورقة مقدمة في إطارالأيام الثقافية العُمانية في زنجبار(13- 17 يوليو 2011م).
- الشعر العماني مقوماته واتجاهاته وخصائصه الفنية، الدكتور علي عبدالخالق علي، 1984م.
- جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار، الشيخ سعيد بن علي المغيري، 2001م.
- الشعر العماني الحديث .. أبو مسلم البهلاني رائدا، محمد بن ناصر المحروقي، 1999-2000م
- العمانيون والقرنفل، الدكتور محمود عبدالرحمن الشيخ، 2008م.
- زنجبار شخصيات وأحداث، ناصر بن عبدالله الريامي، 200