Wednesday, November 25, 2015

فاطمة جينجا.. والملفات المسكوت عنها

زاهر بن حارث المحروقي
جريدة الرؤية 
24/11/2015م

إنّ ما كُتب في الصحف المحلية عن كتاب "ذكريات من الماضي الجميل"، للدكتورة آسية البوعلي، كان كفيلاً بأن يجعل من يهتم بالتاريخ العماني في الشرق الأفريقي أن يهتم بالكتاب؛ فقد جاء في التعريف بالشخصية التي يتحدَّث عنها الكتاب، "أنّها فاطمة بنت محمد بن سالم البرواني المعروفة بفاطمة جينجا؛ وهي المخضرمة التي عايشت تفاصيل وأحداث مرحلتين في زنجبار: مرحلة ما قبل انقلاب 1964م وما بعدها، وهي الأديبة وربيبة القصر، وابنة شهيد، وزوجة لقائد جيش الانقلاب ولعدة رجال من جنسيات مختلفة، وهي أم زوجة الرئيس أماني عبيد كارومي رئيس زنجبار السابق، وكذلك أم لأحد الوزراء"؛ وهو تعريفٌ يكفي أن يُعطي الكتاب قيمة؛ إذ كيف تكون ابنة "شهيد" ثم تكون زوجة لقائد جيش الانقلاب؟ وكيف يكون ابن عبيد كارومي زوجاً لابنتها، وكارومي قائد الانقلاب؟! ربما هذا اللغز هو الذي جعل د. آسية البوعلي تقول عن بطلتها "نظراً لثراء وتناقض مفردات رحلة حياتها ولتقاطعها مع مفردات التاريخ والحياة السياسية في زنجبار أصبحت محلَّ شكٍ واتهام البعض ممن عرفها، وموضع حب وتقدير الآخرين" أي أنّها امرأة مثيرة في كلِّ الأحوال، وفي ظني بعدما قرأتُ كتاب "ذكريات من الماضي الجميل" أعتقد أنها فعلاً امرأة مثيرة لما تركت من أسئلة، وأستطيع أن أقول إنّ حياتها ليس فيها ما يُغري القارئ بمتابعته، سوى أنّها تزوجت من أربعة رجال من جنسيات مختلفة؛ فمِن يمنيِّ إلى عُماني إلى أفريقي ثم العماني نفسه مرة أخرى وأخيراً قبطي مصري، الذي أسلم حسب قولها، وعندما اكتشفت أنّه خدعها وظلّ على قبطيته تطلقت منه؛ وقد جاء عنوان الكتاب مخالفاً للواقع، فالماضي لم يكن جميلاً أبداً؛ والواقع أنّ هناك شخصيات عُمانية بارزة من الجنسين لها من التجارب ما يستحق أن يُوثّق، إلا أنّ يد المنون دائماً كانت أسرع، في ظلِّ الإهمال الشديد من قبل العمانيين لتدوين وتوثيق تجاربهم.
إنّ الحديث عن فاطمة جينجا، بعد نشر د. آسية البوعلي كتابها عنها، يفتح ملفات كثيرة كان مسكوتاً عنها، منها على سبيل المثال موضوع العُمانيين المتعاونين مع الانقلابيين، فلا يمكن أن تمر هذه السنون كلها، ويتم الحديث عن أنّ الأفارقة قاموا بثورة أو بانقلاب ضد الوجود العُماني، ويتم التركيز فقط على ما تعرض له العمانيون دون تناول سلبياتهم؛ فـ"المسألة قد خرجت عن نطاق الذاتية إلى موضوعية التاريخ، وأصبح من حق أيّ شخص أن يتناوله في دراسة أو مقال"، وهذا ما قالته د. آسية، وأنا أرى أنه قول صائب.
ولدت فاطمة جينجا عام 1930 من أبوين عُمانيين، ولقبُ جينجا التصق باسمها، لأنّ والدها كان ماهراً في كرة القدم، لذلك لُقب بجينجا، نسبة إلى لاعب كرة إنجليزي كان يأتي إلى زنجبار للعب، فأصبحت معروفة بهذا الاسم وهو الذي تدونه في كتاباتها الأدبية، إذ صدر لها حتى الآن أربع روايات؛ وتقول فاطمة جينجا من خلال ثمان مقابلات أجرتها معها د. آسية، العام الماضي في زنجبار: في طفولتي وشبابي كنت كثيرة التردد والمبيت في قصر السلطان خليفة بن حارب، حيث اعتبرتني السيدة نونو بنت أحمد البوسعيدي زوجةُ السلطان بمثابة ابنتها، لذا عرفت الكثير عن حياة القصر وما يدور في داخله، وكان لشخصية والدي حضور طاغ في حياتي، فوالدي الذي استشهد عام 1965م، عرف بحبه للقراءة والثقافة؛ وتحكي قصة استشهاد والدها، الذي اتُّهِم بأنّه يدبِّر لانقلاب مضاد، نقلاً عن أحد المسجونين الذي أطلق سراحه وكان شاهد عيان لما يحدث في السجن من عمليات التعذيب والتصفية الجسدية، حيث تمّ تعذيب والدها وآخرين على مدى شهور من قبل ثلاثة رجال هم "علي محفوظ" و"عامر الدغيشي" و"عبد الرحيم محمود" بالتناوب؛ وهم المعروفون بـ"الرفاق" وأعضاء حزب الأمة اليساري، وعندما أصبح والدها على مشارف الموت أخذوه إلى مكان بعيد وأرغموه هو وستة أو سبعة آخرين على حفر مقبرة جماعية كبيرة ثم أوقفوهم وظهورهم للمقبرة وأطلقوا عليهم الرصاص من الوجه ليقعوا جميعاً شهداء، وأنّ الذي أطلق الرصاص على والدها لم يكن من هؤلاء الثلاثة بل كان شخصاً أفريقياً اسمه "إبراهيم مكونجو" كان رئيساً للمخابرات أو الأمن؛ وتقول فاطمة جينجا "لقد أحسست بالضياع وبقدر كبير من خلط المفاهيم والأفكار بالنسبة لي؛ شبابٌ عرب عذّبوا والدي حتى مشارف الموت.. ورجلٌ أفريقيٌ يغتاله ويصفيه جسدياً"، وقد تكون هذه العبارة هي المفتاح الذي يمكن أن يلج إليه المحللون النفسيون لتحليل شخصية فاطمة جينجا وقراراتها التي تبدو غامضة؛ ففي الوقت الذي يقول المنطق إنّ عليها أن تقف ضد الانقلاب ورجاله الذين قتلوا والدها، فإذا بها تتزوج بعد استشهاد والدها بسنة من اللواء يوسف حميد مفتاح قائد جيش الانقلاب، وتبرر لهذا الزواج بأنّها عانت أشد المعاناة من كثرة اقتحام الرفاق لمنزلها وما سببه ذلك من متاعب نفسية لها ولمن تعيل، ثم تمّ طردها من عملها في الوحدة البيطرية لا لسبب إلا لأنّ مسؤولها كان من الرفاق؛ فكان عليها أن تبحث عن العمل لأنّ الأفواه الجوعى في البيت كانت تعتمد عليها وحدها، وعندما قابلت قائد الجيش لتشكو له حالها فإذا هو قد أحبها وعرض عليها الزواج فتمّ ذلك وهو الزواج الثالث في حياتها؛ وفي وصفها لزوجها تُقدِّم صورة عن الانقلابيين إذ تقول "كان أفريقيّاً خالصاً ولم يكن غنياً، ولكنه كان يملك النفوذ والسلطة بحكم وضعه كقائد للجيش ورتبته العسكرية، لم يكن متعلماً بل أمياً يستطيع بالكاد كتابة اسمه، وقبل أن يصير قائداً للجيش كان يعمل سائقاً للسيارات الثقيلة في المعسكر الإنجليزي في شمال أفريقيا، وعندما وقع الانقلاب، عُيِّن فيما بعد قائداً للجيش"، وهنا سألت د. آسية، فاطمة كيف لها وهي المثقفة أن تتزوج من أمّيّ؟ فكان جوابها "ابحثي في وضعية تعليم وثقافة من هو أعلى منه رتبة؛ رئيس زنجبار شخصياً هل كان أفضل من يوسف؟ إنّ الانقلاب لم يكن عسكرياً فحسب؛ بل كان انقلاباً لكلِّ مفاهيم العقل والمنطق"؛ وتبرر زواجها من يوسف قائلة "كنت أبحث عن الأمان والحماية والقوت وسد الرمق لي ولكل أفراد عائلتي بعد شهور سوداء عشتها، فأردت لها النهاية بزواجي ممن يستطيع منحي الحماية والأمن".
الملاحظ أنّ فاطمة دافعت بشدة عن الرئيس كارومي، ونفت عنه تهمة علمه بكلِّ التصفيات الجسدية التي تمّت في عهده، باعتبار أنّ الفوضى كانت عارمة؛ بل إنّها تذكر أنّ كارومي اعتذر لها عن قتل والدها وقال إنّه لم يكن يعلم بذلك، فلم يكن موجوداً إذ كان في بيمبا، ولكن فاطمة لا تكتفي بمدح كارومي وتبرئته، بل تخطو خطوة أخرى مثيرة للجدل، إذ تُزوّج ابنتها شادية من أماني عبيد كارومي وذلك عام 1967، وهي بنت قاصر لم تبلغ 14 سنة، وتدافع عن هذه الزيجة بأن تقول أردتُ لها حياة آمنة وأن تكون في أيدٍ أمينة، فأنا لم أبعها لرجل كهل بل تزوجها شاب في عمر 19 سنة أصبح فيما بعد رئيساً لزنجبار من عام 2000 حتى 2010، وأصبحت شادية سيدة زنجبار الأولى.
لقد تعاملت د. آسية مع فاطمة في كتابها بذكاء، حيث طرحت لها أسئلة محرجة وتركت الإجابة لها، وظلت هي في الأمان، ولو لم تركز على فاطمة، ما كان لينتبه إليها أحد؛ فهناك من النساء العمانيات أهم شأناً بكثير منها، وهناك الكثيرات ممّن عانين المعاناة نفسها أو أكثر، فهناك مآخذ كثيرة على فاطمة، منها ركوبها الموجة واغتنامها كلّ الفرص لتحقيق مآربها حتى وإن كان في ذلك، الزواجُ من قائد جيش الانقلاب الذي أقام مذابح للعمانيين، وتزويجُها ابنتها لابن كارومي، إذ رآه الكثيرون جريمة في حق أبناء جلدتها؛ ويجب أن نعتبر قضية زيجاتها قضية شخصية جداً وألا نخوض فيها، ولكن هناك نقاطاً تحتاج إلى إيضاحات وتحتاج أن تُفتح الملفات حولها، وهي قضية العمانيين الذين أعانوا الانقلابيين في إزهاق أرواح الأبرياء وفي الاستيلاء على أموالهم، والهدفُ من ذلك هو تقديم حقائق للتاريخ فقط؛ فالقضيةُ في حكم المنتهية من زمان، ولكن يجب أن تبقى الدروس حية، ولا أظن أنها قد تثير أيَّ حساسيات الآن.

Sunday, November 15, 2015

متخصصون في تاريخ الوجود العماني في شرق أفريقيا يبرزون “الدور الحضاري للعمانيين في الفكر الإسلامي”

 
جريدة الوطن :أشرعة
25 /10/2015م
 
 
في ندوة أقامها النادي الثقافي واتخذت المفكر علي بن الأمين المزروعي نموذجا
مسقط ـ “أشرعة” :
في ندوة اقامها النادي الثقافي مؤخرا بالتعاون مع الجمعية العمانية للكتاب والأدباء قدم نخبة من المتخصصين في تاريخ الوجود العماني في شرق أفريقيا “الدور الحضاري للعمانيين في الفكر الإسلامي” حيث اتخذوا من المفكر الإسلامي علي بن الأمين المزروعي نموذجا حيث قدم البروفيسور إبراهيم الزين صغيرون من كلية الآداب بجامعة الخرطوم والأستاذ الدكتور بنيان سعود التركي من جامعة الكويت والأستاذ الدكتور بوعلام محمد القاسمي قدموا خلال الندوة ثلاث أوراق عمل وقد أدار الندوة الدكتور سليمان المحذوري.
الدكتور بنيان التركي كان أول المتحدثين في الندوة حيث قدم ورقة حملت عنوان ” الدور السياسي لأسرة المزاريع في شرق أفريقيا: الشيخ مبارك بن راشد المزروعي” وابتدأ حديثه عن بداية قدوم المزارعة إلى زنجبار بعد فتح الإمام سيف بن سلطان حوالي 1110هـ /1698م وتمكنوا في عام 1739م من تأسيس أول إمارة لهم في ممباسا واستمر نفوذهم حتى عام 1837م حيث قام السيد سعيد بن سلطان بالقضاء على ولاية المزارعة في ممباسا.
وقد أكد المحاضر أن ما قام به السيد سعيد من القضاء على حكم أسرة المزارعة لم يقض على نفوذهم في شرقي أفريقيا. وهذا التقديم قاد المحاضر للتأكيد على هدف الورقة الأساس وهو( ليس تتبع تاريخ الأسرة المزروعية في ممباسا، وإنما إلقاء الضوء على أحد أبناء الأسرة والدور الذي لعبه في تاريخ المنطقة، وعلاقته بالسلطنة العربية في زنجبار والقوى المحلية الأخرى، وكذلك تبيين علاقاته وثوراته ضد القوى الأجنبية الاستعمارية شرق أفريقيا كبريطانيا وألمانيا وما قام به من ثورات ضد القوى المحلية وما ترتب من نتاج عن ذلك) فالباحث يبني ورقته على ما حصل عليه من معلومات وافرة من السجل العام البريطاني وأرشيف زنجبار وأرشيف نيروبي.فبعد هزيمة المزارعة في معركتهم مع السيد سعيد بن سلطان سنة 1837هـ قام السيد سعيد بترحيل رؤسائهم إلى خارج ممباسا إلى جزيرة بندر عباس حتى وفاة أغلبهم، ومن بقي منهم ذهب إلى جاسي شمال ممباسا وتولى زعامتهم الشيخ مبارك بن راشد المزروعي أما من استقر في تاكونج فقد كانوا تحت زعامة الشيخ سالم بن خميس المزروعي.
ويشير الدكتور بنيان التركي إلى ان الشيخ مبارك المزروعي قبل بدء ثورته ضد ولاة السيد سعيد بن سلطان على ممباسا، بدأ بالصراع مع سالم بن خميس المزروعي زعيم المزارعة في تاكونغ لغرض توحيد الجهتين ضد سلطة البوسعيد، وفي ذات العام أطلق ثورته ضد ولاة السيد سعيد على ممباسا. في تلك الأثناء لُقب الشيخ مبارك بلقب (أمير المؤمنين) وهذا ما يعد خيانة عظمى في نظر السلطة الحاكمة في زنجبار وعدم اعتراف بشرعيتها. كانت هناك محاولة للتعامل مع مبارك عبر استخدام المال في زمن السلطان ماجد بن سعيد حيث تم صرف منحة شهرية للشيخ مبارك، ولكن هذه السياسة لم تجد نفعا فقام السيد ماجد بقطع المنحة ظنا منه أن ذلك سيضعف سلطة مبارك ولكن العكس هو ما حدث حيث ان مبارك كانت له صلات قوية مع زعماء عدد من القبائل الأفريقية التي كانت لها علاقات صداقة وتعاون منذ أزمنة بعيدة مع المزارعة. ولكن ذلك لم يمنع من تعاون مزارعة تاكونغ مع سلطات زنجبار ضد مبارك بن راشد.
كما يلفت الدكتور بنيان النظر إلى بداية تغلغل سيطرة الجالية الهندية التجارية وامتلاكها الكثير من الأراضي في زنجبار وسيطرتها على التجارة في شرق أفريقيا قبل وصول القوى الاستعمارية البريطانية التي أخذت تنشط مع تولي السيد برغش لمقاليد الحكم في 1870م وقد لعب الهنود بدعم وتشجيع من البريطانيين دورا مهما في الوقوف مع السلطة الحاكمة في زنجبار لإخماد ثورة مبارك بن راشد المزروعي حيث كانوا في الواجهة بدلا من الإنجليز الذين فضلوا عدم الدخول في دعم أي من طرفي الصراع. كما لعب تواصل مزارعة تاكونغ مع القوى الاستعمارية البريطانية في سبيل الوقوف معهم ضد مبارك بن راشد. ولعبت القوى الألمانية دورا أيضا في الوقوف ضد مبارك بن راشد المزروعي الذي استمر في اشعال الثورات ضد السلطة الحاكمة في زنجبار وضد القوى الاستعمارية والقوى المحلية حتى عهد السيد حمد بن ثويني. في 1894م لجأ الشيخ مبارك إلى مستعمرة تنجانيقا التي كانت تابعة للألمان بعد طول حروب مع البريطانيين، مما دفع القنصل البريطاني هاردينج الى أن يقابل القنصل الألماني حيث توصلوا إلى اتفاق بينهما بحيث أطلق سراح أغلبية اتباع الشيخ مبارك وتم كذلك فرض شروط على الشيخ مبارك بحيث تم الابقاء على قواده معه في تنجانيقا الذين توفوا في عام 1907 وفي عام 1910 توفي البقية منهم وقد لحقهم الشيخ مبارك بالوفاة في سنة 1911 في دار السلام بعد ان وهنت قواه وخارت.
اما البروفيسور المعروف إبراهيم الزين صغيرون وهو من أبرز المختصين في تاريخ شرق أفريقيا وله مساهمات كبيرة في التعريف بالدور العماني في شرق أفريقيا، فقد أشار في بداية محاضرته إلى أهميتة دراسة الدور الطليعي الحضاري للعمانيين في انتشار الثقافة العربية الاسلامية في شرق افريقيا موضحا انه ينبغي أن يحتل مكاناً متميزاً في التاريخ الأفريقي لأسباب عديدة من بينها ان ارتباط عُمان بشرق أفريقيا ليس بالحدث الجديد بل إن جذوره تضرب في أعماق التاريخ ، فالتواصل البشري والتجاري والحضاري بين عُمان وأفريقية يرجع إلى عصور موغلة في القدم. فقد كان البحر الأحمر والمحيط الهندي يشكلان همزتي الوصل بين السواحل الأفريقية وشبه جزيرة العرب ، كما كان التجار العرب وفي مقدمتهم العمانيون أول من نقل المؤثرات الحضارية العربية إلى القارة الأفريقية ، كما ان بعض الهجرات البشرية قد شقت طريقها قبل ظهور الاسلام وبعده ، وازدادت أهمية هذه الهجرات وفاعليتها بظهور الإسلام الذي أعطاها السند الروحي الثقافي والمضمون السياسي. وهذا أدى بدوره لامتزاج الحضارة العربية الاسلامية بالحضارات المتعددة للشعوب الأفريقية مما جعل العالم العربي وافريقية بحكم روابط الجوار في الموقع الجغرافي وسرعة الاندماج بين شعوبهما وتاريخهما الحافل بالكفاح المشترك أقرب الى التضامن والتفاهم .
وعن أبرز الصعوبات التي تكتنف مثل هذا النوع من الدراسات يشير إلى ان القيام بمثل هذه الدراسة كان ولايزال يعاني من صعوبات من ناحية المصادر والمراجع المتاحة وهذا مرده لفقدان الكثير من الوثائق والسجلات العربية وغلبة المصادر الأجنبية التي اتسمت بالكثير من المعلومات التي استهدفت مسخ وتشويه الدور الاسلامي والحضاري للعرب وخاصة العمانيين منهم في إرساء قواعد الأصول الحضارية في أفريقية الشرقية.
وتوقف الدكتور صغيرون عند ثلاث نقاط مهمة وهي تأثر الشيخ الأمين بالإصلاح الديني في العالم العربي الذي قاده محمد عبده، ودور الشيخ الأمين في مجال الصحافة، كما توقف الدكتور صغيرون الى عند نقطة التعليم وأهميته في فكر الشيخ الأمين.
ويؤكد الدكتور إبراهيم الزين صغيرون أن (من الأشياء الجديرة بالاهتمام في سيرة الشيخ الأمين بن علي المزروعي ، إطلاعه على أفكار المجددين في حركة النهضة والإصلاح التي اجتاحت العالم العربي والاسلامي في ذلك العصر وتلك الفترة ، وتذكر المصادر المحلية بأنه كان متتبعاً بشغف ما يصدر في الدوريات والمجلات العربية في القاهرة. وقد ساعده في ذلك رحلاته العلمية للدراسة في زنجبار التي أتاحت له الاطلاع والحصول على هذه المجلات والكتب التي كانت متداولة في أيدي صفوة علماء ساحل شرق افريقيا خاصة في زنجبار وممباسا. ولقد اهتم الشيخ الأمين بصفة خاصة بالكتابات التي سطرها جيل الرواد أمثال الشيخ جمال الدين الأفغاني ( 1839 – 1897م ) ، ومن بعده محمد عبده ( 1849 – 1905م ) وتلميذه محمد رشيد رضا ( 1865 – 1935 م ) وتعاليمهم الإصلاحية الاسلامية التي هبت كالإعصار على المجتمعات العربية المعاصرة واستهوت هذه الأفكار والتعاليم وكان تأثيرها كبيراً على الشيخ الأمين بن علي لأنها كانت تهدف لصياغة الفكر العربي الاسلامي والمجتمعات الاسلامية بصفة عامة لمواجهة المشاكل والتحديات وقضايا العصر في تلك الفترة .
وقد كان الشيخ الأمين بن علي المزروعي من أكثر العلماء تأثراً بهذه الأفكار والتعاليم الإصلاحية ، مما حتم عليه التعبير عنها وبثها ونشرها في المجتمع السواحلي كما اتضح من خلال نشاطه الاسلامي واسهاماته في شتى المجالات الثقافية والتربوية) وهذا يدل على التفاعل الحضاري البناء الذي أبداه العمانيون وقد أشار الدكتور صغيرون على أهمية هذا التفاعل حيث ان الكثير من الطلاب قد قدموا إلى زنجبار لتعلم العلم على يد الشيخ الأمين نظرا لسمعته التي عرف بها كونه أحد علماء الإصلاح في العالم الإسلامي ومن المراجع المهمة في فكر الشيخ محمد عبده ومدرسته الإصلاحية.
وأشار الدكتور صغيرون إلى أن هناك قصورا في تدوين تاريخ الصحافة العمانية في شرق أفريقيا، حيث ان الدراسات التي كتبت في هذا الجانب أهملت الجهود الصحفية في الساحل الكيني وعلى رأسها الدور الريادي الذي قام به الشيخ الأمين بن علي في مجال الصحافة من خلال نشاطه الثقافي والاجتماعي ، وكانت باكورة انتاجه جهداً متواضعاً في شكل نشرة دورية سماها ” الصحيفة ” وقد كان هذا بمثابة أول خطوة جريئة يقوم بها عربي لقيام الصحافة في الساحل الكيني، وصدرت أول مرة في 25 أكتوبر 1930م بالسواحلية وهي تعنى بالمسائل الدينية والسياسية والاجتماعية. ومما لاشك فيه أن هذا الجهد يعتبر دوراً طليعياً وتاريخياً في مجال الصحافة ومرده الى عقله المتفتح ، وقد كان لهذه الخطوة صدى واسع ووجدت ترحيباً كبيراً في أوساط المجتمع العربي والسواحلي مما شجع الشيخ الأمين المزروعي على الاقدام على مشروع آخر يرضي طموحه الصحافي ويخدم أهدافه الإصلاحية الكبرى. ومن ثم أصدر جريدة ” الإصلاح ” في عددها الاول باللغتين العربية والسواحلية وذلك في 22 شوال 1350هـ الموافق 29 فبراير 1932م وكانت تصدر أسبوعية في ممباسا. وقد أطلق عليها هذا الاسم تعبيراً عن شعارها المستمد من الآية الكريمة:) (إن أريدُ إلا الإصلاحَ ما استطعتُ)
وكانت الصحيفة تصدر باللغتين العربية والسواحلية وقد تميزت بإظهارها حالة الضعف المعنوي والسياسي والاقتصادي والوضع المتردي للمسلمين الذين يتعرضون لأخطار اجتماعية ومعنوية في مجتمع متغير في ظل الإدارة الاستعمارية. ومن ثم فإن شيخ الأمين المزروعي في شرق افريقيا البعيدة اتخذ من نفسه تلميذاً للشيخ محمد عبده في الحركة الإصلاحية التي اجتاحت ديار المسلمين. وقد تضمنت الأعداد الأولى من صحيفة ” الإصلاح ” مقتطفات مختارة من كتاب ( حاضر العالم الإسلامي 1925 ) لأمير البيان شكيب أرسلان تلميذ الشيخ محمد عبده والتي تضمنت تحليلاً لأسباب ضعف وأنحطاط المسلمين وتقدم وتفوق العالم المسيحي. وبالتالي كان إسهام شيخ الأمين المزروعي تهيئة المناخ لإنتشار الأفكار الإصلاحية وتشخيص أعراض المأزق الأخلاقي والديني والإجتماعي وبسبب حالة التدني التي كانت تعاني منها المجتمعات الإسلامية في شرق أفريقيا.
وقد كتب الشيخ المزروعي عدة مقالات في أعداد متفرقة من جريدة ” الإصلاح ” تناولت موضوعات ركز فيها على إسهام الحضارة الاسلامية في قيام الحضارة الأوروبية ، وأسباب تردي وانحطاط المسلمين لبعدهم عن تقاليدهم وجذورهم وهويتهم الثقافية ، وكذلك أبعاد الهجمة الصليبية على أبناء المسلمين في المعاهد والمؤسسات التعليمية القائمة على النظم الغربية وأكد على تضمين المناهج المدرسية مقررات تزود الطلاب والدارسين بالثقافة العربية الاسلامية من منابعها الأصيلة لمواجهة التحديات المتمثلة في الثقافة الأوروبية الوافدة في ظل السيطرة الأجنبية.
ويشير الدكتور صغيرون الى أن الجهود العلمية التي قام بها العلماء العمانيون في شرق أفريقا لا تقل أهمية عن أي فعل حضاري آخر بسبب التحديات الكبرى التي واجهت النخبة العمانية في زنجبار وملحقاتها في شرق افريقيا وضع هذه الدولة العربية المسلمة تحت نظام الحماية البريطانية سنة 1890 سياسياً واقتصادياً بعد أن كانت دولة مستقلة ذات سيادة. ” وازداد الوضع سوءا حين وضعت الحكومة البريطانية يدها على النظام التعليمي في زنجبار وفرضت المناهج الدراسية بناء على تصورات معينة ادت الى اضعاف اللغة العربية ومادة التربية الاسلامية ، وهذا مما اعتبره العمانيون وغيرهم من مسلمي الجزيرة مساساً بهوية الطلاب ومستقبلهم ومستقبل بلدهم زنجبار فدقوا ناقوس الخطر وكتبوا رسائل اعتراض. وناشدوا بأعلى صوت ممكن الحكومة إجراء تعديل في المناهج يحفظ الهوية العربية والإسلامية.
ومن هذا المنطلق جعل شيخ الأمين المزروعي من صفحات ” الإصلاح ” منبراً للاهتمام بالتعليم الاسلامي وإصلاح حال وتطوير المدارس القرآنية والنهوض بها لتحقيق أهداف التعليم التي تتماشى مع إيقاع ومتطلبات الحياة العصرية. وفي ذلك يرى الشيخ المزروعي انه لابد من الاهتمام بتعليم الطفل المسلم بأساليب حديثة.. فالمدارس الحكومية هدفها “تخريج صغار موظفين في وظائف كتابية لتسيير الدولاب الحكومي خدمة للإدارة البريطانية الاستعمارية ” ومن ملاحظاته أنه أثناء العملية التعليمية في هذه المدارس فإن أطفال المسلمين ينشأون وتتملكهم الرهبة والإعجاب بالامبراطورية البريطانية والجهل التام ونسيان دور الحضارة العربية الاسلامية.
ولذلك فمن الخطوات الإيجابية التي تعزى للشيخ المزروعي ، اسهامه في مجال التأليف بكتب موجهة لتربية الطفل المسلم. وفي هذا الإطار أيضاً توجه شيخ الأمين المزروعي في كتاباته في جريدة الإصلاح بالنقد لسياسات الإدارة البريطانية التعليمية الرامية في مناهجها الدراسية لإبعاد ورفض إدخال تعليم اللغة العربية ضمن المقررات في المدارس الحكومية. وكان نقد الشيخ المزروعي نابعاً من شعوره بأن هذه السياسة امتدادا لحركة التغريب التي كانت واضحة حيث ان الإدارة البريطانية في الوقت الذي ترفض فيه أي جهد في العناية والاهتمام باللغة العربية والثقافة الاسلامية و خلص المزروعي الى انه مادامت الحكومة البريطانية فشلت في تقدير وإدراك هذه القيم الدينية والثقافية فعلى المسلمين التصدي لبناء وانشاء مدارسهم الخاصة .
ومن أجل تحقيق هذا الهدف قام شيخ الأمين المزروعي بتشجيع تلميذه الشيخ محمد عبدالله غزالي بإنشاء مدرسة حديثة كانت في تلك الفترة بمثابة ثورة في التعليم الاسلامي حيث كانت مختلطة وتدرس فيها اللغة العربية والتربية الاسلامية ، واستخدام الاساليب الحديثة والكتب المدرسية الجديدة.
وبالرغم من أن رفض الحكومة لتعليم اللغة العربية مازال مستمراً إلا أن شيخ الأمين تطوع بإعطاء دروس في هذه اللغة في المسجد المزروعي في ممباسا ، كما قام بفتح مكتبته الخاصة ليستخدمها التلاميذ والإفادة منها.
كما ضمن الدكتور صغيرون في نهاية ورقته ملحقا عبارة عن صفحات مختارة من مقالة أكاديمية مكتوبة بالإنجليزية عن سيرته الذاتية قام بإعدادها البروفسير علي المزروعي في وقت باكر يعود إلى عام 1973م ونشرت في دورية علمية عالمية بعنوان مجلة العلوم الاجتماعية العالمية.
الورقة الثالثة في الندوة تناولت شخصية الدكتور على الامين وقدمها الأستاذ الدكتور . بوعلام محمد بلقاسمي من قسم التاريخ بجامعة السلطان قابوس حملت عنوان (شخصية الدكتور علي بن الأمين المزروعي (1933-2014) وأدواره في مجالات الثقافة والفكر والتسامح) تناولت المسيرة العلمية والفكرية للدكتور علي الأمين المزروعي (1933-2014)، حيث يعد أحد أبرز المفكرين المسلمين الأفارقة من أصول عربية عمانية في القرن 20-21 م؛ وتتبعت مختلف مراحل رحلته نحو الشهرة العلمية وتميزه كرجل فكر وثقافة وتسامح، في فضاءات أكاديمية وسياسية غربية قليلا ما يستطيع الوافد المسلم طرقها أو اقتحامها.
وقام الدكتور بوعلام كذلك بالتعريف بإنجازات البروفيسور المزروعي كأستاذ جامعي وكاتب سياسي، ومثقف، وعالم اجتماع، ومؤرخ, ومفكر إسلامي، وأحد رموز التقارب والتسامح الفكري بين المسلمين والمسيحيين، مما أهله لتقلد مناصب أكاديمية وسياسية-إدارية مرموقة. لقد درّس علي المزروعي في عدة جامعات إفريقية وغربية، منها جامعة Makerere بأوغندا حيث عين رئيسا لقسم العلوم السياسية في عام 1963 وهو لا يزال طالبا في مرحلة الدكتوراه ولكنه غادر أوغندا في عام 1973 بسبب نقده لحكم الرئيس الأوغندي أمين دادا. كما عُين عميدا لأكثر من كلية، ورئيسا لجامعة ولقسم علمي، ومديرا لمعاهد بحث في أمريكا منها معهد الأفرو-أمريكي للدراسات الأفريقية في عام 1978 وفي 1989 منح كرسي ألبرت شوايتزر للإنسانيات وأصبح مديرا لمعهد الدراسات الثقافية الشاملة IGCS، ومستشارا لهيئات دولية ومنظمات إقليمية؛ و كان عالما رحالا طاف العالم يلقي المحاضرات ويناقش الرسائل ويشارك في المؤتمرات، ويترأس كراسي الدراسات ويشارك في الحلقات النقاشية.
ويؤكد الدكتور بوعلام القاسمي: أنه لا يمكن الإلمام بشخصية الدكتور علي المزروعي من كل الجوانب في ورقة متواضعة الحجم، غير أننا سنحاول إبراز منطلقات فكره والأفكار التي دافع عنها طيلة حياته العلمية، ومساهماته في تغيير نظرة “الآخر” لإفريقيا والتاريخ الاسلامي لإفريقيا، التي دفعت بأشهر المجلات الدولية إلى تصنيفه من بين الـــ 100 شخصية فكرية مؤثرة في العالم.
وقد بدأ النتاج الفكري للبروفيسور علي المزروعي في سنة 1967 وهي السنة التالية لحصوله على الدكتوراه حيث قام بنشر ثلاثة كتب دفعة واحدة، لاقت رواجا كبيرا في الأوساط الثقافية في أميركا وبريطانيا وأفريقيا وأسست لبداية مسيرة فكرية استثنائية بكل المعايير وفتحت له أبواب المؤسسات الأكاديمية والبحثية الأميركية والغربية. كان الدكتور علي المزروعي أول مسلم وأول أفريقي توجه له الدعوة لإلقاء 6 محاضرات خلال سنة 1979 في إذاعة البي بي سي في إطار سلسلة Reith Lectures حيث لم يكن يدعا لتقديم سلسلة محاضرات ريث إلا أولئك الذين بلغوا من العلم والفكر شأنا كبيرا. وقد عنون المزروعي محاضراته تلك ب” التشخيص السياسي لأوضاع أفريقيا ” حلل فيها مخلفات الاستعمار الأوروبي على أفريقيا والأفارقة، مدافعا عن العلاقة بين الإسلام وأفريقيا وقد صدرت هذه المحاضرات في كتاب يحمل نفس العنوان عن جامعة كامبريدج.
كما قدم المزروعي برنامجا تلفزيونيا شهير من تسع حلقات تحت عنوان ” الأفارقة: تراث ثلاثي الأبعاد” من انتاج البي بي سي بالاشتراك مع هيئة التلفزيون النيجيرية ومؤسسة PBS الأميركية وقد ترجم البرنامج إلى اللغات العالمية انتشارا على الرغم من انتقادات الكثير من الأوساط السياسية والثقافية الغربية لمحتواه و للتهم الموجهة للغرب الاستعماري وتحميله مسؤولية تخلف أفريقيا.ويخلص الدكتور بوعلام في نهاية محاضرته إلى القول بأنه ” يمكننا تلخيص فكر البروفيسور المزروعي الذي تجسد من خلال انتاجه الغزير في أربعة مبادئ تأسست عليها رؤيته ورسمت بواسطتها ملامحه طيلة مسيرته الفكرية وهي: هويته الأفريقية، جذوره العربية الإسلامية، مواقفه المناهضة للاستعمار والعنصرية، ونظرته الشاملة للثقافات”.