Tuesday, May 22, 2018

عُمان تستعيد أمجادها

د.سليمان المحذوري
جريدة الرؤية ، السبت 19 نوفمبر 2016م
لا يخفى على المُتابع للشأن الدولي العام أنّ عُمان باتت محط الأنظار في كثير من المحافل الإقليمية والعالمية، وأضحت حديث المجالس فلا تكاد تمّر أزمة في المنطقة إلا ويكون للسلطنة دور في حلحلتها، ولعل مواقفها السياسية المتفردة جعلها بمثابة صمام أمان للمنطقة ككل، كما يثبت الواقع صلابة وجرأة المواقف العُمانية في المجمل وأهميتها بل وبعد نظرها.
وما من شكّ أن الدور العُماني هذا لم يأت من فراغ ولو عدنا للوراء قليلاً وتحديداً إلى عام 1970م عندما خاطب جلالة السلطان أعزه الله أبناء شعبه في 23 يوليو في بيانه الأول: "كان وطننا في الماضي ذا شهرة وقوة، وإن عملنا باتحاد وتعاون فسنعيد ماضينا مرة أخرى، وسيكون لنا المحل المرموق في العالم العربي".
وبقراءة تحليلية لهذه الفقرة من الخطاب تتضح الرؤية الحكيمة للسلطان قابوس آنذاك أين كانت عُمان؟ وفي أي مكان يريد أن يضعها فيه؟ وبالغوص في تاريخ عُمان يتبين لنا أنّ عُمان ليست وليدة الأمس بل دولة حضارية ضاربة بجذورها في عمق التاريخ؛ أكسبها هذه المكانة إنسانها الأول، كما استثمرت موقعها الجغرافي الاستراتيجي في أقصى الجنوب الشرقي من شبه الجزيرة العربية، وإطلالتها على بحار مفتوحة تصلها بمختلف الشعوب في الشرق والغرب عبر مياه المحيط الهندي، إلى جانب تحكّمها في مضيق هرمز كشريان وطريق تجاري مهم منذ القدم، إضافة إلى التنوغ الديمغرافي الذي ترتكز عليه. فعُمان هي مجان عند السومريين، ومزون عند الفرس كما عرفتها الحضارة الفرعوية والفينيقية وغيرها من الحضارات؛ فهي جزء لا يتجزأ من الحضارات القديمة، ولها إسهام لا يُنكر في الحضارة البشرية.
ومن ثمّ استمرت عُمان في مسيرتها التاريخية متكئة على هذا الإرث الحضاري، وقد سجّل لها التاريخ بعضاً من بصماتها اتفاقاً أو اختلافاً ولا ضير في ذلك. وبتقليب سريع لصفحات من تاريخ عُمان بداية منذ أن وطئت أقدام مالك بن فهم أرض الغبيراء، وتمكين الحكم العربي فيها قبل الإسلام مروراً بالقصة الشهيرة لإسلام أهل عُمان، وموقف الرسول الكريم من العُمانيين ودعائه لهم، وعلاقة العمانيين بالخلفاء الراشدين، والمشاركة الفاعلة للعُمانيين في حركات الفتوح الإسلامية، ثم موقف عُمان الاستقلالي من الدولتين الأموية والعباسية، وانتخاب إمامهم المستقلّ في إشارة واضحة إلى رفض التبعية لهاتين الدولتين، كما وثّق التاريخ مواقف عُمانية خالدة في عهد الأئمة العُمانيين العظام، وكذلك الدور البطولي لليعاربة في طرد الغزاة البرتغاليين في منتصف القرن السابع عشر الميلادي ليس من عُمان فحسب وإنما ملاحقتهم خارج الحدود العُمانية إلى الهند وسواحل إفريقيا الشرقية.
وفي مرحلة أخرى من تاريخ العُمانيين، الذي شهد اضطرابات داخلية، ظهر الإمام أحمد بن سعيد كموحّد للعُمانيين من جديد، وكان له دور بارز في تخليصهم من تلك الفتنة التي أكلت الأخضر واليابس وإن لم تُستأصل جذورها تماماً. واستمرت عجلة التاريخ العُماني في الدوران حتى وصلت إلى عهد السيّد سعيد بن سلطان مؤسس الإمبراطورية العُمانية التي ضمت بالإضافة إلى الوطن الأم عُمان أجزاء من باكستان وإيران الحالية، إلى جانب ساحل إفريقيا الشرقي ومناطق من داخلية البرّ الإفريقي.
وبالتالي كان لهذه الدولة العربية ثقلها السياسي وحضورها طيلة النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، ولها علاقات نديّة مع الدول الكبرى آنذاك بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وبوفاة السيّد سعيد عام 1856م مرّ التاريخ العُماني بمنعطف هام؛ وذلك بتقسيم الدولة العُمانية إلى قسمين آسيوي يضم عُمان وتوابعها وآخر إفريقي يضم زنجبار وملحقاتها، ومن ثم دخلت عُمان منذ ذلك التاريخ في نفق سياسي واقتصادي مظلم لقرن من الزمان حتى عام 1970م وانتهى بتولي جلالة السلطان زمام الحكم في عُمان. ومن ثم بدأت عُمان تنهض من كبوتها رويداً رويدا، وتستعيد بريقها مُجدداً لتلعب دورها التاريخي كدولة محورية في المنطقة مستندة على إرثها التاريخي والحضاري الذي لم ينطفئ وظل شعلة وقادة؛ لتتحق رؤية جلالة السلطان "سيكون لنا المحل المرموق في العالم"؛ من خلال التعامل بحرفية عالية ودبلوماسية فريدة مع كثير من الملفات الشائكة في المنطقة، وحسن التعاطي مع مسألة التوازنات الدولية، ومدّ جسور التواصل والصداقة مع أغلب دول العالم في مختلف القارات.
وبمقاربة تاريخية يُمكن القول إنّ مكانة عُمان اليوم تمثل عصراً ذهبياً آخر من عصور عُمان، وأنّ دور ومكانة السلطان قابوس يشبه إلى حد كبير دور جده السيد سعيد في جعل عُمان دولة مرموقة يُشار إليها بالبنان. ومن خلال استقرائنا لتاريخ عُمان تتّضح الصورة أمامنا؛ فهنالك نجاحات تمثل نقاط قوة في رصيد هذا البلد، وإخفاقات نتعلم منها الدروس والعبر لحاضر أفضل ومستقبل مشرق لعُمان. قال تعالى: "رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ.."، صدق الله العظيم (الآية 126- البقرة).

مركز عُمان الثقافي

د.سليمان المحذوري
جريدة الرؤية ، الأربعاء 23 مايو 2018م
لعل الحديث عن مركز ثقافي في السلطنة لا يُعد جديدًا؛ حيث تمّ تدشين مركز نزوى الثقافي الذي يتبع وزارة التراث والثقافة على أن يتم انشاء مراكز ثقافية أخرى في عدة محافظات . كما أن هنالك مشروع مجمع عُمان الثقافي المقرر إقامته بمنطقة مرتفعات المطار والذي لم ير النور بعد ومن المؤكد أنّ الأزمة الاقتصادية الراهنة ألقت بظلالها على كثير من المشاريع ومن بينها الثقافية. وفي محافظة ظفار تمّ انشاء مجمع السلطان قابوس الشبابي للثقافة والترفيه (يتبع مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم)؛ بهدف توفير بيئة ملائمة للشّباب لمزاولة مختلف الأنشطة الثّقافية والرياضية والترفيهية.
وربما ما جعل أهمية المراكز الثقافية تطفو على السطح زيارتي لجمهورية كوريا الجنوبية في منتصف شهر نوفمبر من العام الفائت برفقة زميلي في وزارة التربية والتعليم د. محمد العلوي. كانت الزيارة قصيرة لمدة ثلاثة أيام عمل؛ إلا أنّها كانت كفيلة بتعريفنا على جانب من الحضارة الكورية وثقافتها وما تتميز به من تقدم اقتصادي وتكنلوجي وتعليمي. تضمن برنامج الزيارة زيارات متعددة لجهات مختلفة تربوية وثقافية وحضارية؛ وفي هذا المقال لن أتعرض للبرنامج المكثّف لهذه الزيارة وإنما سأتطرق لبعض المشاهد التي لا تزال عالقة في ذهني والتي أرى من المناسب عرضها في هذا المقام لمدى ارتباطها بالفكرة المطروحة في بداية المقال.     
فخلال اليوم الثاني وفي الفترة المسائية تحديدًا زرنا المكتبة الوطنية التي تقع في العاصمة سيؤول. وهي مكتبة ضخمة بتصميم رائع تشغل مساحة كبيرة مع المساحات الخضراء وتتكون من ستة طوابق أُنشئت عام 1945م. ومما يلفت الانتباه أنّ هذه المكتبة بالإضافة إلى وجود الكتب بشتى أنواعها والدوريات والمجلات هي عبارة عن متحف مصغّر وأرشيف في آن واحد يعرض المخطوطات والوثائق إلى جانب الأعمال الفنية لمشاهير كوريا الجنوبية في الأدب والشعر وغير ذلك. كما يوجد بالمكتبة قسم مخصص لذوي الاحتياجات الخاصة مزود بالتسهيلات اللازمة لهذه الفئة، ووجود قسم خاص للمكتبة الالكترونية يضم أجهزة حواسيب بشاشات كبيرة لعرض المواد الفلمية المتوفرة بالمكتبة، وكذلك لاستخدام شبكة المعلومات العالمية "الأنترنت". كما تقوم المكتبة بتلخيص بعض الكتب المهمة وعرضها لمرتادي المكتبة باللغة الكورية، وفي المكتبة أيضاً كابينة مخصصة لاستخدام الهواتف منعًا لإزعاج مرتادي المكتبة.  
والشئ بالشئ يذكر فخلال اقامتي لمدة ثمانية أشهر عام 2011م في مدينة أمريكية صغيرة تسمى Provo  في ولاية يوتا  Utah كنت كثيرًا ما أتردد  على مكتبتها العامة التي كانت تتكون من طابقين الطابق الأول مخصص لجميع مرتادي المكتبة بما فيهم الأطفال الرضع ، أما الطابق الثاني فتم تخصيصه للقراءة والمطالعة، إلى جانب وجود قاعة مخصصة لإقامة مختلف المناسبات الثقافية والاجتماعية. وهذا يقودنا إلى أهمية وجود المراكز الثقافية أو المكتبات العامة كمصدر اشعاع ثقافي وعلمي للمجتمع. ذكر المكرم حاتم الطائي في مقال له بعنوان "الثقافة والتنمية" المنشور في هذا الجريدة في 7 أبريل من هذا العام ما نصه "إنَّ الحاجة الماسة لمكتبة وطنية عامة لابد أن يظل الهاجس الحاضر في الفعل التنموي خلال الفترة القريبة المقبلة، باعتبارها الذاكرة المركزية للدولة، والمركز الثقافي والمعلوماتي الذي يعكس تراثنا وتطورنا، ونحن أحقُّ في هذا بما نملكه من مخزون ثقافي يمتد لآلاف السنين، من دول انتبهت إلى أهمية إقامة هذا الصرح واعتبرت إنشاءه واجبا وطنيا، فيما خصصت دول أخرى -التي لا تسمح إمكاناتها الاقتصادية والبشرية- بجعل إحدى المكتبات المحلية الكُبرى هي القائم بمهام ومسؤوليات المكتبة الوطنية."
وبالتالي فإن انشاء مركز ثقافي متكامل في كل محافظة من محافظات السلطنة لم يعد ترفًا؛ وإنما مطلبًا وطنيًا ضروريًا. بحيث يضم المركز مكتبة عامة، ومتحف مصغّر، ومسرح وقاعات للفعاليات والمعارض والمناشط العلمية والثقافية، وقاعات للعلوم والابتكارات، وقاعات عرض تفاعلية لجذب انتباه الناشئة باستخدام الرسوم ثلاثية الأبعاد، وقاعات مخصصة للأطفال على أن يتم تسمية القاعات بأسماء شخصيات عُمانية لها اسهامها في مجال من المجالات السياسية والعلمية والفكرية وغيرها. 
إلا أنّه بسبب الأوضاع المالية الراهنة أتفهم أنّ مسألة انشاء هذه المراكز إلى جانب كلفة التشغيل قد ترهق ميزانية الدولة، وبالتالي لعله من المناسب البحث عن حلول وبدائل أخرى بشأن الكلفة المالية على سبيل المثال بناء شراكة حقيقة مع القطاع الخاص لتبني هذه الفكرة والوصول إلى تفاهمات مشتركة بين الحكومة والقطاع الخاص فربما نصل إلى نتيجة ايجابية في هذا الصدد. في المجمل نتمنى بالفعل أن نرى هذه المراكز الثقافية منتشرة في كل أرجاء عُمان ولو بشكل تدريجي نظرا لأهميتها في نشر العلم والمعرفة ، وفي تنشيط الحراك العلمي والثقافي في كل محافظة، فضلاً عن صون التراث الحضاري العُماني.   

Monday, May 14, 2018

كيف نستثمر تراثنا؟

د.سليمان المحذوري
جريدة الرؤية، الاثنين 14 مايو 2018م
بات من الطبيعي أن تسعى كل أمة للحفاظ على تراثها وموروثها وصيانته وإبرازه محليًّا وإقليميًّا وعالميًّا. تُشير معاجم اللغة العربية إلى أنَّ التراث هو ما ورثناه عن الأجداد، واستنادًا إلى مقال د.عبدالحميد الكفافى -المنشور في صفحة المدرسة المصرية الوطنية للحفاظ على الآثار- فإنّ التراث بمفهومه البسيط هو نتاج الحضارات السابقة، وما تركه الأوائل من تجارب في مختلف ميادين العلم أو الفكر أو اللغة أو الأدب أو الأديان، إضافة إلى الأبنية والقلاع والفنون و...يرها. كما يُعتبر التراث مرادفًا للثقافة؛ أي أنَّه جزء مهم من ثقافة الشعوب وليس منفصلًا عنه.
والسلطنة أدركتْ مُبكرا أهمية الحفاظ على التراث والموروث العماني وتوثيقه تمثّل ذلك في إنشاء وزارة للتراث القومي عام 1976م كجهة مختصة للعناية بمفردات التراث العُماني وصيانته. كما أنّ هنالك عدة جهات أخرى لها علاقة بهذا الجانب؛ وبالتالي من وجهة نظري تشتت الجهود الرامية لتحقيق ذات الهدف؛ لذا فإنني أرى أهمية العمل بشكل ممنهج ومدروس من خلال تشكيل مجلس كمرجعية عامة يختص بالمحافظة على التراث والتاريخ العُماني وإبرازه من جهة، واستثماره بما يخدم أهداف التنمية المستدامة للسلطنة من جهة أخرى. يتكون هذا المجلس من وزارة التراث والثقافة، ووزارة التربية والتعليم، ووزارة التعليم العالي، ووزارة الإعلام،ووزارة السياحة، وجامعة السلطان قابوس، ومجلس البحث العلمي الذي يتبنى البرنامج الإستراتيجي للتراث الثقافي العُماني، والهيئة العامة للصناعات الحرفية، والهيئة العامة للإذاعة والتليفزيون، وهيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، والمتحف الوطني.  
وبالنظر لتراثنا -بشقيه المادي وغير المادي- نجد أنَّ عُمان غنية بمفرداتها الحضارية؛ استنادًا لعراقتها التأريخية من شخصيات تاريخية، وأبنية وقلاع وحصون، وحارات قديمة، ومدافن أثرية، ومخطوطات، ووثائق، وفنون وما إلى ذلك؛ مما يتطلب تضافر الجهود من أجل الخروج بنتائج ملموسة وفي أوقات قياسية، وذلك من خلال إعداد الفريق المُقترح لخطة استراتيجية وطنية تنبثق منها خطط تنفيذية بأهداف معلومة التحقق: متى؟ وكيف؟ والجهة المسؤولة عن التنفيذ؟
كما أنَّه من المعلوم أنّ السلطنة تشترك مع دولة الإمارات العربية المتحدة في عدة مفردات تراثية متداخلة بحكم أنّ الدولتين كانتا في إقليم تاريخي وجغرافي واحد قبل ترسيم الحدود الحالية، وعليه بات من الضروري خلق تفاهمات مشتركة بين الدولتين الجارتين حول التراث المشترك من خلال اتفاقيات تنظم وتؤطر العمل بين الجانبين.

Sunday, May 6, 2018

التاجر العُماني الذي أدخل الإسلام إلى أوغندا

د.سليمان المحذوري
جريدة الوطن ، ملحق أشرعة، 6 مايو 2018م
لم يحظ تدوين التاريخ العُماني بالاهتمام الواسع من قبل المؤرخين العُمانيين، وبالتالي غابت عنّا كثير من الأحداث المهمة خلال حقب زمنية طويلة، وبقيت شخصيات عُمانية طيّ النسيان على الرغم من اسهاماتها الجلية في الجوانب الحضاريّة والإنسانيّة. وربما نجد اجابة لهذا اللغز عندما أشار إلى ذلك الشيخ نور الدين السالمي في مقدمة كتابه “تحفة الأعيان” بقوله: “..لم يكن التاريخ من شغل الأصحاب، بل كان اشتغالهم بإقامة العدل وتأثير العلوم الدينية، وبيان ما لا بد من بيانه للناس، أخذًا بالأهم فالأهم؛ فلذلك لا نجد لهم سيرة مجتمعة ولا تاريخًا شاملاً” . كما يأسف الشيخ المغيري على اهمال العُمانيين لتاريخهم، وعدم الاعتناء به خاصة في إفريقيا الشرقيّة؛ اذ لم يدون العرب كل ما وقفوا عليه وما نالوه من اكتشافات لآواسط إفريقيا وفي هذا الصدد يذكر في كتابه “جهينة الأخبار” “إن الهمة العالية التي بذلها العرب لجديرة حقًا أن تكتب مآثرها وأخبارها بماء الذهب على صفحات اللجين” . ورغم ذلك عُثر على أسماء لشخصيات عُمانية بارزة من خلال كتب الرحالة والمستشرقين الأوروبيين الذين كان لهم حضور في منطقة شرق إفريقيا خلال القرن التاسع عشر الميلادي، وكذلك الوثائق خاصة البريطانية والبلجيكية والألمانية.
ومن المعلوم أنّ للعمانيين دورا في التجارة مع داخلية الشرق الإفريقي، وبالتالي وصلت الدعوة الإسلامية إلى تلك المناطق والأصقاع على أيدي هؤلاء التجار، وقد ذكر المغيري أسماء بعض من أولئك التجار مثل: سعيد بن محمد العيسري، وحبيب بن سالم العفيفي، وناصر بن سيف المعمري، وعيسى بن عبدالله الخروصي، وعبيدالله بن سالم الخضوري دونما تفاصيل عنهم.
بينما تفرّد أمين باشا – كان حاكمًا على جنوب السودان في عهد الخديوي توفيق – بتدوين قصة تاجر عُماني يُدعى أحمد بن ابراهيم العامري في مذكراته اليومية التي نشرتها المجلة الأوغندية. ولا يُعرف على وجه الدقة موطن آباء أحمد العامري في عُمان؛ إلا أنّ المصادر تُشير إلى أنّ والديه هاجرا من عُمان في عهد السيد سعيد بن سلطان واستقرا في زنجبار. ويُقدّر تاريخ ولادته في عشرينيات القرن التاسع عشر. وتُشير المصادر التاريخية إلى أنه وصل إلى مملكة بوغندة -تقع مملكة بوغندة شمال غرب فكتوريا وهي حاليا تتبع جمهورية أوغندا- في عام 1844م خلال حكم الملك أو الكباكا Kabaka Suna وبالتالي يُعتبر أول تاجر عربي يصل هذه المملكة.
وقد التقى به المستكشف البريطاني ستانلي Stanleyعام 1876م في داخلية إفريقيا ووصفه بأنه رجل ثري يسكن في منزل فخم أنيق يمتلك عددًا كبيرًا من الماشية والعاج. وتذكر ابنته صالحة أنّ والدها ذهب إلى بوغندة وسكن بشكل خاص في منطقة Kafuro وأصبح صديقًا مقربًا من ملكها، وحقق ثروة طائلة. كما كوّن صداقات مع مجموعة من الأوروبيين أبرزهم بيرتون Burton وستانلي Stanley.
كان التجار العرب محل ترحيب من قبل الملوك الأفارقة لأسباب تجارية وعسكرية لأن البنادق التي كانوا يشترونها كانت ذات فائدة في حسم الصراعات القبلية. وقد تركزت تجارة القوافل العربية في بيع الملح، والأقمشة القطنية، والأسلاك النحاسية، والبارود وغيرها من البضائع التي كانوا يقايضونها مع سلع الداخل. وعلى الرغم من أنّ بعض الكتابات تُشير إلى أنّ اهتمام التجار العرب انصبّ على الشؤون التجارية فقط؛ إلا أنّه من الحقائق الثابتة أنّ انتشار الإسلام في شرق ووسط إفريقيا اعتمد بدرجة كبيرة على جهود التجار العرب؛ وذلك من خلال ما تحلوا به من صدق وأمانة في المعاملة، وما بذلوه من جهد في استمالة أعداد كبيرة من الأفارقة لاعتناق الإسلام.
وفي هذا الإطار يُعتبر الشيخ أحمد بن ابراهيم العامري أحد التجار العُمانيين الذين كان لهم قصب السبق في ادخال الإسلام إلى المناطق الداخلية في شرق إفريقيا بفضل أخلاقه السامية، وشخصيته القوية المؤثرة، كما كان يتحدث اللغة السائدة في بوغندة. وعودة على قصة الشيخ العامري التي دونها أمين باشا أنّه بحسب معتقدات وطقوس الديانة الوثنية التي يعتنقها Kabaka Suna كان يتم سفك دماء الأبرياء وتقديمها قربانا للآلهة. وكانت هذه الممارسات سائدة لدى بعض المجتمعات الإفريقية كجزء من الثقافة المتوارثة؛ وذلك بتقديم القرابين البشرية وخاصة العبيد كنوع من الطقوس من أجل استرضاء الآلهة أو الأرواح.. وخلال احدى زيارات الشيخ العامري لمملكة بوغندة تصادف وجوده مع ممارسه هذه الطقوس الوثنية؛ وذلك عندما أصدر الملك أوامره للقيام بهذه المذبحة في حضرة الشيخ العامري فما كان من الشيخ إلا أن وقف على قدميه متحدياً الملك وسط دهشة الحضور مخاطباً ومعاتباً إياه بشجاعة بقوله: إننا جميعا من مخلوقات الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء بما فيها هذه المملكة ولا يحق لمخلوق انهاء حياة انسان لأي سبب كان. فقال الملك : إن الآلهة هي من أمرتني بذلك. وبدأ الشيخ في شجاعة ورباطة جأش يردد مكررا الله الواحد الأحد الذي له الحق في انهاء حياتهم وليس ذلك لمخلوق. وهنا بدأ الملك يتساءل في حيرة عن الله الذي لا شريك له الذي يتحدث عنه الشيخ العامري والذي يعتبره خالقا للكون وله ما في السموات والأرض. ورويداً رويداً بدأ قلب الملك بالإنشراح، وطلب من العامري أن يعلمه المزيد عن الإله الذي لا يعبد أحد سواه. وبعدعدة لقاءات تمكن العامري من شرح مبادئ الإسلام. وتذكر بعض المصادر أنّ الملك اعتنق الإسلام مع عدد كبير من حاشيته، كما تُشير بعض المصادر أنّه استطاع تعليمه آيات من القرآن الكريم.
وما من شك أنّ وصول الشيخ العامري إلى مملكة بوغندة يُعد نقطة تحول في تاريخ هذه المملكة والمناطق المجاورة لها لا سيما بعد الحادثة التي وقف فيها الشيخ العامري متحديًا الملك في وقف سفك دماء الأبرياء وتقديمهم قرابين. وبذلك انفتح الباب لدخول الإسلام إلى أوغندا وما حولها. وتؤكد المصادر التاريخية على أنّ الملك موتيسا Mutesa 1856-1884م -الذي خلف أباه سونا في الحكم- دخل الإسلام؛ حيث أبدى حماسًا منقطع النظير للإسلام فنشره بين مواطني مملكته. وتُشير المصادر إلى أنه أصدر أوامره باقامة شعائر الإسلام، وتشييد المساجد في جميع أنحاء مملكته لتأدية الصلوات وبخاصة صلاة الجمعة، كما أصدر قرارًا يقضي بأن استخدام غير اللغة العربية للتحية بن أتباعه يعد جريمة يعاقب عليها وذلك في إشارة واضحة إلى ضرورة استخدام اللغة العربية كلغة رسمية. إضافة إلى ذلك أدخل العمل بالتقويم الهجري في بلده، كما وصل به الحماس لهذا الدين أن بعث رسله إلى الممالك المجاورة للدخول في الإسلام. وفي بلاطه حظي التجار العُمانيون بمكانة مرموقة؛ إذ اتخذ منهم مستشارين له مثل الشيخ عبدالرحمن بن عبيد والشيخ سليمان بن زاهر الجابري وغيرهم من الجنود المجهولين الذين تناثرت أخبارهم خاصة في المصادر والوثائق الأوروبية ولا شك أنّ هذه الشخصيات العُمانية تحتاج مزيدًا من البحث والتحري لتوثيق اسهاماتهم الحضارية ودورهم في نشر الإسلام لا سيما في الأقاليم الداخلية من إفريقيا الشرقية.
وكانت نهاية الشيخ العامري في أواخر 1885م على يدي أحد أفراد قبيلة Wanyambo الذي رماه بالقوس وهو جالس مساءً في برزته أمام منزله مع مجموعة من العرب وفي هذا الصدد تقول ابنته “كنت صغيرة عندما توفي والدي الذي كان يلقب بالدولة -أي ممثل الحكومة – ولكني أتذكر جيدًا ما حدث يوم وفاته كان أبي سخيًا ولطيفًا معنا جميعًا”.
وهكذا انتهت قصة رجل خاطر بحياته من أجل انقاذ حياة الآخرين عندما وقف بجرأة وشجاعة في بلاط الملك سونا ومنعه من تقديم الدماء البشرية كقرابين للآلهة حسب معتقداتهم الوثنية. حيث لم يسبق أن تمت مخاطبة أي من الملوك السابقين لبوغندة بهذه اللهجة كما فعل الشيخ العامري. وبفضل شخصيته المؤثرة كان التجار العرب محل ترحيب في مملكة بوغندة التي ارتبط ملوكها بعلاقات ودية مع سلاطين زنجبار، وتبادلوا معهم الهدايا. ولا ريب أنّ الشيح أحمد العامري يُعتبر نموذجًا مشرفًا للتاجر العربي الذي حمل تجارته بيد ودعوته إلى المبادئ والأخلاق الإسلامية في اليد الأخرى. كما أنّ اسهامه في توصيل الدعوة الإسلامية إلى المناطق الداخلية من إفريقيا الشرقية جنبًا إلى جنب مع أقرانه من التجار العرب ما تزال آثاره باقية إلى يومنا هذا.

————–
المراجع:
• السالمي، نورالدين عبدالله بن حميد.(2000). تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان، ج1، السيب: مكتبة الإمام نورالدين السالمي.
• صغيرون، ابراهيم الزين.(1993).”الاسهام العماني في المجالات الثقافية والفكرية والكشف عن مجاهل القارة الافريقية في العهد البوسعيدي”. مسقط: المنتدى الأدبي.
• المحذوري ، سليمان بن عمير، بحث بعنوان ” دور التجّار العُمانيين في توصيل الدعوة الإسلامية إلى شرق وأواسط إفريقيا “(2014)، المؤتمر الدولي: الدور العُماني في وحدة الأمة ، ماليزيا.
• المغيري، سعيد بن علي.( 2017 ).”جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار”. تحقيق محمد بن علي الصليبي، مسقط: وزارة التراث والثقافة.
• Gray,J.M.(1947).”Ahmed Bin Ibrahim-The First Arab to Reach Buganda”. Uganda Journal, vol.11.

.