Wednesday, December 17, 2014

العمانيون أتوا بالعلم والإسلام.. والأوروبيون طمسوا التاريخ

جريدة عمان: 17 ديسمبر 2014م
عاصم الشيدي

محمد روكارا خلفان: العمانيون أتوا بالعلم والإسلام.. والأوروبيون طمسوا التاريخ


حديث مع الوسيط البوروندي عن عُمان وتاريخها في عمق أفريقيا –
التاريخ الذي صنعه العمانيون لا يدرس في مناهجنا.. والمؤتمر يعيد كتابة المنطقة –
حاوره  ـ  عاصم الشيدي –
كان موعدي مع الدكتور محمد روكارا خلفان وسيط الجمهورية البوروندية في الثانية عشرة ظهرا في حديقة فندق رويال بلاس بالعاصمة بوجومبورا.. وروكارا خلفان شخصية مرموقة ليس في بوروندي فقط ولكن في القارة الأفريقية، ويكفي الرجل فخرا أن اسمه ارتبط بشكل كبير بالسلام الذي حل في بوروندي مطلع القرن الحالي بعد عشر سنوات من الحرب الأهلية التي دمرت بوروندي وراح ضحيتها أكثر من 300 ألف شخص. فعندما بلغت الحرب أقصاها وضغط الجميع في العالم من أجل وقفها اجتمعت عشرات الشخصيات البرلمانية والقبلية لاختيار وسيط بين الحكومة وبين الشعب كان روكارا المسلم الوحيد في ذلك الاجتماع والغائب الوحيد عنه أيضا. كان في القاهرة يستكشف بعضا من ذكريات شبابه يوم كان يتلقى تعليمه هناك، فيما كان المجتمعون يختارون اسمه باجماع وصل إلى 90% ليكون هو الوسيط بين شعب متناحر وبين حكومة تبحث لها عن استقرار. لم يختر روكارا في ذلك اليوم لقبيلته فليس هو من قبيلة «الهوتو» الزنوج الذين يشكلون ثلاثة أرباع سكان بوروندي، وليس من قبيلة «التوتسي» التي تشكل الأقلية، بل لأنه مسلم وكفى، ودفعت به الأخلاق الإسلامية التي عرفت عنه إلى ذلك الاجماع.
الذي قد لا يُعرف عن محمد روكارا أن أصوله البعيدة تعود إلى ولاية إبراء ما يعني أنه عماني أصلي عندما تتبع في الأصول المتوسطة. لكن الرجل لا يعطي تفاصيل كثيرة أو أنه لا تعنيه الجوانب القبلية.
كان موعدي معه في الثانية عشرة ظهرا، وقبل الموعد بعشر دقائق كنت أبحث عنه في حديقة الفندق بين عشرات من حضور مؤتمر الثقافة الإسلامية والدور العماني في دول البحيرات العظمى الأفريقية التي نظمتها هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية. كانت سكرتيرته قد أحضرت له ملفا عليه أن يطلع عليه سريعا رغم أنه يحضر فعاليات مؤتمر دولي. اقتربت منه وقام مرحبا وطلب أن أختار المكان الذي أراه مناسبا. أخذته بيده وذهبنا إلى جوار حوض الحديقة.
بدا أن الحوار لن يطول كثيرا، فهمت أن وقت الرجل مزحوم كثيرا، وفوق زحمة عمله فإن العمانيين المشاركين في الندوة يزاحمونه كثيرا، ويتحدثون إليه كثيرا وهو لا يبدي إلا الود، ولا يستحضر إلا الحب.
قلت له لدي مجموعة من الأسئلة وأبحث لها عبرك عن إجابات. ابتسم وقال أتمنى أن لا تخونني اللغة العربية فيبدو أنني صرت أنسى كثيرا الآن.. وأنا بين يديك الآن.
قلت لأن الوقت يجري سريعا فعلينا أن نبدأ سريعا أيضا.. ولتكن البداية من المؤتمر الذي تحضر فعالياته حول الدور الثقافي والحضاري العماني في دول البحيرات العظمى وبوروندي بشكل خاص.. ماذا يضيف المؤتمر للعلاقات التاريخية من وجهة نظرك؟
أنا سعيد جدا بالمؤتمر ومتفائل، وبالمناسبة أشكر أيضا العمانيين حكومة وشعبا أنْ اختاروا بوروندي لأقامة هذا المؤتمر الدولي. التاريخ العماني في بوروندي وفي دول البحيرات العظمى قد لا يعرفه الجميع، لا يعرفون اليوم أن العمانيين وصلوا إلى هنا قبل قرنين أو ثلاثة قرون. في تلك الفترة كما تعلم لم يكن لا العمانيون ولا السكان الأصليون يكتبون تاريخهم، كانت الثقافة السائدة هي الثقافة الشفوية فقط، ولم يتركوا في ذلك الوقت آثارا علمية، وعندما جاء الأوروبيون في القرن الماضي بدأوا يكتبون التاريخ وفق رؤيتهم ونسفوا تاريخ غيرهم وخاصة الدور العماني هنا، وفي كل دول البحيرات العظمى.
هناك الكثير من المدن كانت تحمل قبل مجيئ الأوروبيين أسماء عربية، في شرق الكونغو هناك مدينة اسمها «براكا»، وهناك مدينة أخرى اسمها «المنيمة» وسابقا كان اسمها المنامة، وهي محل الاستراحة، وكان هناك نظام حكم سلطاني، وكانوا يسمون من يحكم سلطانا، لكن كل هذا لم يكتبه المؤرخون الأوروبيون.
ولذلك هذا المؤتمر الدولي الذي يشارك فيه باحثون من الكثير من دول العالم من آسيا ومن أفريقيا ومن أوروبا ومن أمريكا سوف يضع الكثير من النقاط على الحروف، ويعيد كتابة أجزاء كثيرة من التاريخ وفق أسس علمية وأكاديمية، وهو نواة لدراسات تأتي من بعده.
لاحظ أن الأوروبيين أكثروا من الحديث عن العمانيين بجانب حديثهم عن تجارة العبيد، أنا أقول لا. العمانيون أتوا بالعلم إلى أفريقيا، ودخلوها عبر المحبة والتسامح والمعاملة الحسنة التي كان يتمتع بها التجار العمانيون ولذلك انتشر عبرهم الإسلام. نعم لم يعرف الأفارقة في ذلك الوقت قيمة الذهب وقيمة العاج لأنهم كانوا بدائيين جدا.. لكن العمانيين جاءوا بالتجارة وجاءوا بالعلم وبثقافة مختلفة كانت محط إعجاب الجميع ورأوا فيها تطورا وتقدما كبيرا.
صمت أوكارا عند هذه النقطة.. فقلت له: جيد.. أنتم تعرفون قيمة التاريخ وتقدرون للعمانيين دورهم الحضاري هنا عبر القرون الماضية. ولكن هل هذا التاريخ الذي تتحدث عنه الآن وتؤمن به يدرس في المدارس البوروندية وفي جامعاتها؟
نظر روكارا إلى عمق بركة السباحة الزرقاء وقال بهدوء: للأسف الشديد لا يدرس هذا التاريخ في مناهجنا.. الذي يدرس هو التاريخ الذي كتبه المستعمر الأوروبي.. وللأسف أيضا الظاهرة التي بدأت تسود الآن عن الإسلام هي الظاهرة التي بدأ العالم يتحدث عنها وهي ربط المسلمين بقضايا الإرهاب. الجيل الجديد هنا لا يعلم أن من دخل الإسلام هنا دخل نتيجة استحسانه المعاملة الطيبة والحسنة التي كان العمانيون يعاملون بها السكان المحليين خلال تعاملاتهم التجارية. ما يحدث في العراق خطير جدا عندما تفكر الأغلبية الإسلامية بطرد الأقلية الأيزيدية أو غيرهم من الأقليات. نحن المسلمون في بوروندي أقلية لا نشكل أكثر من 15% لو أرادت الأغلبية الكاثوليكية أن تطردنا أين نذهب؟
• بمناسبة الحديث عن الأكثرية والأقلية المسلمة.. هل هناك تعايش حقيقي بين الديانتين أم أنكم تعانون من صراع داخلي؟
نعم هناك تعايش وأنت رأيت في حفل افتتاح المؤتمر عندما قدم الشيخ كهلان الخروصي رسالة سلام رد عليه رئيس القساوسة برسالة سلام مشابهة.. هذا أمر يمثل تعايشا جيدا. وعندما أراد الجميع أن يوقفوا الحرب الأهلية قدم الكثير من أعضاء ورؤساء مجلس الشورى أسماءهم ليكونوا وسطاء لكن الجميع اختارني وأنا المسلم الوحيد ولم أرشح نفسي. ومنصب الوسيط كما تعلم يعادل نائب رئيس الجمهورية.
• أسألك إذن عن أحوال العمانيين هنا في بوروندي؟
أعتقد أن أوضاعهم جيدة قياسا بالوضع العام في البلد، جميعهم يتعايشون مع بعضهم البعض، ويتزاوجون.. ولكن كل واحد منهم يتذكر ويحن إلى أصله العماني.. بعضهم لديهم بطاقات بوروندية ونحن نعرف أن عُمان ترفض ازدواج الجنسية ونحن نبحث مع السلطات العمانية الكثير من هذه القضايا.
وفي بوروندي ليس من الصعب أن تحصل على الجنسية، الأمر سهل للغاية. انا مثلا بوروندي ولكن لدي أصولي في عمان وفي ولاية إبراء بالتحديد ابن خالتي حارثي في إبراء.. (يضحك ثم يقول: يمكن في يوم من الأيام أن أطلب الجنسية العمانية). لكن العمانيين يعتقدون أنهم لو حصلوا على الجنسية العمانية وعادوا إلى عمان سيعيشون هناك بشكل أفضل.
• سألته: تتحدثون كثيرا عن عهد جديد في بوروندي في ظل حكم الرئيس بيير نكورونزيز سأسألك عن أمر التعليم.. هل التعليم اليوم حق مشاع للجميع أم ما زالت تتحكم فيه الكنيسة؟
إمكانية بوروندي بسيطة والحياة صعبة، ولكن الرئيس يصر على أن تكون المدارس مجانية للجميع حتى الثاني متوسط «يعادل في عمان الصف الثامن تقريبا»، وأيضا العلاج يكون مجانا لجميع الأطفال دون سن الخامسة. وبخصوص الكنيسة لم يعد للكنيسة تلك السلطة السابقة.. وأفضل دليل على تراجع تلك السلطة هو إقامة هذا المؤتمر الدولي في بوروندي.
• لكن ما زالت نسبة الفقر تتركز بين أقلية المسلمين؟
هذا صحيح وأنا لو لم أدرس في دولة عربية لم أكن لأستطيع التعليم في بوروندي في ذلك الوقت لأنني مسلم. ولكن الأمر يتغير الآن بشكل جيد. وارتفعت نسبة المتعلمين بين المسلمين إلى حوالي 70%.
وبخصوص الكنيسة سأخبرك بأمر، خلال الحرب الأهلية كانت بيوت المسلمين مرجعية لمن أراد أن يحمي نفسه من بطش القبيلتين المتناحرتين.. كانت كل مناطق المسلمين آمنة. عموما بشكل عام الأمور تغيرت ولم يعد الصراع بين القبائل ولكن الصراع بين الأحزاب السياسية.
عاد مرة أخرى روكارا إلى الصمت والتأمل في البركة الزرقاء، ثم يمد بصره إلى آخر الحديقة حيث بدأ حضور الجلسة الصباحية في الخروج من الندوة.
قطعت تأمل الوسيط البوروندي وسألته عن مستقبل بلاده وما إذا كانت تريد الانفتاح على الاستثمارات الجديدة؟
نعم الرئيس قال ذلك في حفل افتتاح المؤتمر، ودعا العمانيين إلى أن يعودوا ثانية إلى بوروندي ويستثمروا فيها فهم أحق بهذه الاستثمارات من غيرهم. كان الوقت يجري سريعا وسكرتيرة روكارا تقترب وتقترب. فتح موضوع الوثائق التي تملكها بوروندي حول مرحلة العمانيين وأدوارهم في أوروبا.. ابتسم وقال: دع هذا الأمر الآن المستقبل مفرح كثيرا.
ودعت روكارا وهو يقول اعتقد أن لغتي العربية كانت جيدة وأن النسيان لم يأت عليها كلها. قلت له إنها جيدة لا تقلق.

No comments:

Post a Comment