Saturday, June 10, 2017

أزمة ساحل البنادر الصومالي بين سلطنة زنجبار وايطاليا (1888-1889م)

أحمد بن خلفان الشبلي
قلعة التاريخ: العدد 5 يونيو 2017
بعد حوالي شهر ونصف من تولي السلطان خليفة بن سعيد مقاليد الحكم في سلطنة زنجبار , وبالتحديد في الخامس عشر من مايو عام 1888 م , بعث ( فليوناردي ) القنصل الإيطالي بزنجبار , وبرسالة توبيخ إلى السلطان خليفة , يلومه فيها على تعمده عدم الرد على رسالة ملك إيطاليا ( فيكتور عمانويل ) التي بعث بها إليه[1]. وقد طـالب لتصـحيح هذا الخطأ أن تتنازل سلطنة زنجبار عن مدينة كسمايو الواقعة على ساحل البنادر الصومالي لصالح الحكومة الإيطالية , وقد أفهم ( فليوناردي ) السلطان خليفة أن بريطـانيا وألـمانيا سـتؤيدان هذا الطلب [2].
أصاب هذا الموقف السلطان خليفة بن سعيد بالحزن الشديد , وقد طلب من الجنرال ( ماثيوس ) أن يبلغ القنصل الإيطالي , أنه لم يتعمد اهمال رسالة ملك إيطاليا , وهو يأسف لهذا التأخير الذي حدث بسبب  وصول الرسالة في شهر رمضان , الذي تتباطأ  فيه معظم الأعمال الرسمية  , وأنه لم يتمكن بعد من الاطلاع عليها [3]. إلا أن القنصل الإيطالي أصر على موقفه , وفي 6 / 6 / 1888 م , أبلغ قناصل كلا من بريطانيا وفرنسا وألمانيا أنه أنزل علمه من على القنصلية الإيطالية , وقطع علاقته بسلطنة زنجبار [4].
وعلى الرغم من أن الخطوة التي أتخذها السفير الإيطالي تبدو لحظية , إلا أن إيطاليا كانت مهتمة بساحل البنادر منذ مدة طويلة , حيث كانت تهدف  من خلال السيطرة على ساحل البنادر للضغط على الحبشة لإدخالها قسرا في دائرة نفوذها وتحت حمايتها [5]. لذا أرسلت حملة استكشافية على متن السفينة الحربية ( بارباريجو ) بقيادة الكابتن ( تشكي ) , إلى مصب نهر جوبا , وذلك للوصول إلى آخر نقطة صالحة للملاحة يمكن الوصول إليها فيه . وكتابة تقرير عن أحوال الناس وحركة التجارة وإمكانية استغلال المنطقة لصالح إيطاليا [6]. ويبدو أن البعثة لم تحقق أي معلومات من شأنها دفع إيطاليا نحو احتلال المنطقة حينها , فاكتفت بعقد معاهدة تجارية مع السلطان برغش بن سعيد في مايو من عام 1885م[7], حصلت بموجبها على امتيازات تجـارية مع حرية التنقل في أرجاء السلطنة [8]
ولزيادة الضغط على السلطان خليفة بن سعيد للتنازل , طلب ( فليوناردي ) في اجتماع مع السلطان وبشكل صريح ومباشر أن يتنازل له عن كسمايو , من دون قيد أو شرط , وعندما رفض السلطان خليفة هذا الطلب , قام ( فليوناردي ) في اليوم التالي بإنزال العلم الإيطالي من على بناية القنصلية الإيطالية , وقطع العلاقات مع سلطان زنجبار [9], وهو ما كان يعني قطع العلاقات الدبلوماسية مع سلطنة زنجبار , تمهيدا للقيام بعمل عسكري [10].
وعلى الرغم من الضغوط التي مارسها القنصل الإيطالي على السلطان خليفة للتنازل عن كسمايو إلا أنه لم يلتفت إلى هذا المطلب[11]. حيث أن السلطان خليفة قد حصل على تطمينات من جانب الألمان والبريطانيين , تضمنت تعهدهما بعرقلة مشروع استيلاء إيطاليا على ساحل البنادر[12]. وهذا ما أكده القنصل الفرنسي في زنجبار ( أم . لاكو ) ( M . Lacaus )  في رسالته الموجهة لوزارة الخارجية في باريس بتاريخ 10 / 6 / 1888 م [13].

ــ موقف بريطانيا وألمانيا من رغبة إيطاليا الاستيلاء على ساحل البنادر :

لم يكن التصرف الذي قام به القنصل الإيطالي ( فليوناردي ) , للاستيلاء على ساحل البنادر ليرضي الألمان والبريطانيين على الأقل في ذلك الوقت , حيث لم يمضي وقت طويل على استيلاء الدولتين على مساحات واسعة من أراض سلطنة زنجبار , ولا تزال تداعيات ذلك مستمر , متمثلة في الغضب الشعبي الذي بدأ يجتاح البر الأفريقي من السلطنة والذي سيطر عليه الألمان , حيث كانت البداية بالامتعاض الذي انتاب العرب والأفارقة من سكان السلطنة نتيجة الممارسات الألمانية , والتي تسببت فيما بعد بنشوب ثورة ضدهم بقيادة سالم بن بشير الحارثي , بدءا من أغسطس عام 1888 م [14].
وقد اعلنت كلا من بريطانيا وألمانيا في 11 / 6 / 1888 م , عدم تأييدهما للمطالب الإيطالية . بل أن المستشار الألماني بسمارك[15], أعلن صراحة أنه لن يسمح لإيطاليا باستخدام القوة العسكرية ضد سلطنة زنجبار[16]. كما أمر في الوقت نفسه قنصله في زنجبار بتوجيه إنذار إلى القنصل الإيطالي لوقف هذا الابتزاز ضد السلطان خليفة[17].
وفي ذات الوقت وعلى الرغم من المعرضة الشديدة التي أبداها الألمان ضد رغبة الإيطاليين التوسع في ساحل البنادر , والتي هددت فيها باستخدام القوة ضد التوسع الإيطالي , فإن المعارضة التي أبداها الإنجليز ضد رغبة التوسع الإيطالي في ساحل البنادر كانت أقل حدة من الألمان , بل أنها كانت أكثر دبلوماسية في التعاطي مع الأمر . حيث سعت بريطانيا لاستغلال الموقف وحاجة إيطاليا للسيطرة على ساحل البنادر , لتشكيل حلف بريطاني إيطالي للحد من توسع ألمانيا والفرنسي في شرق أفريقيا , كما أن بريطانيا كانت بحاجة إلى حليف أوروبي يدعم احتـلالها لمـصر[18]. وقد ظهرت بوادر هذا التحالف في إعلان رئيس جمعية شرق أفريقيا ( وليم ماكنون ) [19], في 20 / 8 / 1888 م , والذي قال فيه : " إن نشر الحضارة والمدنية في شرقي أفريقيا يحتاج إلى التعاون مع أمة فتية ورثت النشاط والحكمة الرومانية "  [20].
لذا فقد ناورت بريطانيا سياسيا من جديد , لتحقيق مصالحها في منطقة شرق أفريقيا , على حساب سيادة أراض سلطنة زنجبار . وقد أبلغت إيطاليا بضرورة التريث حتى تدخل في مفاوضات مع السلطان خليفة لإقناعه بالتنازل عن ساحل البنادر لإيطاليا[21]. مع إعطائها لضمانات بعدم وقوع منطقة ساحل البنادر بيد دولة أخرى[22]. وفي الوقت نفسه كانت حكومة رئيس الوزراء الإيطالي ( كرسبي ) حريصة على توثيق علاقتها ببريطانيا , وذلك من أجل تنسيق سياستهما في حوض البحر الأبيض المتوسط [23].
 ولإظهار بأن الأزمة قد انتهت بين السلطان خليفة بن سعيد والإيطـاليين , وأن المطالب الإيطالية بالسيطرة على ساحل البنادر بالقوة قد توقفت , حثت  السلطات البريطانية للسلطان خليفة على كتابة رسالة اعتذار لملك إيطاليا , بالإضافة إلى إطلاق وحد وعشرين طلقة ترحيبية بعود العلاقات بين سلطنة زنجبار وإيطاليا [24]. كما أن الأزمة بين إيطاليا والدول الأوروبية في شرق أفريقيا قد انتهت في ديسمبر من عام 1888 م , حيث تم قبول مشاركة إيطاليا كلا من ألمانيا وبريطانيا والبرتغال في فرض حصار على سواحل شرق أفريقيا لقطع الإمدادات عن الثورة التي قامت ضد ألمانيا في البر الأفريقي[25].
وكمكافئة لموقف إيطاليا ورغبة في خلق توازن بين الدول الاستعمارية في ِشرق أفريقيا سعت بريطانيا للضغط على السلطان خليفة بن سعيد لتأجير ساحل البنادر لها أولا , بحيث تقوم فيما بعد بتأجيره لإيطاليا .  وقد وقع السلطان خليفه وفي 31 / 8 / 1889 م , على بنود تأجير ساحل البنادر للشركة البريطانية , على أن تقوم هي بالتنازل عن المنطقة بمعرفتها [26], وبنفس الشروط المتضمنة في عقد الامتياز الممنوح لها أو بأفضل الشروط التي يمكن أن تحصل عليها الشركة من السلطان مستقبلا . وبعد شهرين ونصف تقريبا من ذلك , أي في 18 / 11 / 1889 م , تنازلت الشركة البريطانية بدورها لإيطاليا عن كافة حقوقها وامتيازاتها في موانئ ساحل البنادر باستثناء كسمايو[27].
وقد كرست إيطاليا خلال تلك الفترة وجودها في المنطقة , وهو ما نتج عنه في النهاية الدخول في مفاوضات مباشرة مع السلطان علي بن سعيد لتأجير ساحل البنادر الصومالي للحكومة الإيطالية مقابل ( 160 ) ألف روبية سنويا مكافأة للسلطان . وقد تم التوقيع على الاتفاقية بين الطرفين [28], في  12 / 8 / 1892 م [29].
ولم تكتفي الحكومة الإيطالية بذلك بل عملت على الحصول على تنازل من قبل سلطنة زنجبار عن ساحل البنادر لصالح إيطاليا , ودخلت في مفاوضات مباشرة مع السلطان حمد بن ثويني , وبوساطة بريطانية , تمخضت عن عقد اتفاق في 13 / 1 / 1895 م , تدفع على أساسه إيطاليا مبلغ وقدره ( 144 ) ألف جنيه [30]. مقابل تنازل السلطان عن ساحل البنادر الصومالي والممتد حوالي 1800 كيلوا متر[31]. وبذلك يكون ساحل البنادر قد خرج بشكل نهائي من سلطة سلطنة زنجبار . وقد عملت إيطاليا على فرض سيطرتها المباشرة على الصومال , واعتبرت ساحل البنادر مستعمرة إيطالية في عام 1898 م .



[1] ــ الإسماعيلي , عيسى بن ناصر . زنجبار التكالب الاستعماري وتجارة الرق . دبي , دار الغرير للطباعة والنشر , 2012 م . ص 40 .
[2] ــ العقاد , صلاح , وجمال زكريا قاسم . زنجبار . القاهرة , مكتبة الأنجلو المصرية , ب ت . ص 215 .
[3] ــ الإسماعيلي , عيسى بن ناصر . المرجع السابق . ص 40 .
[4] ــ رسالة من القنصل الفرنسي في زنجبار السيد لاكو ( Mr . Lacaus ) موجهة بتاريخ : 10 / 6 / 1888 م , إلى إدارة الشؤون التجارية والقنصلية بباريس .
[5] ــ قاسم , جمال زكريا . مرجع سابق . ص 321 .
[6] ــ عبار , عبدالقادر , الدولة والقبيلة في الصومال من الاستقلال إلى الحرب الأهلية , تقديم السيد فليفل , مقديشو , مركز الشاهد للبحوث والدراسات الإعلامية , 2013 م..
[7] ــ العقاد , صلاح . وجمال زكريا قاسم . مرجع سابق . ص 215 .
[8] ــ عبار , عبدالقادر . المرجع السابق . ص 70 .
[9] ــ الإسماعيلي , عيسى بن ناصر . المرجع السابق . ص 41 .
[10] ــ قاسم , جمال زكريا . دولة البوسعيد في عمان وشرق أفريقيا  . العين , مركز زايد للتراث والتاريخ , 2000 م. ص 321 .
[11] ــ العقاد , صلاح . وجمال زكريا قاسم . مرجع سابق , ص 215 .
[12] ــ قاسم , جمال زكريا . المرجع السابق , ص 321 .
[13] ــ رسالة موجهة من القنصل الفرنسي ( أم . لاكو ) ( M . Lacaus )  إلى وزارة الخارجية بباريس بتاريخ 10 / 6 / 1888 م . المصدر : الأرشيف الوطني بأبوظبي . ب ر .
[14] ــ الريامي , ناصر بن عبدالله . زنجبار شخصيات وأحداث. مسقط : بيت الغشام , ط 3 , 2016 م , ص 330 ــ 331 . والموسوعة العمانية . مرجع سابق . المجلد : 3 , ص 497 ــ 499 .
[15] ــ العقاد , صلاح , وجمال زكريا قاسم . مرجع سابق . ص 215 .
[16] ــ قاسم , جمال زكريا . مرجع سابق . ص 321 .
[17] ــ الإسماعيلي , عيسى بن ناصر , مرجع سابق , ص 41 .
[18] ــ مصلحي , محي الدين محمد . المخططات الاستعمارية الإيطالية في شرق افريقيا في الفترة ما بين 1914 ــ 1939 م , القاهرة : مجلة الدراسات الأفريقية , العدد : 13 و 14 . 1984 , 1985 . ص 4 .
[19] ــ كانت جمعية شرق أفريقيا  تعنى بمتابعة وتنمية مصالح انجلترا في أفريقيا .
[20] ــ العقاد , صلاح , وجمال زكريا قاسم . مرجع سابق ص 321 .
[21] ــ الإسماعيلي , مرجع سابق , ص 42.
[22] ــ العقاد , صلاح , وجمال زكريا قاسم . المرجع سابق . ص 216 .
[23] ــ نفس المرجع . ص 216 .
[24] ــ رسالة موجهة من القنصل الفرنسي ( أم . لاكو ) ( M . Lacaus )  إلى وزير الخارجية الفرنسي , في 15 / 9 / 1890 م . المصدر : الأرشيف الوطني بأبو ظبي . ب ر .
[25] ــ العقاد , صلاح , وجمال زكريا قاسم . مرجع سابق . ص 216 .
[26] ــ العقاد , صلاح , وجمال زكريا قاسم . مرجع سابق , ص 217 .
[27] ــ كان الاهتمام بالغا بميناء كسمايو باعتباره أفضل الموانئ حينها , بالإضافة إلى أشرافه مباشرة على نهر جوبا الذي كان يأمل منه أن يكون ممرا مائيا يقود إلى داخل القارة ومنطقة الحبشة بالتحديد .
[28] ــ مثل الحكومة الإيطالية قنصلها في زنجبار ( السنيور كوتوني ) بينما مثل الحكومة البريطانية وسلطنة زنجبار القنصل البريطاني ( جيرالد بورتال )
[29] ــ عابر , عبدالقادر , والسيد فليفل . مرجع سابق , ص 74 .
[30] ــ جريدة الفلق : 21 / 4 / 1954 م .
[31] ــ عابر , عبدالقادر , والسيد فليفل . مرجع سابق , ص 74 .