سليمان المحذوري
جريدة الرؤية ، الاثنين 9/12/2014
يزخر التاريخ البحري العُماني منذ القدم بالعديد من الشواهد والقصص التي تُؤكد
تفوقه وريادته في مياه المحيط الهندي، وفي هذا الصدد يذكر حسن شهاب في مقدمة كتابه"
من تاريخ بحرية عُمان التقليديّة "(..يُلاحظ أنّ تاريخ المشاركة العربية في الملاحة
البحرية في المحيط الهندي يخلو من ذكر أية قوة بحرية كانت للعرب في هذا المحيط غير
البحرية العمانية..). لذلك لا غرابة البتّة أن تمتلك عُمان أساطيل حربية قوية
تستخدمها في مقارعة خصومها منذ زمن الإمام غسان بن عبد الله، والإمام الصلت بن مالك
مرورًا بدولة اليعاربة ثم البوسعيد، شهدت بقوتها وتفوقها القوى المناوئة لها وكذلك
الرحّالة الذين احتكوا بالعمانيين. كما أنّ عُمان امتلكت كذلك أساطيل تجارية
استخدمتها في أنشطتها الملاحية مع موانئ شرق أفريقيا جنوباً ومع حواضر الخليج
العربي، بالإضافة إلى الوصول إلى الهند وجنوب شرق آسيا حتى الصين؛ الأمر الذي هيأ
لعُمان مكانة بحرية مرموقة استحقت على أثرها الإشادة والتقدير.
ومن هذا المنطلق وعلى مدار يومين (3-4 ديسمبر الجاري) عقدت الهيئة العامّة
للإذاعة والتلفزيون ندوة عن رحلة إحدى السفن العُمانية الشهيرة "سلطانة" أو
"السلطانة" أو "السلطاني" كما ورد ذكرها في مختلف المصادر والمراجع؛ إلا أنّ
"السلطاني" يبدو هو الاسم الأصوب لهذه السفينة التي تُعد إحدى قطع أسطول السيّد
سعيد بن سلطان(1804-1856م) أحد أبرز الشخصيات العمانية بل العربية في العصر الحديث.
هذه الشخصية الفذّة استطاعت تكوين إمبراطورية عُمانية مترامية الأطراف؛ إضافة إلى
الوطن الأم عُمان ضمّت مناطق أخرى من آسيا مثل: "جوادر" و"بندرعباس" وتوابعها من
الجزر كجزيرتي" قشم ولارك" وغيرها، كما أصبح نفوذ السيّد سعيد يمتدّ في إفريقيا من
رأس "جردفوي" شمالاً حتى رأس " دلجادو" جنوباً، فضلاً عن مناطق البّر الأفريقي. فلا
غرو أن اعتبر كثير من المُؤرخين أنّ عصر السيد سعيد يُعدّ بمثابة العصر الذهبي
لتاريخ عُمان الحديث وتاريخ شرق إفريقيا، فضلاً عن أنّها فترة مهمة في تاريخ
العرب.
ولا شكّ أنّ امتداد الإمبراطورية العُمانية على هذه المساحة الشاسعة تطلب وجود
أسطول بحري؛ لتحقيق الجوانب الأمنية والاقتصادية؛ إذ كان السيد سعيد يمتلك أسطولا
بحريا حربياً وتجارياً في آن واحد تكون من 37 قطعة بمختلف أنواعها عام 1850م كما
جاء وصف ذلك في كتاب "عمان وتاريخها البحري". ومن أشهر سفن السيد سعيد "فكتوريا"
و"ليفربول" و"كارولين" و"سلطانة". وهذه الأخيرة هي التي أقلّت أحمد بن نعمان الكعبي
إلى الولايات المتحدة الأمريكية تتويجاً لاتفاقية التجارة والصداقة التي عقدت بين
عُمان والولايات المتحدة عام 1833م. حملت "سلطانة" أحمد بن النعمان مبعوثاً خاصاً
للسيد سعيد يحمل رسالة رسمية، بالإضافة إلى هدايا مثل: فرسين عربيين وعقد من اللؤلؤ
وشال وسجاد فارسي تمّ تقديمها للرئيس الأمريكي "مارتن فان بورين" Martin Van Buren
لدى وصول السفينة إلى نيويورك عام 1840م كعربون صداقة بين الجانبين العُماني
والأمريكي. وفي ظل غياب المصادر المحليّة تُشير أغلب المصادر الأجنبية التي أرّخت
لهذه الرحلة إلى أنّ السفينة انطلقت من زنجبار في فبراير عام 1840م ؛ بينما أشار
زاهر المسكري في ورقته المُقدمة في الندوة المشار إليها أعلاه أنّ الرحلة انطلقت من
مسقط في يناير من العام المذكور، والمتفق عليه أنّ الرحلة عادت في ديسمبر عام 1840م
إلى زنجبار محملّة بالبضائع الأمريكية. بيد أنّ السؤال المطروح من قبل كثير من
الباحثين هل حقّقت هذه الرحلة أهدافها؟ ما من شك أنّ الرحلة سواء كانت من مسقط أو
زنجبار إلى نيويورك تُعد رحلة طويلة وشاقّة ومكلفة مادياً، وإذا تمّ النظر إلى
النتائج الاقتصادية بحساب الربح والخسارة، وبناءً على الأرقام والإحصاءات المنشورة
عن الرحلة يُلاحظ أنّ المكاسب كانت قليلة رغم بيع جميع البضائع التي كانت تحملها؛
إلا أنّ المكاسب السياسية والدبلوماسية التي تحققت لعُمان كانت هي الأكبر والأعمق
أثراً. وقد أكّد الأمريكي "جون بيترسون" أحد مُقدمي أوراق العمل أنّه ينبغي ألا
ينظر إلى المكاسب الآنية للرحلة، وإنما لا بد من النظر بعيداً، وهذا ما برهنت عليه
المصادر من استمرار العلاقات العُمانية-الأمريكية، وزيادة أعداد السفن التجارية
الأمريكية وخاصّة تجار مدينة "سالم" في ممتلكات السيد سعيد خلال العقد الخامس من
القرن 19م، وهذا في حد ذاته شكّل انتعاشا تجاريا واقتصاديا للتجارة العُمانية.
في المُجمل كشفت أوراق العمل المُقدمة في ندوة" رحلة السفينة سلطانة إلى
نيويورك" مدى الحاجة لتمحيص المعلومات بشأن هذه الرحلة لتوثيق أحداثها بدقة، وقد
يكون من المفيد الرجوع إلى مذكرات الشيخ أحمد بن النعمان اليومية ومراسلات السيد
سعيد المتوفرة، وكذلك الاطلاع على وثائق الأرشيف الأمريكي، وما كُتب عن هذه الرحلة
في الصحافة الأمريكية وغير ذلك من الأهمية بمكان في الحصول على مادة علمية تُساعد
في توثيق تفاصيل الرحلة بشكل علمي بعيداً عن التكهنات والمُغالطات.
ختاماً إنّ إقامة ندوة تُعنى برحلة بحريّة عُمانية بحجم رحلة "سلطانة" تمهيداً
لإنتاج فيلم توثيقي برأيي فكرة ذكية من الهيئة العامّة للإذاعة والتلفزيون؛ لمناقشة
موضوع الرحلة بكل خلفياتها وأبعادها نقاشاً علمياً رصيناً والخروج برؤية مُناسبة
لأهمية هذا الحدث في التاريخ العُماني؛ مما قد يفتح الباب على مصراعيه لسبر أغوار
التاريخ البحري العُماني الزاخر بأحداث مماثلة، ورحلات لسفن عُمانية جابت البحار
شرقاً وغرباً في مختلف الحقب التاريخية .
No comments:
Post a Comment