Saturday, January 13, 2024

60 عاماً (1964-2024) على جنوسايد العرب في زنجبار

كتبه عبد الله علي إبراهيم

منتديات سودانيزأونلاين 1ديسمبر 2023

تمر اليوم الثاني عشر من يناير الذكرى الستين لمقتلة العرب في زنجبار في أعقاب ثورة 1964 في الجزيرة. وهي ثورة لم تقتصر على نزع سلطان العرب على زنجبار بل قصدت تصفيتهم إثنياً كوجود أجنبي استيطاني ربما أكثر خطرا من الاستعمار البريطاني الذي رحل عنها في 1961.

وكان السلطان سيد سعيد (سلطان عُمان وقتها) قد أشاد دولة العرب في الجزيرة، فقد كان لسلطنته السيادة على زنجبار ومدن الساحل الأفريقي الشرقي منذ 1689 وهو العام الذي نجحت فيه عُمان في تخليص سكان الساحل من البرتغاليين بطلب من أعيانه. ونقل السلطان سعيد سدة حكمه إلى زنجبار عام 1840 في سياق صراعات أوروبية طاغية على الموارد الأفريقية صارت الجزيرة به ميناء لتصدير رقيق الداخل الأفريقي. وكانت تلك التجارة سبباً في اضمحلال مملكة زنجبار حين انقلبت الدول الأوروبية كل في وقتها الخاص، لتُحَرم الرق. وبقي وزر هذه التجارة معلقا على العرب القائمين على بلدة كانت تلك التجارة اقتصاد سكانها أجمعين.

قال الدبلوماسي الأميركي دونالد بيترسون "لو كنا نتكلم في 1964 بلغة اليوم لوصفنا محنة العرب في الجزيرة في تلك السنة بـ(الجنوسايد) لا مواربة". لم يخضع ضحايا المحنة لإحصاء معلوم من فوق تحقيق شامل. ولكن ثمة اتفاق بين دارسين محايدين أن من قتل من العرب كان بين خمسة آلاف و11 ألفاً. ولم يبق من الخمسين ألف عربي بالجزيرة (سدس السكان) سوى 12 ألفاً من فرط التهجير القسري والترويع. وربما تَفَرد تطهير العرب العرقي في زنجبار في أنه مما صورت بعض مشاهده حية بواسطة التلفزيون الإيطالي في الوثائقي "وداعاً أفريقيا" (1966)، وعَرَض الوثائقي لمقتلة زنجبار ضمن فظاعات أفريقية وقعت بعد استقلال بلدان القارة. ويرى المشاهد على الطبيعة كيف يُساق العرب قتلا على الهوية والمقابر الجماعية التي ضمت رفاتهم. وقد احتج سفراء في أفريقيا في إيطاليا على الفيلم الذي صدمهم عنفه واستقلال القارة ما زال بكراً.

ليست محنة العرب المصموت عنها في زنجبار بدعاً. فقد نشأ في الأكاديمية الغربية مؤخراً علم كامل موضوعه الكشف عن مثل هذه "الجنوسايدات". واتخذ العلم مسمى "الدراسات الناقدة للجنوسايد المخفي". والغالب في هذه الدراسات مع ذلك تجاهل نكبة العرب في زنجبار. ولم أقع إلا على فصل وحيد عن جنوسايد زنجبار ورد في كتاب "فظائع بلا عنوان في القرن العشرين" حرره آدم هيربرت. (2011)

تضافرت حوادث في التاريخ المحلي الزنجباري والقاري الأفريقي والعالم على إسدال ستار النسيان على مقتلة العرب في الجزيرة، وأوجزها في ما يلي:

1- كان التغاضي عن ذلك الجنوسايد هو أفضل حيل الحركة القومية الأفريقية الجامعة، وفي نسختها الزنوجية المتطرفة بالذات، التي تعتقد بأن "أفريقيا للأفريقيين".

والمفهوم من الأفريقيين أنهم السود الأصل وما عداهم ممن جاؤوها من أصقاع مختلفة من العالم محض غزاة. فالعرب في رأي مثل هذه القومية غزاة والتخلص من وجودهم الثقيل كسب قومي لا مذمة.

فليس منظورا من هذا الحركة "الأصولية" بالطبع تَذَكر هذا الجنوسايد وهي التي ابتهجت بعودة زنجبار إلى القارة في اتحاد مع تنجانيقا في دولة تنزانيا بعد أشهر قليلة من الثورة والجنوسايد. وعليه دأب كتاب أفريقيون على تكذيب أرقام ضحايا الكارثة ونسبتها للخيال العربي الشاطح.

2- الفكر الماركسي الزنجباري الذي مثله عبد الرحمن بابو، زعيم حزب الأمة وعضو مجلس قيادة ثورة 1964، والفكر الأكاديمي التنزاني في الستينات والسبعينات الذي غلب فيه التحليل على الطبقة، ولم يعتبر العرق الاعتبار الذي صار له مؤخرا في الدراسات السياسية.

فمن رأي بابو أن من قام بالثورة (وما ترتب عليها) هم البروليتاريا الرثة التي سرعان ما جرى استبعادها من دفة الأحداث لتتولى قيادتها قوى ثورية اجتماعية مسؤولة. وظل بابو ومن لف لفه يتفادون النظر في الضغائن العرقية التي تجلت غير خافية في مذبحة العرب. وعليه فتفسير بابو الطبقي كان صرفا للمسألة لا تحليلا لها.

3- الفكرة القومية العربية في نسختها الناصرية التي غلبت تحالفاتها للتحرر الوطني الأفريقي على استنقاذ شعب عربي. فسقوط دولة سلطان عربي، من وجهة نظر تلك الفكرة القومية، مؤشر على صحة مطلبها في التخلص من سلاطين عرب رجعيين آخرين في مركز العرب. وكانت تلك مفارقة مأساوية أن يهلك شعب عربي على ذلك النحو والدعوة إلى قومية هذا الشعب في أوجها.

4- ووقع الجنوسايد في إطار الحرب الباردة التي كان أكبر همها كسب صفوة الحكم والسياسة الأفريقيين لسياسات القوتين العظميين، الاتحاد السوفياتي والغرب. فقد استبشر المعسكر الاشتراكي بثورة زنجبار الموصوفة بـ"كوبا أفريقيا"، واشتغل الغرب بالتخلص منها بضمها لتنجانيقا المعتدلة نسبيا.

هناك بالطبع ما يقال عن سياسات لعرب أفريقيا تنكبت سبل الإخاء الوطني. ولكن سهم النقد، طالما كنا بحضرة ذكرى جنوسايد زنجبار، يطال السردية القومية الأفريقية الجامعة. فسيبوء بناء الدولة الوطنية في أفريقيا بالفشل طالما أنكرت تلك السردية مواطنة العرب في أفريقيا وعدتهم مستوطنين ثقلاء.

وجنوسايد زنجبار، الذي دق إسفينا في دولتها ما يزال طريا، فرضته السردية القومية الأفريقية فرضا على الزنجباريين. فلم يكن في برنامج الحزبين الوطنيين المعارضين في زنجبار بقيادة عبيد كرومي (الأفروشيرازي) أو عبد الرحمن بابو (الأمة) خطة لمحو الوجود العربي. وكان صراعهم مع حزب زنجبار الوطني الحاكم والموالي للسلطان (بقيادة علي محسن) حول نتيجة انتخابات حرة تباينت نتيجتها بين فوز الوطني بالمقاعد الأكثر في البرلمان، بينما نالت المعارضة أكثرية أصوات الناخبين في الجملة. وهذا بعض المعلوم بالضرورة في الانتخابات. وهكذا لم تكن زنجبار وقتها مهيأة لأكثر من خصام انتخابي فظ وطويل واحتكاكات عرقية مقدور عليها. ولا أدل على أن ثورة 1964 والمقتلة التي بعدها هي إفراز للقومية الأفريقية الجامعة، لا الدولة الوطنية الأفريقية الزنجبارية، أن كرومي وعبد الرحمن كانا يغطان في نوم عميق حين انفجرت الثورة. فأيقظ الثوار كرومي فجرا وحملوه إلى دار السلام، عاصمة تنجانيقا بحجة حمايته. أما بابو فقد كان لائذا بدار السلام أصلا، فأيقظه السفير الكوبي هناك لينقل له خبر اندلاع ثورة في وطنه.

بثورة 1964 غَلَبت القومية الأفريقية الجامعة على الوطنية الأفريقية الزنجبارية. ولا أعلم من نوه بسخرية القدر الباهظة في ذلك الوضع مثل البروفسير علي المزروعي. فقد وضع أصبعه على ما انطوت عليه ثورة زنجبار من تناقض بين الدولة الوطنية والأفريقية الجامعة، فقائد الثورة، جون أوكيلو، أفريقي، ولكنه ليس زنجبارياً، وقد جاء الجزيرة في 1959 ضمن أفارقة الداخل ممن ظل يجتذبهم سوق العمل في زنجبار. وهكذا أسقط هذا "الأجنبي" في مفهوم الدولة الوطنية سلطاناً من الجيل الرابع في الجزيرة له الولاية على شعب مسلم بصورة كاملة. وعمقت الهوية الإسلامية من غربة قائد هذه الثورة عن الوطن الزنجباري بصورة دراماتيكية. فهو مسيحي تحول عن ديانة أفريقية خالصة فعمَّدته طائفة الكويكرز في أوغندا. وزاد بأن أصطحب عقيدته المسيحية في ثورته ضد العرب المسلمين.، فقد سماه الكويكرز "قيدون" وهو المخلص في دينهم. وتقمص أوكيلو دور المخلص لأفريقي الجزيرة من ظلم العرب. وحكى عن سفره بالباخرة من الساحل الكيني إلى زنجبار وتعرضه لعاصفة كادت تغرقهم. وقال كاتب لمَّاح إنه إنما تمثل في ذلك بسانت بول الذي كادت سفينته تغرق عند جزيرة مالطا.

ولم تستسلم الوطنية الزنجبارية لـ"غزوة" أوكيلو الثورية. وكان أول هم لكرومي بعد تعيينه رئيساً لمجلس قيادة الثورة بواسطة أوكيلو أن تتخلص منه كغريب زنيم. ونجح في مسعاه خلال خمسين يوما. واختبط قائد الثورة الأجنبي (بالمعني الوطني) الآفاق الأفريقية التي جاء منها أول مرة. علاوة على استمرار هذه الوطنية الزنجبارية في التململ من الاتحاد التنزاني المفروض عليها باسم القومية الأفريقية الجامعة وبغير شورى منها. ولهذه الوطنية حزب ما فتئ يدعو لتفكيك الاتحاد.

إن ما ينبغي أن يتوافر عليه العرب في الذكرى المنسية الستين لجنوسايد زنجبار هو تصميم إستراتيجية تضع هذه النكبة في خريطة الشر في العالم. وسيقع في هذه الهمة رد الاعتبار للعرب كمواطنين أفريقيين بمواجهة ذكرى الرق العربي التي يوظفها "التأصيليون" من القومية الأفريقية الجامعة للتنصل عن جنوسايد زنجبار. والحق أن أوكيلو قائد ثورة 1964 جاء إلى قتل العرب بلا وازع من باب مزارات الرق العربي وشحن الضغن الأفريقي بواسطتها على العرب. فكان زار قلعة المسيح بمومباسا بكينيا، قال إن حيطانها التي انحفر فيها تاريخ الرق لتُخجِل كل عربي. وعرض هنري قيتس، الأستاذ بجامعة هارفارد، هذه المزارات كلها قبل سنوات في وثائقيته عن أفريقيا. فعاب عليه زميله جوناثان قلاسمان، الأستاذ بجامعة نورثوسترن الأميركية، تغفيل سدنة هذه النصب له فيروى عنهم أساطير أدلاء السياحة وكأنها حقائق.

وكشف الأستاذان إبراهيم شريف ومحمد المحروقي في ورقة علمية أخيرا التزوير الذي دخل في صناعة تلك النصب. فقالا مثلا إن صناعة السياحة في الرق العربي تأخذ الزائر إلى كنيسة ست مونيكا ليرى قبوا به أغلال صدئة هي بقايا مزعومة للنخاسة العربية. وإذا علمنا أن الكنيسة مما بني في 1905 بعد سنوات طويلة من إلغاء الرق في زنجبار، وقفنا على الخيال الكاذب الذي من وراء تلك الصناعة. ومما يزعج حاليا أن اليونسكو أشهرت مدينة الحجر في زنجبار، وفيها معظم هذه النصب، أثراً عالميا في 2000. وازدهرت تبعا لذلك سياحة التبغيض في العرب. ولاحظ من قرأ الأدب السياحي التنزاني عن الرق خلوه من أي ذكر لثورة 1964 لتفادي ما تثيره من تاريخ للجنوسايد قد يغطي على تاريخ الرق، أو ربما كشف كيل متطرفي القومية الأفريقية الجامعة بمكيالين: الحرص على تسوئة العرب والتستر على سيئتهم هم.


Wednesday, January 10, 2024

القصور السلطانية في زنجبار

القصور السلطانية في زنجبار” (1)

القصور السلطانية في زنجبار (2)

"القصور السلطانية في زنجبار (3).. قصر "بيت المتوني



"القصور السلطانية في زنجبار (4) "استراحة السعادة

 

الذكرى الستين لاستقلال زنجبار

مجلة الواحة العمانية 9 ديسمبر 2023

بقلم: ناصر بن عبدالله الريامي

مؤلف كتاب (زنجبار: شخصيات وأحداث)

بعد كفاح طويل، تكبّده شعب زنجبار، بمختلف أطيافه، لنيل الاستقلال من سلطة الحماية البريطانية، تُوّج ذلك كله بحفلٍ بهيج، شارك في تنظيمه، وفي تكبّد نفقاته، المقتدرين من أفراد المجتمع، قبل الخزينة العامة. كانت الفرحةُ عارمة، ولم يتخيّل أحد أن توالي الأيام ستكون حُبلى بكثيرٍ من الآهات والانكسارات، وأن الفرحة لن تدوم لأكثر من اثنين وثلاثين يومًا. ففي الأيام القليلة السابقة للعاشر من ديسمبر 1963م، وهو اليوم المحدد للاستقلال، شهدت مدينة زنجبار حركة غير طبيعية للقادمين إليها، من مُختلف دول العالم، لمتابعة هذا الحدث التاريخيّ المهم. امتلأت الفنادق القليلة بالسيّاح؛ وازدحمت شوارع المدينة، بمن تطلّع إلى مُشاهدة معالم جزيرة القرنفل؛ وغصَّت أزقّة المدينة الضّيقة بالسيارات، حتى وقفت حركة السير. كلّ هذا ما كان إلاّ لمُتابعة احتفالات البلاد بيوم الاستقلال. شهد مطار زنجبار، في يوم السبت، الموافق 7 ديسمبر 1963م، وصول ثلاث وثلاثون رحلة من رحلات طيران شرق إفريقيا، لنقل الزوّار الرّسميين وغير الرّسميين للدولة؛ كما بلغت، في اليوم الذي تلاه، ثمان وعشرون رحلة من النّاقل نفسه، مُمتلئة بالمُسافرين؛ في الوقت الذي لا يتجاوز عدد الرحلات التي تصل مطار زنجبار، في الأيام العادية، عن رحلتين في اليوم. أغلب كبار الشخصيّات، وصلوا زنجبار في يوم بداية الاحتفال، الاثنين، الموافق 9 ديسمبر، وفقما ورد تفصيلًا في صحيفة ديلي ناشيون (Daily Nation)، الصادرة من نيروبي، بتاريخ 9 ديسمبر 1963م. على رأس هذه الشخصيات، دوق أدنبرة، الأمير فليب، مُمثلًا عن الملكة أليزابيث الثانية؛ والمستر دنكن (Duncan Sandys)، وزير المستعمرات البريطانية؛ ودوق دوفونشاير، اللورد توينينج (Lord Twining)؛ ورئيس مجلس الشعب المصري آنئذٍ، السيد محمد أنور السادات؛ والسيدة أنديرا غاندي؛ والمستر وليام (G. Mennen Williams)، مساعد وزير الدولة الأمريكي للشؤون الإفريقية. ففي حدودِ العاشرةِ من مساءِ يوم التاسعِ من ديسمبر من عام 1963م، بدأت فعاليات حفل استقلال زنجبار عن سلطةِ التاجِ البريطاني، في الحديقة التي عُرفت باسم (Cooper’s Ground) بحضورِ ممثلين عن سبعين دولة، بتلاوةٍ مُباركةٍ من القرآن الكريم، قراءة الشيخ إبراهيم خليل الحُصري – الذي حضر زنجبار مع الوفد المصري؛ ثم ألقى جلالة السُّلطان جمشيد كلمةً مُقتضبةً، ليعقبه رئيس الوزراء، محمد شامتي بكلمة الحكومة؛ وأخيرًا، ألقى الأمير فِليب، دوق أدنبرة، كلمةً بالنيابة عن جلالة الملكة. سلَّم سمو الأمير، عقب ذلك، وثائق الاستقلال إلى جلالة السلطان جمشيد، وفق التفصيل الواردة في صحيفة الأهرام المصرية، الصادرة في يوم 10 ديسمبر 1963م. تميَّز هذا الحفل بحضورٍ مصريٍّ مكثَّف، ناهز عدده المائة شخص. وحسب الإشارة المتقدّمة، ترأس الوفد المصري رئيس مجلس الشعب، وكان في عضويّته المستشار حلمي الشعراوي، من رئاسة الجمهورية. كما شاركت فرقة رضى للفنونِ الشعبية، ومجموعةٌ من الصحافيين والإعلاميين المصريين. الأمر الذي لفت أنظار الوفد الأمريكي – وفقما جاء في كتاب بيترسون (ثورة في زنجبار، 2002)، وأكده لي المستشار حلمي الشعراوي، في لقائي معه بتاريخ 3 فبراير 2004م – هو الاهتمام الزائد للحكومة الزنجبارية بالوفد المصري في المقام الأول، ثم بالوفود العربية الأخرى؛ على حساب الوفود الأجنبية: كالوفد الأمريكي، ووفود الدول الغربية بعامة، والأفريقية بخاصة. ركَّز بيترسون كثيرًا على تصرف الحكومة الزنجبارية تُجاه الوفد المصري؛ مُؤكّدًا، أن ذاك التصرف، أعطى انطباعًا بأن زنجبار تتّجه نحو الإصطفاف في مصاف العالم العربي. هكذا، آن موعد اللحظة التاريخية عندما انتَّصفت ليلةُ العاشرِ من ديسمبر، وفقما ورد في وصف المستشار حلمي الشعراوي، حيث أُطفِئت الكشَّافات، وجميع أضواء ميدانِ الاحتفال، لتبقى أركان الميدان في ظلامٍ دامِس، باستثناء ساريةِ العلم، التي بقِيَت الأضواءُ مُسلَّطة عليها، مُظهرة علم زنجبار التقليدي الأحمر وهو يُنكَّس، ويُرفع محله علم سلطنة زنجبار المستقلة، ذي اللون الأحمر، المُزوَّد بحبتين من القرنفل – ترمزان إلى الجزيرتين الرئيسيتين المكونتين لأرخبيل زنجبار – مطبوعتين على دائرة خضراء اللون، ترمز إلى الأمن والازدهار. عزفت فرقة موسيقى الشرطة بعد ذلك مقطوعات كلاسيكية، من بينها المقطوعة المشهورة “God Save the Queen” أو “فليحفظ الله الملكة”، وفقما جاء في وصف بيترسون. من ناحية العرق الأفريقي، لم تكن هناك فرحة بهذا اليوم، إذ أن خسارة حزبهم، الأفروشيرازي، في الانتخابات التشريعية الأخيرة، لعام 1963م، أفقدتهم الأمل في تشكيل حكومة إفريقية، كما كانوا يأملون؛ وأن فوز ائتلاف الحزب الوطني وحزب الشعب، إنما هو إعلانٌ لقيام حكومةٌ عربية، وفق منظورهم. لذلك، نظرت أغلبية العرق الأفريقي إلى الاستقلال على أنه استقلالٌ غير حقيقيّ؛ أو بالأحرى، أنه استقلالٌ للعرب، ينبغي الإطاحة به في أسرع وقتٍ ممكن. هذا الإحساس لم يكن مكتومًا، وإنما كانوا يهتفون في أماكن عامة عبارة: “إنه استقلال العرب فحسب”، وفقما جاء في كتاب أنتوني كلايتون (ثورة زنجبار وتبعاتها). وكأنّهم بذلك يقولون إنهم خرجوا من الاستعمار البريطاني إلى الاستعمار العربي. والحق أقول، فإن تأثير هذه الفكرة على العرق الأفريقي الزنجباري، كان ضعيفًا للغاية؛ على عكس نظرائهم من دولة تنجانيقا، ومن دول الجوار. لذلك، نجد الأمين العام لحزب (الكانو) في كينيا، فرع نيروبي، سامي ماينا (Sammy Maina)، يُوجّه نداءً إلى الزنجباريين، عبر التصريح الصّحفي الذي أدلى به فور الإطاحة بالحكومة الشرعية، طالبًا منهم أن يجعلوا من يوم 12 يناير، يوم الانقضاض على الشرعية في زنجبار، يومًا تاريخيًّا يُحتفى به كعيدٍ وطنيّ مشروع. موضّحًا ذلك بالقول: إن الاستقلال الذي تحقّق بتاريخ 10 ديسمبر 1963م، كان يومًا مُزيّفًا غير حقيقيّ؛ إذ لم يكُن سوى إيذان بخروج الأمّة الزنجبارية من الاستعمار البريطاني إلى الاستعمار العربي القديم القائم على العبودية، وفقما جاء في صحيفة ديلي نيشون، الصادرة من نيروبي، بتاريخ 15 يناير 1964م، ص 4. وعليه، فإن فرحة الاستقلال العارمة لم تستمر طويلًا؛ إذ سُرعان ما تفتَّتَتْ، وحلَّت محلها الآهات والانكسارات، نتيجة المذبحة البشريةِ الدامية، التي استتبعت الإطاحة بالحكومة الشرعية، من بعض دول الجوار بتاريخ 12 يناير 1964م. لذلك، نؤكد ههنا أنه من الخطأ، جُل الخطأ، أن نشير إلى ذاك الحراك “الأجنبي” الذي أطاح بالشرعية في زنجبار، بقوةٍ أجنبية، وبسلاحٍ أجنبي، إلى كونه ثورة. فلم يكن الأمر كذلك؛ كما أنه لم يكن إنقلابًا، في الوقت عينه؛ وإنما غزو وعدوان خارجي. ولا أرى أن المقام يستدعي إيراد المعنى القانوني لمصطلح “الثورة”، ولا لمصطلح “الإنقلاب”؛ للتدليل على عدم انطباقهما على تلك الأحداث التي أطاحت بالشرعية. ولمزيد من الإيضاح، يمكن الرجوع إلى كتاب (زنجبار: شخصيات وأحداث)، وتحديدًا فصل سقوط زنجبار.

 

رحلة السلطان حمود بن محمد إلى ساحل إفريقيا الشرقي

ندوة رحلات سلاطين البوسعيد بين سلطنتي زنجبار ومسقط وعُمان بجامع السلطان قابوس بصحار ، النادي الثقافي ، 29 نوفمبر 2023


 

العُمانيون في إفريقيا

 د. سليمان المحذوري

جريدة الرؤية 7 مايو2023

بدعوة كريمة من الزملاء في قسم التاريخ بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس الجامعة العريقة- التي أعتزُ أني كنت أحد طلابها في مناسبتين البكالوريوس والماجستير- حضرت ندوة فريدة من نوعها بعنوان "الكتابات التاريخية المعاصرة: رؤى نقدية وتوجهات مستقبلية" تزامنًا مع الاحتفاء بيوم الجامعة.

استعرضت الندوة أوراق عمل مهمة ركّزت على أهمية ربط الماضي بالحاضر، واستشراف المستقبل، وأنّ الكتابة التاريخية المعاصرة خرجت من العباءة التقليدية، ولم تعد تقتصر سردية الحدث باعتباره خبرًا من الماضي، ولابد من اهتمام المؤرخ بالإنسان البسيط والمجتمع بمختلف فئاته كما ذكر د.علي الريامي رئيس قسم التاريخ في معرض كلمته. ومن بين المداخلات العلمية ورقة العمل التي قدمها ياسر الرحبي وحملت عنوان "المهجر العُماني في شرق أفريقيا: الواقع والتحديات ونظرة مستقبلية" وأجد أنّ فكرة الورقة تتماهى مع أهمية الاستفادة من الوجود التاريخي للعُمانيين في منطقة أفريقيا الشرقية.

ومن المعلوم أنّ الصلات العُمانية بالمنطقة تمتد لقرون طويلة حركتها الرياح الموسمية التي تهب في مياه المحيط الهندي- العمق الاستراتيجي لعُمان– خلال موسمين؛ حيث تبحر السفن الشراعية من مختلف الموانئ العُمانية في فصل الصيف محمّلة بالسلع المحلية وتبدأ تجارتها من الصومال شمالًا مرورًا بالموانئ الكينية حتى تصل زنجبار محطتها الرئيسية، وأحيانًا تصل إلى موزمبيق جنوبًا، ثم تعود محملة بالخيرات الإفريقية إلى عُمان في فصل الربيع مع هبوب الرياح الجنوبية الغربية.

هذه العلاقات التاريخية المتجذرة أثمرت مؤثرات حضارية ثقافية واجتماعية بين الجانبين ولا زالت باقية، ويُمكن للزائر ملاحظتها بسهولة سواء في عُمان أو زنجبار. بيد أنّ السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه كيف يُمكن لعُمان استثمار هذا الإرث التاريخي والحضاري في الوقت الحاضر؟ وكيف يُمكن الاهتمام بالإنسان العادي من أصول عُمانية في محيطه الإفريقي؟ وهل يُمكننا الحفاظ على الهوية الثقافية العربية والمكاسب الحضارية في شرق إفريقيا؟

وخلال استضافة كريمة من مجلس الخنجي قدمت محاضرة بتاريخ 18 يونيو 2022 تتعلق بعُمان وإفريقيا الشرقية وآفاقها المستقبلية. وفي مداخلة لي عبر برنامج "صباح الخير يا بلادي" حلقة الثلاثاء 11 أكتوبر 2022، تحدّثت عن العلاقات التاريخية بين عُمان وزنجبار بالتزامن مع زيارة رئيس زنجبار إلى سلطنة عُمان، وتمّ التركيز كذلك على آفاق هذه العلاقات التي لم تنقطع أساسًا.

إجمالًا.. ورغم أنّ هنالك جهود ومشاريع حكومية في الجوانب الثقافية والاقتصادية، وجهود مقدرة لجمعية الاستقامة العالمية في المجالات التعليمية والاجتماعية من أجل الحفاظ على الإرث التاريخي والحضاري؛ إلّا إنني دائمًا أقول وأكرر إنّ عُمان مؤهلة أكثر من غيرها للبناء على تلك الأرضية الصلبة من الصلات الراسخة وما أفرزته من نتائج، وضرورة استثمار هذه القوى الناعمة لحاضر ومستقبل عُمان انطلاقًا من الإجابة عن الأسئلة المطروحة في صدر المقال.

عُمان وزنجبار.. تاريخ عريق ومستقبل واعد

 د. سليمان المحذوري

جريدة الرؤية 12 يونيو 2022

مُنذ القدم والسفن العُمانية تمخر عباب المحيط الهندي طولًا وعرضًا شرقًا وغربًا، ولا يختلف اثنان على أنّ العُمانيين عرفوا وجهتهم الاقتصادية ومنذ زمن مبكر جدًا، وكانت الصحراء حاجزًا تحول دون الولوج إلى داخل الجزيرة العربية؛ فيما كان البحر يفتح ذراعيه على امتداده، لا سيما وأنّ عُمان تمتلك سواحل طويلة تمتد آلاف الكيلومترات على بحري عُمان والعرب.

وكانت الخبرات العُمانية البحرية حاضرة في ترويض مياه المحيط الهندي لفائدتهم وتحقيق مآربهم. حيث وصلت سفنهم إلى الصين شرقًا، وجنوبًا انسابت مع حركة الرياح الموسمية الشمالية الشرقية إلى موانئ الشرق الإفريقي ابتداءً من الصومال مرورًا بكينيا وصولًا إلى زنحبار المحطة الرئيسة للسفن. وبعض السفن تواصل رحلتها إلى جزر القمر ومدغشقر أو جنوب أفريقيا في بعض الأحيان. وبعد مكوث هذه السفن بضعة أشهر في تلك الموانئ، ونجاح عملياتها التجارية تعود في فصل الربيع إلى عُمان مع الرياح الجنوبية الغربية.

وعندما نذكر زنجبار؛ فإننا نستذكر معها بلاد السواحل كما سمّاها العُمانيون، وتستذكر الجزيرة الخضراء ومتوني، وقصر العجائب، وشجرة القرنفل، واللغة السواحلية، ونستذكر حملات الإمامين سلطان بن سيف ونجله قيد الأرض لتحرير ممباسا وزنجبار من القبضة البرتغالية، ونقل السيد سعيد بن سلطان لبلاط ملكه من مسقط إلى زنجبار التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الإمبراطورية العُمانية؛ الأمر الذي أدى إلى نشوء علاقات اجتماعية وثقافية مميزة بين الجانبين ما زالت باقية إلى يومنا هذا.

ومن سنن الله في أرضه التبدل والتحول "وتلك الأيام نداولها بين الناس"؛ حيث غادر آخر سلطان من دولة البوسعيد زنجبار عام 1964 بعد الأحداث المؤسفة والأليمة التي شهدتها الجزيرة الوادعة لأسباب كثيرة لا مجال للخوض فيها في هذا المقال. وبالتالي ليس من الحكمة البكاء على اللبن المسكوب، واجترار الماضي والتغني به فنحن أبناء اليوم. وما يهمنا الآن أنّ هنالك علاقة خاصة جدًا بين عُمان وزنجبار، وعلاقات مصاهرة فحتى اليوم حركة السفر بين الجانبين لم تتوقف، وهنالك أسر عُمانيّة كثيرة جزء منها هنا، وجزء آخر متوزع على بلدان ومناطق إفريقيا الشرقيّة، وعلى وجه الخصوص جمهورية تنزانيا. كما أنّ النسيج الثقافي متشابه إلى حد كبير إن لم يكن متطابقًا في بعض النواحي. وهذا يدعو وبقوة إلى ضرورة البناء على هذا الإرث التاريخي، واستثمار البعد الحضاري بتأسيس شراكة استثنائية بين الجانبين، وفي مختلف المجالات لفائدة الشعبين في كلا البلدين.

وإن كان ثمة فراغ سيسده آخرون بكل تأكيد؛ وعُمان مؤهلة أكثر من غيرها بفضل ما تملكه من أدوات ناعمة؛ لتأسيس شراكات متفردة مع كافة دول شرق إفريقيا بلا استثناء؛ من خلال تمتين الصلات مع هذه الدول بشتى الوسائل، والحضور العُماني القوي، وتفعيل الدبلوماسية الاقتصادية بما يحقق تطلعات سلطنة عُمان الحالية، ورؤيتها المستقبلية.

Saturday, January 6, 2024

ندوة رحلات سلاطين البوسعيد بين سلطنتي زنجبار ومسقط وعمان

 النادي الثقافي ، جامع السلطان قابوس الأكبر 29 نوفمبر 2023