جريدة الوطن:12 يناير 2014م
عبدالله بن حميد الجابري
جلست بجانبها نستعيد الذكريات حلوها قبل مرها عذبها قبل عذابها إنه حديث ذو شجن ،
كلما تذكرت شيئا من أيام الطفولة المرحة بش وجهها ولكن مافتئ إلا والحسرة تشق
طريقها إلى وجنتيها ، إنها أمي الحبيبة التي ولدت وترعرعت في زنجبار الحبيبة ،
زنجبار الحسرة والخراب .
كنت أُنشط ذاكرتها بأسئلتي الكثيرة والمتكررة لأحداث مضى عليها أكثر من نصف قرن وحينما تتذكر أيام الانقلاب ترتعد فرائسها وكأنه وقع الآن ، هنا أتوقف عن الحديث لتواصل هي سرد ما أجادت به ذاكرتها عن تلك الحقبة :
تقول أمي بأنها كانت تسكن في جنة من جنان الأرض كلها خضرة ونظافة ونضارة أينما تلوح بوجهك ترى الخير في كل مكان وكونها فتاة تعودت على الصلابة ـ كعادة العمانيين هناك يعودون أولادهم على الشدة ـ كانت تهوى تسلق الأشجار طوال النهار لأن جدي كان يشجعها على ذلك لتساعده في جني محصول القرنفل ، وذات مرة تشاكست مع أختها الكبرى فطلعت في الشجرة هربا منها لأنها كانت بدينه لاتستطيع صعود الأشجار، وبما أنّ مقاطعة “مويرا” تعتبر أرض زراعية بإمتياز فقد سكنا هناك ولدينا مزرعتان يُزرع فيهما كل ما لذ وطاب من المحاصيل الزراعية وخاصة النارجيل والقرنفل والمانجو والأناناس والاستعفل والفافاي وغيرها من المحاصيل .
ونحن نستعيد هذه الذكريات الجميلة لانستطيع أن نفوت ذكر الاحتفالات والأعياد ، تقول أمي : أنهم كانوا ينتظرون العيد بفارغ الصبر لأنه يحمل في طياته الحلويات والألعاب ففي صباح اليوم الأول من العيد (سواء كان عيد الفطر أو عيد الأضحى) يأكلون “القبولي أو الكبسة” و يتجهون للمصلى لأداء صلاة العيد وما أن تنتهي صلاة العيد تغمرنا السعادة الغامرة لأننا سنذهب إلى العاصمة لشراء الألعاب والحلويات فقد كان في منطقة “نازي موجة ” يضرب سوق شعبي للباعة المتجولين فيه كل ما جاد به التجار من بالونات ودمى وحلويات هذا ناهيك عن الأناشيد والأهازيج الشعبية العمانية ، وبعد جولة التسوق نتجه إلى غرفة قد استقطعها أبي من البيت الذي يملكه بالقرب من العاصمة ـ حيث كان يحتوى على خمس غرف كلها مؤجرة إلا واحدة بها باب خارجي ـ لأخذ قسط من الراحة وبعد ذلك نذهب إلى “مويرا” ، لقد كانت طفولتنا مؤلها البراءة والعفوية والبساطة في كل شئ هناك المرح بجانب الجد واللهو بجانب العمل .
ولكن الحياة لا تستمر على وتيرة واحدة وهذه سنة الله في خلقه ، وهنا أرى الدمع يملأ عينيها يكاد ينسكب من شدة الهول الذي رأته وسمعته عن أحداث الانقلاب وتبعاته والظروف العصيبة والقاسية التي صاحبته توقفت عن الإجابة لأنها وقعت في أزمة نفسية جرّاء ما حصل لهم هناك ، ولكن شغفي لمعرفة الحقيقة جعلني ألح في السؤال ، ماذا حصل لكم في 26 شعبان 1384هـ الموافق 12 يناير 1964م؟
تسرد أمي ما حفر في ذاكرتها وما أرادت أن تخبرنا به ـ وأظن أن ما خفي أعظم ـ : كنا في المنزل كعادتنا نلهو ونلعب مع أقراننا ولاندري ما الذي أحيك علينا من مؤامرات وخبث ومكر ربما لأننا بعيدون عن العاصمة وبحكم سننا الصغير آنذاك ، قبل الانقلاب بيومين أو ثلاثة أيام انتشرت شائعة بأن ستحصل أعمال عنف من قبل بعض الأفارقة ـ وتقصد هنا الحزب الافروشيزاوي ـ قد يصل إلى حد الاعتداء أو القتل مثل ما حصل قبل ثلاث سنوات ـ تقصد الأحداث التي وقعت في عام 1961 إبان الانتخابات البرلمانية والتي من شدتها لجأ أبي وباقي الجيران إلى بيت كبير يسمى ببيت أللمكي في “مويرا ” ـ الذي يعتبر بمثابة الحصن لهم ـ واخذ معه إخوتي وأخواتي على عجل وتركني في البيت لأني كنت طريحة الفراش ومصابة بالحصبة كما قيل لي آنذاك ولكن مروءة أخي الأكبر غير الشقيق أبى إلا أن يحملني على ظهره ـ رغم هزالة جسمه ونحافته ـ إلى بيت اللمكي لينقذني من الغوغائيين وبعد هدوء الأوضاع عدنا إلى بيتنا ولم يسرق منه شئ والحمد لله ـ نرجع لمحور حديثنا عن الانقلاب الذي وقع في ينايرعام 1964 م وبعد انتشار الشائعات لم يدر أبي كونه مزارعا بسيطا أن هذا انقلاب على الحاكم وليس مجرد أحداث شغب وستزول وما إن جن الليل وكنا نستمع إلى الإذاعة عن زحف الانقلابيين صوبنا وبعد سماعنا أصوات إطلاق نار انتابنا شعور بالخوف والهلع لان أحداث مماثلة وقعت قريبا وراح ضحيتها العشرات من الأبرياء لا زالت في الذاكرة ونفكر هل نحن قريبون من الأحداث ؟ ما مدى خطورتها علينا ؟ كانت أسئلة كثيرة تجوب في خاطرنا ، وبعد ما تأكد خبر أحداث العنف والتقتيل بحق العرب والمسلمين تطايرنا من البيت أنا وإخوتي وأخواتي وأمي لننجوبأنفسنا وأخذنا نتيه بين المزارع تارة نتسلق الأشجار وتارة نندس بينها ولكن أبي رفض أن يخرج من البيت ولسان حاله الموت دون المحارم شهادة ، وبعدما اختبأنا بين أشجار المانجو رجعت أمي إلى البيت لتتفقد أبي وإذا بها تقع في أسر الانقلابيين الذين وجدتهم في انتظارها بالبيت وقد اخذوا زوجها إلى المعتقل قبل أن تراه وبعد أن ضربوها وأكالوا لها السب والشتم أخذوها إلى المعتقل هي الأخرى تاركة وراءها أربع بنات وولدين أصغرنا أخي الصغير الذي لم يتجاوز عمره العام الواحد.
واخذ أخي الصغير يبكي يريد أن يرضع من أمه ولا يعلم أين هي لقد اسودت الدنيا في عينينا و احلولكت والوقت يمضي وأمنا لم ترجع بعد لقد تأخرت ماذا نفعل ؟ كيف سنتدبر أمرنا ؟ أكبرنا أختي ابنة الثلاثة عشر ربيعاً و التي تكبرني بسنتين فقط ، وبعد ما فكرنا ملياً أخذت أختي ثمرة مانجو ناضجة جدا وكشطت جزءها المدبب ووضعتها في فم أخي لكي يسكت ولا يكتشف مكاننا بصراخه ، مررت اللحظات كأنها شهور ونحن مختبئون ننتظر أمنا ، ولكن خوفنا جعلني أنا وأخي الأصغر مني مباشرة نتعقب أمي وما إن وصلنا إلى البيت اكتشفنا أننا وقعنا في كمين الانقلابيين ، لم يكونوا من الزنجباريين أو من سكان جزيرة زنجبار عرفناهم من لكنتهم ولهجتهم وبنيته الجسمانية كانوا اقرب إلى البر الكيني وكانوا مدججين بالأسلحة والمسدسات واخذوا يسألوننا عن باقي إخوتنا ونحن ننكر أن لنا إخوة لكيلا يقعوا في الكمين و لكن عامل المزرعة الإفريقي الذي كان يعمل في مزرعتنا ويأكل معنا خاننا حيث كان هو دليل الغوغائيين على ممتلكاتنا وأخذ يخبرهم بأن لنا إخوة وأخوات وبعدما ضربونا وجرجرونا أخذ أحدهم مسدسه ووضعه على عنقي قائلا إن لم تخبرينا عن مكان إخوتك سنقتلك هنا توقف الدم في جسمي ونظرت إلى أخي نظرات الوداع ، لأنني ميتة لا محالة لم ينفع التوسل ولا الاسترجاء ولا التورية ولا البكاء ـ (في هذه اللحظة خنقت أمي العبرة وهى تروي لي هذا الحدث وأوشكت على البكاء وأنا شغوف بمعرفة المزيد) ـ ولكن أخي قال لي باللغة العربية لكيلا يفهمنا الانقلابيون من الأفضل أن نخبرهم بمكان اختبائنا لأنه عاجلا أم آجلا سيجدونهم وأخاف أن يقتلوك ومن الأفضل أن نحيا معا أو نموت معا ، استحسنت فكرة أخي وتبعونا إلى مكان اختبائنا وسألونا عن أخي الصغير من أمه فقالت أختي الكبيرة انه ابني قالوا أنت صغيرة وهذا ليس ابنك ولست ملزمة برعايته فأرادوا أن يضعوه في صندوق السيارة التي ستأخذنا إلى المجهول لكي يتخلصوا منه ومن صراخه ولكن أختي رفضت ذلك بشدة ووضعته بين جنبيها إلى أن نصل لم يسمح لنا أخذ ما تبقى من أغراضنا حتى الملابس وفي الطريق رأينا الناس تضرب وتهان ونحن نرتعد خوفا من المصير المجهول لا ندري ماذا سيفعل بنا ولا ندري ماذا حل بأمنا وأبينا ؟ كأننا نساق إلى الذبح ، ولكي ننجو بأنفسنا أخذنا نردد كلمات مؤيدة لـ”عبيد كارومي” زعيم الانقلاب ، ويبدو أن الفكرة نجحت وبدل أن نعدم أخذونا إلى المعتقل وهو عبارة عن بناية كبيرة أظنها مدرسة يحيط بها سلك شائك وبها حراسة مشددة وخلفها معبد للهندوس يقومون بحرق موتاهم هناك ، وما إن وصلنا قبيل غروب الشمس أخذنا نبحث عن أمنا وبعد عناء وتعب وجدناها تبكي هنا رجعت إلينا روحنا والتقطنا أنفاسنا إنها أمي حية ترزق كأننا ولدنا من جديد امتزج الحزن بالفرح والبكاء بالابتسامة مشاعر مختلطة وأخذت تحضننا وتقبلنا وتضمنا إليها كانت تظن أننا عدمنا ، لقد نجونا والحمد لله ولكن ماذا عن أبي ؟ كيف حاله ؟ هل هو في عداد الموتى ؟ أم مازال حيا يرزق ؟ مرت الأيام والليالي ونحن نلهج بالدعاء لأبي الحنون بالنجاة والسلامة ، مضت ثلاثة أشهر ونحن في المعتقل لا لباس لنا سوى ما تبرعت به الجمعيات الدولية من ملابس مستعملة نستر بها أجسادنا و لاندري عن أبي أي شئ ؟ كنا نسمع أنين المرضى والجرحى ونرى فظائع الانقلاب على أجساد من بقي على قيد الحياة في المعتقل ، ولكل واحد منهم قصة أفظع من الأخرى منهم من ذبح أبواه أمام عينيه وليس له راع يرعاه في المعتقل ومنهم من بقر بطن أمه أمامه وهى حامل ، هذه تعرضت للتعذيب وتلك تعرضت للاغتصاب ، ومنهم مقطع الأوصال ، ما أفظعهم من اناس ليس بهم ذرة رحمة أتوا من براري إفريقيا لا يعرفون أي شئ عن زنجبار يقتلون كل من يلبس الدشداشة والعمامة البيضاء ومن سلم منهم تعرض للتعذيب والاعتقال وكانوا يعتمدون على الوشاة والخونة من أهل الجزيرة ليدلوهم على بيوت العرب والمسلمين ، وبعد مضي أكثر من ثلاثة أشهر استتب الأمر للإنقلابيين وربما رأوا أن كثرة المعتقلين عبء عليهم ولابد من التخلص منهم سواء بالإعدام أو التهجير واخذوا ينادون في المعتقل الخاص بالنساء والأطفال بأن من أراد أن يتعرف على رب أسرته من معتقل الرجال في ساحة ” نازي موجة ” يركب معنا لكي يسهل لهم لم شملهم والبقاء أو الهجرة من زنجبار ذهبت أمي ومعها أختي الكبرى ليبحثوا عن أبي لعله على قيد الحياة ، وبعد أن وصلوا إلى معتقل الرجال أخذوا يبحثون عنه إلى أنه وجدوه وقد أعياه التفكير وشاب رأسه من التعب ومن هول ما رآه واندهش لرؤية أمي وأختي كان يظنهم قد ذبحوا مع البقية ولكنها عناية الله فوق كل شئ ، وبعد أن اطمأنت أمي عليه رجعت إلى المعتقل ولبثنا حوالي شهر وخلال هذا الشهر أخبرنا بأننا مخيرون بين البقاء في زنجبار أو الرحيل إلى عمان ولكن أبي فضل الرحيل والرجوع إلى ارض الأجداد عمان وقبل موعد الرحيل سمح لامي الذهاب إلى المنزل لأخذ ما يمكن أخذه ولكن لم تجد شيئا فالغوغائيون سرقوا كل شئ حتى الساعة انتزعوها من يد أبي ، ركبنا السفينة ونحن خاويي اليدين لانملك سوى تبرعات الجمعيات الخيرية من ملابس ومؤن ، وهنا حان وقت الفراق فارقنا أرضنا التي ترعرعنا وتربينا فيها ولم تطأ قدمنا وطن غيرها قد كان موقف مؤثر فينا جميعا نبكي لفراق أرضنا ونبكي للم شملنا ونبكي لنجاتنا من الموت المحقق ، خرجنا منها ونحن في أزمة نفسية حادة كوننا لازلنا اطفالا ونرى مجازر وهددنا بالموت وتعرضنا للتعذيب والضرب يالها من مواقف قاسية ومؤلمة وفوق كل ذلك هجرنا وطننا ، وبعد أن قضينا أربعين يوما في البحر على سفينة شراعية وصلنا مطرح وكانت شديدة الحرارة والشمس حارقة لم نتعود على هذا الجو من قبل وخرجنا من السفينة حفاة ليس لدينا أحذية ولانعل لقد وجدنا بعض أهلنا بانتظارنا حيث اشتروا لنا ما نحتاجه إلى أن نصل إلى البلد .
عندما أردت أن ازور زنجبار في صيف 2008 أرادت أمي منعي من ذلك خشية على حياتي وأنا كلي شوق لأرى المكان الذي ترعرعت فيه ، ربما لأنها وقعت في أزمة نفسية حادة بسبب ما تعرضت له من نكبة وهى فتاة وتظن أن زنجبار ماالت غير آمنة وكانت تقول “بلاد طردنا منها لا رجعت إليها” وبعد جهد ومفاوضات شاقة وافقت على سفري على أن لا امكث فيها طويلا ، وبعدما رجعت من سفري أتيت بصور عما تبقى من قريتها ” كينجوني” فأخذت الصور وعرضتها على أخواتها لتعيد الذكريات عن أماكن لعبهن وأسماء جاراتهن وحكايات المرح واللعب .
إن المتعقب لأحداث الانقلاب في زنجبار لا يسعه أن يسردها في عجالة أو مقال ولكن هذا غيض من فيض أردت أن الفت نظر القراء إلى مدى معاناة الأسر العربية في تلك المحنة وما خفي فهو أعظم وأشنع منهم من سلخ جلده عن جسمه وهو حي وفظائع أخرى ذكرها الصديق ناصر بن عبدالله الريامي في كتابه المشهور “زنجبار شخصيات وأحداث” وهناك كتاب آخر ثري بالأحداث والأخبار وهو “زنجبار بين الصراع والوئام” للشيخ علي بن محسن البرواني وزير الخارجية في حكومة السلطان جمشيد وقت
كنت أُنشط ذاكرتها بأسئلتي الكثيرة والمتكررة لأحداث مضى عليها أكثر من نصف قرن وحينما تتذكر أيام الانقلاب ترتعد فرائسها وكأنه وقع الآن ، هنا أتوقف عن الحديث لتواصل هي سرد ما أجادت به ذاكرتها عن تلك الحقبة :
تقول أمي بأنها كانت تسكن في جنة من جنان الأرض كلها خضرة ونظافة ونضارة أينما تلوح بوجهك ترى الخير في كل مكان وكونها فتاة تعودت على الصلابة ـ كعادة العمانيين هناك يعودون أولادهم على الشدة ـ كانت تهوى تسلق الأشجار طوال النهار لأن جدي كان يشجعها على ذلك لتساعده في جني محصول القرنفل ، وذات مرة تشاكست مع أختها الكبرى فطلعت في الشجرة هربا منها لأنها كانت بدينه لاتستطيع صعود الأشجار، وبما أنّ مقاطعة “مويرا” تعتبر أرض زراعية بإمتياز فقد سكنا هناك ولدينا مزرعتان يُزرع فيهما كل ما لذ وطاب من المحاصيل الزراعية وخاصة النارجيل والقرنفل والمانجو والأناناس والاستعفل والفافاي وغيرها من المحاصيل .
ونحن نستعيد هذه الذكريات الجميلة لانستطيع أن نفوت ذكر الاحتفالات والأعياد ، تقول أمي : أنهم كانوا ينتظرون العيد بفارغ الصبر لأنه يحمل في طياته الحلويات والألعاب ففي صباح اليوم الأول من العيد (سواء كان عيد الفطر أو عيد الأضحى) يأكلون “القبولي أو الكبسة” و يتجهون للمصلى لأداء صلاة العيد وما أن تنتهي صلاة العيد تغمرنا السعادة الغامرة لأننا سنذهب إلى العاصمة لشراء الألعاب والحلويات فقد كان في منطقة “نازي موجة ” يضرب سوق شعبي للباعة المتجولين فيه كل ما جاد به التجار من بالونات ودمى وحلويات هذا ناهيك عن الأناشيد والأهازيج الشعبية العمانية ، وبعد جولة التسوق نتجه إلى غرفة قد استقطعها أبي من البيت الذي يملكه بالقرب من العاصمة ـ حيث كان يحتوى على خمس غرف كلها مؤجرة إلا واحدة بها باب خارجي ـ لأخذ قسط من الراحة وبعد ذلك نذهب إلى “مويرا” ، لقد كانت طفولتنا مؤلها البراءة والعفوية والبساطة في كل شئ هناك المرح بجانب الجد واللهو بجانب العمل .
ولكن الحياة لا تستمر على وتيرة واحدة وهذه سنة الله في خلقه ، وهنا أرى الدمع يملأ عينيها يكاد ينسكب من شدة الهول الذي رأته وسمعته عن أحداث الانقلاب وتبعاته والظروف العصيبة والقاسية التي صاحبته توقفت عن الإجابة لأنها وقعت في أزمة نفسية جرّاء ما حصل لهم هناك ، ولكن شغفي لمعرفة الحقيقة جعلني ألح في السؤال ، ماذا حصل لكم في 26 شعبان 1384هـ الموافق 12 يناير 1964م؟
تسرد أمي ما حفر في ذاكرتها وما أرادت أن تخبرنا به ـ وأظن أن ما خفي أعظم ـ : كنا في المنزل كعادتنا نلهو ونلعب مع أقراننا ولاندري ما الذي أحيك علينا من مؤامرات وخبث ومكر ربما لأننا بعيدون عن العاصمة وبحكم سننا الصغير آنذاك ، قبل الانقلاب بيومين أو ثلاثة أيام انتشرت شائعة بأن ستحصل أعمال عنف من قبل بعض الأفارقة ـ وتقصد هنا الحزب الافروشيزاوي ـ قد يصل إلى حد الاعتداء أو القتل مثل ما حصل قبل ثلاث سنوات ـ تقصد الأحداث التي وقعت في عام 1961 إبان الانتخابات البرلمانية والتي من شدتها لجأ أبي وباقي الجيران إلى بيت كبير يسمى ببيت أللمكي في “مويرا ” ـ الذي يعتبر بمثابة الحصن لهم ـ واخذ معه إخوتي وأخواتي على عجل وتركني في البيت لأني كنت طريحة الفراش ومصابة بالحصبة كما قيل لي آنذاك ولكن مروءة أخي الأكبر غير الشقيق أبى إلا أن يحملني على ظهره ـ رغم هزالة جسمه ونحافته ـ إلى بيت اللمكي لينقذني من الغوغائيين وبعد هدوء الأوضاع عدنا إلى بيتنا ولم يسرق منه شئ والحمد لله ـ نرجع لمحور حديثنا عن الانقلاب الذي وقع في ينايرعام 1964 م وبعد انتشار الشائعات لم يدر أبي كونه مزارعا بسيطا أن هذا انقلاب على الحاكم وليس مجرد أحداث شغب وستزول وما إن جن الليل وكنا نستمع إلى الإذاعة عن زحف الانقلابيين صوبنا وبعد سماعنا أصوات إطلاق نار انتابنا شعور بالخوف والهلع لان أحداث مماثلة وقعت قريبا وراح ضحيتها العشرات من الأبرياء لا زالت في الذاكرة ونفكر هل نحن قريبون من الأحداث ؟ ما مدى خطورتها علينا ؟ كانت أسئلة كثيرة تجوب في خاطرنا ، وبعد ما تأكد خبر أحداث العنف والتقتيل بحق العرب والمسلمين تطايرنا من البيت أنا وإخوتي وأخواتي وأمي لننجوبأنفسنا وأخذنا نتيه بين المزارع تارة نتسلق الأشجار وتارة نندس بينها ولكن أبي رفض أن يخرج من البيت ولسان حاله الموت دون المحارم شهادة ، وبعدما اختبأنا بين أشجار المانجو رجعت أمي إلى البيت لتتفقد أبي وإذا بها تقع في أسر الانقلابيين الذين وجدتهم في انتظارها بالبيت وقد اخذوا زوجها إلى المعتقل قبل أن تراه وبعد أن ضربوها وأكالوا لها السب والشتم أخذوها إلى المعتقل هي الأخرى تاركة وراءها أربع بنات وولدين أصغرنا أخي الصغير الذي لم يتجاوز عمره العام الواحد.
واخذ أخي الصغير يبكي يريد أن يرضع من أمه ولا يعلم أين هي لقد اسودت الدنيا في عينينا و احلولكت والوقت يمضي وأمنا لم ترجع بعد لقد تأخرت ماذا نفعل ؟ كيف سنتدبر أمرنا ؟ أكبرنا أختي ابنة الثلاثة عشر ربيعاً و التي تكبرني بسنتين فقط ، وبعد ما فكرنا ملياً أخذت أختي ثمرة مانجو ناضجة جدا وكشطت جزءها المدبب ووضعتها في فم أخي لكي يسكت ولا يكتشف مكاننا بصراخه ، مررت اللحظات كأنها شهور ونحن مختبئون ننتظر أمنا ، ولكن خوفنا جعلني أنا وأخي الأصغر مني مباشرة نتعقب أمي وما إن وصلنا إلى البيت اكتشفنا أننا وقعنا في كمين الانقلابيين ، لم يكونوا من الزنجباريين أو من سكان جزيرة زنجبار عرفناهم من لكنتهم ولهجتهم وبنيته الجسمانية كانوا اقرب إلى البر الكيني وكانوا مدججين بالأسلحة والمسدسات واخذوا يسألوننا عن باقي إخوتنا ونحن ننكر أن لنا إخوة لكيلا يقعوا في الكمين و لكن عامل المزرعة الإفريقي الذي كان يعمل في مزرعتنا ويأكل معنا خاننا حيث كان هو دليل الغوغائيين على ممتلكاتنا وأخذ يخبرهم بأن لنا إخوة وأخوات وبعدما ضربونا وجرجرونا أخذ أحدهم مسدسه ووضعه على عنقي قائلا إن لم تخبرينا عن مكان إخوتك سنقتلك هنا توقف الدم في جسمي ونظرت إلى أخي نظرات الوداع ، لأنني ميتة لا محالة لم ينفع التوسل ولا الاسترجاء ولا التورية ولا البكاء ـ (في هذه اللحظة خنقت أمي العبرة وهى تروي لي هذا الحدث وأوشكت على البكاء وأنا شغوف بمعرفة المزيد) ـ ولكن أخي قال لي باللغة العربية لكيلا يفهمنا الانقلابيون من الأفضل أن نخبرهم بمكان اختبائنا لأنه عاجلا أم آجلا سيجدونهم وأخاف أن يقتلوك ومن الأفضل أن نحيا معا أو نموت معا ، استحسنت فكرة أخي وتبعونا إلى مكان اختبائنا وسألونا عن أخي الصغير من أمه فقالت أختي الكبيرة انه ابني قالوا أنت صغيرة وهذا ليس ابنك ولست ملزمة برعايته فأرادوا أن يضعوه في صندوق السيارة التي ستأخذنا إلى المجهول لكي يتخلصوا منه ومن صراخه ولكن أختي رفضت ذلك بشدة ووضعته بين جنبيها إلى أن نصل لم يسمح لنا أخذ ما تبقى من أغراضنا حتى الملابس وفي الطريق رأينا الناس تضرب وتهان ونحن نرتعد خوفا من المصير المجهول لا ندري ماذا سيفعل بنا ولا ندري ماذا حل بأمنا وأبينا ؟ كأننا نساق إلى الذبح ، ولكي ننجو بأنفسنا أخذنا نردد كلمات مؤيدة لـ”عبيد كارومي” زعيم الانقلاب ، ويبدو أن الفكرة نجحت وبدل أن نعدم أخذونا إلى المعتقل وهو عبارة عن بناية كبيرة أظنها مدرسة يحيط بها سلك شائك وبها حراسة مشددة وخلفها معبد للهندوس يقومون بحرق موتاهم هناك ، وما إن وصلنا قبيل غروب الشمس أخذنا نبحث عن أمنا وبعد عناء وتعب وجدناها تبكي هنا رجعت إلينا روحنا والتقطنا أنفاسنا إنها أمي حية ترزق كأننا ولدنا من جديد امتزج الحزن بالفرح والبكاء بالابتسامة مشاعر مختلطة وأخذت تحضننا وتقبلنا وتضمنا إليها كانت تظن أننا عدمنا ، لقد نجونا والحمد لله ولكن ماذا عن أبي ؟ كيف حاله ؟ هل هو في عداد الموتى ؟ أم مازال حيا يرزق ؟ مرت الأيام والليالي ونحن نلهج بالدعاء لأبي الحنون بالنجاة والسلامة ، مضت ثلاثة أشهر ونحن في المعتقل لا لباس لنا سوى ما تبرعت به الجمعيات الدولية من ملابس مستعملة نستر بها أجسادنا و لاندري عن أبي أي شئ ؟ كنا نسمع أنين المرضى والجرحى ونرى فظائع الانقلاب على أجساد من بقي على قيد الحياة في المعتقل ، ولكل واحد منهم قصة أفظع من الأخرى منهم من ذبح أبواه أمام عينيه وليس له راع يرعاه في المعتقل ومنهم من بقر بطن أمه أمامه وهى حامل ، هذه تعرضت للتعذيب وتلك تعرضت للاغتصاب ، ومنهم مقطع الأوصال ، ما أفظعهم من اناس ليس بهم ذرة رحمة أتوا من براري إفريقيا لا يعرفون أي شئ عن زنجبار يقتلون كل من يلبس الدشداشة والعمامة البيضاء ومن سلم منهم تعرض للتعذيب والاعتقال وكانوا يعتمدون على الوشاة والخونة من أهل الجزيرة ليدلوهم على بيوت العرب والمسلمين ، وبعد مضي أكثر من ثلاثة أشهر استتب الأمر للإنقلابيين وربما رأوا أن كثرة المعتقلين عبء عليهم ولابد من التخلص منهم سواء بالإعدام أو التهجير واخذوا ينادون في المعتقل الخاص بالنساء والأطفال بأن من أراد أن يتعرف على رب أسرته من معتقل الرجال في ساحة ” نازي موجة ” يركب معنا لكي يسهل لهم لم شملهم والبقاء أو الهجرة من زنجبار ذهبت أمي ومعها أختي الكبرى ليبحثوا عن أبي لعله على قيد الحياة ، وبعد أن وصلوا إلى معتقل الرجال أخذوا يبحثون عنه إلى أنه وجدوه وقد أعياه التفكير وشاب رأسه من التعب ومن هول ما رآه واندهش لرؤية أمي وأختي كان يظنهم قد ذبحوا مع البقية ولكنها عناية الله فوق كل شئ ، وبعد أن اطمأنت أمي عليه رجعت إلى المعتقل ولبثنا حوالي شهر وخلال هذا الشهر أخبرنا بأننا مخيرون بين البقاء في زنجبار أو الرحيل إلى عمان ولكن أبي فضل الرحيل والرجوع إلى ارض الأجداد عمان وقبل موعد الرحيل سمح لامي الذهاب إلى المنزل لأخذ ما يمكن أخذه ولكن لم تجد شيئا فالغوغائيون سرقوا كل شئ حتى الساعة انتزعوها من يد أبي ، ركبنا السفينة ونحن خاويي اليدين لانملك سوى تبرعات الجمعيات الخيرية من ملابس ومؤن ، وهنا حان وقت الفراق فارقنا أرضنا التي ترعرعنا وتربينا فيها ولم تطأ قدمنا وطن غيرها قد كان موقف مؤثر فينا جميعا نبكي لفراق أرضنا ونبكي للم شملنا ونبكي لنجاتنا من الموت المحقق ، خرجنا منها ونحن في أزمة نفسية حادة كوننا لازلنا اطفالا ونرى مجازر وهددنا بالموت وتعرضنا للتعذيب والضرب يالها من مواقف قاسية ومؤلمة وفوق كل ذلك هجرنا وطننا ، وبعد أن قضينا أربعين يوما في البحر على سفينة شراعية وصلنا مطرح وكانت شديدة الحرارة والشمس حارقة لم نتعود على هذا الجو من قبل وخرجنا من السفينة حفاة ليس لدينا أحذية ولانعل لقد وجدنا بعض أهلنا بانتظارنا حيث اشتروا لنا ما نحتاجه إلى أن نصل إلى البلد .
عندما أردت أن ازور زنجبار في صيف 2008 أرادت أمي منعي من ذلك خشية على حياتي وأنا كلي شوق لأرى المكان الذي ترعرعت فيه ، ربما لأنها وقعت في أزمة نفسية حادة بسبب ما تعرضت له من نكبة وهى فتاة وتظن أن زنجبار ماالت غير آمنة وكانت تقول “بلاد طردنا منها لا رجعت إليها” وبعد جهد ومفاوضات شاقة وافقت على سفري على أن لا امكث فيها طويلا ، وبعدما رجعت من سفري أتيت بصور عما تبقى من قريتها ” كينجوني” فأخذت الصور وعرضتها على أخواتها لتعيد الذكريات عن أماكن لعبهن وأسماء جاراتهن وحكايات المرح واللعب .
إن المتعقب لأحداث الانقلاب في زنجبار لا يسعه أن يسردها في عجالة أو مقال ولكن هذا غيض من فيض أردت أن الفت نظر القراء إلى مدى معاناة الأسر العربية في تلك المحنة وما خفي فهو أعظم وأشنع منهم من سلخ جلده عن جسمه وهو حي وفظائع أخرى ذكرها الصديق ناصر بن عبدالله الريامي في كتابه المشهور “زنجبار شخصيات وأحداث” وهناك كتاب آخر ثري بالأحداث والأخبار وهو “زنجبار بين الصراع والوئام” للشيخ علي بن محسن البرواني وزير الخارجية في حكومة السلطان جمشيد وقت
No comments:
Post a Comment