Saturday, September 3, 2016

العمانيون في ماليندي : كفاح من أجل الحفاظ على الهوية

أحمد بن مبارك النوفلي
مجلة الفلق الالكترونية
15/7/2012
ملاحظةتم نشر هذا المقال في جريدة عمان بملحق شرفات، بتاريخ 28 ذو الحجة 1433هـ/ 13/11/2012م، ويعاد نشره هنا لإضافة الهوامش، وتعديل بعض العبارات.
فكرة السفر لم تكن واردة في جدولي لهذا العام ولكن صديقاً اسمه سعود بن خليفة السعدي طرح علي الفكرة ثم شرع يحثني ويشجعني عليها حتى استقرت في بالي، وبعد تفكير مني وإلحاح منه اخترنا السفر إلى هذا البلد الذي أكتب لكم منه الآن.
أكتب لكم من هنا من داخل أحد الثغور الماليندية الكينية وبالضبط من مدينة ماليندي من قرية بوماني من الغرفة الملحقة بالمسجد الصغير، حيث الساعة متأخرة في إحدى الليالي الباردة لشهر شعبان من عام 1433هـ موافق 2012م.
ولم تكن هذه أول مرة أسافر فيها إلى هذه البلدة فقد زرتها عام 2009، ثم زرتها في العام الذي بعده، وكانت مدة الزيارة في هذين العامين تتراوح بين الشهر والشهر والنصف، أما هذه السنة فكانت الزيارة أقصر مدة منهما فقد بقينا في كينيا عشرة أيام فقط .
في كل مرة أزور فيها ماليندي أود أن أكتب لكم عنها وعن العمانيين فيها، خاصة حينما يخالجني هذا الشعور العاطفي نحو ما أراه من معاناتهم في الحفاظ على الهوية العمانية.
حينما جثم الليل وسجى، وهجع الأنام ورقدوا، تصارعت في قلبي الأفكار والعواطف لتخرج من مكمنها، فأيقظتني من فراشي، وقادتني إلى حاسوبي، حينها حاولت أن ألملم المواقف التي هيجت أفكاري ودغدغت عواطفي حتى شارفت الدموع على السقوط بسبب سلوى الحزن وألم الحسرة وهمّ الندم وهدهدة الرحمة والشفقة وعاطفة الود والإخاء، في هذه اللحظة الموجعة زفر قلمي بهذه السطور المفعمة بصدق الهتاف والتعبير.
البوسعيدي والبوعلي والنحوي والخصيبي والبداعي والصقري والزكواني والدرمكي وغيرها هي قبائل الأسر العمانية القاطنة في محافظة ماليندي الساحلية الكينية، يمزجها تماسك اللحم والدم، والدين والمذهب، والهوية والتاريخ.
عايشتُ هذه الصفوة الطاهرة هناك، في كل مرة أشعر بقوة صبرهم وتحملهم لضروب المعيشة وقساوتها عليهم، أود البكاء غير أن المانع هو ما أراه فيهم من صدق المودة والمحبة، وأدب التسامح والألفة، وطيب الأخلاق ورقيها، وصفاء القلوب وإخلاصها، وتكاتف الأيدي وبرّها.
أجل يعاركون الحياة هناك، من أجل لقمة العيش والحفاظ على الهوية العمانية والدين، فسعود بن محمد البوسعيدي رجل كبير في السن (شيبة)من ذوي الأصول العمانية في ماليندي، يعيش في بيت بإيجار، يملك مصنع حلوى، وسمى هذا المحل بالحلوى الأصلية، وتنطق باللغة السواحلية (هلوى أسلي)، لا يجد تلك الفائدة المرجوة من المحل، إلا أن اعتزازه بتراثه وهويته العمانية في الشرق الأفريقي هو الذي جعله متمسكاً به، لا ينظر إلى المادة بل ينظر إلى المعنى والرسالة.
وهذا الشاب منصور بن حمود البوعلي، يملك مطعماً في سوق ماليندي، أطلق عليه تجارياً مطعم جبرين، هو لم ير جبرين العمانية ولم تصل إليه صورتها، لكنه يعلم أن هناك في بلاده التي لم يرها قط بلدة اسمها جبرين وفيها حصن جميل ورائع يسمى حصن جبرين، فعشق الاسم والمسمى، لا لشئ إلا لأنه يعبر عن معلم عماني ضارب في التاريخي والقدم.
وهناك الكثير من الأمثلة يصنعها ذوو الأصول العمانية في كينيا من أجل الحفاظ على الهوية.
أما من حيث اللغة والتعليم، فلا يزالون يحافظون على لغتهم العربية، لكن هذا الحفاظ يتفاوت فيما بينهم، فمنهم من يتحدثها بطلاقة، ومنهم من يتحدثها بصورة أقل، ومنهم من يعرف معظم مصطلحاتها، ومنهم من يعرف بعضها، إلا أنهم جميعا متساوون في غيرتهم عليها غيرة الرجل على زوجته.
تلك الفئة ذات الأصول العمانية سعت بجهود متكاتفة لبناء مدرسة لتعليم أبنائهم، وسمتها مدرسة التوفيق، أملاً منهم وتفاؤلاً في توفيق الله لهم إلى تحقيق أهداف التعليم نحو اللغة العربية والدين، دخلتُ المدرسة وفي صحبتي سعود السعدي، حينما رأى سعود اجتهاد الطلبة وكفاحهم في تعلم اللغة العربية كادت أن تذرف من عينيه دمعة، عبر لي عن هذا الشعور بقوله: (كدت أن أخرج من المدرسة لأبكي مما رأيت ثم أرجع).
هل تكفي هذه السطور البسيطة لأعبر عن هذه المدرسة وروحها العمانية الخالصة؟ لقد تفاجأت عندما وجدت أن المنهج الدراسي لها هو نفس المنهج الدراسي والكتب الدراسية التي رأيتها في المدارس العمانية، كيف استطاعوا الوصول إلى هذه الكتب وهذه المناهج، كم من الجهد وكم من التضحيات وكم من الأموال بذلت حتى يحصلوا على بعض النسخ من هذه الكتب .
أجل المدرسة وجوها العماني لا تكفيها هذه السطور البسيطة، ولو لم يكن إلا المنهج المعتمد عليه في التدريس لكفى، فهو منهج المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية في سلطنة عمان، وفي كل عام يبحثون عنه هنا وهناك بحث المهندس الأثري في الآثار، عبر أهل الخير والإحسان.
لا يرتدون في المدرسة إلا الزي العماني، الدشداشة والكمة للطلبة الذكور والمعلمين، وأما الطالبات والمعلمات فالجلبية والليسو والوقاية والستر هو زيهن الرسمي لهذه المدرسة.
حضرنا الحفل الختامي السنوي للمدرسة لتكريم الطلبة والمعلمين آنذاك، رأينا معظم الطلبة والمعلمين والحضور يرتدون الزي العماني، وقد علق الطلبة والمعلمون على صدورهم شعار علم سلطنة عمان على شكل وردة وفي وسطه صورة السلطان قابوس .
هذا المشهد أثر فيَّ إعجاباً ودهشاً، وفرحاً وحزناً، وألماً وتوجعاً، كادت تذرف دموع عيني لولا أن أمسكتها وأبقيتها في مقلتيها محبوسة، لئلا يشعر أحد بي في وسط الحضور.
صلينا مع الجماعة في المسجدين المعروفين في ماليندي الأول بالمسجد الإباضي الكبير، والثاني بالمسجد الإباضي الصغير، يصلون صلاتهم على المذهب الإباضي، ويفقهون أبناءهم في المسجد والمدرسة على الفقه الإباضي وعمدتهم في الصلاة بعد القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب تلقين الصبيان للسالمي.
رأينا بعد صلاة المغرب أبناءهم يتعلمون صلاة الجماعة بطريقة الصلاة الجهرية، بحيث يتقدم كل يوم أحد الأبناء بالدور ليصلي بزملائه صلاة الجماعة جهراً فيجهر بالنية والتوجيه والتكبير والفاتحة والسورة وتكبيرات الانتقال وتسبيح الركوع وتسبيح السجود والتحيات والسلام من الصلاة، والمأمومون من الأطفال يرددون خلفه جهراً كل الصلاة، اللهم إلا الفاتحة والسورة، وإنما الإمام وحده يقرأهما جهراً، وهم يقرؤون الفاتحة سراً والسورة يستمعون إليها، ثم يسلمون جميعاً خلفه جهراً.
أعجبتني هذه الطريقة كثيراً، كما أنها أدهشت صديقي سعود إعجاباً واستغراباً، وبتلك التلاوة العطرة المجودة وبصوت جهوري من الإمام الذي صلى بزملائه الطلاب محمد بن يوسف بن ماجد البوسعيدي، فقام له سعود متأثراً بعد الصلاة وانحنى له انحناء الأم على طفلها وقبله من رأسه وحياه، وكادت عيناه تذرفان الدموع فرحاً وآسى.
بناء المسجدين مازالا محافظين على التراث العماني مع الأصالة والقدم، بل يرفضون دخول الحداثة فيه، فهما مسجدان بلا فرشة حديثة بل فرشوا فيهما بساط من السعف، ودون مكبر صوت، هنا أن لم يتدارك العمانيون في عمان لمساعدتهم وتنوريهم فكراً فسوف يذوبون في معارك الحضارة وحينها يتلاشى كل شي.
في المسجد الكبير وجدنا بعض أجزاء كتاب قاموس الشريعة(1بطبعته الزنجبارية القديمة مصفوفاً على الأرفف، مع غيره من الكتب المطبوعة قديماً.
يرفض الآباء أن يصلوا صلاة الجمعة، تمسكاً بأحد الآراء في المدرسة الإباضية بأنها لا تجب إلا في الأمصار السبعة(2).
متمسكين بمعظم العادات والتقاليد العمانية، في زي الملابس، رجالاً ونساء، تحدثت ذات مرة مع طالب صغير عمره ثلاث عشرة سنة فقلت لهلماذا حينما تلعب تلبس السروال والقميص، وحينما تصلي تلبس الدشداشة؟
قالهذا لباسنا العماني.
فقلت لهحسناً هل تستطيع أن تأتي المسجد وأنت مرتدي السروال والقميص؟
قاللا.
فبادرتهلماذا؟
قاللأن أبي سيضربني.
تبين لي من هذا الحوار البسيط القصير مدى تمسكهم بالعادات والتقاليد العمانية لحد التعصب، إنها غيرة الحفاظ على الهوية.
ومن العادات العمانية والعربية المتمسكين بها إكرام الضيف، لقد وجدنا إكراماً عظيماً محفوفاً بالفرح والمسرات، من الكبار والصغار، ولولا خوف الإطالة على القارئ لسردت عشرات المواقف في ذلك بيد أني أقتصر ها هنا على موقفين:
الموقف الأول: عند وصولنا مطار ممباسة استقبلنا سعود البوسعيدي وابنه سميح، وأخذا بناء إلى الفندق الذي استأجرناه في ممباسة ولما أردنا أن ندفع القيمة وجدناها مدفوعة عنا، وبعد حوار طويل مع سعود البوسعيدي أخبرنا بأنه لم يدفع هو بل الجالية العمانية في ماليندي هي التي تعاونت على ذلك.
الموقف الثاني: حينما وصلنا ماليندي الساعة التاسعة صباح يوم الثلاثاء، وفي صحبتنا سعود البوسعيدي أنزلنا بيته، وقدم لنا الإفطار مباشرة، ثم خيّرنا في السكنى في غرفة خاصة في بيته اعتدتُ السكنى فيها في العاميين الماضيين، أم في غرفة في المسجد هُيئت لنا، فاخترنا غرفة المسجد، والتي أعدت بسريرين نظيفين وزولية وطاولة وكرسي ومبخرة باللبان، وأُعدت بطريقة جميلة جذابة مريحة.
ثم بعد صلاة الظهر قالوا لنابأن الغداء في مدرسة التوفيق، فذهبنا وإذا بوليمة وصنوف من الطعام المتنوعة أعدت لنا، مع حضور مجموعة منهم من الكبار والشباب، وقالوا لناهذا أعددناه لكم فرحاً بقدومكم إلينا.
هذان الموقفان وغيرهما لم يشعرانا بالغربة بل شعرنا حينها بأننا بين أهلنا وآبائنا وإخواننا وأبنائنا، لقد عبر سعود السعدي عن ذلك بقوله ليلقد شعرت بالراحة والاطمئنان في هذا المكان وكأني في عمان.
حين التأمل والوقوف عند الأسماء تجدها متمسكة بالمسميات العمانية ذكوراً وإناثاً، فمن أمثلة أسماء الذكور:
سعود، وسالم وسيف وراشد، وحميد، وثاني، وسعيد، وغريب، وعبدالله، وناصر، وعيسى، وأحمد وإسماعيل، ومحمد، وحمود، وعلي، وقيس، ويوسف، ولقمان، ويحيى، وغيرهم الكثير وكلها أسماء عمانية بحتة.
ومن أسماء الإناث، نصرى، وعائشة، وخديجة، ووحيدة، ومريم، وراية، وجوخة، وصفية، وزينب، وحميدة، وميمونة.
بعد هذا الطواف في ماليندي بين ذوي الأصول العمانية، أقولأفعالهم وصورهم الحسنة، سلوكهم وأخلاقهم الراقية، تعلميهم ومعيشتهم المكافحة، كلها تنطق بصوت واحد نحن مازلنا عمانيين، عاش آباؤنا قديماً هنا فأحيوا البلاد والعباد بلا تنازل عن الهوية وعلى طريقهم نسير يأبى من يأبى ويرضى من يرضى، لا يرجعنا عن الهوية الإسلامية والعمانية شئ إلا الحتوف.
إنهم بهذه المعاني السامية وبهذه الحياة المكافحة يؤرخون عصرهم الحاضر في كينيا، وفي الآن نفسه يؤرخون عصر عمان اتجاههم خارج وطنهم الأصلي. 
1 قاموس الشريعة من تأليف جميل بن خميس السعدي، من قرية القرط بولاية المصنعة، يقع الكتاب في 92 جزءاً، الموجود في ماليندي، 21 جزءاً، وطبعت منه حالياً وزارة التراث والثقافة العمانية 21 جزءاً.
2 انظر: أبا الحسن علي بن محمد البسيوي، جامع أبي الحسن البسيوي، ج2، 1092، دراسة وتحقيق الحاج سليمان بابزيز وداود بابزيز.
ويحتج أهل ماليندي من ذوي الأصول العمانية أيضاً بأن الحاكم والدولة لا تنضويان تحت لواء الإسلام.

No comments:

Post a Comment