Thursday, September 3, 2015

جزر القمر بين الحضارة والحاضر.. وتأثير عماني يصارع متغيرات الزمان

محمد بن سليمان الحضرمي
جريدة عمان

منذ الدقائق الأولى التي نزلنا فيها جزر القمر، في النصف الأول من شهر يونيو الماضي، شعرنا فيها أننا بين أهلنا، وفي أرض تنتمي إلينا، وكان التأثير العماني ماثلا أمامنا، فنحن الآن في جزر القمر، الجزر الجميلة التي أصبحت من الجزر المعدودة بجمالها، واخضرار ساحاتها، وطيب شعبها، والذي يفخر بأصوله العمانية، مثلما يفخر بانتمائيه الإفريقي لهذه الجزر، التي تعرف اليوم بجمهورية جزر القمر المتحدة، وهي دولة مكونة من جزر تقع في المحيط الهندي، على مقربة من الساحل الشرقي لإفريقيا، وعلى النهاية الشمالية لموزمبيق، بين شمالي مدغشقر وشمال شرق موزمبيق.
في تلك الدقائق لاح لنا جمال الجزر في عيون أهاليها، فالبساطة التي يتسمون بها وحفاوة الترحاب، له تماس قوي مع الثقافة العمانية بلا شك، ناهيكم عن اللباس الذي شعرنا وكأننا في قرية من قرى عُمان، وليس في جزر تقع في عمق المحيط الهندي، كانت الدشداشة العمانية، والعمامة السعيدية والخنجر هي لباس المواطن القمري، ومن هذا المشهد لاح في ذهني تاريخ طويل من العلاقات بين عُمان وجزر القمر، أمجاد عريقة نراها تلوح في كل شيء، وتاريخ ينضح من الوجوه، ويشرق في مرايا العيون، وتلفظ الشفاه جملا رقيقة، وتجلى كثيرا في أكثر من استقبال شعبي، والذي امتد من المطار إلى كل الدروب التي سلكناها في الجزر، فنحن أحفاد العمانيين الذين سكنوا هذه الجزر قبل عقود وقرون من السنين، وفي كل مدينة من المدن الواقعة في إحدى جزر القمر، كان القمريون يستقبلوننا بابتهاج ومحبة، كمن يستقبل أهله الغائبين عنه زمنا طويلا، وذلك يدل على أن العلاقة بين الدولتين والشعبين لم تكن مجرد جمل تتناثر في كتب التاريخ، بل هي واقع وحقيقة معاشة، واقع يفخر به الانسان القمري المقيم في الجزر قبلنا، وتجلّى تأثير الحضارة العمانية على شعب جزر القمر في شكل المعمار، وبعض العادات التي تظهر في الأفراح والمناسبات، وغنائياتهم وأهازيجهم، وكثير من العادات لها أصول عمانية، وكانت مفاجأتنا أكثر حين عرفنا أن القبائل العمانية ما تزال تتسمى باسمها، رغم محاولة الاستعمار طمس الهوية العربية عنها.
صراع الاستعمار على هوية الجزر
تعد جزر القمر ثالث أصغر دولة إفريقية من حيث المساحة، وسادس أصغر دولة إفريقية من حيث العدد، وأقصى دولة جنوبية في جامعة الدول العربية، تتألف حاليا من ثلاث جزر، تقع في أرخبيل بركاني وهي: (إنجازيجيا)، وتسمى الجزيرة الكبرى، وفيها العاصمة “موروني”، و”موهيلي”، و”هنزوان” أما الجزيرة الرابعة فهي “مايوت”، لكنها اليوم مستعمرة فرنسية، ويرجع ذلك إلى أن هذه الجزيرة كانت الوحيدة التي صوتت ضد الاستقلال عن فرنسا، واستخدمت فرنسا حق الفيتو، وأبدت اعتراضها على قرارات مجلس الأمن، التابع لمنظمة الأمم المتحدة، التي تؤكد سيادة جزر القمر على الجزيرة، وقوبل الاستفتاء الذي تم في التاسع والعشرين من مارس عام 2009، حول أن تصبح الجزيرة جزءا من الوطن الفرنسي في عام 2011 باحتفاء غامر.
من جانب آخر يتميز هذا الأرخبيل البحري بالتنوع الثقافي والتاريخي، وللاتحاد القمري ثلاث لغات هي اللغة القمرية، وتأتي في المرتبة الأولى، ثم تأتي العربية والفرنسية، على تفاوت بينهما، ولكن العربية آخذة في النمو كثيرا، بسبب افتتاح الكثير من المعاهد التي تعلم العربية، ودور التعريب الكبير الذي تمارسه بعض المؤسسات والجمعيات الأهلية في المجتمع القمري، وبلا شك فإن الأعوام القادمة ستشهد اللغة العربية نموا كبيرا في الوسط الثقافي بجزر القمر، بسبب إقبالهم على التعليم، وحبهم الكبير للتعريب، وشعورهم أن العربية هي الأصل والجذور ولغة الأجداد.
جذور التأثير العماني على جزر القمر
بلا شك ان للعمانيين تأثير كبير، كما ذكرت سلفا، وهو تأثير عريق وعميق، يبدأ منذ إطلاق التسمية على هذه الجزر، وفي هذا الشأن يقول الدكتور حامد كرهيلا في كتابه “العلاقات التاريخية بين الدولة البوسعيدية وجزر القمر” نقلا  عن الباحث محمد بن ناصر العبودي، أن سبب تسمية “جزر القمر” بدأت عندما كان جماعة من العرب تائهين بسفنهم في خضم البحر, فإذا بهم يرون جزيرة “هنزوان” وقد انعكس على جبلها ضوء القمر فقالوا: هذه جزيرة القمر (بفتح القاف) ثم عمت التسمية”، ويعلق الباحث هاشم محمد علي باعلوي في بحث له بالقول: إن هذه الجماعة من العرب وسفنهم الّتي يتحدث بها العبودي، بلا شك هم عرب من عُمان، لكونهم ماهرين في صناعة السفن، إشارة إلى قول الشيخ عامر بن علي بن عمير في كتابه: “كان العمانيون القدامى يمارسون مهنة السفن من قديم الزمان”.
ويضيف الدكتور كارهيلا بالقول: إن الوثائق المتوفرة تشير إلى علاقة العمانيين بالجزر قبل الإسلام، وبعد دخول الإسلام، وتوافدت إلى جزر القمر هجرات عمانية، وقد ذكرت تفاصيل هذه الجانب في كتابي حول العلاقات العمانية والقمرية، وكان لهم جهود جبارة في نشر الإسلام، وقد وقفت على رسائل فرنسية، وهي ليست أكثر من تقارير إدارية واستخباراتية، تتهم الوجود العماني بمحاولة أسلمة الجزر، ونشر الإسلام، وهذه شهادة فرنسية تفيد أن الدولة العمانية لم يكن لديها أطماع توسعية، بقدر ما كان لها رسالة إسلامية سامية.
ومنذ ذلك الزمان، والتاريخ القمري يفخر بالكثير من القبائل العمانية التي استوطنتها، مثل قبيلة الأزد، حيث يشير المسعودي في كتابه (مروج الذهب)، أنّ هنزوان فتحت سنة 824م، على أيدي الأزد الإباضيين, والّذين استقروا فيها داعين إلى الإسلام, وما تزال لهذه القبيلة سلالاتها إلى اليوم كما يؤكد الباحث هاشم محمد علي، في بحث له بحث فيه “العلاقات التاريخية بين جزيرة هنزوان وسلطنة عمان منذ قديم الزمان”، وقدمه خلال الأيام الثقافية العمانية القمرية الماضية، ويؤكد أيضا في بحثه، أن ثمة قبائل أخرى سكنت هنزوان مثل الخروصيين، والنباهنة، وكانوا سلاطين في هذه الجزيرة، ولعبوا دورا هاما فيها منذ القرن الرابع عشر الميلادي إلى القرن التاسع عشر الميلادي، وما يزال للبوسعيديين تأثير حضاري وإنساني كبير، ومن المعلوم أن السلطانة ” جُمْبِي فاطمة” بنت السلطان عبدالرحمن الملقاشي الأصل, سلطانة جزيرة موهيلي، تزوجها السيد العماني سعيد بن محمد بن ناصر بن سعيد البوسعيدي (ابن عم السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي) سلطان عمان وزنجبار، وأنجبت منه ثلاثة أولاد وهم: محمد بن سعيد، وعبدالرحمن بن سعيد، ومحمود بن سعيد، وما تزال هذه الأسرة تعيش في موهيلي، وأثناء وجودنا فيها، قمنا بزيارة أطلال السلطانة، ومكان إقامتها، على ساحل البحر، كما تعرفنا على أسرتها المتبقية، وعائلتها التي تنتمي نسبا إلى السيد سعيد بن محمد البوسعيدي، وهناك قبائل عمانية أخرى سكنت في جزر القمر، من بينها قبيلة آل سعد، والقاسمي، وأصله من مدينة صور العمانية، وله أولاد وأحفاد ما يزالون أحياء، ومن المعروف تاريخيا أن العمانيين نزلوا في جزر القمر إبان نشر الدعوة الإسلامية، وفي فترة انتشاره المبكرة، وذلك خلال القرن الثاني الهجري بحسب المصادر التي تؤكد ذلك.
التأثير العماني في الحاضر
ما يزال الحاضر في جزر القمر مفعما بالتأثير العماني، ففي إحدى لقاءاتنا الشعبية مع المواطنين في موروني، وهنزوان وموهيلي، لمسنا ذلك التأثير متجليا في الكثير من التفاصيل التي شعرنا بها متجذرة وأصيلة، وزرنا الكثير من الحارات الأثرية التي شيدها العمانيون سابقا، وكان المعمار العماني يظهر في النقش على أسقف البيوت، وفي الشرفات والواجهات، وكان الخط العربي واضحا في كل ناحية، ومنقوشا في عتبات المنازل والقصور والمساجد، وبلا شك فإن التأثير العماني لم يكن ليبقى إلى يومنا هذا لو لم يجد قبولا واستحسانا من الشعب، فالشعب القمري يفخر بأصوله العمانية، وبعاداته العربية، لأن العلاقة بين عمان وجزر القمر لم تكن علاقة مستعمر، بل كانت علاقة فاتح وناشر للدين الإسلامي، ومحرر، علاقة رأى فيها الإنسان القمري سموا في أصله وجذوره، وهويته العربية.
وما يزال الحاضر ممتدا مع الماضي بوشائج كثيرة، وما تزال الحكومة العمانية تمد يدها للتعاون مع الحكومة القمرية وشعبها، وكانت فرحتنا غامرة حين رأيت لوحة رصف شارع بالإسفلت بتمويل من حكومة السلطنة تنتصب في أحد الشوارع بمدينة موروني، وتجددت فرحتنا أكثر ونحن نرى الأكف القمرية  تعترف بالجهود العمانية اتجاه واقعها اليوم، حيث شيدت الكثير من الجوامع بتمويل من الحكومة العمانية، كما أكد لنا وجهاء جزيرة موهيلي، والذي رافقنا إلى أطلال قصر السلطانة جمبي فاطمة، حيث هدم القصر المتداعي، وشيد محله جامع كبير يؤمّه أهالي الجزيرة، ويزدحم بالناس في صلاة الجمعة.
وما تزال الحكومة العمانية تدعم جزر القمر في مشاريعها التنموية، وفي حوار أجريته مع فخامة الرئيس الدكتور إكليل ظنين رئيس جمهورية جزر القمر، حيث قابلته مع الوفد العماني، وأجريت معه حوارا أكد فيه أنه منذ أن تولى رئاسة جمهورية الجزر، باشر في توطيد العلاقة مع حكومة السلطنة، في المجالات الدبلوماسية والسياسية، وأشاد في ذلك الحوار بما قدمته حكومة السلطنة من مساعدات مالية متنوعة لجمهورية الجزر، من بينها رصف الطريق الواصل بين مدينتي موروني وإيكوني داخل العاصمة، ورصف طريق آخر في جزيرة هنزوان، كما أشاد بمساهمة السلطنة في تطوير الصيد البحري بالجزر، ودفع ديون جزر القمر لدى البنك الإسلامي، ودعم الجيش البحري القمري.
وكان فخامته متابعا لتحركات الوفد العماني داخل الجزر، حيث قام بتسهيل المهمة المتطلبة لإنجاح الأيام الثقافية العمانية، وشكر حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم -حفظه الله ورعاه، على وقوفه مع جمهورية جزر القمر الاتحادية منذ استقلالها، حيث كانت السلطنة أول من اعترف باستقلال الجمهورية عام 1975م، وأول من ساندتها في الانضمام إلى جامعة الدول العربية عام 1993م.
القمر يسطع مجددا في الجزر
خلال تلك الأيام التي زرنا فيها الجزر، كانت أعيننا تسهم نحو الفضاء الصافي البعيد بحثا عن القمر، لتتعانق فيها نظرة أجدادنا العمانيين إليه، حيث رأوه صافيا وجميلا، ونحن رأيناه كذلك، ربما يعود إلى طيبة الشعب القمري، الذي غمرنا بالمحبة والحفاوة، وكان المشهد مؤثرا جدا، حين أقترب مني أحد القمريين، ليطوقنا بالأكاليل، شعرنا فيها أن ما يجمعنا أواصر رحمية، ملامح الوجوه تتحلى بدماثة وحسن معشر، السُّمرة التي تلوح في الوجوه تخفي قلوبا بيضاء كوضح النهار القمري، ودافئ كأشعة الشمس التي لا يصلنا منها إلا خيوطها الذهبية، كنا في عز الصيف، وكان الطقس معتدلا ودفئا، المناخ الاستوائي يعطي للجزيرة انتعاشا ونشوة، والنسائم التي تهب من سفوح الجبال وعمق البحر تلهب المشاعر، لقد تأثرت كثيرا حين تركت طوق الياسمين ينسدل على دشداشتي العمانية، وتأثرت كثيرا حين كانت الأيادي تتشابك بحرارة، وتأثرت كثيرا حين ودعنا هذه الجزر، وكأنما غصنا في أنفاق الزمن، وزرنا جزر السندباد العذراء، سلكنا فيها ذات الدروب التي سلكها العمانيون الفاتحون قبل قرون.

No comments:

Post a Comment