Thursday, October 15, 2015

رحلة أول سلطان عربي إلى بريطانيا

مجلة أثير الألكترونية
14 /10/2015

دوّن التاريخ في صفحاته بأن العمانيين، وحكّامهم يعتبرون من أوائل العرب الذين شكلوا وفودا رسمية دبلوماسية لزيارة أوروبا، وأمريكا، تلك الدول التي انطلقت منها شرارة الثورة الصناعية، والتمدن الذي وصلنا إليه اليوم نتيجة التقدم العلمي والتكنولوجي الذي تماشى مع تطور المطامع الاستعمارية للدول الاوربية في الشق الأفريقي والآسيوي على مر تاريخ الثورة الصناعية، والمطامع الاستعمارية، وما تلاها في ظل عجز تام للكثير من الدول الأفريقية، والعربية والآسيوية من مجاراة كل هذا التقدم نتيجة الجهل، والتخلف والبعد عن مسببات التمدن وصناعة الحضارة رغم الكثير من الثروات التي تملكها .

 


ولا شك بأن العمانيين في زنجبار، وهم أصحاب امبراطورية عظيمة أسّسها السيد سعيد بن سلطان من واصل مجد أبائه في القوة والدبلوماسية يعتبرون من الحكام الذين اطّلعوا على التجارب الأوربية وحاولوا جاهدين رغم صعوبة الأوضاع من جعل زنجبار دولة متمدنة، وحاضرة، ورائدة في الشق الأفريقي بكل قوة في هذا المجال.

 


ويعتبر السلطان برغش بن سعيد بن سلطان (1870-1888م) الذي حكم زنجبار بعد وفاة أخيه ماجد، أول سلطان عربي الأصل، والنسب وطأت قدمه إنجلترا بزيارة رسمية، وبوفد رسمي مدون في صفحات التاريخ في كتاب (تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجبار) الذي تمت كتابته، وهو في رحلته من قبل مرافقه زاهر بن سعيد، الذي دوّن كل تفاصيل الرحلة بشكل تفصيلي ليتم طباعته للسطان برغش في لندن بمطبعة النحلة سنة 1878م، والنسخة الأصلية من هذا الكتاب يوجد محفوظا في دار المخطوطات بوزارة التراث والثقافة – مسقط.

 


ولقد ارتأت صحيفة "أثير" الإلكترونية كتابة سلسلة من التفاصيل الثمينة لرحلة السلطان برغش إلى إنجلترا، حسب ما جاء في المطبوع، و ستعرضها للقراء الكرام تباعا ، لما لها من أهمية يستشعر بها قارئ التاريخ والمطلع، والشغوف لمعرفة بعض من تاريخ عمان، وإمبراطورتيها، ومآثر رجالات دولتها.

 


السلطان برغش هذا الشاب المتحمس لحكم زنجبار الذي اتضح ذلك جليا من خلال منافسته لأخيه ماجد بعد وفاة أبيهم السيد سعيد بن سلطان للوصول إلى الحكم وما آلت له الأمور التي في النهاية خضع لها السلطان برغش لحكم أخيه السيد ماجد الذي ما أن مات حتى انتقل الحكم بشكل سلس وطبيعي إلى أخيه برغش الذي عرف عنه كذلك شغفه بالتمدن، وبما وصل له الأوربيون، وبالأخص الإنجليز من تقدّم وثورة صناعية وقوة ، إذ كان السيد برغش يتطلع بكل شدة إلى توثيق علاقته الاستراتيجية ببريطانيا التي تربطها مع العمانيين علاقات قديمة وثيقة، ومعاهدات تجارية، ومصالح سياسية مشتركة لا تخفى على أحد على مر التاريخ .


ولكي يستطيع السيد برغش أن يكمل علاقاته الودية مع بريطانيا، فقد اتفق معها على إبطال الرق الذي كان آفة العالم، وبالأخص الشعب الأفريقي الذي عانى كثيرا من تجارة الرقيق التي كانت مصدر ثراء للكثير وعرف تقليدي مجتمعي ساد في الوسط العربي والأفريقي بشكل عام مع العلم بأن تجاره وسماسرته في العالم أصلا هم الأوربيون أنفسهم.


ولذا، فقد تكبد السيد برغش الكثير من العناء في ابطال هذه التجارة وتمّت بينه، وبين بريطانيا معاهدات لمحاربة تجارة الرقيق، ولذا، فهو يعتبر أول سلطان عربي عقد مع إنجلترا معاهدة على إبطال تجارة الرقيق وتحرير الشعب الأفريقي من داء العبودية.


وبعد كل هذا الودّ، وهذه المعاهدات التي تمّت بينه، وبين الإنجليز، قرر السيد برغش زيارة ملكة بريطانيا في بلادها ليرى ما فيها، ويستفيد من نهضتها، ويستجلب لبلاده الاستثمارات الإنجليزية التي كان يراها مصدر ثراء وتطور لزنجبار.

 


حينما عزم السيد برغش على رحلته هذه اختار الباخرة الإنجليزية المسماة (كوكو ناده) يقودها القبطان (اندرسن)، ووفدا يضم الأسماء التالية:


- حمود بن أحمد.

- حمد بن سليمان البوسعيدي.

- محمد بن أحمد .

- ناصر بن سعيد .

- الفاصل في الدعاوي الشرعية الشيخ محمد بن سليمان .

- تاريا توين وهو كبير تجار أهل الهند المقيمين في زنجبار .

- الكاتب زاهر بن سعيد .

- عبيد بن عوض قابض المالية.

- غيرهم من الرجال ومجموعهم تسعة عشر رجلا.

 

 

بداية الرحلة:

 



 

كان سفر السيد برغش من زنجبار في نهار السبت اليوم الأول من ربيع الآخر سنة 1875م، مصحوبا بقنصل دولة بريطانية مستر جون كيرك الذي أمرته جلالة الملكة بمرافقة السلطان ذهابا وأيابا ،فاتجهوا أولا إلى عدن التي أتى أعيانها، وتجارها، وواليها، وكبير العساكر، ووكيل الباخرات الإنكليزي السيد (كاواجي)، وهو فارسي الأصل، وغيرهم من أكابر عدن، وقنصل جنرال دولة (ألمانيا) تباعا بتواقيت مختلفة للسلام على السلطان برغش مع إطلاق 21 مدفعا من بارجة حربية إنجليزية أسمها (جلاصجوه) إجلالا لحضرته.

 

في خروج السلطان إلى بندر عدن:


قرّر السلطان في يوم الاثنين من اليوم العاشر (18 مايو) زيارة والي عدن، ومعه تسعة أنفار من الحشم، وتم إطلاق 21 مدفعا ترحيبا لقدومه، فاستقبله والي عدن بكل ترحاب، وركبوا الخيل العربية الأصيلة والعساكر، والخيالة تسير من أمامهم، وورائهم، ودخلوا مدينة عدن يريد السلطان الفرجة، وبعدما انتهى من ذلك عاد إلى سفينته ليستعد في الساعات القادمة للسفر.

 

 

في سفر السلطان من عدن إلى مصر :


أعدت الدولة البريطانية في عدن باخرة أخرى لتقل السلطان برغش إلى وجهته، ومقصده، فانتقل إليها بقارب جميل رفعت به الرايات الزنجبارية بعدما ودعه أهل عدن، وكبار أعيانها، وتجارها، وانطلقت الباخرة تسير نحو وجهتها مرورا بمضيق باب المندب، وبعد خمسة أيام من الرحلة، وصل السلطان برغش إلى بندر السويس، وبعدما رست الباخرة، أتى رجال الخديوي بمراكبهم إلى السلطان، وطلبوا علما من أعلام السلطان لينشره كبيرهم في مركب الخديوي الذي أطلق من خلاله المصريون 21 مدفعا تحية لحضرة السلطان.

ثم أتى بعض كبار رجال الخديوي، ومنهم حاكم بندر السويس ( حسن بك )، وقنصل دولة بريطانيا، وجناب السيد الفرنسي (دي لاسبس) ناظر شركة خليج السويس للسلام على السلطان برغش وتحيته.

وفي الساعة العاشرة من نهار يوم الأحد سافرت باخرة السلطان برغش من مرسى السويس للدخول إلى خليج السويس ومكث فيه يوما واحدا ، ومن ثم أقلعت الباخرة مكملة طريقها حتى وصلت إلى المرسى الخامس من خليج السويس الذي أخذ بالاتساع حتى دخلت الباخرة بحيرة التمساح، التي يشرف على ساحلها، مدينة جميلة أسموها ( بالإسماعيلية ) تيمنا باسم ( إسماعيل باشا ) خديوي مصر ، وفي هذه الأثناء شاهد السلطان برغش لأول مرة قطار سكة الحديد المصرية ، التي تم انشاؤها سنة 1875م .

وما زالت الباخرة تسير حتى قطعت كل مراسي الخليج الـ12 مرسى، ووصلت إلى بورت سعيد، وبات فيها السلطان ليلة، وفي اليوم التالي من صباح اليوم الثامن عشر ( 26 مايو ) أتى ( إبراهيم بك ) والي بورت سعيد، ومعه ( حسن بك ) قبطان بارجة الخديو ( منور) واعيان المدينة للسلام على السلطان ، فتلقاهم بالترحيب والبشاشة كعادته .

 

 

 

في سفر السلطان من بورت سعيد إلى لشبونة:




في الساعة الثامنة من صباح ذلك النهار انطلقت باخرة السلطان لإكمال سفرها مع إطلاق باخرة الخديوي المتواجدة في المكان 21 مدفعا لجلالة السلطان برغش مع اصطفاف الجنود المصريين بالباخرة، وهم حاملين السلاح، رافعين أصواتهم بالدعاء، والسلام على السلطان، مع عزف للآلات الموسيقية المصاحبة لمراسم هذا الوداع، وما زال الفريقان يشيران إلى بعضهما بالتحية، والسلام حتى افترقا، وسافرت باخرة السيد على بركة الله تعالى.

 

وفي اليوم الرابع والعشرين (2 يونيو) وصلت باخرة السلطان برغش إلى جزيرة مسينا الإيطالية غرب جزيرة صقلية، وفي اليوم الخامس والعشرين اشتدت الغيوم في الجو، وأظلمت الدنيا، ولاح وميض البرق وعصفت الرياح، وهطلت الأمطار، وتعالت الأمواج، واندفعت على سطح السفينة، وطفحت عليها، ودام الحال على هذا المنوال يوما كاملا، ثم اشتد الضباب وأظلم الجو في قلب النهار حتى عجز البحارة عن رصد ما يمر بهم من السفن فخشوا أن تمر بهم سفينة تصدم باخرة السلطان، وهم لا يرونها من شدة الضباب، والظلام، فباشروا يبدون أصوات صفير آلات البخار لينبهوا من كان وراءهم، ومن كان أمامهم سائرا في تلك البحار حتى يتفادوا من مصادمة السفن الأخرى حتى مساء ذلك النهار الذي انكشف منه الضباب، وانجلى الظلام بحمد من الله .

وفي اللية السابعة والعشرين (5يونيو) مرّت باخرة السلطان بمضيق جبل طارق، وهو حصن منيع في يد الدولة البريطانية منذ أن أخذته من مملكة أسبانيا سنة 1709م، ويقع على مدخل البحر المتوسط تدخل من مضيقه السفن إلى المحيط الأطلسي.

 

وفي اليوم السابع والعشرين قرب الغروب واجهت باخرة السلطان محطة السلك البرقي على ساحل أسبانيا، فطلب الموظفون في إدارة السلك من قبطان الباخرة أن يخبرهم بمن كان في باخرته ، وكان خطابهم مع القبطان برفع رايات مختلفة الألوان، والنقوش، وكلّ راية ذات نقش تدلّ على كلام يفهمها الناظر إليها من بعيد ، ففهم موظفو التلغراف أن الباخرة تقل السلطان برغش سلطان زنجبار قاصدا محطته التالية، وهي مدينة (لشبونة) ، فتم إرسال هذه الرسالة إلى البرتغال، وحينما علم ملك البرتغال خبر نية زيارة السلطان برغش لمدينة لشبونة أمر بتجهيز قصر جميل لسكنى السلطان عند وصوله المدينة .

وفي اليوم الثامن والعشرين، وكان نهار الجمعة وصلت الباخرة إلى مدينة لشبونة البرتغالية وبعدما توقفت الباخرة أتى طبيب الحكومة البرتغالية وسأل القبطان عن صحة الجميع، فأجاب القبطان أن السلطان برغش، ومن معه بغاية الصحة، والعافية ، ثم أخرج قرطاس الشهادة وعرضها على طبيب الصحة فتيقّن الطبيب أن باخرة السلطان قد سافرت من بلاد ليس بها وباء معد وأن جميع من كان فيها سالمون .

ثم أتى حارسان من حراس المدينة يسألان القبطان عما عنده من البارود، فقال : عندنا شيء يكفينا لإطلاق مدفعين فقط ، فقالا :لا تسمح شريعة المملكة أن يدخل مركب إلى مرسى بلادها، وهو حامل شيء من البارود ونحن نحتفظ به ،ونسلمك أياه وقت رحيلكم ففعلوا.

وحينما دخلت الباخرة إلى قلب المرسى ، قام قبطان السفينة البرتغالية (منور) بإطلاق 21 مدفعا تحية لجلالة السلطان مع نشر علمه في بارجته الحربية ، تلتها كذلك البارجة الأمريكية والنمساوية في إطلاق 21 مدفعا تحية للسلطان برغش .

وفي الساعة الرابعة من نهار ذلك اليوم، قدم أمير البحار البرتغالي، ووزيره، ومعاونه، وسلموا على السلطان وقالوا : لقد أرسلنا إليك مولانا ملك البورتكيز ( البرتغال) بالنيابة عن جلالته لنطلب من سعادتك أن تشرف بلاده بنزولك إلى البر ، وقد أعد لجلالتك قصرا من قصوره لكي تكون في ضيافته مدة إقامتك في عاصمة مملكته، وها نحن مأمورون بأن نتمثل بأمر سعادتك ، فرحب بهم السيد برغش وقال لهم : بارك الله فيكم وفي جلالة ملككم إننا لننزل إن شاء الله تعالى في الساعة التاسعة ونتشرف بمصافحة جلالة ملككم العظيم .

 

وفي الساعة التاسعة من ذلك اليوم وصل وزير ملك البرتغال في سفينة (ماشوه) وهي مزينة بالأثاث والأقمشة، فنزل جناب السيد برغش فيها، وساروا به إلى المدينة التي وجد فيها خيول عربية أصيلة متأهبة لتحملهم مع وجود صفوف من الجنود البرتغالين رافعين السلاح للسلام على السلطان ، فركب السيد برغش والوزير البرتغالي في عربة تجرها أربعة خيول والبقية ركبوا في عربات أخرى حتى وصلوا إلى دار الملك، وهو قصر عالي البنيان ، وكانت الجنود مصطفة أمام القصر رافعة السلاح تحية للسيد برغش ، فلما وصل السلطان برغش عزف الجنود بآلات الموسيقى ورحبوا بقدومه، وخرج ملك البرتغال ومعه جلالة الملكة زوجته وهي لابسة أفخر الحلل فتلقت جلالة السلطان بالحشمة والترحاب .

وبعد أن صافح السلطان الملك وقرينته وانتهوا من مراسم الاستقبال ركب في مركبته وسارت الجنود به إلى القصر المهيأ له.

ومن ثم أتاهم ملك البرتغال مع ثلاثة من وزرائه، وقال للسيد برغش: " لقد أعددت هذا المنزل لجلالتك لتقيم فيه أنت والحشم ما دمتم مشرفين عاصمة ملكي ، وقد أتيت لزيارتك وتبليغك التهاني بوصولك غانما إلى بلادي، وهذه عاصمة ملكي تحت أمرك، ووزرائي في خدمتك ، وقد أوصيتهم أن يطوفوا بك المدينة، ويفرجوك على ما فيها من التحف والنوادر" ، فشكره السلطان على كرم ضيافته، وقال للملك البرتغالي أنه يعتذر من عدم الإطالة في لشبونة، وإنه مصمم على السفر في نفس تلك الليلة متجها إلى إنجلترا.

 

 

في سفر السلطان من لشبونة إلى لندن :

 

في نهار السبت 29 الشهر ( 7يونيو ) انطلقت باخرة السلطان برغش من لشبونة متجهة إلى لندن ، وفي اليوم الثالث منه وصلت الباخرة إلى جزيرة بريطانية، ثم سارت من هناك ووصلت على ميناء بورتسموت نهار الأربعاء ، وفور وصولها أطلقت البارجة الإنجليزية 21 مدفعا اجلالا وترحيبا بالسلطان ، ومن ثم أكملت باخرة السلطان المسير تريد لندن حتى وصلت إلى ميناء اسمه ( كريفزند )، وهو عند مصب نهر التيمس (التايمز) فرست فيها ، وهنا أرسلت جلالة الملكة فكتوريا باخرة أسمها ( ريفر كوين) بها عدة رجال من أصحاب المناصب العليا ليلاقو السيد برغش ويبلغوه سلام الملكة وتهانيها بوصوله سالما إلى بلادها ، وكان من جملة هؤلاء الرجال القس جرجس باجر الفقيه الذي اختارته الملكة خصيصا ليصبح ترجمانا للسلطان لما بينهما من مودة، ومعرفة قديمة .

وحينما انتقل السلطان إلى تلك الباخرة التي أعدتها الدولة لتنطلق به عبر نهر التايمز حتى وصلت إلى جسر ( لندن ) الذي بناه المهندس ( جون ريني) وأولاده سنة 1821م ، وانتهى منه سنة 1831م ، وقد وضع في أساسه المدافع التي اغتنمها الإنجليز في حرب ( بينينسولا) ، ثم مرت باخرة السلطان برغش بجسر آخر يسمى ( ابلاك فرايرس) ومعناه "الرهبان السود" الذين يرتدون فقط الملابس السود ، فسمي بجسر الرهبان السود وهو جسر عظيم شيده المهندس ( روبرت ملنى) سنة 1760م وفرغ من بنائه سنة 1769م ، ثم وصلت الباخرة إلى جسر ( واترلو) وهو من أجمل الجسور التي بنيت في العالم كله هندسه السيد ( رالف دود ) في 11 تشرين الأول سنة 1811م ، وسموه بهذ الإسم تذكارا لإنتصار الإنجليز على (نابليون الأول) في الواقعة الشهيرة التي جرت بين الدوق (ويلنكتن - أرتور) ونابليون الأول بقرب مدينة واترلو.

ثم سارت الباخرة حتى وصلت إلى جسر ( ويستمنستر) الذي هندس بناءه السيد ( لابيلي السويزي) بين سنة 1738- 1750م وأكمل في تجديد هندسته السيد ( باج) ، وفي هذا الجسر تحديد توقفت باخرة السلطان ليهبط السلطان إلى أرض لندن التي امتلأت بالحضور أمام الميناء أفواجا ليشاهدوا أميرا يعتبر أول أمير عربي يأتي إلى زيارة بلادهم ، وكانوا قد فرشوا أرض القصر حيث مر السلطان بطنافس وبسط من جوخ أحمر ، واصطفت الجنود الشرفية بقيادة الأميرالي ( فريمانتل ) والقائد ( برتي ) والملازم ( مانسفيلد ) للسلام على السيد برغش مع وجود فرقة لعزف الموسيقي العسكرية تحت إدارة السيد ( فريد كودفراي ) مع وجود كبار الدولة من الوزراء وأعضاء مجلس النواب والشورى ومجلس الأعيان والذي تقدمهم السيد ( بورك ) والذي بدوره قال للسلطان برغش : "قد أمرني اللورد داربي وزير الخارجية أن أبلغ سعادتك باسم جلالة الملكة التهنئة بوصولك إلى بلادها سالما، وتؤمل بأن تسر سعادتك بزيارة المملكة البريطانية ، وإنها ترغب في أن تشاهد سعادتك كل ما في ملكها من النفيس، والمليح، والمفيد ، ولهذا قد أصدرت أمرها إلى رجال دولتها أن يعيّنوا رجالا من ملكها يحسنون التكلم باللغة العربية ليكونوا في خدمة سعادتك في هذه البلاد، وهؤلاء الرجال الأمناء هم (الدكتور كيرث - والقس جرجس باجر الفقيه - والسيد كليمنت هيل )، وكل ما اشتهته نفس سعادتك مُرْ حضرة الدكتور كيرث وكيل جلالة الملكة فيكون أمرك مطاعا على الرأس والعين ".

فقال السلطان برغش : " بارك الله في جلالة الملكة وأدام عزها بالمجد والإقبال " .

 


وللرحلة بقية ..

 

المرجع : تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجبار ، تأليف زاهر بن سعيد ، تحقيق أحمد الشتيوي ، 2007 ، وزارة التراث والثقافة -مسقط .

http://www.atheer.om/Article/Index/12316

الجزء الثالث
2/11/2015

تذكر القارئ العزيز نهاية الجزء الثاني من رحلة السلطان برغش إلى لندن والذي اختتمناه بلقاء الصحافة البريطانية بالسلطان، وتحديدا مع جريدة الديلي تلغراف والذي أجرى مراسلها لقاء ذكرنا تفاصيله في الجزء المنصرم، وهنا سنكمل لكم الجزء الثالث من رحلته لإنجلترا وتفاصيلها بما انه أول حاكم عربي يصل إلى أوربا في رحلة وزيارة لملكة بريطانيا.

 

 


في زيارة السلطان برغش للبرنس (أف ولس) ولي عهد إنجلترا:

 



في 15 جون (يونيو) قصد السيد برغش زيارة ولي عهد الدولة البريطانية في موكب حافل، فاستقبله ولي العهد بكل حفاوة حيث قال السلطان لأصحابه ومحبيه الثقاة: " حينما التقيت بولي العهد في مدخل الدار رأيت لوائح السرور، والبشاشة تلوح على وجهه الأغر فعلمت أنه يقابلني مقابلة ليست رسمية بوجه عبوس كعادة رجال السياسة، بل مقابلة ودادية وقلبية ، وحينما أحضر البرنس ولي العهد حضرة الأميرة قرينته المصون، وحضرة أخته الكريمة الأميرة ( أليس ) وزوجها الشريف ليسلموا عليّ ، غمر السرور قلبي بمشاهدتهم ، وازددت فرحا، وسرورا لما سألني ولي العهد إن كنت أحب أن أرى أنجاله المحروسين ، فقلت حبذا هذا فإنه تمام المرغوب ، فظننت أن ولي العهد يريد أن يحضر إلي واحدا من أنجاله، ولكن أخذ الفرح مني كل مأخذ لما رأيت أنجال الأمير واقفين أمامي كحور الجنان في حشمة، وكمال لا مزيد عليهما، ولا أستطيع أن أعبّر عن شعائر فؤادي حينما رأيت هؤلاء الأمراء الحديثي السن يقبلون والدهم واحدا بعد واحد بحنو غريب، ويعانقونه معانقة حلوة، وكان ولي العهد يمد ذراعيه الأبوية إلى أصغرهم ويرفعه عن الأرض ويطبع بشفتيه قبلة الحب الأبوي، فتحركت حينئذ شعائر الحنو في صميم فؤادي وكادت الدموع تطفح من عيني حنوا، فقلت في قلبي: اللهم بارك هذه العائلة السعيدة، واحفظ بيمينك العزيزة هؤلاء الأنجال المحروسين، وتضاعف سروري حينما جلس هؤلاء الحور إلى جانبي واحدا بعد الآخر بلطف وأنس وثقة تعهد في الأطفال الأبرياء، ولم يستغربوا منظر رجل أعرابي مكتسٍ بملابس عربية لم يشاهدوها عمرهم بطوله قبل ذلك الوقت، وكانت الحشمة والكمال قد ضاعفت محاسنهم وزينت أشخاصهم، وبعد أن تمليت من مشاهدتهم سألني ولي العهد: ما الذي سرني بلندن أكثر؟ فقلت في جوابي له: قد سررت غاية السرور بكل ما رأيته في مملكة جلالة الملكة، ولكن منظر أنجالك الأمراء المحروسين قد زادني سرورا لم أشعر به قبلا، فتبسم ولي العهد تبسما حلوا وقال: هذا من فرط لطفك وحبك أيها السيد الكريم، وقلت: كلا أيها الأمير وإنما قولي هذا قول جد، وقد انطبعت في مرآة عقلي صورة ما رأيته من منزلك العامر من السعادة ولطف أنجالك المحروسين ولا تزول هذه الصورة المحبوبة من عقلي، ولما رأيت بعضا من أنجالك مرتدين ملابس على زي ملابس البحرية ، خطر ببالي أن مجد الدولة البريطانية وعزها وفخرها قائم في حبها قوة الجندية البحرية حتى جعلت أنجال ملوكها يتوشحون بملابس البحريين ، والآن ألتمس من الحق سبحانه وتعالى أن يؤيد هذه الدولة ويطيل عمر جلالة الملكة والدتك الفخيمة ويحفظك عزا لأنجالك هؤلاء المحبوبين ويضاعف فرحك بهم ويجعلهم فخرا لك وللدولة البريطانية ".

 


في زيارة السلطان لبستان الحيوانات:


صممت الدولة البريطانية على أن تعرض على سعادة السلطان أن يصرف بضع ساعات في الفرجة على بستان الحيوانات، فحضر رجال الدولة إليه نهار الخميس 17 جون (حزيران) والتمسوا منه أن يشرف ذلك البستان بزيارته إياه فسر بطلبهم وركب في معيتهم وذهبوا إلى البستان، فلما دخلوه أخذوا يفرجونه على الحيوانات بأنواعها متنقلين من محل إلى آخر، وقد سر السلطان بمشاهدة هذه الحيوانات وحسن ترتيب مساكنها ونظافتها وحسن الاعتناء بها بمعاشها.


وبستان الحيوانات بلندن حديقة كبيرة قد جمعوا فيها من كل أقطار الدنيا جميع أجناس الحيوانات البرية والبحرية وليس في باريس ولا في العالم كله بستان يحتوي على كل هذه الأجناس مثل هذا البستان والذي كان من مشروعات شركة تشكلت في لندن سنة 1826م وباشر أعضاؤها بصرف المال بسخاء حتى يجلبوا من جميع أقطار الدنيا كل نوع من الحيوان والطير والسمك غير المعهود في أوروبا ، وأنفقوا في بادئ الأمر 500000 فرنك حتى جمعوا نحو 1500 حيوان من أجناس مختلفة.

 

 


في زيارة السلطان لإدارة التلغراف والبوسطة العمومية بلندن:


قصد السيد برغش الفرجة على إدارة البوسطة في 18 جون بعد الظهر، وكان الدكتور (كيرك) قنصل الدولة البريطانية في خدمته بمنزلة ترجمان، وكان شعب غفير من الإنكليز علموا من إشاعات الجرائد بقدوم سعادة السلطان إلى إدارة البوسطة، فاجتمعوا في الشوارع للسلام على السلطان، ولكن خابت آمال الكثير منهم بسبب عاصفة شديدة قصفت لندن وهطلت أمطار غزيرة أجبرت المتفرجين على الفرار.


أما السلطان وحشمه، فكانوا في عربة مغطاة سترتهم من صبيب الأمطار حتى وصلوا إلى باب إدارة البوسطة، ولا يخفى أن محل إدارة البوسطة بلندن، وهو من الأبنية العظيمة بناه الإنكليز سنة 1814م وفرغوا من بنائه سنة 1829م، وكان يدخل إلى هذه الإدارة نحو 60000 رسالة كل يوم سنة 1836م، ثم صار يدخلها 160000 رسالة كل يوم سنة 1842م، ثم صار يدخلها 375000 رسالة كل يوم سمة 1861م، وأما الآن (1875م) فيدخلها كل يوم نحو 500000 رسالة ونيف.


فلما وصل السيد برغش إلى باب إدارة البوسطة خرج إلى ملاقاة اللورد (جون مانرس)، ومستر ( اسكودامور ) وأدخلوهم أولا إلى مخدع أوائل الرسائل التلغرافية، فوقف السلطان في صحن هذه الحجرة الكبيرة وهو ينظر بسرور عظيم إلى 1000 شاب منصبين على ارسال الرسائل التلغرافية إلى جميع بلاد الدنيا بسرعة البرق ، وكان في رفقة سعادة السيد برغش ( زعيم الدين حمد بن محمد ) وقد تعجب كثيرا لما رأى واحدا من أولئك الشبان قد أرسل رسالة برقية إلى عدن واسترجع جوابها في برهة بضع دقائق يقول فيها مرسلها ما حرفتيه : الطقس في عدن صحو والريح خامدة .


ثم طلب اللورد (جون مانرس) إلى سعادة السلطان أن يخاطب بالتلغراف واحدا من رجال دولته بعدن فقال: " استفهموا من وكيلي (قواسجي دينشو) ليعلمني ما عنده من الأخبار الواردة من زنجبار أخيرا؟


فلم تمر دقائق قليلة إلا وأتاه الجواب من الوكيل المومأ إليه يقول فيه: ما جد عندنا خبرا مهما نرفعه إلى سعادتك إلا الخير، واليوم أرسلنا رسائل سعادتك إلى زنجبار صحبة الباخرة (كوكونادة). فسر السيد غاية السرور بذلك وأثنى على مدير التلغراف وشكر له مكارمه.


ثم بعد أن تفرج السيد برغش على كل ما كان من الغرائب والنفيس في إدارة البوسطة، طلب إليه اللورد (جون مانرس) أن يحرر اسمه في سجل الإدارة، ففتح السيد برغش السجل المذكور، فرأى في وجه الصحيفة اسم شاه العجم واسم امبراطور البرازيل (دوم بيدرو)، فتناول قلمه وكتب في السجل: " أنا السيد برغش بن سعيد دخلت دار إدارة البوسطة للفرجة في 17 جون (حزيران) سنة 1875م".

 

 


في زيارة السلطان لقصر البلور:





في اليوم الثاني عشر من شهر جون (حزيران) حسن بأعين الدولة البريطانية أن تستدعي السلطان إلى الفرجة على قصر البلور، الذي شيده الإنكليز سنة 1852م ودام بناؤه نحو سنتين، وسمي قصر البلور لكونه مشيدا على قوائم ودعائم من حديد مغطاة من أسفل إلى فوق بألواح من البلور السميك وطوله نحو 1095متر أي نحو ميل، وقد جمع فيه الإنكليز كل ما عندهم من التحف التي تستحق الفرجة، وفي قلب القصر مرسح (مسرح) لقيام الملاعب يسع نحو 5000 نفس.


فأصدرت الدولة البريطانية الأوامر اللازمة لتزيين القصر كالزينة التي تم أجراؤها في يوم زيارة السلطان العثماني (عبد العزيز أوغلو محمود) وخديوي مصر، وشاه العجم، وكان علم السلطان برغش يخفق في أعلى قبة القصر وعلى رأس الأرغن الكبير، وكانت طغرة زنجبار منقوشة في وسط العلم وفي قلبها كتابة بالقلم العربي " يا فتاح "، فركب السلطان المركب وسار مع حشمه إلى القصر، وكانت جرائد لندن قد نشرت خبر زيارة السلطان لقصر البلور فاحتشد الناس من كل فج عميق لمشاهدة هذا السلطان العربي الذي شرف بلادهم فاجتمع نحو مائة ألف نفس ونيف من الرجال والنساء والصبيان أمام القصر، ولما وصل السيد برغش إلى القصر استقبله الشعب المتجمع بغاية الترحيب، وكانت الموسيقى العسكرية تصدح بالأنغام العذبة والجنود صفوفا في سلام سعادته، فدخل السيد القصر باحتفال عظيم وتوجه إلى مرسح ( مسرح ) اللعب واستوى على الملهى وكان فيه من المغنين نحو 300 صوت فغنوا أغاني مطربة عديدة بأشهر الأنغام الأوربية من جملتها غناء مشهور من أغاني الأوبرا الإيتليانية الذي مطلعه " موسى بمصر " ولشدة سرور السلطان بهذه الأغنية أمر بإعادة غنائها مرة ثانية، وبعد نهاية الغناء سار رجال الدولة بسعادة السلطان إلى " رواق الملكة " لتناول الطعام الفاخر المعد لسعادته، ومن ثم خرجوا إلى صحن القصر لمشاهدة ينابيع المياه وهي تطفح بألعاب مختلفة تفنن بها مديرو القصر.


وفي الساعة التاسعة من ذلك النهار صعد السيد برغش إلى مكان عال قد أعدوه له ليشاهد الألعاب النارية ابتهاجا بمقدمه، وكان من جملة النقوش التي رسموها بالبارود طغرة سعادة السلطان " يا فتاح " بخط عربي جميل فلما أشركوا النار بالبارود وظهرت كلمة " يا فتاح " بنور مختلف الألوان والأرناج فضج الشعب سرورا برؤية ذلك واستحسن السلطان غاية الاستحسان مهارة مستر (بروك) الذي رسم تلك النقوش بالألعاب النارية وأثنى عليه ثناء جزيلا، وبعد أن صرف السيد برغش نهاره بالسرور والطرب ورجع إلى قصره سالما غانما.

 


في زيارة سعادة السلطان برايطن:

 



خرج السيد برغش في حشمه يريد الفرجة على مدينة برايطن وما فيها من الأحواض الحاوية جميع أنواع الأسماك وبرايطن مدينة ساحلية تبعد عن لندن نحو واحد وخمسين ميلا تقطعها سكة الحديد في برهة ساعة و25 دقيقة وفي سيرها تمر بقبو تحت الأرض اسمه (اكليتن)، ثم يلحق به قبو آخر تحت الأرض اسمه (ياتجم)، وهذه المدينة تعتبر من المنتزهات الإنكليزية يقصدها الناس أيام الصيف للتفسيح والاستجمام، وبها وأضحت ضاحية من أهم ضواحي لندن.


لما وصل السيد برغش إلى محطة سكة الحديد استقبله بعز وإكرام حاكم المدينة مستر (بريدجن) و (سار كروي بروز) ومستر (استيفن) ناظر شركة دار الأسماك واللورد (ويليم لينوكس) والشريف (هوم براون) وغيرهم من كبار الدولة وأعيانها، ثم ركب السيد في عربية مكشوفة وسار إلى دار الأسمال وكان الشعب يتقاطر للسلام على السلطان ويرفعون قلانسهم عن رؤوسهم ويرحبون بقدومه، ولما وصلوا إلى دار الأسماك، كان علم السلطان الأحمر يخفق عاليا فوق جدران تلك الدار وكانت العساكر الملوكية مصطفة في سلام السلطان، فدخل السلطان إلى دار الأسماك ويرافقه المعلم ( هنري لي ) الطبايعي (عالم الطبيعة ) وصار يشرح له عن طبائع وأنواع الأسماك، وعند مرور سعادة السلطان بأحواض السمك سر غاية السرور من سباع البحر وسمك كلب البحر الذي هجم على سرطان، وفيما كان سائرا من حوض إلى آخر سمع السلطان برغش بعضا من حاشيته يتكلمون بصوت جهير فالتفت إليهم بوقار ورزانة ملوكية ووضع اصبعه على شفتيه مشيرا لهم بأن يلزموا الصمت والهدوء .


وبعد فروغ سعادته من الفرجة على الأسماك استدعاه حاكم المدينة إلى مأدبة طعام، وبعد ذلك حضر المصور مستر (لمباردي) وصور سعادته بتصوير النور، ومن ثم طلب حاكم المدينة من سعادته أن يحضر إلى قصر الفرجة للاستماع إلى الأنغام الموسيقية العذبة، فأجاب السلطان طلبه وذهب برفقته إلى المرسح (المسرح) الملوكي بلندن وكانت تلك الموسيقى من أحسن الموسيقات التي تدق ترحيبا بالسلطان.


وفي ختام ذلك أهداه ناظر دار الأسماك كتابا يحتوي على تصاوير فوتوغراف فيها رسم دار الأسماك وما ضمته، وفي أثناء ذلك نهض (سار كوردي بروز) وألقى خطابا ترحيبيا بتشريف السلطان لذلك المحفل الجميل، وفي خاتمة الخطاب أوعز السيد برغش إلى صديقه المترجم (جرجس باجر الفقيه) أن يترجم شعائر سعادته وشكره كما يلي نصها:


" أيها السادات الكرام، ويا أيتها السيدات المصونات اللواتي زين هذا المحفل بجمالهن البديع قد كلفني سعادة السلطان أن أترجم لكم بالإنكليزي شعائر امتنانه من حسن مكارمكم وترحابكم بقدومه إلى هذا المحفل النضير فإنه قد سر غاية السرور من رؤياكم ورؤيا هؤلاء الأولاد الذين هم عز بريطانيا ومجدها المستقبل وقد سره أيضا منظر السيدات المخدرات اللواتي رحبن بقدومه غاية الترحيب، ولهذا وجب على سعادته أن يشكر لهن غاية الشكر ذلك على ذلك ويثني على جميع الحاضرين الذين خصوه بالعز والإكرام".


ثم ختم باجر خطابه بقوله: " قد احتشم السيد برغش عن إطالة الكلام فعلي أن أتبع مثال سعادته في الامتناع عن الإطناب في القول" ، فنهض ( سار كوردي بروز ) وقال في جوابه على خطاب الدكتور باجر: " لا بأس إذا أمسك السلطان عن إطالة الكلام أما الدكتور باجر فلا يليق به أن يحتشم ويقصر في الكلام فإنه من أول علماء الإنكليز المتضلعين في اللغة العربية " ، ثم أكمل حديثه شكرا للسلطان ومآثره لمساعدة تجار الإنكليز على توسيع نطاق التجارة والحضارة في افريقية الشرقية .

 


وللرحلة بقية ..

 


المرجع: تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجبار، تأليف زاهر بن سعيد، تحقيق أحمد الشتيوي، 2007، وزارة التراث والثقافة مسقط.


الجزء الرابع 
10/11/2014

عدما اختتمنا الجزء الثالث من رحلة السيد برغش إلى إنجلترا، وتحديدا زيارته إلى مدينة برايطن، نكمل اليوم لكم تفاصيل رحلته في بلاد الإنجليز بتفاصيل مثيرة، وجديرة بالاهتمام ننقلها لكم من النص الأصلي لرحلته المدونة في كتاب تنزيه الأبصار، والأفكار في رحلة سلطان زنجبار عام 1875م.


سعادة السلطان برغش وشرفاء لندن:


عاد رئيس أساقفة كنتربري في محفل من زعماء الدين سعادة السيد برغش في قصره، وتلوا بين يديه خطابا صرّحوا به عن شدة رغبتهم في توسيع نطاق الحضارة الأفريقية، وطلبوا من سعادته لأن يمد إليهم يد المساعدة في إجراء مقاصدهم الحميدة.


فردّ عليهم السلطان برغش قائلا: "قد استوعبت خطابكم أيها السادات، وسررت بما عندكم من الغيرة على نجاح بلادي، وإني لأفرغن مجهودي في مساعدتكم ما استطعت، وأسأل الحق سبحانه، وتعالى أن يؤيدني، وإياكم على إجراء ما فيه الخير لعباده ".

 


بعد ذلك خرج السيد برغش، وحشمه يريد زيارة سعادة الدوق (اف ايدنبره) وقرينته ابنة ملك روسيا، ولبث معهم برهة من الزمن في أنس، ومسامرة، وبعدها عاد إلى قصره برفقة كبير وزرائه وحشمه.


وبعد ذلك خرج بعد الظهر ثانية في رفقة الدكتور (باجر)، والدكتور (كيرك) قنصل جنرال دولة بريطانية بزنجبار، ووزراؤه (حمد بن سليمان)، (وحمود بن أحمد)،و (ناصر بن سعيد)، و(محمد بن سليمان)، ومستر (هيل) كاتم أسرار وزارة الهند، وذهب إلى بستان (ألكساندرا) يريد الفرجة على معرض الخيل، وبعد بضع ساعات عاد إلى قصره، وفي أثناء ذلك أتاه زائرا في قصره الدوق (أف إيدنبره) – ثاني ولد الملكة – في رفقة القومندان (لورد رمزي)، وبعد انصرافهم خرج السلطان برغش إلى دار (لادي درابي) قرينة اللورد (درابي) ناظر الخارجية سابقا، وكانت لادي داربي أولمت للسلطان برغش وليمة فاخرة في ليلة صفاء سر بها السلطان، وكانت الوليمة تضم عدد وافر من كبراء الإنكليز، وشرفائهم مع خواتينهم المخدرات، وبناتهم الكريمات.

 


وفي غد ذلك النهار قدم الكثير من شرفاء المدينة للسلام على السلطان، ومنهم دوق (أف ريشمند)، والكونت (مونستر) سفير دولة جرمانيا، و(أرل أف مالمسبري) وبعض من أعضاء مجلس الشوري من أمثال (سار شارلس أدرلي).


وفي اليوم التالي قدم إلى قصر السلطان وجوه من الشعب الإنكليزي قد شكلوا لجنة ديدنها السعي إلى إبطال تجارة الرقيق من أفريقية، كان من جملتهم سار (جون كنوي)، ومستر (ريتشارد) وغيرهم من أعضاء مجلس الشورى بالإضافة إلى القس (بوزاكوت) كاتم أسرار اللجنة، فرحب بهم السيد غاية الترحاب، وفي أثناء ذلك نهض القس (بوزاكوت) وتلا خطابا بين يدي سعادة السيد مكتوبا في ورق منقش، فيما يخص تجارة الرقيق وهذا ترجمته:


" إلى سعادة السيد برغش أيده الله ...


أما بعد، فليس بخاف على سعادتك، قد انعقدت من سنين عديدة جمعية مؤلفة من رجال إنكليز، وغير إنكليز غرضها إبطال الرق من الدنيا، وإلغاء التجارة ببني آدم، ونحن الحاضرون هنا من جملة أعضاء هذه الجمعية ، لما علمنا بقدوم سعادتك إلى بلادنا سررنا غاية السرور بوصولك إلينا سالما، وغانما ، وقد أتينا الآن نقدم لسعادتك التهاني، ونرحب بمجيئك إلى بلادنا، ونغتنم الفرصة لتقديم الشكر لسعادتك على عقد معاهدة مع الدولة البريطانية سنة 1873م لأجل إبطال تجارة الرقيق من سواحل أفريقية، ومن أملاك زنجبار قاطبة ، ولا يخفى على سعادتك ما غدق على قلبنا من الفرح لما رأينا اهتمامك الزائد في إتمام ما وعدت بها الدولة البريطانية، ولم تحفل بالمتاعب التي تحملتها، وخسائر الدراهم التي تكبدتها ، ولا ريب في أن لك في عين الله حسنة كبيرة على ذلك ، أما نحن فقد صرفنا الهمة إلى النظر في مصالح تجارة الرقيق زمانا طويلا، فوجدنا أنه لا نجاح فيه وأنه لا يصدر عنها غنى ثابت، ولا تفلح أمة، ولا تحصل على نجاح تام إلا باعتصامها بعقائد الدين، ونواميس الطبيعة، والتمسك بعروة المساواة البشرية ، وسعادتك قد وطدت أساس هذه المآثر بسعيك في إبطال تجارة الرقيق الذميمة، وترويج تجارة جديدة، وتوسيع نطاق الحضارة الحميدة ، ولم يبق على سعادتك سوى أن تصرف همتك إلى استئصال الرق، وفتح مواني ممالكك البحرية ،وأنهرها العظيمة لسير السفن الأوربية ترويجا لمصالح شعبك، ومصالح التجار أجمعين، فيكثر الغنى في بلادك السعيدة، وتعمّر مملكتك المخصبة، فإنها ذات تربة حسنة لا مثيل لها ، فإن فعلت هذا ذخرت لك اسما شريفا في صحف التاريخ، وخلدت ملكك، ونلت من الله – سبحانه وتعالى – ثوابا عظيما في الدنيا، والآخرة.


أما السيّاح الذين طافوا في بلاد أفريقية، فقد نقلوا إلى جمعيتنا أخبارا يعز علينا أن نسرد ذكرها على مسامع سعادتك، فقد قالوا : إن أكثر النخاسين يجتمعون في زنجبار، ويجهزون سفنهم في أسواقها، ويسافرون منها بحرا في طلب الرقيق، ومتى نالوا ما تمنوا من صيد أولئك الزنوج المنكودي الحظ رجعوا إلى زنجبار، ونفقت تجارتهم في أسواقها ، فلا يخامرنا ريب في أن هذا لا يسر سعادتك، ولا تطيب نفسك الكريمة بهذه الأرباح الذميمة، وأنك لتفرغن جهدك في ابطال الرقيق هذه المنكرات القبيحة التي ليس فيها خير للأمة والملك ، ونطلب من الله – سبحانه وتعالى - أن يطيل عمرك بالسعد والإقبال ويؤيدك في عمار تلك البلاد لترى بعينيك نجاحها وفلاحها في عز وأمان ".


فلما انتهى الخطيب من كلامه رد عليهم السلطان برغش بخطاب على رقعة من الرق فحواه كالتالي:


" أيها السادات أعضاء الجمعية البريطانية والخارجية المؤلفة لإبطال تجارة الرقيق صانكم الله..


أما بعد، فشكرا لكم على ترحيبكم بقدومنا إلى بلادكم السعيدة، ونحن قد سررنا كثيرا بمشاهدتكم ، أما إبطال تجارة الرقيق من أملاكنا، فلا بد منها، وإن شاء الله صرفنا تمام الهمة إلى القيام بما وعدنا به الدولة البريطانية، ولكن لا يخفى على فطنتكم الزكية أيها السادات الكرام أن تجارة الرقيق قد تأصلت، وتشعبت في أفريقيا الواسعة من أجيال قديمة، ولا يتيسر لنا استئصالها حالا في برهة، وجيزة من الزمان ، ولنا ثقة تامة في أن جمعيتكم الغيورة، والشعب البريطاني معا قد أدركتم ما قاسيناه من العناء، والمشقات في هذه المسألة، وما خسرناه من الأموال من جراء ذلك، وما زلنا نصرف الهمة إلى إقناع شعبنا باستماع نصائحنا، والسلوك بحسب مشورتنا ابتغاء إرضاء الأمة البريطانية العظيمة، فإنها لا جرم قد سعت في إصلاح بلادنا، وتوسيع نطاق الحضارة في ملكنها بسخاء وهمة عليا ، فنكرر الثناء على مآثركم الحميدة، ولا ننسى مكارمكم العميمة".


" حرّر بلندن لأربعة عشر خلت من جمادي الثانية سنة 1292هجرية "


ثم نهض السار (جون كنواي)، وشكر لسعادة السلطان اقتباله لأعضاء تلك الجمعية، وقال: " قد عرفنا حق المعرفة ما قاساه السيد برغش من العناء، وتكبده من الخسائر، وقد صممت تلك الجمعية على صرف الهمة في تسهيل كل المصاعب، وتعويض كل الخسائر ".


فرد عليه السيد برغش قائلا: " حبذا ما قلت أيها السار الجليل، وهذا غاية ما نتمناه ". ثم ودّع أعضاء الجمعية وصرفهم بسلام.

 


وفي الساعة الرابعة من نفس اليوم خرج السلطان إلى بستان (أورسيل لوج ويمبلدون)، وكان السار (بارتل فراير) قد أولم للسلطان في ذلك البستان وليمة فاخرة، فلما وصل السيد برغش إلى البستان لاقاه السار بارتل فراير بغاية الترحاب والبشاشة وسار بسعادته إلى السيد (لادي بارتل) قرينته، فسلمت على سعادته بلطف، وأنس، وكان في ذلك البستان الكثير من الأشراف، ووجوه الشعب البريطاني، فصرف السيد يومه هناك، وعاد إلى قصره في أمان الرحمن.

 

في زيارة السلطان برغش لجلالة الملكة فيكتوريا:


خرج السيد برغش وحشمه من لندن نهار الخميس 21 جون (حزيران) 16 جمادي الأولى يريد زيارة جلالة الملكة فيكتوريا في قصرها المشيد في قرية (ونزر) -وندسور-التي تبعد عن لندن نحو خمسة، وعشرين ميلا، وقد خرج السلطان من لندن بعد الظهر، وكان برفقته أخص وزرائه: أحمد بن سليمان، وحمود بن أحمد ، ومحمد بن أحمد ، وناصر بن سعيد، ومحمد بن سليمان ، وتاريا توين ، والدكتور كيرك ، واللورد داربي وزير الخارجية ، والشريف سار بارتل فراير ، والدكتور جرجس باجر ، ومستر كليمنت هيل كاتم أسرار وزارة الخارجية ، وقد وصلوا إلى قرية ونزر بعد الظهر بساعتين ونصف .

 


وكان شعب غفير قد اجتمع في محطة سكة الحديد ليسلم على السلطان رغم المطر، وكانت جنود الملكة مصطفين في سلام سعادته، وهم حاملو راياتهم الشرفية، والموسيقى تعزف بألحان رخيمة، وكان قد قدم إلى المحطة الكولونيل (جاردينز) نيابة عن جلالة الملكة ليلاقي سعادة السلطان، والذي رحب بالسيد برغش فور وصوله.


وكان الشعب يصرخ بأصوات الفرح: أهلا وسهلا ومرحبا بسعادة سلطان زنجبار، فرد السيد برغش السلام عليهم، ولما ركب العربة المخصصة له سلّم الجنود عليه برفع السلاح، وطفقت الموسيقى تصدح بأنغام عذبة، وفي مرورهم بشوارع القرية شاهدوا بناء مدرسة (إيتون) العظيمة وفيها 700 شاب من طلبة العلم، وبعدها وصلوا إلى قصر الملكة، والذي يقع على تل عال فوق نهر (التيمس) ويشغل من الأرض مساحة 13 فدانا، ومشهد أسواره، وما حوله من البروج يدهش العقل، ويحير الأبصار.


فلما وصل جناب السيد برغش ورجاله إلى قاعة الاستقبال قدمت جلالة الملكة (فيكتوريا)، وابنتها الأميرة (لويزة)، والأميرة (بياتريس) أصغر بنات الملكة وسلمن على السلطان في حجرة الاستقبال التي كان قد عني أهل القصر بتزينها أحسن زينة، وأرضها مزينة بتماثيل جميلة كان قد نحتها النحات الماهر (غرينلين جيبون) الشهير.


وبعد ذلك طلبت جلالة الملكة من السيد برغش بأن يجلس بجانبها، فجلس بوقار ملوكي، وأخذ يتفاوض مع الملكة باللغة العربية، وحضرة الدكتور باجر يترجم كلامه إلى الملكة بالإنكليزي.


ثم حضر رجال الدولة، وحريمهم بأفخر الملابس، وهن مزينات بمصاغ من الذهب، واللؤلؤ والألماس، فسلمن على سعادة السلطان بألطف سلام، ورحّبن بقدومه باحتشام، وبشاشة، وبعد أن لبثوا مدة في الزمان يتسامرون مع سعادة السلطان بأنس وحبور ، استدعوا سعادته إلى قاعة السفرة للجلوس، وتناول الطعام، وكانوا قد أعدوا فيها من الأطعمة الفاخرة، والمحالي النفيسة ما طابت به نفوسهم .


وفي أثناء ذلك نهضوا عن السفرة وأخذ اللورد ( شامبرلين ) أمين دار الملكة سعادة السلطان، ورجاله ودار بهم في القصر، وفرجهم على جميع القاعات والمخادع .


وفي الساعة الرابعة بعد الظهر توادع جناب السيد برغش مع جلالة الملكة، والأميرات بناتها وخرج من القصر متجه إلى لندن برتل مخصوص كانت جلالة الملكة أمرت بتجهيزه لسعادته.


وبعد انصراف سعادته من القصر جرى الكلام بينه، وبين رجاله على ما أبدته جلالة الملكة من اللطف ، والإكرام في حقه فقال السيد برغش أعزه الله:


" قد رأيت بعيني الآن ما كنت أشتهي عليه من نعومة أظفاري، وتشرفت بالنظر إلى محيا ملكة الإنكليز وجها بإزاء وجه، فكان أبي تغمده الرحمن برحمته يحكي لنا، ونحن صغار عن الملكة فيكتوريا، ويقول: إنه يود لو تسمح له المقادير بمشاهدة الملكة الجليلة، ولكن قضى نحبه ولم يقض وطره.


أما الذي زادني رغبة في مشاهدة ملكة الإنكليز، فهو من الأمور المستغربة ، فإني رأيت كثيرين من الإنكليز سواء كانوا من القواد، أو من الجنود، أو من التجار يمدحون غاية المديح هذه الملكة العظيمة ، ويثنون عليها كل الثناء ويودونها ودادا لا حد له، ولم أشاهد باقي الأمم يودون ملوكهم وملكاتهم وداد الإنكليز لملكتهم، وهذا جعلني أزداد رغبة في مشاهدة الملكة التي هي أشبه بحجر المغناطيس تجذب إليها قلوب القاصي والداني، وحسبك شاهد على ذلك ما رأيته بالأمس في قصر البلور، فإن الناس لما سمعوا الموسيقى تصدح بغناء الملكة نهضوا جميعا، وكشفوا عن رؤوسهم إجلالا لذكر اسم الملكة ، ولعمري لم يحرضهم أحد على القيام، وإنما قاموا من تلقاء أنفسهم لشدة توددهم إلى ملكتهم العظيمة، ولا جرم أنها عز الأمة البريطانية ومجد المملكة وأصل نجاح الشعب وفلاحه ، فمن لا يؤخذ من جانبي الدهشة، والتعجب عندما يرى امرأة جالسة على كرسي مملكة عظيمة لا تغرب الشمس عن سلطانها ،وهي تحكم وتسوس ولا يجري في الملك شيء بدون أمرها ، فسبحان من أعطى هذه المرأة حكما، وعلمها الجلوس على العرش وأيدها على سياسة الملك وجعل الأمة تنقاد إليها انقياد البنين لا انقياد العبيد ، فهي تسحر الناظر إليها ليس بعظمة سطوتها، وتلال الجواهر التي تسطع عليها، وحوليها من كل جهة ، وإنما تجذب القلوب إليها بلطف وأنس لا مزيد عليهما ولا مثيل لهما وهذا اللسان قاصر عن وصف جميع محاسنها صانها المولى وأبقاها ذخرا للملك وعزا لأمة الإنكليز .. آمين".

 

في زيارة السلطان لدوق أف كمبريج ابن عم الملكة فيكتوريا:

 


خرج السيد برغش في حشمه يريد زيارة دوق اف كمبريج في منزله، فخرج الدوق إلى لقائه، ورحب بقدومه، وأتى به إلى قاعة الاستقبال وجلسا يتفاوضان برهة من الزمان، وكان الدوق لابسا الملابس الرسمية في زي عسكر الجنود البريطانية لأنه كبير قواد العساكر وهو ابن عم الملكة فيكتوريا ولد سنة 1819م.


وبعد أن لبث السيد برغش يتفاوض مع الدوق بواسطة الترجمان استأذن من الدوق للانصراف ، وشكر له مكارمه، ثم خرج السلطان يريد الإياب إلى منزله وفيما هم كانوا سائرين قال السيد برغش لكبير وزرائه:


" ما رأيك بهذا الدوق؟ هو عندي جندي بطل، وكل شعرة من شعره دليل على جبروته، ولكن لهذا الجندي البطل قلب حنون أيضا، فإني رأيته يود أهله مودة قلبية وسار بي من حجرة الاستقبال إلى حجرة درسه، وأراني هناك كتبه وتواليفه وصور أولاد أخته، وهو يجل الملكة غاية الإجلال، فإن كان قائد الجنود الإنكليزية هو هذا البطل، فلا عجب أن تكون جنوده غير مقهورة، فعز الجنود قائدهم، بارك الله فيه وفي أمته".

 

 


وللرحلة بقية ..

 

 


المرجع: تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجبار، تأليف زاهر بن سعيد، تحقيق أحمد الشتيوي، 2007، وزارة التراث والثقافة مسقط.


الجزء الخامس
23/11/2015

نتهينا في الجزء الرابع من رحلة السلطان برغش إلى إنجلترا في زيارته الأخيرة لابن عم الملكة فيكتوريا الدوق (أف كمبيرج) الذي أكرم السلطان أحسن إكرام لينصرف بعده السيد برغش عائدا إلى قصره ليستعد في اليوم التالي إلى زيارة أماكن أخرى في إنجلترا .

 

في زيارة السلطان برغش لدار الندوة (البارلمنت):

 

في اليوم 24 من جون (حزيران) (19 جمادي الأولى) خرج السيد برغش في حشمه يريد الفرجة على دار الندوة بلندن، والذي تم بناؤه على هندسة (موسيو شارلس باري) سنة 1837م بعدما احترق البارلمنت القديم سنة 1834م، فلما بلغ الدار لاقاه الماجيور (جوست) والكولونل (فورستر)، واقتادا سعادته إلى رواق الشرفاء والأعيان ، وكان أعضاء المجلس من اللوردات، والشرفاء جالسين على كراسيهم بترتيب،  وهم يتباحثون في أمور السياسة ومصالح الأمة، وكان سار (هاركورت جونستن) يخطب في المجلس وقت دخول السلطان برغش الذي جلس في أعلى مكان من دار الشورى، وكان جناب الدكتور باجر والدكتور كيرك يترجمان لسعادة السلطان ما كان يتفاوض به أعضاء مجلس النواب.

 

وكان في غرفة من غرف المجلس جماعة منكبّين على الكتابة، فسأل سعادة السلطان عن حال أولئك الرجال، وعما كانوا يفعلونه ، فقال له جناب الدكتور باجر : " إن الرجال الجالسين في تلك الغرفة هم مكاتبو الغازيطات ( الصحف ) والنشرات اليومية، وكانوا يحضرون كل يوم إلى دار الندوة ليسمعوا مفاوضات نواب الأمة، وينقلوها خطيا ثم يسلمونها لرجل من رجال التلغراف القائم على الباب، وهو يرسلها حالا إلى أرباب الجرائد، فيطبعونها، وينشرونها في برهة نصف ساعة، وأحيانا تذاع خطب أعضاء المجلس في المملكة كلها قبل انقضاء الجلسة نفسها، وخروج الأعضاء من الديوان، وكثيرا ما يرى الخطباء خطبهم التي تلوها في المجلس منذ بضع دقائق مطبوعة في الجرائد التي تباع على باب دار الندوة.

 

ثم ما لبث السيد زمانا طويلا في مجلس الشورى ليرى انشقاق آراء الخطباء، ونواب الأمة كالعادة، ولكنه خرج في رجاله، ودخل مخدعا مظلما، وهو الديوان الذي سجل الوزراء فيه قضية الحكم بالموت على (شارلس الأول) ملك إنجلترا، وكان الفقيه باجر يتلو على سعادته أسماء الملوك، والملكات، ورجال السياسة الذين حكم عليهم بالموت في ذلك المجلس في عصور مختلفة، وكلما ذكر تلك الحوادث المكربة، يؤثر تأثيرا عظيما في نفس سعادة السلطان ورجاله.

 

ويتألف نواب المجلس هذا من 658 نفسا منهم 471 من الإنكليز العريقين، و29 من شعب الغولواء (سكان بلاد الغال) ، و53 من أهل سكوتلاند، و105 من أهل إيرلندا ، وهؤلاء الأعضاء ينتخبهم أهل البلاد المذكورة من المدن، والقرى الخاضعة للمملكة البريطانية المتحدة، ويشترك مع هؤلاء الأعضاء زعماء المدارس الكبار ( أوكسفورد ) ، و ( كامبردج ) ، و (دبلين )، وكل من ملك عقارا في المملكة بقيمة أربعين شلينا وصاعدا، له حق في إعطاء صوته بانتخاب نواب الأمة، وكذلك كل من كان له مدخول سنوي من أملاكه بقيمة عشرة ليرات، فصاعدا، ومن كان له عقارات يدفع عليها رسمها للميري ( الضرائب) بمبلغ خمسين ليرة، وصاعدا له حق في الانتخاب ، والذين لهم منازل في المدن، والقرى يستأجرونها بقيمة عشر ليرات سنويا لهم كذلك صوت في انتخاب الأعضاء، وأضف إلى هؤلاء كل من كان حرا متمتعا بامتيازات الدينة البريطانية، وأما في ايرلندا، واسكتلند، فالصفات المطلوبة في المنتخبين تختلف عن الصفات المطلوبة في الإنكليز العريقين .

 

في زيارة سعادة السلطان لمستشفى سانتوماس:

 

خرج السيد برغش في جماعة من وزرائه مصحوبا بخليله جرجس باجر الفقيه والدكتور كيرك يريد الفرجة على مستشفى سانتوماس، وهو من أكبر مستشفيات لندن، وربما هو أعظم مستشفى في الدنيا، فلما بلغ السيد في موكبه الحافل باب المستشفى خرج إلى لقائه سار (فرنسيس هيكس) أمين صندوق المستشفى ومستر (والكر) المدير ومستر (جون سيمون)، وجميع أطباء المستشفى، واسترحبوا بقدومه.

 

ثم أدخلوه أولا قاعة المصابين بالرمد، ثم إلى القاعة التي أنشأتها السيدة (ناينتنغال) الكريمة من مالها لخدمة المستشفى، ثم فرجوه على القاعة التي وضعت أساسها جلالة الملكة سنة 1868م.

 

وكان في القاعة حجر منقوش فيها وصايا موسى النبي عليه الصلاة والسلام بالقلم الإنكليزي، ثم صعد سعادته إلى الرواق الأعلى، وهو أضيق من الرواق التحتي، فتعجب السيد من إتقان بنائه المحكم ومن اتساعه الذي يبلغ نحو 900 قدم ونيف.

 

ثم سار إلى قاعتي فيكتوريا وألبرت، فواحد منهما معدة للمرضى الرجال، والثانية معدة للأطفال، ومن هناك خرج إلى المنظرة التي تشرف على نهر التيمس، ودار البارلمنت، وبعد أن تفقد مخادع المرضى، ورأى ما هي عليه من السعة، والنظافة، وحسن الترتيب سر بذلك غاية السرور وقال: "ما هذه دار مرضى، بل منازل تباري قصور الملوك".

 

وفيما كان السلطان مارا بمخادع المرضى كان المصابون ينظرون إليه بأعين الارتياح، والسرور، وروح المحبة تشف عن وجوههم التي قد علاها الصفار، وشوهها السقام ،وما زاد السلطان سرورا كان ما نظره من أصناف الملاعب التي يحضرها خدام المستشفى لتسلية الأولاد، والأطفال والمرضى، فالتفت السيد برغش إلى سار فرنسيس هيكس، وأثنى على هممه الخيرية، وحسن سعيه في الاستحضار على كل ما يخفف على المرضى، والمصابين أثقال أسقامهم، وقال: " لا جرم أن هذه حسنة كبرى عند الله ".

 

ومن غريب ما اتفق في أثناء ذلك من الحوادث هو أنه ريثما كان السلطان (صانه الله) خارجا من المستشفى ليركب عربته، وإذا بلوح من الزجاج السميك الذي كان يغطي سقف مدخل المستشفى هبط إلى الأرض، وتحطم على درج الباب قبل وصول سعادته إليه، وكان الباعث على ذلك أن أحد العاملين رغب في أن يرى سعادة السلطان، وهو خارج من الباب، فقفز من إحدى الطاقات إلى السطح المسقوف بألواح الزجاج ليشرف على عربة السلطان، فانكسر اللوح من عزم ثقل العامل، وسقط محطما إلى الأرض، وبلطفه تعالى لم يمس سعادته شيء من الخطر في تلك الحادثة.

 

 

في حضور السلطان برغش مأدبة الملكة:

 

أصدرت جلالة الملكة فيكتوريا أمرها السامي باتخاذ مأدبة غناء ملوكية إكراما لسعادة السلطان في قصرها (بوكينكهام)، ثم أرسلت كتابا إلى سعادة السلطان تعرض عليه تشريف وليمتها بحضوره، فأجاب السيد دعوتها بلطف وشكران.

 

وحضر هذه المأدبة الأمير أف ولس ولي العهد وقرينته، وجلالة ملكة نذرلند (هولندا)، والأمير كريستين شلسيك هولستين، والأميرة قرينته، وحضر أيضا الأميرة لويسة ابنة الملكة فيكتوريا وزوجها الماركيز أف لورن، والأمير دوق أف ايدينبره ثاني أولاد جلالة الملكة، وزوجته الدوقسية ابنة قيصر روسيا، وكذلك حضر الأمير دوق أف كننوت ثالث أولاد الملكة، والأميرة غراندوقيسة أف مكلمبرج أسترليز، والدوق الشريف أف تك وزوجته الأميرة الدوقسية ابنة الملكة.

 

وبعد هؤلاء الأمراء والأميرات وصل السيد برغش سلطان زنجبار اعزه الله وفي حشمه حمود بن أحمد، وحمد بن سليمان، ومحمد بن أحمد، وناصر بن سعيد، والدكتور كيرك، والفقيه جرجس باجر، ومستر كليمنت هيل.

 

وكانت الأميرة أف ولس زوجة ولي العهد لابسة ثوبا من الحرير الأبيض بلون العاج على أطرافه سيور من القطيفة السمراء منضدة بالورد، وكان على رأسها تاج من الألماس وفي عنقها قلادة من اللؤلؤ والألماس، وكانت حاملة على صدرها نيشان فيكتوريا وألبرت ونيشان كاثرينا ملكة الروسية ونيشان عائلة دانيمركا الملوكية.

 

وكانت الأميرة شلسيك هولستين مرتدية ثوبا من الحرير الأبيض بلون أغبر وعلى أطرافه سيور مزركشة من نسيج بلاد الصين وعلى رأسها تاج منضد بألماس وحجارة لازورد وفي عنقها قلادة من الألماس ، وكانت حاملة على صدرها نيشان فيكتوريا وألبرت، ونيشان سانت كاثرينا الروسية ، ونيشان دولة البورتكيز، والنيشان البروسياني .

 

وبعد أن اجتمع المدعون واستوى المحفل باشر المغنيون باشر المغنيون بالغناء والعزف بالآلات الموسيقية، وكان عدد المغنيين والعازفين نحو 160 شخصا ونيفا ، وكان قد صار انتخابهم من بين أشهر المغنيين بلندن ، وكانت موسيقى الملكة في معيتهم .

 

وهذا فهرس الأغاني التي غنوا بها في تلك المأدبة:

 

 1 – فاتحة الغناء اسمها " شافي شاس ".

 

2 -غناء مزدوج مطلعه " هناك نصافح بعضنا "وكلامه باللغة الإيتليانية (الإيطالية)، وغنى بها السيد " روتا " والسيدة " زاره" وهو غناء مقتطف من الأوبرا الإيتليانية المعروفة باسم " دون جوفاني " .

 

3 – "مادريغال" مطلعها " نرتع في وادي الزهور " وكلامها بالإنكليزي، وغنى بها جمع غفير.

 

4 – " هوى " مطلعها " سعدا لك يا بلاد العرب المحبوبة " غنت به السيدة " ترابللي بتيني " وكلام الغناء بالإيتلياني.

 

5 – " مادريغال " مطلعها " أيها الملاك اللابس جسما بشريا " غنت بها السيدة " ادلينا باتي " والسيد " نيكوليني " وكلامها بالإيتلياني.

 

6 –هوى مطلعه " يا ليلة هادئة " غنت بها السيدة " تيسيان " باللغة الإيتالينية.

 

7 – هو مطلعها " نفسها الحزينة " وكلامه باللغة اللاتينية وغنى بها السيد " نيكوليني ".

 

8 – هوى باللغة الإيتليانية مطلعه " الآن أنا وحدي " وهو مقتطف من الأوبرا الإيتليانية المعروفة باسم " فراديافولو " غنت بها السيدة زارا.

 

9 – مقالة حماسية غنى بها جمع غفير وكان كلامها باللغة الجرمانية (الألمانية).

 

10 – غناء إيتلياني اسمه " برينديزي " ومطلعه " السر " مقتطف من الأوبرا الإيتليانية المسماة " لوكراسيا بورجيا " غنت به السيدة " حنه دي بيلوكا ".

 

11 – غناء اسمه " رومانزا " مقطف من الأوبرا المسماة " لافافوريتا " ومطلعها " لكل هذه المحبة " وكلامها بالإيتلياني غنى بها السيد " روتا ".

 

12 – غناء مزدوج مقتطف من الأوبرا الإيتليانية المسماة " سيميراميدا" (ملكة بابل) مطلعه " يا له من يوم تعيس فقدت فيه حبيبي " غنت به السيدة " تيسان " والسيدة " تريبلي بتتيني".

 

13 – غناء إيتلياني مطلعه " أيها الطيف اللطيف "، غنت به السيدة " ادلينا باتي ".

 

14 – غناء مزدوج مقتطف من الأوبرا الإيتليانية المسماة " ايل تروفاتوري" مطلعه " إذ اشقاك التعب يا أماه " وهو غناء رخيم يحن له قلب الجلمود غنت به السيدة " حنه دي بيلوكا " والسيدة " نيكوليني " .

 

15 – غناء مثلث الأصوات مقتطف من الغناء المعروف باسم " الزيجة السرية " وكلامه بالإيتلياني ومطلعه " انحنيت له برأسي تحية وسلاما " غنت به السيدة " أدلينا باتي "، والسيدة " زاره " والسيدة " تريبللي".

 

16 – خاتمة الغناء كانت مقامة الدولة البريطانية، وكلامها بالإنكليزي مطلعها " اللهم احفظ الملكة "، عزفت به الموسيقى الملوكية بإدارة السيد " كوزين".

 

أما رجال السياسة الذين حضروا هذه المأدبة الشائقة مع حريمهم فهذه أسمائهم:

سفير الدولة العثمانية " موسوروس باشا " وابنته ، وثم سفير دولة أوستريا ولمجر ، ثم سفير دولة جرمانية وزوجته الكونتسية " ماري مونستر " ثم سفير الدولة الروسية ، ثم سفير دولة هوندوراس وزوجته، ثم سفير دولة سالفادور وغواتيمالا والسيدة قرينته ثم سفير دولة الدانمارك وزوجته ، ثم سفير دولتي السويد "ونروج" والبارونيسة هوكشيلد ، ثم سفير دولة البيرو وزوجته ، وسفير دولة البورتكيز وزوجته ، ومن ثم سفير نذرلند وزوجته ، ثم سفير جمهورية البلاد المتحدة وابنتاه ، ثم سفير البلجيك وزوجته البارونيسة، ثم سفير دولة إيران ميزار ملكم خان وزوجته ، ثم سفير دولة البرازيل وزوجته ثم سفير دولة " باراكويا" ( بورما ) ، ثم سفير دولة اليابون ودولة الاسفنيول ، ثم سفير دولة فرنسه وزوجته ، ثم سفير جمهورية الأرجنتين وزوجته ، ثم وكيل دولة إيطاليا وزوجته ، ثم كاتم سفارة مملكة اليونان ، والكثير من كبار الشخصيات والشرفاء في إنجلترا حضر هذا الحفل لا يسعنا هنا ذكرهم جميعهم ، وقد دامت الوليمة نحو ست ساعات، وبعد اختتامها انصرف الجميع إلى منازلهم بسرور وحبور .

 

وللرحلة بقية ..

 

المرجع: تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجبار، تأليف زاهر بن سعيد، تحقيق أحمد الشتيوي، 2007، وزارة التراث والثقافة مسقط.

No comments:

Post a Comment