Tuesday, July 12, 2016

زنجبـار أندلس افريقيا الضائعة

 
أحمد الظرافي
دنيا الوطن
20/3/2008


 لم تكن الأندلس هي الفردوس الأولى ولا الأخيرة، التي يفقدها العرب، أو يتم إخراجهم عنوة منها، بعد قرون من وجودهم وحضارتهم الزاهرة فيها، فهناك – في حقيقة الأمر - أكثر من فردوس أو أندلس عربية مفقود، لا يملك المرء عند ذكرها إلا الشعور بالألم والحسرة، على هذه الأمجاد الضائعة، رغم مرارة وبؤس الواقع العربي الراهن. والذي يزداد تدهورا يوما بعد يوم. وهاهنا واحدة من تلك الجنان المفقودة والأمجاد الضائعة..إنها زنجبار مملكة العرب القديمة ومفتاح الشاطئ الشرقي لأفريقيا، وأشهر مركز إشعاع إسلامي في القارة السوداء. زنجبار الجزيرة الخضراء البديعة العبقة، حيث اللسان عربي، والتاريخ عربي، والتراث الحضاري عربي، والحكم عربي حتى قبل 44عاما فقط مضت.. الفارق أن زنجبار لا بواكي لها. فكيف كانت بداية الوجود العربي.. وكيف انتهى أفول الخروج؟



بر الزنـج

زنجبار عبارة عن جزيرة تبدو صغيرة في حجمها، ولكنها كبيرة بموقعها الجغرافي الاستراتيجي، وبطبيعتها الجميلة الخلابة، وبشعبها الحيوي النشط، وهي تقع في المحيط الهندي على بعد عشرين ميلاً عن الساحل الشرقي لأفريقيا، ويعني اسمها باللغة العربية "بر الزنج". أو ساحل الزنج، وتكتب باللغة الإنجليزية هكذا ( Zanzibar )، وتبلغ مساحة زنجبار– أو الجزيرة الخضراء، كما يحلو لسكانها في وصفها - حوالي1600كم مربع، وأما عدد سكانها فيبلغ – طبقا لآخر الإحصائيات - زهاء مليون نسمة منهم حوالي 97% مسلمون. وهم من الأفارقة والعرب والفرس والهنود. والنسبة الباقية فتتشكل من المسيحيين والهندوس.

واللغة السائدة فيها حاليا هي اللغة السواحلية وهي مزيج من لغات أفريقية قديمة واللغة العربية. ويقدر بعض علماء اللغة أن 70% من اللغة السواحلية من أصل عربي. وتتبع جزيرة زنجبار سياسيا دولة تنزانيا الحديثة النشأة والتكوين وتخضع لنظام حكم شبه ذاتي.

وتجمع الكتابات التاريخية والآثار أن العرب – وتحديدا عرب الجنوب الذين ركبوا البحر منذ القدم – قد بسطوا سيطرتهم على الساحل الشرقي لأفريقيا منذ القرن الأول الميلادي، وأمتد نشاطهم التجاري حتى الهند، وأقاموا المدن الزاهرة، وكانت الموانئ المنتشرة على طول الساحل محطات ومرافئ للسفن العربية التي تخترق المحيط في طريقها إلى الهند. ويحدثنا التاريخ بأن الحبشة أسسها عرب الجنوب الذين حكموا "الصومال" وما جاورها وأن"زنجبار" كان يحكمها سلطان عربي. وكل هؤلاء قدموا إلى هذه البلاد واستوطنوها مع جاليات ضخمة من العرب عن طريق البحر، بسبب نشاطهم الملاحي الذي كان سبباً لانتشارهم في أكثر البلاد والمدن الساحلية التي تقع على ساحل البحر الأحمر والمحيط الهندي والخليج العربي. وكانت اللغة العربية هي اللغة الرسمية السائدة في زنجبار ومنها انتشرت إلى العديد من الدول الإفريقية المجاورة.

ويقول المسعودى في سياق الحديث عن التجارة بأن أصحاب المراكب الذين كانوا يبحرون إلى أفريقيا الشرقية في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي كانوا عربا، ووصلوا حتى ميناء سفاله في موزمبيق الذي كان آنذاك مرفأً لتجارة الذهب القادمة من داخل البلاد . وكانت السلع التي تسعى المراكب لجلبها هي الذهب والعاج والأخشاب والتوابل والعنبر.واستمر الحال هكذا حتى سقوط بغداد في يد الغزاة المنغوليين عام 656هـ / 1258م مما أدى مرة أخرى إلى هجرة كثير من المسلمين إلى بلدان سواحل شرق القارة .

وتبين الآثار التاريخية المادية أن العلاقات التجارية التي ربطت دول الخليج العربية الحالية بشرق إفريقيا منذ القدم, لم تنقطع إلا بعد ظهور النفط.



مركز إشعاع إسلامي

وتاريخيا تعتبر زنجبار أرضا مسلمةً منذ القرن الأول الهجري. وقد انتشر فيها الإسلام نتيجة الهجرات المنظمة والمتوالية لبعض القبائل الأزدية والحضرمية والشيرازية إليها ثم نتيجة للعلاقات التجارية بينها وبين عرب الجنوب والخليج. وما كان يتحلى به هؤلاء التجار من سلوك قويم ومعاملة حسنة. وتعود أقدم الهجرات العربية إليها إلى عصر الخليفة عبد الملك بن مروان ( 65-86هـ) الموافق ( 685- 705م ). أثناء حملات الحجاج الثقفي العسكرية لضم عمان إلى الدولة الأموية.

وتجدر الإشارة إلى أن القبائل العربية التي هاجرت إلى زنجبار وشرق أفريقيا بعد الإسلام، لم تكن بوافدة على بيئة غريبة عليها, فقد كان هنالك تواصل وتداخل بين الجزيرة العربية والمناطق الإفريقية الداخلية منذ ما قبل الميلاد, تولد عنه كيان بشري وثقافة مشتركة، وقد شكل هذا الوعاء اللغوي والثقافي المشترك عاملا مهما لانتشار الإسلام في هذه المنطقة، بصورة تلقائية عن طريق الدعوة والإقناع، ومن ثم سهولة بسط نفوذ العرب المسلمين السياسي والثقافي في شرق أفريقيا. وكان من نتيجة انتشار الإسلام والمسلمين في المنطقة أن حل العرب والمسلمون محل غيرهم في التجارة البحرية بالمنطقة اعتبارا من القرن الثاني للهجرة ( الثامن الميلادي ) - وقد قامت في زنجبار أول دولة إسلامية عربية في أفريقيا وظلت زنجبار على مدى قرون عديدة من أهم مراكز نشر الإسلام واللغة العربية في شرق القارة الأفريقية.

وهناك من الباحثين من يرجع دخول الإسلام إلى زنجبار وشرق أفريقيا إلى مرحلة سابقة لهجرة تلك القبائل العربية إليها، وهي مرحلة فجر الإسلام، حين خرج العرب الذين أنار الدين الجديد عقولهم وحرر أخلاقهم وجدد هممهم، لنشر الدين في الشمال والغرب والشرق، وتمكنوا – أثناء ذلك - من نشر الإسلام في أجزاء كبيرة من القارة الأفريقية – بما فيها زنجبار- ويستدلون على ذلك بكون تلك المجتمعات الإفريقية لم تتبن المذاهب الفقهية أو العقائدية التي كانت تسود في المناطق التي هاجر منها أولئك العرب المسلمون. فلا نجد مثلا المذهب الإباضي أو المذهب الشيعي منتشرا في مناطق شرق إفريقيا أو وسطها. وهو ما ينطبق على زنجبار نفسها باستثناء الأسرة الحاكمة، والملتفين حولها، والذين اقتصرت أنشطتهم على التجارة والزراعة.إلى جانب أعداد قليلة من الشيعة وهم في أصولهم من مهاجري الهند وإيران والذين وفدوا إليها في مراحل لاحقة. ولذلك فقد ظلت زنجبار بمنأى عن الصراعات والفتن المذهبية لمدة طويلة، ولم تعرف الجاليات الإسلامية هذه الفتن إلا لمرة واحدة تقريبا، وذلك في عام 1336هـ الموافق 1928م ، أي بعد وقوع الجزيرة في براثن الاستعمار الانجليزي، وكانت هذه الفتنة بين الحضارم والعمانيين نتيجة للخلاف المذهبي بينهما– وهذا كما ذكر الأستاذ الدكتور صالح علي باصرة في مقال له نقلا عن أحد المصادر-.



السيادة العمانية

وقد خضعت زنجبار تاريخيا لسلطنة حكام عمان سواء عندما حكمها اليعاربة (1624ـ1742)، أو آل بوسعيد، (البوسعيديين), الذين يعتبر عصرهم هو العصر الذهبي للوجود العماني في شرق إفريقيا. وكان سلطان عمان يمتد إلى ممباسا وماليندي ومقديشو وأسمرة ومدن كثيرة حتى وسط أفريقيا. وفي فترة حكمهم انتشرت الثقافة العربية الإسلامية – ليس في زنجبار قاعدة حكمهم في أفريقيا فحسب – وإنما على طول الساحل الشرقي الإفريقي وفي الداخل. وقد ظلت سيطرة العمانيين على زنجبار وساحل شرق أفريقيا قرابة ألف عام، ولم تنقطع خلالها إلا فترات قصيرة عانت فيها مناطق النفوذ العماني من رحلات الاستكشاف البرتغالية، ثم من الاستعمار والتأثير البرتغالي، وتحديدا منذ القرن الخامس عشر وحتى أواخر القرن السابع عشر، إلى أن طرد الأمام سلطان بن سيف البرتغاليين من عمان ومنطقة الخليج، ثم من زنجبار في العام 1652 ثم بعد ذلك من ساحل شرق أفريقيا. ولقد أغرى ذلك الانتصار العمانيين بملاحقة البرتغاليين في المحيط الهندي وإلى شواطئ إفريقيا, كما لا يمكن إهمال الجانب الديني والوطني الذي دفع (عمان) لتخليص عرب ومسلمي شرق إفريقيا من الاستعمار البرتغالي. وكان لتحرر الإمارات الإسلامية من الكابوس البرتغالي أثر عميق في استعادة الحركة الإسلامية نشاطها. وبدأ الإسلام بالتوغل فعلياً نحو الداخل، عن طريق التجار والدعاة والذين نشطوا في نشر عقيدة التوحيد، في موزمبيق وسفالة، ونفذوا إلى منطقة نياسالاند (ملاوي اليوم)، وهضبة البحيرات ومملكة بوغندة (أوغندة) وكينية وتنجانيقا حتى حدود الكونغو، وأقيمت المساجد والكتاتيب في كل مدينة وقرية. وأحرز الإسلام تقدماً مماثلاً في مناطق شمال مقديشو. كما تسرب سلمياً إلى قلب الحبشة طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر. وكان للاتصال المستمر بين هذه الإمارات والعالم الإسلامي أثره الكبير في انتشار الإسلام والثقافة العربية الإسلامية.



لؤلؤة المملكة

كان النظام المستقر أن جزيرة زنجبار وساحل أفريقيا الشرقي تابعان لسلطان عمان الذي كان يحكم من عمان، ويفوض ولاةً على زنجبار وبقية ممالك الساحل مقابل ضريبة سنوية. وفي عام 1828م قام السلطان سعيد بن سلطان أو السيد البحار كـما كان الأوربيون يطلقون عليه – والذي لم يكن يبلغ حينذاك 18 عامًا – قام بزيارة إلى جناح مملكته في شرق أفريقيا، وعندما وصل إلى زنجبار استهواه جمالها وطيب مناخها مقارنة بهجير عمان، فجعل الجزيرة مقره الرسمي، وعاصمة لمملكة يحكم منها عمان وساحل أفريقيا- بدلا عن مسقط - وأصبحت زنجبار منذ ذلك التاريخ عاصمة لمملكة عمان الواسعة والمترامية، وسرعان ما تعاظمت وتكثفت هجرات العمانيين إلى الجزيرة ملتحقين بسلطانهم. وإلى السلطان سعيد بن سلطان ( 1807- 1856 ) يعود الفضل في كونه أول من زرع شجر القرنفل في الجزيرة والتوسع فيها، على الرغم من معارضة الأهالي، لتصبح زنجبار اليوم أكبر مصدر للقرنفل في العالم كله. وقد استمر هذا السلطان البحار التاجر يحكم الجزيرة لمدة 50 عامًا متواصلة. وقد مات وهو يقود سفينته كـما تمنى وكـما عاش دوما. وفي عهدة وصلت أول سفينة عربية إلى ميناء نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك في 13أبريل 1840. حاملة هدايا إلى الرئيس الأمريكي: حصانين ولآلئ وأحجار كريمة وسبيكة من الذهب وسجادة عجمية من حرير وعطر وماء ورد وأكثر من شال كشميري وسيف مذهب- إلى جانب مبعـوث السلطـان الخاص إليه- وكان ذلك - ثمرة معاهدة صداقة وتجارة أبرمها السلطان مع أمريكا في فترة المد الاستعماري الرأسمالي لأفريقيا – كما سيأتي-.

وقد ازدهرت زنجبار منذ ذلك الحين، عمرانيا وزراعيا، وتحولت من قرية صغيرة، إلى أن صارت تعتبر ثالث دولة تجارية في المحيط الهندي، وأصبحت نقطة التقاء أشراف الساحل الشرقي الأفريقي والعمانيين، وتضاءلت بجانبها المدن الأخرى الزاهرة مثل ممباسا وماليندي وكلوه. - ولما كانت سياسة هذا السلطان تتركز على تنشيط التجارة فقد شجع الهنود على الهجرة فوفدت أعداد وفيرة منهم.

ثم قوى نفوذ الهنود في عهد الانجليز والألمان وأصبحوا أصحاب الأملاك والفنادق والمحلات التجارية.

بيد أن التوهج الحضاري الكبير لم يدم طويلا ، فبعد وفاة السلطان سعيد انكمشت تلك المملكة الواسعة بنفس السرعة التي ازدهرت بها وكان للاستعمار الغربي اليد الطولى في ذلك، فضلا عن عامل الصراعات بين الأخوة على الحكم – وما أكثرها في تاريخ عمان -



الاستعمار وحبائل الشيطان

كان استقرار السلطان سعيد بن سلطان في زنجبار مع بدء إحساس الغرب بأهمية موقع زنجبار الاستراتيجي، من حيث كونها موقع مواجهة مع ساحل أفريقيا الشرقي القريب من الهند ومن ساحل الخليج العربي. – وقد وصفها الرحالة الإيطالي الشهير ماركو بولو، أثناء زيارتها، بأنها «بلد العاج الكبير»، بعد أن اشتهرت بكونها عاصمة" سلطنة أفرو-عرب" Afro - Arab Daynasty وكانت الكشوف الجغرافية في أفريقيا سببا كافيا لكي يلتهب خيال أوروبا بالطمع في أفريقيا بعامة وزنجبار بوجه خاص. وفي القرن التاسع عشر احتدم صراع كبير بين الدول الرأسمالية الاستعمارية حول زنجبار بدأ بين بريطانيا وألمانيا، ثم تطور بعد ذلك ليصبح بين ايطاليا وفرنسا وبريطانيا وأمريكا، إلا أن أمريكا كانت اسبق الجميع حين وقعت معاهدة صداقة مع زنجبار عام 1823 بعد تدشين العلاقات الدبلوماسية الثنائية معها، وحظيت أمريكا بموجبها على امتياز الدولة الأحق بالرعاية. وتم فتح قنصليتها بالجزيرة في عام 1833. وفي عام 1839، وقعت بريطانيا معاهدة مع زنجبار، اشترطت فيها على السلطان تحريم الرقيق، بعد أن كانت بريطانيا وغيرها من الدول الرأسمالية الأوربية قد تشبعت تماما من هذه التجارة اللعينة وما وفرته لها من أيد عاملة مُستعبَدة، ومن ثرواتٍ طائلة، كما أعطت المعاهدة للسفن البريطانية الحق في تفتيش السفن ومصادرة أي سفن تمارس هذه التجارة. واقتضى الأمر أن تتخذ بريطانيا من قوتها البحرية وسيلة لمحاربة آخر معاقل هذه التجارة في زنجبار والسودان، ولكن بعد أن كانت قد حصدت أكبر المغانم قاطبة منها. وتحت هذا الستار وبمعاونة مكتب شركة الهند الشرقية امتدت الأصابع البريطانية لزرع بذور الشقاق والفتنة، وإذكاء روح العداوة والبغضاء بين الأسرة العربية الحاكمة من جانب، واللعب على حبل التناقضات العنصرية والجنسية بين القوميات الثلاث التي ينتمي إليها سكان الجزيرة ( العرب والأفارقة والشيرازين )، من جانب آخر، بالرغم من أنهم جميعا يدينون بدين الإسلام. وبعدها نجحوا في ضم الإفريقيين والشرازيين في حزب واحد.

لقد كان الاستعمار الأوربي مدركا لعناصر القوة التي تُكتب للحضارة العربية الإسلامية البقاء في شرق ووسط إفريقيا. فحاربها سياسيا بزراعة المفاهيم الخاطئة لدى النخبة المتعلمة من ذوي الأصول الإفريقية, وعمل على محو الأثر الثقافي العربي والإسلامي في شرق إفريقيا, كما تمثل ذلك فيما لقيه الحرف العربي من حرب بالنسبة للغة الصومالية واللغة السواحلية, وكان أهون الأشكال ما بدأت تظهره الإدارة الاستعمارية من ضيق بالوثائق والمداولات المكتبية المكتوبة باللغة العربية أو السواحلية بالحرف العربي.. وجعلت الإدارة الاستعمارية الألمانية في شرق إفريقيا استعمال الكتابة العربية في الدوائر الرسمية والوثائق الحكومية أمرا يحرمه القانون.



صراعات الأخوة وانعكاساتها

بعد وفاة السلطان سعيد بن سلطان في 19أكتوبر1856 ثار الشقاق بين اثنين من أشقائه، وكالعادة استعان احدهما بالبريطانيين، وتدخل البريطانيون فشكلوا لجنة تحكيم برئاسة اللورد " كانتج" المندوب السامي في الهند، فقسم الإمبراطورية إلى جزأين أساسيين، هما عمان وقد جعلها من نصيب السلطان ثويني بن سعيد، وزنجبار وجعلها من نصيب السلطان ماجد. ومنذ ذلك التاريخ انفصلت زنجبار عن عمان. وكان ذلك نذير شؤم بالنسبة لجناحي المملكة كليهما، فقد " فقدت عُمان جزءا كبيرا مـن إمبراطوريتها بعد ذلك وتعرض مدها للانحسار وتقوقعـت بعد ذلك داخل حدودها ومرت عليها فترات طـويلة قاسيـة انعزلـت فيها نهائيا عن العـالم الخارجي.. ثم عادت إلى الظهور مرة أخـرى بعد عام 1970 كـأنها طائر العنقاء يخرج جديدا من وسط الرماد ".

وداخل زنجبار ثار خلاف وشقاقٍ جديد بين الأخوة، فقد حاول برغش شقيق السلطان ماجد أن يغتاله في مؤامرة شاركهُ فيها بعض أفراد العائلة، فاستعان ماجد بالبريطانيين، فتولوا حمايته بالقوة المسلحة، وحكم على برغش شقيق السلطان بالنفي إلى الهند. واستمر الموقف بنزاعات وشقاقات وانتهز البريطانيون الفرصة ليبسطوا أيديهم أكثر على الجزيرة.

وفي نوفمبر1886 قُسِّمت الجزيرة بين بريطانيا وفرنسا وألمانيا. وتعاظم الصراع بعد ذلك، وتوالى بشكل سريع، وتعاقب على حكم زنجبار ولاة لم يدم حكم بعضهم عامين، وعرفت الجزيرة الانقلابات والحروب، ومكن هذا الوضع الاستعمار الانجليزي من نزع زنجبار من سلطة العمانيين على الجزيرة، وتحويل مقاليد الأمور الحقيقية إلى أيديهم ، حتى أنهم عزلوا حاكما من حكامها بالقوة المسلحة لينصبوا آخر، وهكذا.

وخلال ذلك نشطت الجمعيات والبعثات التبشيرية، التي تستند بقوة للغزو الثقافي وللإغراء المادي للفقراء، - وقد سهل سلطان زنجبار- رغم أنه مسلم - عمل تلك البعثات المسيحية، وعرض كافة المساعدات والتسهيلات للبعثات المسيحية عندما اتصلت به. وهذه مصيبة أخرى.

وللتحكم في عقول الطلائع الجديدة وخلق نخبة وطنية موالية له راحت أصابع الاستعمار تلعب وتتدخل في العملية التعليمية، وقررت الإدارة البريطانية استخدام الحروف الرومانية لكتابة اللغة السواحلية بحجة أن المبشرين والقساوسة قد استخدموها لمدة خمسين عاما في مجال التعليم, متجاهلة بذلك تجربة خمسة قرون متواصلة من استعمال الحرف العربي, ولما فتحت مدرسه في زنجبار سنة 1907م رفض كثير من السكان إرسال أبنائهم إلي هذه المدرسة خوفاً من الحركات التنصرية، التي كانت تستعمل المدارس لهذا الغرض، وقاوم أهالي زنجبار تلك السياسة الاستعمارية فقاطعوا التعليم الحكومي لمدة طويلة, ووصف البريطانيون الحماس الوطني بأنه (تحيز محلي)!

وأمام هذا الصمود والتشبث بالحرف العربي، شجعت بريطانيا توافد الأفارقة من الساحل الأفريقي إلى الجزيرة، لتغيير هويتها العربية، وتدريجيا بدأ البريطانيون في تكوين قوى وحركات سياسية وطنية موالية لهم داخل الجزيرة، عبر تقديم برامج لبناء مجدها السياسي على أسس من التفريق الإثني والعرقي بين العربي والإفريقي وهو ما أدى إلى إذكاء حدة التفرقة بين العرب والأفارقة، وعمل الانجليز على تحجيم التواصل العربي الإسلامي مع شرق ووسط إفريقيا بوسائل إدارية كما يتبين من تلك الإجراءات المعقدة والمطولة في وجه الراغبين في السفر من مواطني غرب إفريقيا إلى دول شرق ووسط إفريقيا..

وانتهج المستعمرون والمبشرون الخبثاء وأعوانهم سياسة منظمة ومستمرة إزاء العرب " المسيطرين على الاقتصاد والتجارة " دأبت على بث الكراهية والتشويه المتعمد لصورتهم، وإثارة الأهالي الأفارقة ضدهم على اعتبار أن أولئك العرب هم الذين باعوا الأفارقة كعبيد للمستعمرين البريطانيين والفرنسيين " وصبر البريطانيون طويلا وزرعوا كثيرا، وكان لا بد أن يثمر الزرع الذي زرعوه"



النهاية المأساوية

حتى صباح يوم السبت 11يناير عام 1964 كانت زنجبار لا تزال جزيرة عربية مستقلة، يحكمها سلطان عربي هو السلطان جمشيد بن عبد الله بوسعيد، أحد أحفاد السلطان سعيد بن سلطان، وفي مساء السبت عاد الناس إلى بيوتهم، والهدوء يلف الجزيرة، ومرت الساعات الأولى من الليل رطبة شتائية، وبعد منتصف الليل شق هدوء الجزيرة صوت بعض طلقات الرصاص. لم يستمر طويلا، بل سرعان بعده ما عاد الهدوء فذهب الناس إلى نومهم مطمئنين، غير مكترثين كثيرا لما حدث، ودون أن يتوقعوا أن الأسوأ في طريقه إليهم، وما هي إلا ساعة بعد انتصاف الليل، حتى وقع الفأس في الرأس، فقد اجتاحت الأحياء والدور العربية فرق من الجنود، فشرعوا في قتل سكانها واستباحوا النساء، ونهبوا البيوت والممتلكات، وخلال دقائق معدودة تحولت بيوت العرب وأحيائهم، إلى مسالخ وإلى حمامات دم، وأصبح قتل طفل أو شيخ أو امرأة عربية أسهل من التفكير بقتل نملة !!! وسقط منهم في هذه المذبحة المنظمة ما يزيد على عشرين ألف قتيل، وفي رواية أخرى قد بلغ عدد القتلى خمسين ألفا. وما أن طلع الصباح، صباح الأحد يوم 12يناير1964 الموافق 27 شعبان 1383هـ إلا وزنجبار، بر الزنج، لؤلؤة الممالك، مقر سلطنة الحكام العرب، لم تعد زنجبار العربية، فقد كانت طلقات الرصاص تلك إيذانا بساعة الصفر لعملية حصار لمقر الحكم العربي. وعملية اجتياح مراكز الشرطة، والاستيلاء عليها من قبل الجنود ذوي الأصول الأفريقية والشيرازية - وأكثرهم مسلمون كانت أساليب التحريض والتجهيل والغزو الفكري الاستعمارية الخبيثة على مدى العقود الماضية، قد نجحت في تفريغ أدمغتهم من قيم الأخوة والتسامح الإسلامية وحشوها بنزعة التعصب العنصرية وبثقافة الحقد ضد العرب-.. انقلاب دموي كامل دبَّر بليل لاستئصال شأفة العرب حكاما ومحكومين، تم معظمه بالسلاح الأبيض، وفي أكثر الانقلابات وحشية ودموية في القرن العشرين.

ولم تكن الأصابع الاستعمارية الانجليزية البغيضة بريئة من هذه الجريمة البشعة، لأن الغرب لا يريد أن تقوم في هذا الجزء من القارة الأفريقية دولة إسلامية عربية. كما لا يمكننا إعفاء عرب الجزيرة – وخاصة أصحاب الأمر منهم – من المسئولية عما حدث، فلولا تفريطهم في أمرهم، وتراجع الوعي الديني والحضاري لديهم، ولولا غفلتهم وانشغالهم بأمور دنياهم، عما يدور من حولهم وعما يدبره أعداؤهم لهم، لما كان ما كان، وهذا طبعا مع تسليمنا بالقضاء والقدر.

وقد اتسم موقف العرب بشكل عام حيال محنة الإبادة التي تعرض لها العنصر المنحدر من أصل عربي في زنجبار في عام 1964 بالسلبية، وكانت العلاقة التي ربطت بعض الزعامات العربية بالرئيس التنزاني القس جوليوس نيريري في الستينيات, - الذي سبق وان شارك في التخطيط للانقلاب الدموي- سببا في ذلك الموقف السلبي للعالم العربي. بل أن هناك من يشير إلى أن بعض الأنظمة العربية الاشتراكية تولت تدريب القتلة. وقد دفعت السياسة العدائية التي انتهجها الحكام الجدد للجزيرة ضد العرب واللغة العربية بعد ذلك الانقلاب البشع، دفعت كثير من السكان من ذوي الأصول العربية والناجين من المذبحة إلى الهرب إلى كينيا وتنجانيقا أو ممباسا أو العودة إلى بلدانهم الأصلية في عمان واليمن وإمارات الخليج. وكان السلطان العربي المخلوع قد سبقهم بالفرار إلى الخارج. ليتولى السلطة عبيد كرومي- زعيم الحزب الأفرو- شيرازي الذي قام بالمذبحة- وبعد ذلك اتحدت زنجبار وتنجانيقا وتكونت منهما دولة جديدة أطلق عليها تنزانيا، وكانت تنجانيقا قد استقلت عن بريطانيا في ديسمبر1961، بينما حصلت زنجبار على استقلالها من بريطانيا في ديسمبر 1963، وخلال هذين العامين بين استقلال تنجانيقا وزنجبار كانت بريطانيا قد هيأت المسرح لما حدث بعد استقلال زنجبار بشهر ونصف فقط، حيث جرت وقائع الانقلاب الدموي. وفي 26ابريل 1964 أي بعد الانقلاب بأربعة أشهر أعلن قيام الوحدة بين تنجانيقا وزنجبار، وأصبح اسم الدولة الجديدة تنزانيا واختيرت دار السلام عاصمة لها. وتشكلت حكومة محلية لزنجبار وفوضت في بعض الصلاحيات المحلية، إلا الوظائف الإدارية العليا والإشرافية، وبخاصة الشرطة والجيش في أيدي الأفارقة ذوي الأصول غير العربية ونسبة المسلمين في مراكز صنع القرار في الحكومة المركزية لا تتعدى الـ 5% وكانت سياسة وديدن القس نيريربي إزالة أثار الحكم العربي الاسلامى في البلاد سواء تنزانيا بشكل عام أو زنجبار بشكل خاص. وأما المجرم عبيد كرومي حاكم الجزيرة فقد لقي مصرعه في مقر حزبه عام 1392 هـ – 1972، على يد الضابط محمود على سيف شقيق أحدى زوجاته من أصل عربي، دون أن يغير ذلك شيئا من واقع الحال.



لماذا العرب ولغتهم؟

بالرغم من أن العرب كانوا هم ضحية حرب الإبادة التي حدثت في زنجبار، إلا أنهم لم يكونوا مستهدفين كجنس أو كقومية، إنما لكونهم مسلمين يتكلمون اللغة العربية. ولم تكن اللغة العربية بدورها مستهدفة كلغة، إنما لكونها لغة القرآن الكريم- الذي هو دستور الإسلام- ولغة نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، وهي أهم عامل في استمرار ارتباط المسلمين بالإسلام، وتمسكهم بتعاليمه، وذلك بالرغم من كل ما بذله المستعمرون والمستشرقون من جهود في محاربته، وبالرغم من كل الحملات التبشيرية التي عملت بصورة منهجية منذ عقود زمنية لإزالته كدين من الذاكرة الإفريقية.أي أن الإسلام كدين كان ولا يزال هو المستهدف. لكونه يشكل العمود الفقري لنمط الحياة اليومية للسكان المحليين هناك. كما أنه أهم عناصر القوة التي تكتب للحضارة العربية الإسلامية البقاء في شرق ووسط إفريقيا. وهذا ما أدركه الاستعمار الأوروبي وجعله يسعى لمحاربته.

وفي ظل النظام الوطني الجديد الذي أصبحت الكلمة العليا فيه للأقلية النصرانية، زادت حمى الحرب على الإسلام واللغة العربية في زنجبار، فتم منع تدريس كل من الدين الإسلامي واللغة العربية وتم إلغاء القضاء الشرعي، وتم إجبار المسلمات بأساليب الترغيب والترهيب على الزواج من المسيحيين لكي تستطيع حملات التبشير النجاح في مهمتها التنصيرية بشكل جماعي شامل. كما وضعت عراقيل وقيود متعددة أمام تحركات الدعاة المسلمين، إلى درجة أن على هؤلاء الدعاة أن يتقدموا بطلب رسمي لدخول الدولة قبل ستة أشهر من وقت سفرهم للتأكد من أن أولئك الدعاة لا ينتمون لجهة قد تهدد أمن تنزانيا، وبموازاة ذلك استمر الاهتمام بنشر المسيحية كما كان عليه الحال في أثناء النفوذ الإنجليزي والألماني. وبلغ عدد مدارس التبشير المسيحية مع بداية الحكم الوطني أكثر من خمسة آلاف مدرسة.وتهافت المبشرون على توزيع الكتب المسيحية باللغة المحلية "السواحيلية" والأجنبية (الإنجليزية)، وتم تشكيل مكتبة ضخمة سميت باسم "مجمع الكتب المسيحية"، وصار كل من يريد الحصول على الإنجيل يجده بلغته، وصار المسلمون يقرأون الإنجيل، ويفهمون معانيه قبل أن يسمعوا شيئا من القرآن، لأنهم بعد المذابح الرهيبة ومخططات التذويب التي قضت على كل ما هو عربي عقب الانقلاب المشئوم في يناير1964، أصبح كثير من المسلمين لا يعرفون شيئا عن اللغة العربية ! هذا من ناحية.

ومن ناحية ثانية تم حظر التواصل بين المسلمين والمنظمات الإسلامية في تنزانيا بشكل عام وفي زنجبار بشكل خاص، وبين باقي المسلمين والمنظمات الإسلامية في الخارج، إلى درجة أن الحكومة المركزية في تنجانيقا أبطلت مفعول قرار حكومة زنجبار المحلية بالانضمام إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، ونجحت في منعها من حضور اجتماعات مؤسساتها من دون الحصول على موافقة الحكومة الاتحادية في دار السلام.

ومن ناحية ثالثة تغلغلت نفوذ حركات التنصير في الدولة، حتى صار جلّ موظفي الدولة من المسيحيين، وصار اقتصاد البلد بأيديهم، وبالغوا في إقامة الكنائس، حتى بلغت نسبتها كنيسة مقابل كل مائة مسيحي، رغم كون المسلمين يشكلون نسبة 97% من سكان زنجبار. وأصبح المسلمون فريسة للفقر والأمية والتخلف العلمي، وهو ما جعلهم عرضة لكي تساومهم حركات التبشير الحاضرة والجاهزة على دينهم مقابل بعض الفتات والمساعدات التافهة التي تقدمها لهم.



الواقع الحالي

مع كل تلك التحديات والمشاكل فلا زال المسلمون يفخرون بهويتهم الإسلامية ويكافحون من أجل التغيير لتحسين مستويات حياتهم ورفع الظلم الواقع عنهم، ويجاهدون من أجل الحفاظ على دينهم، والإقبال على تعلم أحكامه واللغة العربية. وتم مؤخرا تأسيس مجلس أعلى للشؤون الإسلامية ومدارس إسلامية في زنجبار ومدرسة عربية وحيدة في دار السلام وهي مدرسة الجنيد. كما تم إنشاء وزارة للتعليم وزارة للأوقاف ودار للفتوى تضم العديد من العلماء الذين تخرجوا في الكليات الأزهرية والكليات الإسلامية في بلدان العالم العربي.. كما تم إنشاء المجلس الإسلامي بدعم من الدول العربية.. وأسس هذا المجلس بعض المدارس الإسلامية والمستوصفات لتقديم الخدمات الطبية وصرف العلاج بالمجان لأبناء المسلمين. وكان رئيس زنجبار الأسبق سالمين عامر جمعة قدم اعتذارا رسميا لسلطنة عمان عندما زارها عام 1991. ويمكن القول أن أحوال المسلمين في زنجبار في الوقت الراهن أفضل إلى حد ما عما كانت عليه سابقا. بيد أن هذا التوجه الديني يبقى غير بعيد عن رقابة الحكومة العلمانية لتنزانيا، وهو يعتبر مصدر قلق كبير لها، وتعمد لمواجهته والحد منه بفرض المزيد من القيود والمعوقات، ويتم مواجهة أية احتجاجات أو تحركات سياسية معارضة يقوم بها المسلمون في جزيرة زنجبار دون رحمة، ففي فبراير2001 قتلت الشرطة التنزانية 70 مسلما بزعم وقف مظاهرة سلمية.



المصادر

- محمود عبد الوهاب: زنجبار أندلس أفريقيا ( استطلاع)، العربي العدد 359، أكتوبر1988

Read_Art('http://www.alarabimag.com/arabi/data/2006/11/1/Art_75753.xml')">"نظرة على زنجبار ( استطلاع )، العربي العدد 576 ، نوفمبر2006 Read_Art('http://www.alarabimag.com/arabi/data/2000/6/1/Art_36137.XML')">"الخليج العربي وشرق إفريقيا ( مقال)، العربي العدد 499 يونيو2000 Read_Art('http://www.alarabimag.com/arabi/data/1992/9/1/Art_12451.XML')">"الكشوف الجغرافية وتجارة العبيد، العربي العدد 406 سبتمبر1992 Read_Art('http://www.alarabimag.com/arabi/data/2004/6/1/Art_65188.xml')">"الأشرعة الملونة.. تاريخ عُمان بريشة رسام أمريكي( مقال)، العربي العدد 547 يونيو2004
- محمد المنسي قنديل، الخريف في صلالة ( استطلاع ) ، العربي العدد 421، ديسمبر1993

- http://www.fin3go.com/newFin/op.php?...020&parentId=8

- أ.د. صالح علي باصرة، الهجرة اليمنية إلى شرق أفريقيا حتى منتصف القرن العشرين، http://alas7ag.jeeran.com

- الموسوعة العربية http://www.arabency.com/index.php?mo...d=14674&vid=24

- محمد عبيد غباش، عمان الوادعة ، الشرق الأوسط الأثنين العدد 9702 21 يونيو2005

- http://www.islamicnews.net/Common/Vi...=5&ItemID=1264

- http://www.islammemo.cc/article1.aspx?id=17233

- مجلة الحرس الوطني السعودية ، مقابلة مع مفتي زنجبار ، العدد 283 ، 1/12/2005 http://www.ngm.gov.sa/Detail.asp?InNewsItemID=180224

- http://www.arabrenewal.org/articles/...aYa/OYIE1.html



No comments:

Post a Comment