أثير الالكترونية ، 7 ديسمبر 2023
إعداد:
د. علي بن سعيد الريامي (رئيس قسم التاريخ_جامعة السلطان قابوس)
د. سليمان بن عمير المحذوري (هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية)
د. موسى بن سالم البراشدي (أستاذ التاريخ الحديث المساعد_جامعة السلطان قابوس)
مقدمة:
يقول د.ابراهيم الزين صغيرون إن “الدراسات الأوربية وحتى الكثير من الدراسات الإفريقية والمعاصرة والمتأثرة بالمنهج الاستعماري الغربي قد كرّست مفاهيمها وتصوراتها ومناهجها لتشويه تاريخ العرب في أفريقيا، وحشدت الكثير من المفتريات والشبهات لتخلق نوعًا من الجفوة والتباعد بين العرب والأفارقة”
كانت علاقة عمان وما زالت بشرق أفريقيا علاقة حتمية متجذرة، فرضتها الجغرافيا الطبيعية، وأطّرتها الظروف السياسية، والمصالح الاقتصادية، وهي علاقة إنسانية ذات أبعاد اجتماعية وثقافية قبل أن تكون علاقة وجود ونفوذ، وبالنظر إلى الموقع الجغرافي لعمان، وتموضعها في خارطة العالم، وانفتاحها على ثلاثة مسطحات مائية مهمة هي بحر عمان وبحر العرب والمحيط الهندي فقد مثّلت القلب النابض بالحياة، والشريان الذي يربط بين أجزاء العالم القديم وعالم العصور الوسطى والعالم الحديث والمعاصر، حيث مثلت خطوط الملاحة البحرية بين الشرق والغرب القناة الرئيسة التي تتدفق عبرها البضائع من صادرات وواردات مختلفة ومتنوعة إلى الملايين من البشر.
وفي الجانب الآخر فإن الدول المطلة على الساحل الشرقي لأفريقيا مثل الصومال وكينيا وتنزانيا وموزنبيق إضافة إلى العديد من الجزر المتناثرة ومن أشهرها جزيرة زنجبار وبمبا وجزر القمر ومدغشقر وموريشيوس، بالإضافة إلى غناها بمختلف الموارد الطبيعية، فضلاً عن المناخ المعتدل جعل من هذه المنطقة بموقعها المتميز ملاذاً للعديد من الهجرات المتعاقبة، ودافعاً للتجارة والاستقرار ومن ثم الارتباط الاقتصادي والسياسي المباشر، والثقافي كذلك. ومن أوائل النصوص التاريخية التي أشارت إلى الساحل الشرقي لأفريقيا كتاب: “رحلة في البحر الأريتيري” حوالي سنة 120م من تأليف تاجر مجهول الاسم من الإسكندرية، وفيه تحدث عن سلع مهمة زخرت بها المنطقة مثل: “زيت النخيل، وأصداف السلاحف، وقرون الخرتيت، والقرفة والبخور والعاج والعبيد، كما أرّخ للموجات السكانية الأولى على طول الساحل الأفريقي الشرقي للأقوام الآتية من جنوب غرب الجزيرة العربية”، ثم أن هناك شهادات أخرى عديدة عن هذه المنطقة قدّمت من قبل الجغرافيين العرب الأوائل مثل اليعقوبي والمسعودي ومن جاء بعدهم من الجغرافيين والرحّالة.
هي علاقة ممتدة ومتجذرة عبر آلاف السنين، حيث تعاقبت على هذه المنطقة أمم وحضارات، وحكمتها شعوب وأعراق، وتبدلت فيها أنظمة حكم وحكومات، وقامت فيها حروب ومعارك، وتولدت على إثرها صداقات وعداوات، غير أن العلاقة بين عمان وشرق أفريقيا لم تنقطع والتواصل الإنساني بينهما ظل مستمرا ومتجددا، فالمصالح المشتركة كثيرة، والمؤتلفات كبيرة، وفوق هذا وذاك ارتبطت بفضل الاندماج والانصهار بصلة رحم لا تنفصم عراها، وهذا أكبر دليل على حالة التعايش، والمصير الذي كان يوماً مصيراً مشتركاً. وكما ذكرت بياتريشه نيكوليني في كتابها: “جزيرة زنجبار التاريخ والاستراتيجيا في المحيط الهندي(1799-1856)” “وليس محض صدفة أن الساحل الشرقي قد فضّل على الدوام إقامة روابط مع الخارج، مشكلاً ذلك الجزء الغربي من المحيط الهندي المرتبط بشكل لا ينفصم عراه مع السواحل الثلاثة الأخرى والداخل في نطاق دائري أوسع”
العوامل الداعمة لعلاقة عمان بشرق أفريقيا:
عوامل عدة كان لها الأثر الكبير في قيام تلك العلاقة الدائمة والنشطة يأتي في مقدمتها الموقع الجغرافي الذي سبق الإشارة إليه، والمرتبط بالبعد الاستراتيجي، وخبرة العمانيين في الملاحة البحرية الذي جعل منهم رواداً ومغامرين وتجار ماهرين، والاستفادة من هبوب الرياح الموسمية الشمالية الشرقية التي تهب في فصل الشتاء للإبحار بسفنهم الشراعية المتجهة إلى شرق أفريقيا، ثم الاستفادة من هبوب الرياح الموسمية الجنوبية الغربية في فصل الصيف للعودة من شرق أفريقيا إلى الموانئ العمانية حاملين معهم شتى صنوف البضاع من شرق أفريقيا الغنية بالموارد الطبيعية الزراعية والحيوانية والمعدنية، وقد وصل العمانيون بسفنهم كما ذكر حوراني في كتابه: العرب والملاحة في المحيط الهندي “ابتداءً من ميناء زيلع وسواكن ثم بربرة وزنجبار، وبراوة ومالندي وممباسة وكلوة وكان منتهى مطافهم إلى سفالة في موزنبيق، وقنبلة(مدغشقر)”.
زنجبار لؤلؤة الساحل الشرقي لأفريقيا:
تبقى جزيرة زنجبار الوجهة الأكثر ارتيادا، وليس من المبالغة أن تصبح مدينة كوزموبوليتانية في ظل الحكم العربي في عهد دول البوسعيد وبالأخص فترة سعيد بن سلطان الذي حكم في الفترة من 1804-1856، وقد اتخذها عاصمة ثانية له بعد مسقط، وانتقل للإقامة الدائمة فيها منذ العام 1832، وبالتالي كان يتنقل بين شطري دولته الآسيوي والإفريقي كلما دعت الحاجة لذلك. حيث تعتبر جزيرة زنجبار من أكبر الجزر مساحة في المنطقة، وتبعد بنحو 25 ميلًا عن الساحل مما هيأ لها بعدًا أمنيًا. كما أن الجزيرة تمتاز بجمال الطبيعة، وتوفر المياه العذبة فضلًا عن تربتها الخصبة الصالحة لزراعة عدد من المحاصيل الاستوائية. إضافة إلى ذلك عمق مينائها جعلها نقطة مهمة لرسو السفن التجارية الكبيرة. وخلال منتصف القرن التاسع عشر أصبحت زنجبار مركزًا لامبراطورية تجارية تمتد على المحيط الهندي، ونقطة رئيسية لتوزيع السلع الصادرة والواردة إلى منطقة شرق أفريقيا. ونتيجة لذلك امتدت الامبراطورية العمانية في عهد السيد سعيد فبالإضافة إلى الوطن الأم عمان ضمت جوادر وبندر عباس وجزر قشم ولارك في آسيا، وفي أفريقيا امتدت من رأس جردفويCape Guardafui شمالًا الى رأس دلجادو Cape Delgado جنوبًا، كما وصل نفوذ سلطان عمان وزنجبار إلى أعماق أفريقيا ويدل على ذلك مثل إفريقي ترجمه أحد العرب إلى بيت شعري يقول:
إن تعالى زامر بزنجبار.. رقص الناس في البحيرات رقصًا
وفي ذلك دلالة رمزية إلى التثاقف والتأثير المتبادل ما بين الساحل الشرقي لأفريقيا والبر الأفريقي، في هذا السياق يمكن الإشارة هنا إلى نص مقتبس من كتاب صدر في نيويورك بعنوان:
Africa: A Social, Economic and Political Geography of Its Major Regions
للكاتب Fitzgerald, Walter
جاء فيه:” لا تزال زنجبار أرض التقاء بين أفريقيا والشرق، وتمثل واحدة من أبرز الأمثلة في عالم التعاون المرضي بين مجموعات عرقية واجتماعية متنوعة داخل مجتمع واحد”. لهذا لا عجب أن تصبح زنجبار ملجأ لمرتادي البحر من كل الجنسيات، وكما أشار نورمان بينت في كتابه: دولة زنجبار العربية بالقول: “وبشكل عام وفرت زنجبار موقعاً وسطاً مثالياً للتجارة البحرية من المحيط الهندي، فأصبحت ميناء لاستقبال ما تنتجه اليابسة القريبة وتخزينه ليتم نقله لاحقاً للسفن المبحرة التي تبحر بالرياح الموسمية المعتادة والتي تهب بين شرق أفريقيا وجنوب غرب آسيا والهند”.
علاقة عمان بشرق أفريقيا في العصور الإسلامية:
توطدت علاقة عمان بشرق أفريقيا بصورة أكبر مع مجيء الإسلام، وهذه العلاقة كانت مقدمة لهجرات سكانية متعاقبة لطلب الرزق والتجارة، ونشر الإسلام والثقافة، كما كانت في بعض الظروف ملجأ في أوقات الأزمات سياسية كانت أو طبيعية، من ذلك مثلاً لجوء حكام أسرة بني الجلندى سعيد وسليمان ابني عباد بن عبد بن الجلندى وأسرهم بعد نجاح حملات الحجاج بن يوسف الثقافي في غزو عمان وكان ذلك في فترة حكم الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان(65-86ه/646-705م)، فكان ذلك كما يصفه الدكتور عبد الله الحارثي “أول لجوء سياسي عماني يسجله التاريخ”، وذكرت هدى الزدجالي في دراسة علمية بعنوان: “العمانيون وأثرهم الثقافي والفكري في شرق أفريقيا”: ” استقر آل الجلندى في أماكن متعددة منها منها: مافيا ولامو وباتا وبمبا وممباسا، وتسموا فيها باسم”كلينديني”، وكان مركز إمارتهم في أرخبيل لامو، وتعد هجرة آل الجلندى مقدمة لهجرات أخرى متعاقبة لعل من أهمها هجرة الحرث في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، وقد نجحت هذه القبيلة في تأسيس مدن مهمة في مقديشو وبراوة، وكانت مقديشوا في عهدهم “العاصمة السياسية والدينية والثقافية لساحل الزنج كله، وكان تأثير الحرث بارزاً في نشر الإسلام واللغة العربية بين القبائل الصومالية،… وكانوا دعاة حضارة وثقافة”. ويقول الدكتور محمد روكارا من جمهورية بورندي “لقد أدت الهجرات العربية بشكل عام لساحل شرق أفريقيا إلى تكوين ما يقرب من أربعين مدينة إسلامية، وهذه الهجرات التي وفدت جلبت معها بذور الحضارة والثقافة الإسلامية”.
ويعد الوجود العماني في شرق أفريقيا أكثر كثافة من وجود غيرهم، وهذا عامل اكسبهم ميزة في التعامل مع السكان الأصليين بما حملوه معهم من قيم إنسانية واجتماعية كالصدق والأمانة والتسامح والعدالة والمساواة في المعاملات، كما أنهم أصبحوا جزءاً من النسيج الثقافي والاجتماعي لدى الشعوب الأفريقية، وهذا بلا شك أثّر بمرور الزمن في الثقافة الأفريقية التي تطورت من خلال اكتسابها سمات حضارية جديدة مستمدة من الثقافة العربية ومن روح الإسلام وشريعته.
وفي مطلع القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، لجأ إلى مملكة بات أو باته/باتي في -الطرف الجنوبي لساحل كينيا- الملك النبهاني سليمان بن سليمان بن مظفر النبهاني، حيث أقام فيها حكما ملكيا وراثيا استمر زهاء 300 عام، بعد أن تزوج من ابنة الحاكم الأفريقي إسحاق الباتوي.
التنوع العرقي في الساحل الشرقي لأفريقيا:
العلاقة مع شرق أفريقيا ظلت قوية متماسكة طوال القرون اللاحقة، وهذا ما علق عليه نورمان بينت بالقول:” شهدت معاملات تجارية هامة، وتفاعلاً ثقافياً كان يجري بين السكان المحليين والزوار الخارجيين، والذين جاؤوا في قرون لاحقة للتجارة ومصاهرة أصحاب الأرض من كل المناطق”، أي من البر الأفريقي، ومهاجرين من إندونيسيا ومن مدغشقر، ومن مناطق البحر الأحمر والجزيرة العربية والخليج العربي ومن بلاد فارس ومن شبه القارة الهندية، وهذا يعني الهجرات إلى شرق أفريقيا لم تكن مقتصرة على عُمان فحسب، وإنما شهدت استيطان أعراق وشعوب أخرى وفي هذا ما يدحض نظرية احتلال العرب العمانيين لتلك المنطقة.
منذ القرن التاسع الميلادي بدأت تزدهر العديد من المراكز المهمة على الساحل الشرقي لأفريقيا منها على سبيل المثال مدينة ماندا بالقرب من جزيرة لامو، كما ازدهرت مدن إسلامية على ساحل بنادر الصومال في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، وخلال تلك الفترة نشأ ما يعرف بالشعب الشيرازي، الذين أقاموا مركز استقرار لهم في شنجوايا، وفي النصف الثاني من القرن الثاني عشر الميلادي هاجرت أجناس خليطة من الفرس ومن الخليج العربي ووصلوا إلى كلوة ، التي أصبحت تحت حكم أسرة شيرازية، وبحلول القرن الثالث عشر أصبحت مدينة مقديشو مركز سيطرة على طول ساحل شرق أفريقيا بسبب سيطرتها على تجارة الذهب الذي يأتي من داخل أفريقيا عبر منطقة سفالة في موزمبيق، في حين بدأت زنجبار تنافس كلوة في الأهمية مع القرن الخامس عشر، وكذلك ممباسا.
وبنظرة عامة على تلك المناطق والمراكز يلاحظ وجود العديد من الأنظمة السياسية القوية والمستقلة تحكمها أسر مسلمة من الأصول الأفريقية العربية أو الشيرازية، وأن هؤلاء المهاجرين من الخليج العربي أو الفارسي جاؤوا في الأصل من أجل التجارة، لكن غالبيتهم سرعان ما اندمجوا بعلاقات مصاهرة مع السكان المحليين، فكان هذا “المزيج العرقي والمكون من الأفريقيين والآسيويين (من جنوب غرب آسيا) ومن عرب الجزيرة العربية وبالأخص من اليمن(الحضارمة) وعُمان.
وبحلول القرن السادس عشر بدأت تتكشف ما عرف لاحقا بالثقافة السواحلية، واللغة السواحلية وهي مكونة من لغة البانتو، ومفردات من اللغة العربية والسنسكريتية وكلمات من اللغة البرتغالية، كل ذلك كان يعكس ثراءاً ثقافياً فريداً لا يمكن أن يزدهر في ظل احتلال، لأن المحتل غالباً ما يفرض سياساته ولغته وثقافته على المحتل، وهذا لم يكن موجود في ظل حكم عربي عماني متعايش ومتسامح مع سكان شرق أفريقيا، وقد أشار الأميرال المسيو جيان(1808-1875) إلى ازدهار شرق أفريقيا في ظل الحكم العربي العماني بالقول:” وكان العرب وأعقابهم حيثما استقروا يتركون من دلائل الثروة والرفاهية والنعيم أثراً لا يمحى”. وهذا يدل على أن مناطق الساحل الشرقي لأفريقيا كانت مزدهرة بسبب الوجود العربي هناك وهذا نقيض ما كان عليه الحال في سواحل غرب القارة الأفريقية، حيث يقول المسيو وجيان في موضع آخر: “أن البرتغاليين كانوا يعتقدون أنهم سيلقون فيما وراء رأس الرجاء الصالح أقواماً من الهمج والمتوحشين هم أقرب شبها إلى من رأوهم على السواحل الغربية من القارة الأفريقية”.
اليعاربة وعلاقتهم بشرق أفريقيا:
بعد أن نجح العمانيون من تحرير بلادهم من الاستعمار البرتغالي، ولتأمين حدودهم البحرية، وسلامة الطرق البحرية، فقد حرصوا على تعقّب البرتغاليين لضمان عدم رجوعهم، أسهمو بشكل مباشر في تخليص سواحل الخليج العربي، وأغلب سواحل المحيط الهندي، والساحل الشرقي لأفريقيا من الهيمنة الاستعمارية البرتغالية التي كانت قد بدأت في نهاية القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر، حيث كان من أهدافهم الرئيسة السيطرة على طرق التجارة العالمية التي تمر بالمحيط الهندي، واحتكار تجارة التوابل والعاج الأفريقي، بهدف ضرب النشاط التجاري الذي كان يسيطر عليه العرب، حيث أنهم وبعد نجاحهم في الاستدارة حول رأس الرجاء الصالح، احتلوا الساحل الشرقي لأفريقيا، ومنه أطلت طلائع الحملات البرتغالية على المنطقة العربية وبالأخص المناطق الساحلية على بحر العرب والخليج العربي، وعانت عمان من الاحتلال البرتغالي منذ(1507-1650)، وقد أشاد (Walter) بالدور العماني في ضمان توفير السلم البحري فقال: “نجح عرب عمان في طرد البرتغاليين من أراضيهم عام 1650، وبعد ذلك شرعوا أيضاً في طرد الأوروبيين من شرق أفريقيا، وهكذا بدأ الاتصال السياسي بين عمان وزنجبار جنباً إلى جنب في سواحل الخليج وطاردوهم حتى سواحل شرق أفريقيا لتبدأ مرحلة من العلاقة مع الشاطئ المجاور للبر الرئيسي، والذي كان سمة بارزة من سمات الجغرافيا السياسية للعالم العربي أواخر القرن التاسع عشر”.
خصص الأميرال الفرنسي المسيو جيان الباب الخامس من كتابه المترجم بعنوان: “سلطنة عمان وأفريقيا الشرقية وثائق تاريخية وجغرافية وتجارية”، للحديث عن دور عرب عمان في تحرير سواحل شرق أفريقيا “من رأس دلجادو إلى جردفون” من الاحتلال البرتغالي، وقد أشار إلى معلومة مهمة تتعلق باستنجاد أهل ممبسة بالإمام سلطان بن سيف الذي كان يطارد فلول الغزو البرتغالي، وأنهم سألوه أن يخلصهم من نير الحكم البرتغالي، ثم يدلل على قوة الأسطول العماني في عهد دول اليعاربة، ودور هذا الأسطول في تعقب البرتغاليين في سواحل المحيط الهندي وفي شرق أفريقيا برواية كان قد دونها رحالة برتغالي معاصر لتلك الأحداث وهو القس مانويل جودنهو جاء فيها: “ولم يكتف-أي سلطان بن سيف- بإجلائنا عن بلاده، بل اجترأ على اقتفاء أثرنا حتى بالبلاد التابعة لنا، إذ حاصر منبسة، وعاكسنا في بمباي، وأسرت سفنه سفن برتغالية كثيرة”. ونستنتج مما سبق أن الوجود العماني في شرق أفريقيا، لم يكن بهدف الاحتلال بقدر ما كان الهدف تقديم العون والمساعدة بطلب من الزعامات القبلية في الساحل الشرقي لأفريقيا وتخليصهم من الاحتلال البرتغالي وما ارتكبوه في حق السكان المحليين من عنف وظلم واستبداد.
اليعاربة ودورهم في تحرير أفريقيا الشرقية:
يمكن القول أن عملية تحرير اليعاربة لأفريقيا الشرقية من السيطرة البرتغالية تعكس التضامن الإسلامي في أسمى صوره، وتمثل الكفاح المشترك بين العمانيين وإخوانهم المسلمين في شرق أفريقيا الذين استنجدوا بهم لتخليصهم من السيطرة والاستبداد البرتغالي، وكان ذلك نتيجة للروابط الدينية والتجارية التي ربطت بين العمانيين وسكان الساحل الشرقي لأفريقيا والتي أدت إلى تعميق الصلات وتبادل الأخبار بين المنطقتين، ولاسيما ما يتعلق بالاستعمار البرتغالي الذي كانت تعاني منه المنطقتان، ويُشير السديس في دراسته ” العمانيون والجهاد الإسلامي في شرق إفريقية 1034-1123هـ/1624-1711م إلى أن الانتصارات التي كانت تتحقق في عمان دفعت الأفارقة للثورة على البرتغاليين، وهو ما دفع بالبرتغاليين إلى تكليف فرانسيسكوا كابريرا Francisco Cabreira للقضاء على تلك الثورات، فكان من نتيجة ذلك تواصل سكان شرقي أفريقيا مع الإمام سلطان بن سيف بن مالك اليعربي عام 1063هـ/1652م، ولاسيما بعد وصول الأخبار بنجاحه في طرد البرتغاليين من بلاده عام 1061هـ/ 1650م، وما ترتب عليها من أصداء واسعة في العالم الإسلامي آنذاك.
لبى الإمام سلطان بن سيف الأول نداء الاستغاثة الذي وصله من إخوانه في كل من زنجبار وبته، فأرسل حملة عسكرية بحرية عام 1063هـ/1652م، تمكنت من هزيمة البرتغاليين في كل من زنجبار وبته وفازا، وشجعت المدن الأخرى على الساحل الشرقي لأفريقيا للثورة ضد البرتغاليين، ويرى السديس بأن هدف الإمام كان “التأكيد على الارتباط التاريخي والديني الوثيق بين ساحل شرق أفريقيا وعمان”
نظراً للنجاح الذي حققته البحرية العمانية في سواحل شرقي أفريقيا اتجه البرتغاليون إلى السواحل العمانية مستغلين فرصة وجود بعض قطع الأسطول البحري العماني في السواحل الشرقية لأفريقيا، الأمر الذي دفع بالإمام سلطان إلى سحب قواته من هناك وإعادتها إلى السواحل العمانية لمواجهة عودة البرتغاليين إليها، فكان ذلك مناورة من البرتغاليين الذين عادوا إلى سواحل أفريقيا الشرقية وتمكنوا من إخماد الثورات هناك وتعزيز حاميتهم في ممباسة.
بعد تمكن العمانيين من الدفاع عن سواحلهم أخذوا في تعزيز أسطولهم البحري مستثمرين الصراع الهولندي البرتغالي، وبدأوا في التحول من سياسة الدفاع إلى سياسة الهجوم عندما أرسلوا أسطولهم البحري عام 1071هـ/1660م إلى ساحل شرقي أفريقيا مرة أخرى الذي تمكن من فرض الحصار على ممباسا ومحاصرة قلعة اليسوع التي بناها البرتغاليون عام 1593م، لتكون قلعة برتغالية حصينة حسب تعبير الهنائي في كتابه”العمانيون وقلعة ممباسا”، ويأتي بناؤها بعد محاولة العثمانيين مواجهتهم عندما أرسلوا حملة بقيادة أمير علي بك عام 1558م، وهذا ما دفع بالبرتغاليين إلى معاملة أهالي ممباسا بالقسوة والطغيان.
وفي عام 1073هـ/1662م شن الأسطول العماني عدداً من الهجمات على مواقع متعددة على طول الساحل حتى رأس دليجادو ونجح في استعادة فازا وماليندي وأخضعوا الساحل الشمالي في منتصف ذلك العام ما عدا ممباسا التي دام حصارها مدة قدرها المؤرخون بخمس سنوات حتى سقطت قلعة اليسوع واستسلم قائدها جوزيف دا سيلفا Joseph Da Silva، وبعد التحرير عاد الأسطول العماني أدراجه إلى المياه العمانية، في إشارة واضحة إلى انتهاء المهمة المحددة لذلك الأسطول في تقديم النجدة لسكان ممباسا، دون الحاجة إلى البقاء، وهو ما يُدلل بشكل جلي على عدم سعي العمانيين إلى احتلال تلك المناطق أو استغلال حاجة سكانها وثرواتهم، إلا أن عودة الأسطول العماني إلى مسقط دفع البرتغاليين من جديد إلى استعادة ممباسا عام 1077هـ/1666م، ومعاقبة سكان ساحل أفريقيا الشرقية بسبب تعاونهم مع العمانيين.
ومما أثار الانتباه لدى البرتغاليين بعد عودتهم للسيطرة على قلعة اليسوع أن العمانيين لم يُحدثوا أية أعمال تخريبية في تلك القلعة وجدارنها، وزخارفها التي بقيت على حالتها دون تشويه، وهذا ما أكده إبراهيم البوسعيدي في دراسته “OMAN e PORTUGAL (1650-1730) Politica e Economia” ودلل من خلالها على التسامح الديني القائم على احترام دور العبادة وعقيدة الطرف الآخر؛ وهذا في حد ذاته ينفي ما يذهب إليه البعض من تعامل العمانيين مع القارة الأفريقية بوحشية ونظرة دونية.
استقبلت عمان في زمن قيد الأرض سيف بن سلطان الأول وفد أفريقي برئاسة شيخ بن أحمد الملندي الذي التقى بالإمام وعرض عليه ما جرى في ممباسا من أمر البرتغال، وقد استقبلهم الإمام بالحفاوة وأكرمهم غاية الإكرام، فلبى قيد الأرض النداء وجهز أسطولاً حربياً أرسله إلى ممباسا التي رسا في مرفأها وضرب عليها حصاراً في9 شعبان 1107هـ/ 13 مارس 1696م، وعمل على قطع الإمدادات عن البرتغاليين الذين عانوا من نقص المؤن والمعدات الحربية والبشرية إلى جانب ما عانوه من حالة نفسية وأمراض فتكت بهم أثناء الحصار الذي استمر لما يقرب من ثلاثة وثلاثين شهراُ حتى سقطت قلعة اليسوع وتحررت ممباسا من السيطرة البرتغالية في 11 جمادى الآخرة عام 1110هـ/ 14 ديسمبر 1698م، وبناءً على طلب الأهالي ترك الإمام سيف بن سلطان حاميات عسكرية في كل المراكز المهمة في شرق أفريقيا.
وهكذا نجح اليعاربة في تخليص ساحل أفريقيا الشرقي من النفوذ البرتغالي ووضعوا حداً للتفوق البرتغالي هناك، مما عزز الوجود العماني في الساحل الشرقي لأفريقيا من مقديشو شمالاً حتى خليج دلجادو جنوباً، ويُشير طلال المخلافي في دراسته بعنوان “دور العثمانيين والعمانيين في مقاومة الاستعمار البرتغالي ونشر الحضارة الإسلامية في شرق أفريقيا: القرنين السادس عشر والسابع عشر نموذجاً” إلى أن “ذلك الانتصار أتاح المناخ الملائم للدين الإسلامي وحضارته في الانتشار في شرق أفريقيا، فتم إيقاف انتشار المسيحية الكاثوليكية التي مكّن لها البرتغال طوال مدة استعمارهم للساحل، وبُنيت المساجد وتحفيظ القرآن والعلم الشرعي بدلاً عن الكنائس، وتوقف قتل المسلمين وتدمير منازلهم ونهب ممتلكاتهم وثرواتهم، ووجدت مقومات الحضارة الإسلامية فرصة جديدة للنمو والازدهار والانتشار”.
التجارة في أفريقيا:
كانت التجارة من العوامل الرئيسية التي دفعت العمانيين لخوض غمار مياه المحيط الهندي والوصول إلى ساحل أفريقيا الشرقي. ولم يكتف التجار العمانيون بالمتاجرة مع المناطق الساحلية؛ بل توغلوا في المناطق الداخلية وصولًا إلى منطقة البحيرات الاستوائية. وقد أشار إلى ذلك بوضوح الرحالة الأوربين مثل Speke, Burton Stanley,Livingstone عندما التقوا بالتجار العرب في أواسط أفريقيا. وبالتالي يمكن القول إن العمانيين كانوا الأسبق في الولوج إلى داخلية أفريقيا. وكان التجار العرب محل ترحيب من قبل الملوك الأفارقة. وقد تركزت تجارة القوافل العربية في بيع الملح والأقمشة القطنية والأسلاك النحاسية والبارود التي كانوا يقايضونها مع سلع الداخل.
ومنذ أن أصبحت زنجبار حاضرة من الحواضر العمانية انفتحت على التجارة العالمية وللتجار من مختلف الأمم. وعلى إثر ذلك تاجر العمانيون في مختلف السلع المتوفرة في أفريقيا استيرادًا وتصديرًا مثل العاج والقرنفل والجلود وخشب المانجروف والصمغ وزيت النارجيل وغيرها؛ فيما شحنت السفن العمانية إلى الموانئ الإفريقية سلع متنوعة سواء كانت مصدرها عمان مثل التمور والليمون والسمك المجفف أو إعادة تصدير مثل السجاد والأقمشة والأواني الزجاجية والأسلاك ونحوها.
تجارة الرقيق:
من اللافت أن الكتابات الأوربية قد عنيت كثيرًا بتجارة الرقيق وضخمتها وكأنها التجارة الوحيدة في شرق أفريقيا. لذلك يحمِّل كثير من الكتَّاب الأوربيين أمثال كوبلاند وكيلي عرب عمان وزر هذه التجارة بوصفها أهم نشاط اقتصادي عربي في شرق أفريقيا. وأن زنجبار أصبحت أكبر مركز لتجارة الرقيق في الشرق.
تقول السيدة سالمة في مذكراتها “إن الكلام عن الرق والرقيق من أشد المواضيع حساسية وأكثرها مدعاة لاختلاف الرأي، وإن اثارة موضوع الرقيق واظهاره للوجود لم يكن سببه العواطف الإنسانية عند الفرد الأوربي فحسب بل كان للعوامل والألاعيب السياسية أثر كبير في بعث الأمر والتهويل به”.
ومما تجدر الإشارة إليه أنه لا تتوفر أرقام دقيقة وصحيحة عن حجم تجارة الرقيق يمكن الاعتماد عليها في تحديد أعداد الرقيق الحقيقية وتبقى الأرقام خاضعة لتقديرات وتكهنات المراقبين لذا من الصعوبة بمكان التأكد من العدد الفعلي للرقيق المصدر من مناطق شرق أفريقيا في ظل تضارب الأرقام الخاضعة لتقلبات السياسة البريطانية ومصالحها الخاصة في المنطقة. وحقيقة لا ننكرها إن كان العرب قد مارسوا هذه التجارة فإنها تمت بجهود فردية، وكانت في نطاق ضيق ومحدود ولم تكن بتلك الضخامة التي صورتها بريطانيا التي كانت تتخفى وراء الدوافع الإنسانية بينما كانت تهدف لزعزعة زنجبار اقتصاديًا وتفكيكها سياسيًا.
ومن جهة أخرى فإن الأوربيين مارسوا هذه التجارة مثل الإنجليز والفرنسيين والأسبان والبرتغاليين الذين أسسوا شركات لجلب الرقيق من شرق القارة وغربها لاستخدامهم في سد الحاجة المتزايدة من الأيدي العاملة الرخيصة في العالم الجديد. كما أن الأفارقة أنفسهم يتحملون جزءًا من المسؤولية باعتبارهم هم من يبيعون الرقيق إلى تجار الرقيق، والتجار الهنود كذلك لهم دور بسبب تمويلهم للقوافل التجارية للرقيق.
وعلى المستوى الرسمي أبرم السيد سعيد عدة اتفاقيات مع بريطانيا للحد من تجارة الرقيق مثل اتفاقية عام 1822 وذلك بتحريم بيع الرقيق في ممتلكاته الإفريقية، كما تضمن اتفاقية 1839-التجارة والصداقة مع الحكومة البريطانية – مواد تتعلق بوقف تجارة الرقيق، وفي عام 1845 تعهد السيد سعيد بمنع نقل الرقيق من ممتلكاته الإفريقية إلى ممتلكاته العربية . كما وقع سلطان زنجبار السيد برغش بن سعيد (1870-1888) معاهدة مع بريطانيا في عام 1873 تتعلق بإلغاء تجارة الرقيق، وفي عام 1897 وقع السلطان حمود بن محمد(1896-1902) معاهدة الغاء الرق من محمية زنجبار. وعلى ضوء ذلك كانت السفن البريطانية تجوب البحار بداعي التفتيش بغرض تحجيم هذه التجارة. ورغم الإجراءات المشددة التي اتخذتها سفن التفتيش البريطانية إلا أن السفن الفرنسية كانت لا تخضع للتفتيش لعدم توقيعها على الصك العام لمؤتمر بروكسل المعقود في 1889-1890، واستمرت في نقل الرقيق عبر مياه المحيط الهندي. كما أن أسبانيا والبرتغال لم تنضم إلى معاهدة تحريم تجارة الرقيق إلا نظير تعويضات مالية ضخمة؛ فيما ظلت الولايات المتحدة تراوغ في سياستها حتى لا تتورط في التزام جدي بوقف تجارة الرقيق.
الدور الحضاري للعمانيين في شرق أفريقيا:
أثمر الوجود العماني المتجذر والمتواصل في شرق القارة السمراء عن مؤثرات حضارية في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. يقول مؤلف مخطوطة “شرق أفريقيا زنجبار” “بانتقال العرب من مسقط إلى زنجبار تعمرت السواحل، وشيدوا بها القصور، وعمروا فيها البساتين والضياع، وأجروا فيها العيون والأنهار فكثرت فيها النعمة والخيرات ، واصفى لهم الزمان زمام الأمان وهرعوا اليهم الخلق من كل فج، فشمروا عن ساعد مجد في الصناعة والتجارة والتقاط منها المال، فتعمرت الضياع والقرى ..”
العمانيون وشجرة القرنفل:
كانت خصوبة أرض جزيرتي زنجبار وبمبا كانت من ضمن الأسباب المهمة لاستقرار العمانيين في المنطقة فضلًا عن العوامل الجغرافية والطبيعية الأخرى الأمر الذي مكنهم من الاشتغال بالزراعة الحرفة التي كانوا يمارسونها في عمان.
ويعد محصول القرنفل من أهم المحاصيل الزراعية على الاطلاق في المنطقة وهو من الركائز الاقتصادية التي اعتمدت على زنجبار في إيراداتها وما زالت. ويعود الفضل للعمانيين في ادخال هذه الشجرة من جزيرة موريشيوس الى زنجبار، وبالتالي تحولت هذه الشجرة الى عامل اقتصادي واجتماعي مهم لسكان جزيرتي زنجبار وبمبا.
بداية جرب السيد سعيد زرعة بذور هذه الشجرة في مزارعه الخاصة ولما نجحت التجربة وآتت ثمارها شجع رعاياه على زراعتها في مزارع شاسعة مما أدى الى ازدياد اعداد الأشجار المثمرة، وجذب هجرات بشرية الى زنجبار للعمل في مزارع القرنفل، وأضحت زنجبار تنتج حوالي 90% من إجمالي الإنتاج العالمي كما تذكر بعض المصادر. وكان الإنتاج يصدر الى الجزيرة العربية والهند والصين وأوروبا والولايات المتحدة.
انتشار الإسلام:
اختلف المؤرخون في تحديد الفترة الزمنية التي وصل فيها الإسلام الى شرق أفريقيا؛ إلا أنه من الحقائق الثابتة أن انتشار الإسلام في شرق ووسط أفريقيا اعتمد بدرجة كبيرة على جهود التجار العرب؛ وذلك من خلال ما تحلوا به من صدق وأمانة في المعاملة، وما بذلوه من جهد في استمالة أعداد كبيرة من الأفارقة لاعتناق الإسلام.
وبسبب الصلات التجارية والبشرية القديمة بين عمان وساحل أفريقيا الشرقي كان للعمانيين دور في توصيل الدعوة الإسلامية إلى المنطقة بجانب المهاجرين الآخرين من العرب والمسلمين. ويأتي انتشار الإسلام في طليعة الدور الحضاري للعمانيين الذي لا يمكن أن تخطئه العين. وجنبًا إلى جنب انتشر الإسلام مع التجارة، ووصل إلى البرّ الإفريقي حتى أوغندا والكونغو وراوندا وبروندي وغيرها من المناطق. بيد أن انعدام تدوين هذه الجهود أضاع كثير من المعلومات في هذه الجانب ولعل قصة التاجر العماني أحمد بن إبراهيم العامري مع ملك بوغندا في منتصف القرن التاسع عشر تعد الأشهر بسبب توثيقها من قبل أمين باشا – حاكم جنوب السودان – في عهد الخديوي توفيق في مذكراته اليومية التي نشرت في المجلة الأوغندية. حيث استطاع هذا التاجر اقناع الملك بدخول الإسلام كنموذج رائع للداعية المسلم بشخصيته القوية المؤثرة، وأخلاقه السامية وكان هذا الحدث تمهيدًا لانتشار الإسلام في داخلية أفريقيا. ويشير حامد كرهيلا في كتابه “صراع الحب والسلطة” إلى أن الفضل في اعتناق السلطان عبد الرحمن سلطان موهيلي – إحدى جزر القمر- ومئات من مرافقيه الملجاش للإسلام في منتصف القرن التاسع عشر يعود بعد الله الى سلطان عمان وزنجبار.
وغني عن القول أن المذهب الاباضي وهو مذهب سلاطين زنجبار لم ينتشر كثيرًا في شرق أفريقيا رغم خضوع المنطقة ولفترة طويلة لسلاطين زنجبار. فقد غلب روح التسامح الديني والمذهبي، وساد جو من الألفة والتجانس والصلات الوثيقة بين كافة الأوساط الاجتماعية في سلطنة زنجبار. وفي هذا الصدد يذكر المغيري في “جهينة الأخبار” أنّ السيد سعيد بن سلطان أصدر أوامره إلى عماله بعدم التعرض للمذاهب الدينية في رسالة مؤرخة في 2 ربيع الأول سنة 1261ه/1845مـ ” من سعيد بن سلطان إلى جناب كافة ربعنا بحال القضاة، كل من حكم بحكم وأخطأ فيه يرجع إلى السؤال إلى من أعلم منه ، كل مذهب يتبع مذهبه ، هذا ما جرت العادة من قديم بذلك ، والسلام”.
العلماء في زنجبار:
على الرغم من أن المذهب الإباضي هو المذهب الرسمي للدولة في زنجبار إلا أن السيد سعيد خص العلماء من مختلف المذاهب برعايته واهتمامه. حيث ظهر العلماء والفقهاء والقضاة على قدم المساواة في مجالس السلاطين وفي تعينهم لمناصب الدولة واتخاذهم مستشارين.
وقد أسهم هؤلاء العلماء بدور كبير في نشر الوعي والثقافة تدريسًا وتأليفًا، وهم من مذاهب مختلفة وتتلمذ على أيديهم أعداد غفيرة من سكان زنجبار والمناطق المجاورة لها. ومن هؤلاء العلماء في عهد الدولة البوسعيدية الشيخ عبد الله بن مبارك النزوي من أشهر القضاة، والشيخ ناصر بن جاعد الخروصي، والشيخ علي بن خميس البرواني، والشيخ محمد بن سليمان المنذري، والشيخ محي الدين بن شيخ القحطاني الذي يُعد أيضاً من أبرز القضاة، والشيخ علي بن عبدالله المزروعي، والشيخ عبدالعزيز الأموي، والشيخ ناصر بن سالم الرواحي، والشيخ عبدالله بن محمد باكثير وهو عالم من أصل حضرمي، والشيخ الأمين بن علي المزروعي قاضي قضاة كينيا، والشيخ عبدالله بن صالح الفارسي من أغزر العلماء تأليفًا بالسواحليه.
اللغة السواحلية:
السواحلية من حيث الاسم مستمد من اللغة العربية، ومأخوذ من كلمة ساحل وسواحل ويعني الانتماء إلى الشريط الساحلي لشرق أفريقيا وجزره المتاخمة. يُشير بعض الباحثين مثل ر.روش إلى أن اللغة السواحلية بدأت في الظهور في الفترة ما بين القرن السابع والثامن الميلادي خلال فترة تدفق الهجرات العمانية إلى المنطقة خاصة هجرة النباهنة، فيما يذكر آخرون أنها كانت معروفة قبل الإسلام بحكم اختلاط التجار والمهاجرين العرب بالأفارقة.
واللغة السواحلة ولدت نتيجة لامتزاج اللغات واللهجات الإفريقية مثل البانتو يتخللها كثير من المفردات العربية خاصة الألفاظ المستخدمة في الشؤون التجارية؛ حيث تشير بعض التقديرات إلى أن المفردات العربية في هذه اللغة كما يذكر المختصون من أبناء السواحلية أنفسهم تقدر ما نسبته 22%، وظلت اللغة السواحلية تكتب بحروف عربية على مدى أكثر من خمسة قرون حتى دخول الاستعمار الأوروبي الذي بدأ بمحاربة المظاهر العربية في المنطقة. وفي عام 1891م ظهرت أول ترجمة بالسواحلية للإنجيل مكتوبة بالحروف اللاتينية. اقتضت سياسة الإدارة البريطانية في مجال التعليم في شرق أفريقيا استبدال كتابة اللغة السواحلية من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية مع بداية القرن العشرين.
إن الهجرات العمانية المتواصلة واستقراها في المنطقة، إلى جانب النشاط التجاري المستمر كان له دور مؤثر في تطور اللغة السواحلية وانتشارها وتوغلها في أواسط أفريقيا. وفي هذا المقام تجدر الإشارة إلى أن العمانيين تمكنوا من هذه اللغة، ونظموا قصائد باللغة العربية تنتهي بقافية سواحلية على سبيل المثال نظم علي بن سعيد الريامي قصيدة غرامية قال في مطلعها:
أحبائي رحلتم عني جُوزي(قبل أمس).. فراقكم حشى قلبي مجُونزي(حزن)
رحلتم نحو الأرض بيمبا(الجزيرة الخضراء).. زيارتكم عوام أو نميزي(شهور)
وهنالك أبيات شعرية تنسب إلى ناصر بن سالم الرواحي – الذي أبدع في تطوير اللغة السواحلية – معاتبًا خادمه حيث يقول:
يا خميسا يا مهوكا.. لا تقل اني مشوكا (تعبان)
كلما أدعوك دوما.. قيل لي هاكوكتوكا(خرج غير موجود)
السكان في شرق أفريقيا:
أصبحت زنجبار ملتقى للعديد من الأجناس والشعوب فهي إفريقية بموقعها وطقسها وشرقية إسلامية بسكانها وحكامها حيث تنوعت الأصول العرقية في المجموعات التي كونت مجتمع شرق أفريقيا. وإلى جانب المجموعات السكانية بمختلف قبائلها والسواحليين استوطن زنجبار عرب عمان والحضارمة من اليمن، إضافة الى الهجرات القادمة من البحرين والإحساء، والشيرازيين والافريقيين والسواحليين وبعض منهم من جزر القمر والهنود بمختلف طوائفها، ومجموعات قليلة من الأوربيين.
ومن الظواهر الاجتماعية الجديرة بالتسجيل روح الاندماج والانصهار التي ميزت عرب عُمان في المجتمع الإفريقي من مختلف الأعراق والطوائف التي استوطنت زنجبار. وأصبحت هنالك علاقات نسب ومصاهرة مع المجتمع الإفريقي، وهذا ما نلاحظه بجلاء من وجود أسر عُمانية لها أقارب في مختلف دول شرق أفريقيا والعكس صحيح. إلى جانب روح التسامح الديني والمذهبي التي انتهجها العمانيون، وفي هذا الصدد يقول المغيري في جهينة الأخبار “ومن جميل أخلاق سلاطين زنجبار عدم التعصب في الجنسية والأديان، فجميع الأجناس النازلة بزنجبار من غير الجنس العربي قد قابلهم سلطان زنجبار بغاية الاحترام والمواساة في جميع أمور الحكومة وغير ذلك، ومهما تصفحت تاريخ زنجبار لا تجد فرقًا بين العرب وسائر الأجناس”.
خاتمة:
أورد جمال زكريا قاسم في بحثه المضمّن كتاب “العرب في أفريقيا” مقولة في غاية الأهمية لوزير الدولة في حكومة الكونغو “لقد زور البلجيكيون كل شئ في الكونغو فليست مدينة ستنانلي فيل سوى مدينة تيبو تيب التي أقامها ذلك التاجر العربي قبل قدوم الرحّالة ستانلي، وليس العرب كما قالوا لنا تجار رقيق وإنما هم تلك الموجة الإنسانية التي اختلطت بنا وصاهرتنا وتركوا لنا على أرضنا دماءهم والبلجيكيون يحصدونهم بالأسلحة الحديثة وليس أعز علينا سوى هذا الدم العربي الذي سال في الماضي كما سال ويسيل دمنا الآن في بلادنا ..”
كما ذكر جيان في كتابه ” وثائق تاريخية وجغرافية عن أفريقيا الشرقية” ” ومما يملأ الفؤاد ويملأ القلب أسى وحزنا أنك إذا قارنت تلك البلاد] أي شرق أفريقيا [وهي في قبضة البرتغاليين بعرب عمان علمت أي الفريقين فريق البرتغال أم فريق عمان يحمل علمه منكسا إلى أسفل خزيًا وخجلًا وفسادًا وخللًا مع ما هو مشهور من وصف البرتغاليين بأنهم أمة متمدنة ووصف العرب بأنهم قوم برابرة متوحشون”
المراجع:
– بينيت، نورمان، دولة زنجبار العربية: لمحة تاريخية، (ترجمة: رحمة الحبسي)، الرافدين، بيروت، 2020م.
– جيان، سلطنة عمان وأفريقيا الشرقية: وثائق تاريخية وجغرافية وتجارية، (نقله إلى العربية: الأمير يوسف كمال باشا)، دار الفضيلة، القاهرة، 2015م.
– روكارا، محمد، “دور العمانيين في نشر الثقافة الإسلامية في شرق أفريقيا: البناء والأصداء”، سلسلة البحوث والدراسات في الوثائق الوطنية والدولية (4)، الحضارة والثقافة الإسلامية والدور العماني في النواحي التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في دول شرق أفريقيا، ج1، هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، مسقط: 2014م.
– الزدجالي، هدى، العمانيون وأثرهم الثقافي والفكري في شرق أفريقيا 1870-1970م، الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، مسقط، 2021م.
– السديس، عبد الرحمن بن علي. العمانيون والجهاد الإسلامي في شرق إفريقية 1034-1123هـ/1624-1711م، أطروحة دكتوراه، جامعة أم القرى، مكة المكرمة: 1413هـ/1993م.
– سلطان، سالمة بنت سعيد، مذكرات أميرة عربية، ترجمة عبد المجيد القيسي، مسقط، وزارة التراث القومي والثقافة، 2001.
– صغيرون، إبراهيم الزين، “الاسهام العماني في المجالات الثقافية والفكرية والكشف عن مجاهل القارة الافريقية في العهد البوسعيدي “، مسقط، المنتدى الأدبي، 1993.
– العرب في أفريقيا الجذور التاريخية والواقع المعاصر، اشراف رؤوف عباس حامد ، القاهرة :دار الثقافة العربية ، 1987.
– المحذوري، سليمان بن عمير، زنجبار في عهد السيد سعيد بن سلطان(1804-1856 ) ، دمشق، دار الفرقد، 2014
– المخلافي، طلال حمود عبده. “دور العثمانيين والعمانيين في مقاومة الاستعمار البرتغالي ونشر الحضارة الإسلامية في شرق أفريقيا: القرنين السادس عشر والسابع عشر نموذجا”، سلسلة البحوث والدراسات في الوثائق الوطنية والدولية(4)، الحضارة والثقافة الإسلامية والدور العماني في النواحي التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في دول شرق أفريقيا، ج1، هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، مسقط: 2014م.
– المغيري، سعيد بن علي، جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار، تحقيق محمد بن علي الصليبي، ط5، مسقط: وزارة التراث والثقافة، 2017.
– مؤلف مجهول، مخطوطة شرق أفريقيا زنجبار، دائرة الوثائق والمخطوطات، وزارة التراث والثقافة، مسقط، رقم المخطوط 2170.
– النعماني، سعيد، الهجرات العمانية إلى شرق أفريقيا ما بين القرنين الأول والسابع الهجريين (دراسة سياسية وحضارية)، دار الفرق، دمشق، 2012م.
– نيكوليني، بياتريشة، جزيرة زنجبار التاريخ والاستراتيجيا في المحيط الهندي (1799-1856)، دار النهضة للنشر، بيروت، 1988م.
– الهناوي، مبارك بن علي. العمانيون وقلعة ممباسا، ط1، بيت الغشام للنشر والترجمة، مسقط: 2015م.
Al-busaidi, Ibrahim Yahya Zahran, Oman e Portugal (1650-1730) Politica e Econmia, Doutoramento em História, Universidade de Lisboa: 2010.
– G.S.P. Freeman, Grenville, The East African cost, Oxford. 1962.
– Hourani, George.F. Arab Seafaring in the Indian Ocean, Princeton University press, New Jersey, 1951.
– Walter F. Fitzgerald, Africa: A social, Econimic and Political Geography of its Major Regions, New York, 1939.