مع بدايات شهر نيسان/أبريل عام 1875، وجد سلطان زنجبار العربي برغش بن سعيد بن سلطان دوافع كثيرة للسفر إلى أوروبا.
كان السفر إلى أوروبا في ذلك الوقت حلماً يراود معظم البشر في الشرق، فهي قارة حضارة وطبيعة وجمال وبشر مختلفين. غير أن السلطان برغش لم تراوده أحلام السياحة ولا التمتع بالخضرة والوجه الحسن. فقد كانت في باله قضايا أهم منها، ومسائل أكبر وأعمق.
وهكذا، صمم السلطان برغش على السفر إلى أوروبا «الغنية بكنوز المعارف والصنائع وأسباب الحضارة والعمران ليرى ما فيها مما يستحق نقله إلى بلاده».
ولِجدّ التصميم، اتخذ القرار، وكتب إلى ملكة بريطانيا الملكة فيكتوريا يخبرها برغبته بزيارة بريطانيا وأوروبا. فكان الجواب أن «هشّت وبشّت جلالة الملكة إلى رؤياه، وأرسلت تستقدمه برسالة ودية. فلبّاها السلطان برغش بحسن القبول، وإتمام المأمول».
ومع وصول الرسالة الجوابية «التي هشّت فيها الملكة البريطانية وبشّت»، بدأ الموظف بدار السلطان والمرافق إلى الرحلة زاهر بن سعيد، بتجميع أصول كتاب الرحلة بعنوان تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجبار. غير أن الصحافي العربي القس لويس صابونجي المقيم في لندن، قام بتأليف الكتاب وتحريره، ثم صدر عن وزارة التراث القومي والثقافي بسلطنة عُمان عام 1981.
وعندما عزم السلطان برغش على السفر، تمّ تجهيز باخرة إنكليزية اسمها «كوكوناده»، واسم قبطانها «أندرسن». واختار السلطان مرافقيه وهم: حمود بن أحمد، حمد بن سليمان، محمد بن أحمد، ناصر بن معيد، والكاتب زاهر بن سعيد، وغيرهم.
انتهت كل الاستعدادات لسفر الأمير العربي إلى أوروبا. وفي صباح يوم السبت الموافق فيه السابع من شهر أيار/مايو من عام 1875 ركب السلطان الباخرة مودَّعاً من كبار مملكته وأرباب دولته وقناصل الدول في زنجبار، وأُطلقت له المدافع من حصون العاصمة ومن بارجة الإنكليز التي كانت راسية في المرفأ. وصحب السلطان قنصل بريطانيا مستر جون كيرك الذي أمرته الملكة بمرافقة السلطان ذهاباً وإياباً.
ومع فجر اليوم التالي وصلت السفينة إلى ميناء عدن.
ولما رست الباخرة، أتى أعيان المدينة وتجّارها ووكيل البواخر الإنكليزية السير كاواجي، الفارسي الأصل، وغيرهم من أكابر عدن ليسلموا على سعادة السلطان. ثم حضر قبطان العساكر الإنكليزية إلى باخرة سعادة السلطان وسلَّم عليه ثم تصافحا وانصرف. وكان بمرسى عدن عدة سفن أجنبية وبوارج حربية إنكليزية، من جملتها بارجة اسمها «جلاصجوه» (غلاسكو) كان فيها أمير البحر فأمر بإطلاق إحدى وعشرين طلقة مدفعية، إجلالاً لحضرة السلطان كما يُطلق لكل ملك ذي شأن.
وعند الساعة السادسة صباحاً، قدم والي عدن وأمير البحر الإنكليزي ومعه قباطين البوارج وكبير العساكر المقدم ذكره لمواجهة السلطان وتبليغه التهانئ بوصوله إلى بلادهم سالماً غانماً. فرحب السلطان بهم وأكرم مثواهم وترفَّق بهم غاية الرفق كمألوف عادته، ثم انصرفوا وهم يثنون على دقّة جانبه. وفي الساعة العاشرة في نهار ذلك اليوم، حضر قنصل جنرال دولة ألمانيا لمواجهة السلطان في الباخرة، فاستقبله السيد برغش بمزيد العز والإكرام فبات ليلته في المركب.
وعند مغادرة عدن كانت الدولة البريطانية أعدت لحضرة السلطان برغش في مينائها باخرة أخرى من بوارج الدولة فانتقل إليها في قارب جميل تخفق في مؤخرته الراية الزنجبارية. وكان قد رافقه كثيرون من أرباب الدولة البريطانية وأعيان البلد وتجارها يشيّعونه بالسلامة. وبعد أن قضوا فروض الوداع عادوا إلى البر، وأقلعت الباخرة الحاملة للسلطان وسافرت في حراسة الرحمن، فطابت لها الريح وصفا الجو وراق البحر، وما زالوا يقلعون وهم في أرغد عيش، وإذا ببارجة إنكليزية حاملة أمير البحر قادمة فعرف الأمير باخرة السلطان، وأمر بإطلاق إحدى وعشرين طلقة مدفع على سبيل السلام والتوديع لجلالته. ثم ساروا الليل بطوله حتى انكشف لهم نور فوق منارة قد أشادتها الدولة البريطانية هداية للسفن في مرورها ليلاً في مضيق مدخل باب المندب.
وكلها أيام قليلة حتى وصلت سفينة السلطان إلى مرفأ السويس بمصر.
ثم مرت على إسبانيا، وتوقفت باخرة سلطان زنجبار في البرتغال. وأعدَّ ملك البرتغال استقبالاً كبيراً لسلطان زنجبار في قصره في لشبونة.
ولمّا وصل السلطان عزف الجنود تحيةً له ورحبوا بقدومه، وخرج ملك البرتغال ومعه الملكة وهي لابسة أفخر الحلل وعليها من الزينة والجواهر ما يُبهر النواظر، فتلقت جلالة السلطان بالحشمة والترحاب.
وبعد أن انقضت واجبات السلام والرسميات، صافح السلطان ملك البرتغال وقرينته، ثم ركب في مركبته وسارت الجنود به وبحشمه إلى القصر المهيَّأ لهم.
وبعد أن حلّ ركابهم في المنزل العظيم وصل جلالة ملك البرتغال ومعه ثلاثة من الوزراء الكبار فصعدوا القصر ودخل الملك إليه وقال له: قد أعددت هذا المنزل لجلالتك لتقيم فيه أنت والحشم ما دمتم مشرِّفين عاصمة مُلكي. وقد أتيت أريد زيارتك وتبليغك التهانئ بوصولك سالماً غانماً إلى بلادي. وهذه عاصمة مُلكي تحت أمرك، ووزرائي في خدمتك، وقد أوصيتهم بأن يطوفوا بك المدينة ويفرّجوك على ما فيها من التحف والنوادر. فشكره السلطان على مآثره وجزيل فضله، واعتذر إليه عن عدم إطالة الإقامة في بلاده، وقال إنه مصمم على السفر في تلك الليلة نفسها.
أما مدينة لشبونة عاصمة مملكة البرتغال فهي مبنية على جانبي نهر تاغوس بالقرب من مصبِّه، وفيها أبنية فاخرة جميلة، وقصورها أجمل قصور أوروبا، وشوارعها متساوية، وجميع طرقاتها واسعة مرصوفة بحجارة، وقد جعلوا في وسطها طريقاً عريضة تمر فيها المركبات والخيل. وعلى طرفيها طريق لا يمر فيها إلاَّ الناس المُشاة فقط. وبيوت المدينة مبنية على طبقات عديدة من خمس إلى ست طبقات، تحفّ بها بساتين وجنائن تتخللها سواقي المياه الصافية. وبعض جدران المنازل منقوشة بالفخار الصيني وأنواع الزجاج المختلفة. وفيها كنيسة وخمسة وسبعون ديراً للرهبان والراهبات، ولها مكتبة فيها ثمانون ألف مجلد، وسكانها، في ذلك الوقت، نحو مئتين وستين ألف نسمة.
ومع وصول سلطان زنجبار وباخرته إلى لندن، راح مؤرخ الرحلة وكاتبها، يصف مدينة لندن العظيمة وهم يعبرونها لأول وهلة:
لا يخفى أن هذه العاصمة مبنية على ضفتي نهر التايمز وهو يمر بوسطها بتعاريج كثيرة، ويقسمها إلى شطرين. وعليه عشرة جسور، منها ما بُني من حجارة ومنها ما بُني من حديد، تسير عليه الناس والخيل. وجسور أخرى كثيرة تمر من فوقها أرتال سكك الحديد ومن تحتها السفن والبواخر، ذهاباً وإياباً. وعرض هذا النهر في قلب المدينة يختلف من مئتين وثلاثين ذراعاً إلى نحو أربعمئة وثلاثين ذراعاً، ومعظم عرضه عند الجسر الحجري العظيم المسمى «واترلو».
مرت باخرة السلطان، أعزه اللَّه، أولاً بجسر لندن وهو من أعظم جسورها. باشر بناءه المهندس جون ريني وأولاده سنة 1821 وانتهوا منه سنة 1831. وقد وضعوا في أساسه المدافع التي غنمها الإنكليز في حرب «بينينسولا». وله خمس قناطر من حجر هلاليّ الشكل، اتساع القنطرة الوسطى نحو ستة وأربعين ذراعاً وعلوها فوق الماء تسعة أذرع، ويبلغ طول الجسر نحو مئتين وثلاثة وثمانين ذراعاً. وبلغت نفقة بنائه نحو خمسين مليوناً من الفرنكات.
ثم مرت باخرة سعادة السيد برغش بجسر آخر صغير. ثم وصلت إلى جسر آخر من حجر اسمه «إبلاكفو أيرس» (معناه الرهبان السود. فكان بقربه دير يسكنه رهبان يلبسون ملابس سوداً فسُمي الجسر باسم الرهبان السود)، وهو جسر عظيم شيّده المهندس روبرت ملني سنة 1760 وفرغ من بنائه سنة 1769. وله تسع قناطر وطوله نحو ثلاثمئة وثلاثة أذرع.
ثم وصلت الباخرة إلى جسر «واترلو» الذي سبق ذكره، وهو من أجل الجسور التي بُنيت في العالم كله. صمَّم هذا الجسر السير رالف دود وباشروا بناءه في الحادي عشر من شهر تشرين الأول/أكتوبر سنة 1811، وسمّوه هذا الاسم («واترلو») تيمُّناً بانتصار الإنكليز على نابوليون الأول في الواقعة الشهيرة التي جرت بين الدوق ويلنكتن ونابوليون الأول بقرب مدينة واترلو.
والجسر المذكور مبني على تسع قناطر هلالية الشكل، عرض كل قنطرة نحو ستة وثلاثين ذراعاً، وعلوها نحو اثنا عشر ذرعاً، وعرض وسط الجسر اثنان وعشرون ذراعاً. وإذا أضفنا إليه القناطر المبنية على شاطئيه خارج الماء بملاصقته، بلغ طوله نحو ثمانمئة ذراع. وبلغت نفقة بنائه نحو خمسة وعشرين مليوناً من الفرنكات.
ثم مرّت السفينة تحت هذا الجسر وسارت حتى وصلت جسر غارين كروس؛ وهو جسر عظيم مؤسَّس على سبعة عواميد، خمسة منها مصنوعة من حديد ومغروسة في قرار النهر على عمق عظيم. وعلو القناطر عن مساواة الماء نحو عشرة أذرع وكان قد رسم هندسة بنائه السير برونل وأكمل بناءه بتاريخ الثامن عشر من شهر نيسان/أبريل سنة 1840. وهو جسر عريض تمر في وسطه أرتال سكك الحديد ولا يُسمح للخيل بالمرور من فوقه. وأما البشر فمسموح لهم المرور عن جانبيه.
سارت بارجة السلطان من تحته حتى وصلت إلى الجسر المسمّى «ويستمنستر»؛ وهو جسر عظيم جديد البناء يشغل محمل جسر قديم كان قد عُني بهندسته السير لابيلي السويزي بين عامي 1738 و1750. أما الجسر الحاضر فقد عُني بهندسته المهندس باج. وهو قائم على دعائم من حديد مظفورة من مئتين وثلاثة وثلاثين قضيباً من حديد ومغروسة على عمق ثمانية أذرع في أرض صماء تحت الماء في قرار النهر. ويبلغ عرض أكبر قناطره نحو سبعين ذراعاً. وكل قناطره مبنية على شكل إهليليجي (بيصاوي)، وأُكمل بناؤه سنة 1862، وهو محاذٍ لدار الندوة الكبرى (البرلمان) بلندن، حيث يجتمع نواب الأمة وشرفاء المملكة للتعاطي بالأحكام ومصالح الأمة، وهي الدار المعروفة باسم «برلمنت».
أما مظاهر الاستقبال والبهجة لأول أمير عربي يزور بريطانيا، فقد سجلها مؤلف الكتاب:
كان شعب لندن قد سبق وعرف بوصول سعادة السلطان في الساعة المعيَّنة. فاجتمع الناس أفواجاً أفواجاً إلى الميناء ليشاهدوا أميراً من أول أمراء العرب قد أتى يريد زيارة بلادهم، وكانوا قد فرشوا أرض القصر حيث مرّ السلطان بطنافس وبسط من جوخ أحمر، واصطفت فرقة من الجنود الشرفية تحت إمرة الأمير ألاي فريمانتل والقائد برتي والملازم مانسفيلد في سلام سعادة السلطان، وكانت فرقة أخرى من الجنوب تعزف بآلات الموسيقى العسكرية تحت إدارة السير فريد كودفراي.
وكان قوم من رجال الدولة قد قدموا إلى الشاطئ لملاقاة جلالته وهم: السير الشريف بورك من أعضاء مجلس النواب وثاني كاتم أسرار وزارة الخارجية، والأمير كليفورد وسير بارتل فراير. وسير كنناوي (عضو من أعضاء مجلس النواب)، ولورد جون مانرس (عضو من أعضاء مجلس النواب) والقبطان الشريف أكرطن كاتم أسرار الوزارة البحرية، والسير كليمنت هيل من إدارة وزارة الخارجية، وحضرة القس جرجس باجر الفقيه، وحضرة الدكتور كريستي، وغيرهم كثيرون من أعضاء مجلس الشورى ومجلس الأعيان (مجلس اللوردات).
فلما رست باخرة السلطان صعد إليها السير بورك وسير بارتل فراير وغيرهما كثيرون، وصافحوا جلالة السلطان ورحبوا بقدومه وبلّغوه تحيات جلالة الملكة، فقابلهم السيد رغش بسرور وبشاشة، وشكر لهم ما أبدوه نحوه من الإكرام والإعزاز. ثم نهض السير بورك المومَأ إليه وقال لجلالة السلطان باللغة الإنكليزية ما تعريبه:
قد أمرني اللورد داربي وزير الخارجية بأن أبلّغ سعادتك باسم جلالة الملكة التهنئة بوصولك إلى بلادها سالماً غانماً. وتأمل بأن تسر سعادتك بزيارة المملكة البريطانية. فإنها ترغب في أن سعادتك تشاهد كل ما في مُلكها من النفيس والمليح والمفيد. ولهذا قد أصدرت أمرها إلى رجال دولتها أن يعيّنوا رجالاً من خيرة مُلكها يحسنون التكلم باللغة العربية ليكونوا في خدمة سعادتك مدة إقامتك في هذه البلاد. وهؤلاء الرجال الأمناء هم الدكتور كيرث والقس جرجس باجر الفقيه والسير كليمنت هيل. فكل ما اشتهته نفس سعادتك، مُر حضرة الدكتور كيرك وكيل جلالة الملكة يكُن أمرك مطاعاً على الرأس والعين.
فلما ترجم الدكتور باجر هذا الكلام بالعربية لسعادة السلطان شكر السير بورك على مكارمه الأثيلة، وقال: بارك اللَّه في جلالة الملكة وأدام عزها بالمجد والإقبال.
وبينما كان السيد برغش ينطق بهذه العبارة ثارت عاصفة شديدة فوق المدينة، وهطل مطر غزير كادت تطفح الأزقة من فيض مياهه. ثم خرج السلطان من السفينة إلى البر، وكان السير بورك وحضرة الفقيه باجر والسير داوز عن شماله، وكان حشمه يتبعونه حسب مقامهم، حتى إذا وصلوا إلى رأس الدرج الموصل إلى جسر ويستمنستر ضج الشعب المزدحم فوق الجسر بأصوات السرور والفرح، وكشفوا قلانسهم عن رؤوسهم حسب عاداتهم وسلّموا على السلطان ورحبوا بقدومه.
وكانت الموسيقى تعزف ألحان الأمة البريطانية، والجنود مصطفين في سلامه، فسار بحشمه، حتى إذا وصلوا إلى صحن دار الولاية، كانت هناك عربات تجرها الخيول مهيَّأة لركوب السلطان وحشمه، فركبوا وساروا إلى المنزل الذي «أعدته الدولة» لسعادة السلطان.
كانت الأيام الأولى من زيارة أول أمير عربي إلى بريطانيا، وهو سلطان زنجبار برغش بن سعيد، كافية لإحداث صدىً كبير في بريطانيا بين الأوساط الرسمية والشعبية.
ولم ينسَ كاتب الرحلة أول التعليقات التي خرجت من صحف بريطانيا العريقة على زيارة السلطان، حيث سجل ما كتبته جريدة التايمز مثلاً، ثم جريدة الديلي تلغراف وغيرهما.
وبدأ جدول زيارة سلطان زنجبار الحافل للندن والمدن البريطانية في حضور السلطان برغش لسباق الخيل بعد يومين من وصوله.
فأرسل لورد داربي بالنيابة عن الدولة البريطانية يستدعي سعادة السيد برغش إلى حضور ذلك المشهد لعلمه بأن سلطان زنجبار يُسَرُّ بمشاهدة الخيل الأصيلة كونه عربياً قحاً نشأ في بلاد العرب السعيدة التي هي بلاد الخيل الأصيلة.
ويقر الإنكليز أنفسهم بأن الخيل العربية تفوق في أصالتها الخيل الإنكليزية في نحافتها وسرعة عدوها. وقد أطنب سير فرنسيس دويل في مدح خيل العرب الأصيلة، فقال في قصيدة نظمها سنة 1827 عيسوية (ميلادية) ما ترجمته: «يفضل الأعرابي جواده على امرأته ويعزه كحياته».
قبل السيد برغش دعوة لورد داربي وخرج بحشمه إلى المشهد المذكور للفرجة. وكانت الطرقات غاصة بالناس والخيل والعربات. وعلى جانبي الطريق منازل عامرة وقصور باذخة وبساتين مزهرة. فلما وصل السيد برغش إلى محل السباق واستوى على مكان كانت الدولة أعدّته له ولحَشَمه، رأى تلك البقعة من الأرض غاصة بثلاثين ألفاً من الرجال والنساء قد أتوا للفرجة من أماكن مختلفة.
ومن عوائد أصحاب خيل الرهان أنهم يختارون رجالاً خفيفي البدن ويفرضون عليهم الأكل والشرب بقانون وتقتير إلى مدة معلومة حتى ينحف جسمهم ويجف لحمهم ويخف ثقلهم، ثم يجعلونهم يركبون خيل الرهان ويحثونها على الجري يوم السباق.
ولما استوى السباق وأُطلق العنان للخيل، اندفعت اندفاع البرق من كبد السحاب، وطارت طير السهام من القوس. وكان فيها جواد اسمه دونكاستر يعدّه الإنكليز من أجود خيل بلادهم، وقد فاز على باقي خيل الرهان، وبلغ الغرض قبل الجميع، ونال صاحبه شرف الرهان.
فلما رأى السلطان ما بدا من ذلك الجواد الأصيل، طفح السرور في قلبه وقال «بارك اللَّه في هذا الجواد، فإنه من جياد الخيل ويُضارع أحسن الجياد العربية». قيل إن ذلك الجواد عزيز جداً على صاحبه، فقد اشتراه بعشرة آلاف ليرة إنكليزية.
وفي اليوم الحادي عشر من شهر حزيران/يونيو من عام 1875 زارت مجموعة من الصحافيين البريطانيين قصر السلطان برغش الذي أعدته ملكة بريطانيا خصيصاً لضيفها الكبير في مقر إقامته بلندن.
وشرح الصحافي بجريدة الديلي تلغراف الإنكليزية وقائع تلك المقابلة مع السلطان قائلاً:
وددت لو تُمكّنني الفرصة من المثول بحضرة السيد برغش لأتشرف بمشاهدته وأستقصي من سعادته عن أمور كثيرة في أحوال أفريقيا بحسب كوني عضواً من أعضاء الجمعية الجغرافية الملوكية. فاستعنت على نوال مرغوبي بواسطة صديقي المخلص سير بارتل فراير وصديقه حضرة القس باجر الفقيه وكلاهما من أخص محبي سعادة السلطان. فقصدت قصر سعادته نهار الجمعة الحادي عشر من شهر حزيران/يونيو من عام 1875 فقابلني الخدم بغاية العز والإكرام، وأدخلوني قاعة فسيحة مزيَّنة بأثاث فاخر ملوكي، فجلست أنتظر تشريف سعادة السلطان.
فقال لي السلطان في جوابه: بارك اللَّه في بلادكم السعيدة وعمَّر دياركم الفريدة، فإني رأيت في هذه الحاضرة العظيمة منازل كبيرة جداً وجميلة البناء كأنها قصور ملوك أعزاء، وقد قِيل لي إنها منازل قد أعدها أصحاب الخير للفقراء والبائسين، ومنها مستشفيات للمرضى والمُقعَدين، فطابت بذلك نفسي واتسع صدري وقلت «هذه حسنة كبيرة عند اللَّه».
ثم لما جلت في شوارع هذه المدينة العظيمة وطفت ضواحيها الجميلة ورأيت قصورها الباذخة ودرت بين جنائنها وحدائقها النضرة، تعجبتُ من كبرها واتساعها، وقلت: «حقاً هذه مدينة من أعظم مدن الدنيا كلها كبراً وأكثرها سكاناً وأحسنها خلقاً وأجملها منظراً».
قلت: وهل تحسب سعادتك أن الإنكليز أجمل الناس خلقاً وأحسنهم منظراً؟
قال: الناس طرّاً من نسل حضرة أبينا آدم (عليه السَّلام)، وإنما اختلاف الأراضي التي سكنها البشر واختلاف المعيشة والأقاليم قد أوجبا الاختلاف في هيئاتهم وأخلاقهم، وهذا أمر اللَّه يجريه في خلقه، وقد قدَّر على كل خليقة أمراً لا بدّ من تنفيذه.
قلت: أصبت أيها السلطان بحسن رأيك، وعسى تصبح بلادك يوماً من الأيام مثل لندن وأحسن منها، وقَوْلي هذا لا يخامره اشتباه. فإن بلادك السعيدة لا يؤذيها ما يؤذي لندن من كثافة الضباب وسواد الدخان الحالك. فتبسَّم السيد وقال: إن شاء اللَّه الحق سبحانه وتعالى يستجب دعاءك.
وفي أحد الأيام وهو اليوم الرابع عشر من شهر حزيران/يونيو، اضطر السلطان برغش لملازمة قصره بسبب المطر الشديد. لكنه في اليوم التالي قام بزيارة ولي عهد الامبراطورية البريطانية في موكب حافل.
ووصف كاتب الرحلة ذلك اللقاء قائلاً:
استقبله ولي العهد بلطف وبشاشة لا مزيد عليهما. فسُر السلطان غاية السرور، وقال إلى بعض من محبيه الثقاة: لما التقيت بولي العهد في مدخل الدار رأيت لوائح السرور والبشاشة تلوح على وجهه الأغر، فعلمت أنه يقابلني ليس مقابلة رسمية بوجه عبوس، كعادة رجال السياسة، بل مقابلة ودية وقلبية.
ولما أحضر البرنس ولي العهد حضرة الأميرة قرينته المصونة وحضرة أخته الكريمة الأميرة أليس وزوجها الشريف ليسلموا عليّ، غدق السرور على قلبي بمشاهدتهم وبما رأيته منهم من اللطف والبشاشة. وازددت فرحاً وسروراً لمّا سألني ولي العهد إن كنت أحب أن أرى أنجاله المحروسين، فقلت حبذا هذا فإنه تمام المرغوب.
فظننت أن ولي العهد يريد أن يحضر إلي واحداً من أنجاله. ولكن أخذ الفرح مني كل مأخذ لما رأيت جميع أنجال الأمير واقفين أمامي كحُور الجنان في حشمة وكمال لا مزيد عليهما. ولا أقدر على أن أعبّر عن شعائر فؤادي لمّا رأيت هؤلاء الأمراء الحديثي السن يقبّلون والدهم واحداً بعد واحد بحنوٍّ غريب ويعانقونه معانقة حلوة.
وكان ولي العهد يمد ذراعيه الأبويتين إلى أصغرهم ويرفعه عن الأرض ويقرّبه إلى فمه ليطبع على شفتيه العذبتين قبلة الحب الأبوي. فتحركت حينئذ مشاعر الحنوّ في صميم فؤادي وكات الدموع تطفح من عيني حنوّاً. فقلت في قلبي: اللَّهُم بارك هذه العائلة السعيدة واحفظ بيمينك العزيزة هؤلاء الأنجال المحروسين.
وتضاعف سروري لما جلس هؤلاء الحُور إلى جانبي واحداً بعد الآخر بلطف وأنس وثقة تُعهَد في الأطفال الأبرياء. ولم يستغربوا منظر رجل أعرابي مكتس بملابس عربية لم يشاهدوها، عمرهم بطوله، قبل ذلك الوقت. وكان الكمال والحشمة قد ضاعفا محاسنهم وزيّنا أشخاصهم.
وبعد أن تمليت من مشاهدتهم سألني ولي العهد ما الذي سرني بلندن أكثر؟ قلت في جوابي له: قد سُررت غاية السرور بكل ما رأيته في مملكة جلالة الملكة، ولكن منظر أنجالك الأمراء المحروسين قد زادني سروراً لم أشعر به إبان عمري بطوله. فتبسّم ولي العهد تبسماً حلواً وقال: هذا من فرط لطفك وحبك أيها السيد الكريم. قلت: كلا أيها الأمير، وإنما قولي هذا قول جِدّ، وقد انطبعت في مرآة عقلي صورة ما رأيته من منزلك العامر من السعادة ولطف أنجالك المحروسين، ولا تزول هذه الصورة المحبوبة من عقلي.
وبعد زيارة ولي عهد بريطانيا قام السلطان برغش بأول نزهة وجولة له في لندن. ففي اليوم السابع عشر من شهر حزيران/يونيو، زار بستان الحيوانات (حديقة الحيوانات).
ووصف كاتب الرحلة تلك النزهة قائلاً:
بستان الحيوانات بلندن حديقة كبيرة قد جمعوا فيها من كل أقطار الدنيا جميع أجناس الحيوانات البرية والبحرية والطيور والهوام والحشرات والحيّات العظيمة، وليس في باريس ولا في العالم كله بستان يحتوي على كل أجناس الحيوانات مثل هذا البستان.
وليس هذا البستان من مشروعات الدولة البريطانية، بل تشكّلت شركة بلندن سنة 1826 بمبلغ وافر من رأس مال، وباشر أعضاؤها بصرف المال بسخاء جزيل واستأجروا رجالاً وجعلوا لهم رواتب وافرة وأرسلوهم إلى جميع أقطار الدنيا حتى يجلبوا منها كل نوع من الحيوان والطير والسمك غير المعهود في أوروبا.
وأنفقوا في بادئ الأمر نحو خمسمئة ألف فرنك حتى جمعوا نحو ألف وخمسمئة حيوان من أجناس وأنواع مختلفة من أعظم الأفيال والحيّات والسباع والنمور والدببة إلى أصغر الحشرات. وقد بنوا لكل حيوان مكاناً بمعزل عن غيره، وأقاموا لها خدّاماً يعتنون بتقديم القُوت لها وتنظيفها والمحافظة عليها.
وبعد بضع زيارات وجولات في لندن، قام السلطان برغش بزيارة لمعلم هام في لندن هو قصر البلّور. ويشرح كاتب الرحلة ذلك المكان والزيارة قائلاً:
قصر البلّور من المواقع الفريدة المشهورة في بلاد الإنكليز، وموقعه في ضواحي لندن على مسافة عشرة أميال من قلب المدينة. ويسافر كل يوم من لندن إلى قصر البلّور خمسة وعشرون رتلاً من محطة لندن بريدج، وواحد وعشرون رتلاً من محطة فيكتوريا، ومجموع ذلك ستة وأربعون رتلاً من أرتال سكك الحديد، تحمل المتفرجين من لندن إلى قصر البلّور يومياً. وفي أيام الآحاد والأعياد يتضاعف عدد الأرتال فيبلغ نحو مئة رتل. وأجرة الدخول إلى القصر شلين واحد. وأجرة سكة الحديد ذهاباً وإياباً شلنان ونصف شلن.
باشر الإنكليز تشييد هذا القصر سنة 1852 ودام بناؤه نحو سنتين، وتمت هندسته طبق هندسة قصر المعرض الذي جرى بلندن سنة 1851. وسمي قصر البلّور لكونه مشيَّداً على قوائم ودعائم من حديد مغطاة من أسفل إلى فوق بألواح من البلّور السميك، وطوله نحو ألف وتسعة وخمسين متراً، أي نحو ميل، وفيه من الأعمدة ثلاثة آلاف وخمسمئة عمود.
وقد جمع الإنكليز فيه كل ما عندهم من التحف التي تستأهل الفرجة، وحوله بستان واسع فيه من جميع أصناف الأشجار التي تنبت في أقاليم الدنيا المختلفة. وفي قلب القصر مرسح لقيام الملاعب يسع نحو خمسة آلاف شخص.
كانت مدينة «برايتون» (برايطن كما أسمّاها كاتب الرحلة) هي أولى رحلات سلطان زنجبار خارج لندن، وهي بذلك أولى المدن البريطانية بعد لندن التي يزورها السلطان برغش.
ومع بدايات الرحلة إلى برايتون سجّل مؤرخ الرحلة في دفاتره التفاصيل:
خرج السيد برغش في حشمه يريد الفرجة على مدينة برايطن (برايتون) وما فيها من الأحواض الحاوية جميع أنواع الأسماك. وبرايطن مدينة على ساحل البحر تبعد عن لندن نحو واحد وخمسين ميلاً، تقطعها سكة الحديد في برهة ساعة وخمس وعشرين دقيقة. وفي سيرها تمر بقبو تحت الأرض اسمه «اكليتن» طوله 2020 ذراعاً، ثم يلحق به قبو آخر تحت الأرض اسمه «ياتجم» طوله 432 ذراعاً.
وهذه المدينة من منتزهات الإنكليز يقصدها الناس أيام الصيف للراحة والاستحمام بمياه البحر. وفيها من السكان نحو ثمانين ألف نسمة. ويزداد عددهم أيام الصيف إلى نحو مئة ألف. وقد أضحت هذه المدينة ضاحية من ضواحي لندن. وقد بنوا منازل جميلة على ساحل البحر على مسافة ثلاثة أميال وشيَّدوا سوراً واطئاً لردع أمواج البحر عنها.
وقد أقاموا في ساحة «إستين» تمثالاً من نحاس للملك جورج الرابع بهذا الاسم. وبقربها عين ماء اسمها فيكتوريا. وقد بنوا جسراً من حديد يمتد من البر إلى قلب البحر فوق المياه على مسافة 350 ذراعاً ويبلغ عرضه نحو أربعة أذرع، وهو راكز على أعمدة من حديد مغروسة في صخر تحت قاع البحر، ومُعَد لمنتزهات الشعب.
وفي أيام الصحو تعزف فوقه آلات الموسيقى للترويح عن الناس. وقد شيَّدوا على ساحل البحر داراً واسعة مسقوفة بزجاج سميك وجعلوا فيها أحواضاً واسعة مغطاة بألواح من البلّور وملأوها بماء البحر وجمعوا إليها جميع أنواع الأسماك الصغيرة والكبيرة والأصداف والزواحف والسرطان والكركدن البحري والتماسيح وسمك الحيّات إلى غير ذلك من سكان البحور. فيتوارد الناس إلى هذه الدار ليتفرجوا على هذه الحيوانات الجميلة الألوان.
ولما وصل السيد برغش إلى محطة سكة الحديد استقبله بعز وإكرام حاكم المدينة مستر بريدجن وسير كوري بروز، ومستر استيفن ناظر شركة دار الأسماك، واللورد وليم لينوكس، والشريف هومبراون، ومستر مكميلان، وسير ألبرت ساسون وولدا أخويه مستر أرثود وروبين ساسون.
ثم ركب السيد برغش في عربة مكشوفة، وسار إلى دار الأسماك. وكان الشعب يتقاطر أفواجاً ويزاحم عربة سعادته من وراء ومن قدام، ويرفعون قلانسهم عن رؤوسهم ويضجّون بأصوات الفرح والتهليل ويرحبون بقدومه. ولما وصلوا إلى دار الأسماك رأوا أبوابها وأسطحها مزيَّنة برايات الدول، وكان علم السلطان الأحمر يخفق فوق جدران تلك الدار من كل جهاتها، وكانت العساكر الملوكية مصطفة لسلام السلطان.
ولما دخل السيد إلى دار الأسماك للفرجة رافقه المعلم هنري لي الطبايعي، وصار يشرح له عن طبائع أنواع الأسماك المختلفة، واحداً واحداً. وكان الفقيه جرجس باجر يترجم للسلطان كل ما كان يقوله المعلم هنري لي. وكان ناظر الأسماك أعطى أوامر للخدم بأن يطعموا الأسماك قُوتها اليومي عند مرور سعادة السلطان بأحواض السمك. فسُرَّ السيد برغش غاية السرور وأُعجب كثيراً بسماع البحر وسمك كلب البحر الذي هجم على سرطان وعضه.
وبعد عودة السلطان برغش من مدينة برايتون اجتمع معه بعض أعضاء البرلمان البريطاني، وأقام السير بارتل فراير وليمة كبيرة للسلطان ومرافقيه أُلقيت فيها الخطب الرسمية.
وألقى القس بوزاكوت خطاباً هامّاً على السلطان حول تجارة الرق، ترجمه مؤرخ الرحلة، وهذا نصه:
إلى سعادة السيد برغش أيده اللَّه،
فليس بخاف على سعادتك أنه قد انعقدت من سنين عديدة جمعية مؤلفة من رجال إنكليز وغير إنكليز، غرضها: إبطال الرِّق من الدنيا وإلغاء التجارة ببني آدم. ونحن، الحاضرين هنا، من جملة أعضاء هذه الجمعية، لما علمنا بقدوم سعادتك إلى بلادنا سُررنا غاية السرور بوصولك إلينا سالماً وغانماً، وقد أتينا الآن نقدم لسعادتك التهانئ ونرحب بمجيئك إلى بلادنا، ونغتنم الفرصة لتقديم الشكر لسعادتك على عقد معاهدة مع الدولة البريطانية سنة 1873 لأجل إبطال تجارة الرقيق من سواحل أفريقيا ومن أملاك زنجبار قاطبة.
ولا يخفى على سعادتك ما فاضت به قلوبنا من الفرح لما رأيناه من اهتمامك الزائد في إتمام ما وعدتَ به الدولة البريطانية، ولم تحفل بالمتاعب التي تحمَّلتها وخسائر الدراهم التي تكبّدتها. ولا ريب في أن لك في عين اللَّه حسنة كبيرة على ذلك. أما نحن فقد صرفنا الهمة إلى النظر في مصالح تجارة الرقيق زماناً طويلاً، فوجدنا أن لا نجاح فيها ولا يصدر عنها غناء ثابت. ولا تفلح أمة ولا تحصل على نجاح تام إلاَّ باعتصامها بعقائد الدين ونواميس الطبيعة والتمسك بعروة المساواة البشرية. وسعادتك قد وطدت أساس هذه المآثر بسعيك في إبطال تجارة الرقيق الذميمة وترويج تجارة جديدة وتوسيع نطاق الحضارة الحميدة.
ولم يبقَ على سعادتك سوى أن تصرف همتك إلى استئصال الرِّق وفتح موانئ ممالكك البحرية وأنهرها العظيمة لسير السفن الأوروبية ترويجاً لمصالح شعبك ومصالح التجارة معاً، فيكثر الغناء في بلادك السعيدة وتعمر مملكاتك المخصبة، فإنها ذات تربة حسنة لا مثيل لها. فإن فعلتَ هذا سجّلتَ لك اسماً شريفاً في صحف التاريخ وخلَّدت ملكك، ونلت من اللَّه سبحانه وتعالى ثواباً عظيماً في الدنيا والآخرة.
أما السيّاح الذين طافوا في بلاد أفريقيا فقد نقلوا إلى جمعيتنا أخباراً يعز علينا أن نسرد ذكرها على مسامع سعادتك. فقد قالوا إن أكثر النخاسين يجتمعون إلى زنجبار ويجهّزون سفنهم في أسواقها، ويسافرون منها بحراً في طلب الرقيق. ومتى نالوا ما تمنوا من صيد أولئك الزنوج المنكودي الحظ رجعوا إلى زنجبار ونفقت تجارتهم في أسواقها. فلا يخامرنا ريب في أن هذا لا يسر سعادتك ولا تطيب نفسُك الكريمة بهذه الأرباح الذميمة، وأنك لتفرغنَّ جهدك في إبطال هذه المنكَرات القبيحة الذي فيه خير للأمة والملك.
كانت زيارة الملكة فيكتوريا أهم زيارات سلطان زنجبار في بريطانيا على الإطلاق.
وكان السلطان برغش ينتظر لقاء الملكة البريطانية العظيمة بفارغ الصبر منذ وصوله إلى لندن.
وفي اليوم الحادي والعشرين من شهر حزيران/يونيو تحقق له ذلك. وكتب مؤرخ الرحلة زاهر بن سعيد يصف الزيارة للملكة وقصرها قائلاً:
خرج السيد برغش في رجاله من لندن نهار الخميس الحادي والعشرين من حزيران/يونيو يريد زيارة جلالة الملكة فيكتوريا في قصرها المشيَّد في قرية ونزر، وهي تبعد عن لندن نحو خمسة وعشرين ميلاً. ويبلغ عدد سكان هذه القرية نحو عشرة آلاف نفس، ويسافر كل يوم من لندن إلى قرية ونزر اثنان وثلاثون رتلاً من أرتال سكك الحديد، ونهار الأحد يزداد عدد هذه الأرتال حتى يبلغ نحو ستة وأربعين رتلاً.
خرج السلطان من لندن بعد الظهر، وكان في رفقته أخص وزرائه أحمد بن سليمان وحمود بن حمد ومحمود بن أحمد وناصر بن سعيد ومحمد بن سليمان وتاريا طوبان والدكتور كيرك واللورد داربي وزير الخارجية والشريف سير بارتل فراير والدكتور جرجس باجر ومستر كليمنت هيل كاتم أسرار وزارة الخارجية. ووصلوا إلى قرية ونزر بعد الظهر بساعتين ونصف الساعة.
اجتمع شعب غفير في محطة سكة الحديد ليسلموا على سعادة السلطان رغماً عن المطر وعواصف الطقس، وكان جنود الملكة مصطفين لسلام سعادته وهم حاملون رايتهم الشرَفية، والموسيقى تعزف ألحاناً رخيمة. وكانت خمس عربات من عربات الملكة واقفة في انتظار سعادته على باب المحطة، وقد كانت العربة المخصَّصة لركوب السلطان ذات أربعة رؤوس خيل مطهمة.
وكان قد قدم إلى محطة سكة الحديد الكولونيل غاردينر نيابة عن جلالة الملكة ليلاقي سعادة السلطان. فلما وصل السيد برغش إلى المحطة استقبله الكولونيل المومَأ إليه ورحب بقدومه.
وكان الشعب يصرخ بأصوات الفرح «أهلاً وسهلاً بسعادة سلطان زنجبار». فرد السيد برغش السلامَ عليهم بيده يميناً وشمالاً، ولما ركب العربة سلّم الجنود عليه برفع السلاح وطفقت الموسيقى تصدح بأنغام عذبة. وفي مرورهم بشوارع القرية شاهدوا بناء مدرسة أيتون العظيمة، وفيها سبعمئة شاب من طلبة العلم، ثم وصلوا إلى قصر الملكة.
وبناء هذا القصر من غرائب الأبنية، وموقعه على تل عالٍ فوق شط نهر التايمز، ويشغل من الأرض مساحة ثلاثة عشر فداناً، ومشهد أسواره وما حوله من البروج والمنائر يُدهش العقل ويحيّر الأبصار. ويبلغ علو أحد بروجه نحو خمسة وأربعين ذراعاً. ويكشف الناظر من فوق نحو اثنتي عشرة مقاطعة من الأرض، ويمتد النظر إلى قبة كنيسة بولس الحواري بلندن.
ويسكن هذا الحصن حاكم قرية وندثور.
وللقصر أربعة أبواب، اسم الأول: باب الملك هنري الثامن، واسم الثاني: باب سان جرجس، واسم الثالث: باب الملك جرجس الرابع، واسم الرابع: باب الملكة إليزابيث. فمن دخل القصر من باب الملك هنري الثامن رأى معبداً مشيَّداً على اسم سان جرجس أمر بإنشائه الملك إدورد الرابع سنة 1474 عيسوية (ميلادية).
أما البستان الكبير فطوله نحو ثلاثة أميال وعرضه من ثلاثة أميال إلى خمسة أميال، وتبلغ مساحة أرضه نحو ثلاثمئة فدان، وفيه ألوف من الغزلان ترتع في رياضه بلا عارض، وهو بالأحرى شبيه بغاب وسيع، وفي وسطه طريق تمر به الخيل والعربات للتفسيح والتنزيه تظلله أشجار من الجانبين على مسافة ثلاثة أميال من باب القلعة إلى تل الثلج (سنو هيل) المنصوب عليه تمثال عظيم من نحاس للملك جورج الثالث بهذا الاسم.
وبعد تل الثلج تُشاهَد أبنية على نسق هندسة منازل أهل الصين واليابان لمنتزهات العائلة الملوكية مشيَّدة حول بحيرة ماء صافٍ واسعة جداً ومظلَّلة بأشجار عالية، وحولها تلال مزهرة ومروج نضرة يرتاح الناظر إليها.
فلما وصل جناب السيد برغش ورجاله إلى قاعة الاستقبال قدمت جلالة الملكة فيكتوريا وابنتها الأميرة لويسة زوجة الماركيراف لورن والأميرة بباتريس: أصغر بنات الملكة، وسلَّمن على سعادة السلطان في حجرة الاستقبال التي كان قد عُني أهل القصر بتزيينها أحسن زينة، فكانت جدرانها مغطاة بتصاوير مطرَّزة على طنافس ثمينة، وأرضها مزيَّنة بتماثيل جميلة كان قد نحتها النحات الماهر غرينلين جيبون الشهير.
أما انطباعات سلطان زنجبار عن الملكة فيكتوريا بعد تلك الزيارة التاريخية لها، فسجلها كاتب الرحلة حينما تحدث السلطان مع مرافقيه وأفضى إليهم بانطباعاته عن الملكة قائلاً:
قد رأيت يعيني الآن ما كنت أشتهيه من نعومة أظفاري، وتشرفت بالنظر إلى محيَّا ملكة الإنكليز وجهاً لوجه، فكان أبي ـ تغمّده الرحمن برحمته ـ يحكي لنا ونحن صغار عن الملكة فيكتوريا ويقول إنه يود لو تسمح له المقادير بمشاهدة هذه الملكة الجليلة. ولكن قضى نحبه ولم يقضِ وطره.
أما الذي زادني رغبة في مشاهدة ملكة الإنكليز فهو من الأمور المستغرَبة. فإني رأيت كثيرين من الإنكليز، سواء كانوا من القواد أو من الجنود أو من التجار، يمدحون غاية المديح هذه الملكة المعظمة، ويثنون عليها كل الثناء، ويودونها وداداً لا حد له. ولم أشاهد باقي الأمم يودون ملوكهم وملكاتهم وداد الإنكليز لملكتهم. فهذا جعلني أزداد رغبة في مشاهدة الملكة التي هي أشبه بحجر المغناطيس تجذب إليها الداني والقاصي.
وحسبك شاهداً على ذلك ما رأيته بالأمس في قصر البلّور. فإن الناس، طرّاً، لما سمعوا الموسيقى تصدح بغناء الملكة، نهضوا جميعاً وكشفوا عن رؤوسهم إجلالاً لذكر اسم الملكة. لعمري، لم يحرضهم أحد على القيام وإنما قاموا من تلقاء أنفسهم لشدة توددهم إلى ملكتهم المعظمة.
ولا جرم في أنها عز الأمة البريطانية ومجد المملكة، وأصل نجاح الشعب وفلاحه، فمَن لا يؤخذ من جانبَي الدهشة والتعجب عندما يرى امرأة جالسة على كرسي مملكة عظيمة لا تغرب الشمس على سلطانها، وهي تحكم وتسوس ولا يجري في الملك شيء بدون أمرها. فسبحان من أعطى هذه المرأة حكماً وعلّمها الجلوس على العرش، وأيدها على سياسة المُلك، وجعل الأمة تنقاد إليها انقياد البنين لا انقياد العبيد. فهي تسحر الناظر إليها ليس بعظمة سطوتها وتلال الجواهر التي تسطع عليها وحواليها من كل جهة، وإنما تجذب القلوب إليها بلطف وأنس لا مزيد عليهما ولا مثيل لهما، وهذا اللسان قاصر عن وصف جميع محاسنها صانها المولى وأبقاها ذخراً للملك وعزاً لأمة الإنكليز، آمين.
بعد زيارة السلطان برغش للملكة فيكتوريا في قصرها الكبير في لندن، أقامت الملكة أيضاً حفلاً ساهراً أسماه مؤرخ الرحلة «مأدبة غناء ملوكية» إكراماً للسلطان في قصرها.
وطبعاً، قَبِل السلطان الدعوة التي حضرها مئات المدعوين من إنكليز وأجانب.
وبعد أن اجتمع المدعوون واستوى المحفل، باشر المغنّون بالغناء والعزف على آلات الموسيقى، وكان عدد المطربين العازفين نحو 160 شخصاً ونيفاً، وكان قد صار انتخابهم من بين أشهر المطربين بلندن، وكان موسيقي الملكة في معيتهم، وهذا فهرس الأغاني التي صدحوا بها في تلك المأدبة:
أولاً: فاتحة الغناء اسمها «شافي شاس».
ثانياً: غناء مزدوج مطلعه «هناك نصافح بعضنا» وكلامه باللغة الإيطالية، غناه السير روتا والسيدة زاره. وهو غناء مقتطف من الأوبرا الإيتليانية (الإيطالية) المعروفة باسم «دون جوفاني».
ثالثاً: مادريغال مطلعها «نرتع في وادي الزهور» وكلامها الإنكليزي غناه جمع غفير.
رابعاً: هوى مطلعه «سعداً لكِ يا بلادَ العرب المحبوبة» غنّته السيدة ترابللي بتيني، وكلام المغنى بالإيطالية.
خامساً: مادريغال مطلعها «أيها الملاك اللابس جسماً بشرياً» غنّتها السيدة أدلينا باتي والسير نيكوليني وكلامها بالإيتليانية (الإيطالية).
سادساً: هوى مطلعه «يا ليلة هادية» غنّته السيدة تيسيان باللغة الإيتليانية.
سابعاً: هوى مطلعه «نفسها الحزينة» وكلامه باللغة اللاطينية (اللاتينية) غنّاه السيد نيكوليني.
ثامناً: هوى باللغة الإيتليانية مطلعه «الآن أنا وحدي» مقتطَف من الأوبرا الإيتليانية المعروفة باسم «فراديافولو» غنّته السيدة زارا.
تاسعاً: مقالة حماسية غنّاها جمع غفير. وكان كلامها باللغة الجرمانية (الألمانية).
عاشراً: غناء إيتلياني اسمه برينديزي ومطلعه «السر» مقتطف من الأوبرا الإيتليانية المسماة «لوكراسيا بورجيا»، غنّته السيدة حنه دي بيلوكا.
حادي عشر: غناء اسمه «رومانزا» مقتطَف من الأوبرا المسماة «لافافوريتا»، ومطلعه «لكل هذه المحبة»، وكلامه بالإيتليانية غنّاه السير روتا.
ثاني عشر: غناء مزدوج مقتطف من الأوبرا الإيتليانية المسماة «سيميراميدا» (ملكة بابل) مطلعه «يا له من يوم تعيس فقدتُ فيه حبيبي» غنّته السيدة تيسان والسيدة ترابللي بتيني.
ثالث عشر: غناء إيتلياني مطلعه «أيها الطيف اللطيف» غنّته السيدة أدلينا باتي.
رابع عشر: غناء مزدوج مقتطَف من الأوبرا الإيتليانية المسماة «إيل تروفاتوري» مطلعه «إذا أشقاكِ التعب يا أماه» وهو غناء رخيم يحن له قلب الجلمود، غنّته السيدة حنه دي بيلوكا والسيدة نيكوليني.
خامس عشر: غناء مثلَّت الأصوات مقتطَف من الغناء المعروف باسم «الزيجة السرية» وكلامه بالإيتليانية ومطلعه «أحنيت له رأسي تحيةً وسلاماً» غنّته السيدة أدلينا باتي والسيدة زاره والسيدة ترابللي.
سادس عشر: خاتمة الغناء كانت مقامة (نشيد) الدولة البريطانية وكلامها بالإنكليزية ومطلعها «اللَّهُم احفظ الملكة» عزفته الموسيقى الملوكية بإدارة السيد كوزين.
وفي اليوم التاسع والعشرين من شهر حزيران/يونيو عقدت الجمعية الجغرافية الملكية في لندن احتفالاً كبيراً لسلطان زنجبار حضره عدد كبير من الأعيان والعلماء والأدباء والسيدات.
وبعد عدة كلمات ترحيبية من رئيس الجمعية وأعضائها، طُلب من سفير بريطانيا السابق في زنجبار أن يتحدث عن زنجبار فقال:
إن لزنجبار أهمية عظمى في الحال والاستقبال لنجاح أفريقيا كلها، فإن هذا كله منوط بإرادة السيد برغش وقاه اللَّه. ومن دون حسن إرادته لا يتيسر لأحد أن يبادر لإصلاح تلك القارة وتهذيب قومها. وزد على ذلك أن أراضي زنجبار لا مثيل لها في خصب التربة على سطح البسيطة بأسرها. وأول من عُني بإدخال الإصلاح والتمدن في زنجبار كان والد السيد برغش المغفور له. ولما كان الولد سرَّ أبيه، حذا السيد برغش حذو والده وأفرغ همته في إكمال ما كان قد باشره والده المغفور له.
ومما لا قدرة لنا على إنكاره هو أن بلاد الإنكليز في احتياج عظيم
إلى بعض محاصيل زنجبار، فإنها أعظم بندر في الدنيا لتجارة العاج (سن الفيل) ولتجارة القرنفل والصمغ والسكر والقطن، وما إلى غير ذلك. ولنا أن نقول قولاً لا يُخشى عليه من منكَر: إن غلال زنجبار وتجارتها لا حد لها ولا نهاية.
والأنهر التي تسقي أراضيها قد عُني بتعميقها وصارت تصلح لسير السفن، وقد صرف السلطان ـ أيده اللَّه ـ همته إلى فتح الطرقات في داخل الجزيرة لتسهيل الأسفار ونقل الأموال. ولنا ثقة تامّة بهمم سعادته العليّة ألا يألو جهداً في إتمام ما به من أجل خير المملكة ونفع العالم أجمعين.
فهتف حينئذ جميع الحاضرين وقالوا: أيد اللَّه سعادة السيد سلطان زنجبار وحفظه في عين الدنيا طويلاً ليرى بعينيه نجاح بلاده ورسوخ مُلكه على دعائم العز والإقبال، آمين.
ثم نهض رجل من أعضاء الجمعية الجغرافية وقال إن أعضاءَ هذه الجمعية سمعوا أن أهالي زنجبار يقتلون الأفيال عند قنصها ليُخرجوا أسنانها وباقي عظامها ويتاجرون بها. وكان حقهم أن يستأنسوا الأفيال عند قنصها ويستخدموها في مهمات المعيشة بعد قلع أسنانها.
فترجم الفقيه باجر كلام ذلك الخطيب لسعادة السلطان. فقال السيد في جوابه بحذق وذكاء:
قل أيها الفقيه لحضرة الخطيب إن اللَّه سبحانه وتعالى لا يسأل مخلوقاً عن شيء لا يعرفه، ولا يطالبه يوم الدين بأمر لم يدرِ طريقة عمله بصواب. ونحن، معشر الأفريقيين، لا نعرف طريقة قنص الأفيال من دون قتلها، فليأتِ هذا الخطيب البارع إلى أفريقيا ويعلِّمنا طريقة قنص الفيل وقلع أسنانه وإخراج عظمه للتجارة ولعمل الأواني العاجية من دون قتله.
وإن اعترض علينا وقال إن الإبقاء على الأفيال خير من التجارة بأسنانها وعظامها، قلنا له: حرِّم أولاً على أمتك اتخاذ العاج سبيلاً للتجارة فتكسد سوقه ويكف الأفارقة عن قنص الأفيال وقتلها.
فلمّا ترجم الفقيه باجر كلام سعادة السلطان وأملاه على رؤوس الحاضرين، أفرطوا في الضحك والسرور، وهتفوا بأعلى أصواتهم وقالوا: نِعْم الجواب، للَّه درُّ من أتى به وانتقم من خصمه أي انتقام.
ثم نهض سير رولنسن زعيم المحفل وقال: نِعْم الجواب ما أجاد به السيد برغش الهمام. فإن وجد الناس طريقة سهلة جديدة لقنص الأفيال واستخراج عظامها من دون قتلها تمكّنوا من استخدام الأفيال بمنزلة عجلات ومركبات لنقل الأموال عليها، ولكن هيهات. فإن إخراج عظم حيوان والإبقاء على حياته ضرب من المحال. فقهقه الحاضرون ضحكاً من ذلك.
ولما فرغوا من الضحك استأنف سير رولنسن كلامه وقال: أيتها السيدات المصونات، وأيها السادات الكرام... قد حق عليَّ أن أطلب إليكم أن ترفعوا أصواتكم وتدعوا لسعادة السلطان بطول البقاء والإقبال وتشكروا لسعادته تشريفه هذا الحفل.
وقبل مغادرة سلطان زنجبار لندن بعد زيارة تاريخية لبريطانيا استغرقت بضعة أسابيع، كتبت جريدة التايمز قبل يوم سفر السلطان برغش تقول:
أما سعادة السيد برغش الذي قد حان يوم فراقه ودنت ساعة رحيله بالسلامة من بلادنا، فليست منزلته منزلة شاه العجم، ولكن مقامه في أعين أمتنا الإنكليزية أرفع من مقام الشاه، وذكره أحب إلينا، وبلاده أشد أهمية، وموقع مركزها الجغرافي يزيد آمالنا بأنها تضحي يوماً من الأيام أكثر اتساعاً من بلاد فارس.
وقد اشتهرت بلاد السيد برغش من قديم العصور بالخصب والغناء وجودة التربة والمعادن. وقد ذكرها الشاعر ميلتن الإنكليزي في ديوانه البديع المسمى الفردوس المفقود، فقال في قصيدة منه «رفع الملاك ميخائيل آدم عليه السَّلام إلى قبة السماء وأطلعه على مملكة نجوس ومرسى أركوكو وبلاد ممباسا وأكويلو ومالند». وكانت هذه البلاد قبل اندراس آثارها من الممالك الخاضعة الآن لسلطان زنجبار.
ولنا ثقة راهنة بأن أهل الحزم من الإنكليز وغيرهم لا يلبثون طويلاً أن يدخلوا تلك البلاد ويُعِينُوها في ظل ظليل سعادة السيد برغش سلطانها العادل، ولنا أمل أيضاً بأن تضحي مملكة زنجبار بعد مئة عام مملكة واسعة تشمل أراضي فسيحة وتمتد إلى أقصى بلاد الزنوج. ومتى دخلت تلك الأراضي في حوزة سلطان زنجبار ترقّى سكانها إلى طبقات الحضارة، وعكفوا على اكتساب المعارف والاشتغال بالصنائع والاعتناء بالحراثة، والتولع بالتجارة، وصارت أمةً عزيزة بالرجال وغنية بالمال. وقد ذكر لنا سير بارتل فراير أشياء كثيرة عن بلاد زنجبار وأحوالها في كتاب رحلته يوم تفقّد تلك البلاد، ولا ريب في أن السير المومأ إليه قد أصاب عين الصواب في ما قاله.
وقرأ السلطان ما كتبته التايمز، لكن عقله كان مزدحماً بمئات الذكريات والانطباعات عن لندن العظيمة ذات الحضارة.
وركب السلطان برغش الباخرة المتجهة إلى زنجبار وقال لمرافقيه: عندما كنت أتمشى في إحدى حدائق لندن ورأيت الإنكليز وهم في سرور يتمشون في الحديقة، لم يبقَ عندي ما أقوله لكم سوى: انظروا إلى هذا الشعب السعيد وإلى ما هم عليه من الحرية والغبطة. انظروا إلى أولادهم وبناتهم كيف يمرحون طرباً وهم آمنون لا خوف عليهم ولا هم يجزعون. وما هذا إلاَّ نتيجة العمران وإجراء العدالة والإنصاف فيهم، فقد سبقونا إلى هذه الغبطة فعلينا أن نقتفي آثارهم ونجدّ في تحصيل ما أدركوه منذ أجيال عديدة. عسانا ندرك ما أدركوه ونكون نِعم المفلحين.