Monday, May 26, 2025

مساجد زنجبار والقوة العُمانية الناعمة

 زاهر المحروقي

جريدة عمان 26 مايو 2025

ليس بعيدًا عن مسجدَيْ السيد حمود وماليندي، اللذين تحدثتُ عنهما في المقال السابق، هناك مسجد فرضاني «مسجد الجمعة» المطل على الميناء، وهو الذي أعاد بناءَه الشيخ سعيد بن سيف المحرمي الحارثي، بعد أن تهدّم بسبب إعصار وقع في أبريل من عام 1846. يقول الشيخ عبدالله بن صالح الفارسي في كتابه «البوسعيديون حكام زنجبار»: «رغم أنّ الشيخ سعيد كان يعاني من مرض الشلل في بعض الأوقات، إلا أنه كان يُصرُّ على أن يكون موجودًا أثناء العمل في المسجد، وكان يتنقل محمولًا».

ويضيف أنّ الشيخ المحرمي هو الذي أنشأ أيضًا في الوقت نفسه المسجد الكبير المسمى «جيثاليلا»، وقد أعَدّ لنفسه مقرين أحدهما في مسجد الجمعة، والآخر في مسجد «جيثاليلا»، يراقب العمل في المسجدين. وأفادني الشيخ عبدالله بن حميد البحري عن هذه التسمية أنّ: «جيثاليلا هو اسم تاجر هندوسي كان يعيش بجوار المسجد، ونسب الناس المسجد إليه تسميةً فقط؛ والأصل أنّ اسم المسجد هو مسجد المحرمي. لكن حُوِّل الاسم عام 1986، إلى جامع الاستقامة».

ومن المساجد التاريخية في «المدينة الحجرية»، مسجد «بني رواحة»، وكان يؤم المصلين فيه الشيخ سالم بن محمد الرواحي، وبعد صلاه الظهر كان يتبعه أصحاب الحاجات، إذ كان مقصدًا للعامة في حلِّ مشكلاتهم. وتميّز المسجد منذ بداياته بإقامة حلقات درس بين صلاتي المغرب والعشاء، اشتملت على تعليم القرآن، ومن يختمه ينتقل إلى تعلُّم كتاب «تلقين الصبيان» للإمام نور الدين السالمي، ثم كتاب «الوضع - مختصر في الأصول والفقه»، لأبي زكريا يحيى بن الخير بن أبي الخير الجناوني، وكان ممن يصلي فيه سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي الذي كان يقرأ كتابًا ويُناقَش فيه.

ومن الكتب التي قرأها للحضور كتاب «تحفة الأعيان في سيرة أهل عُمان» للإمام السالمي -كما أخبرني بذلك الشيخ سعود بن حمد الرواحي- وتعاقب على المسجد أكثر من إمام، منهم الشيخ سعيد بن محمد الكندي، الذي عمل على تدريس القرآن الكريم، وعاد إلى عُمان بعد الانقلاب فعُيِّن قاضيًا، وكذلك الشيخ شامس بن عبد الله بن شامس الرواحي. ومن الأئمة المتأخرين للمسجد الراحل سالم بن محمد البلوشي، من قريات، والذي عاش فترة في زنجبار قبل أن يعود إلى عُمان.

من المساجد التي زرناها في المدينة الحجرية مسجد اللمكي الذي بناه الشيخ سليمان بن ناصر اللمكي، وزرنا قبره في ساحة بيته. كما زرنا مسجد المنذري الذي بناه الشيخ محمد بن سيف المنذري عام 1866، وقبره هو ابنه في الساحة الأمامية للمسجد. وهناك أيضًا مسجد رجب في منطقة «ماجستك» والذي بناه رجب عبدالرزاق لوغان عام 1896، أواخر حكم السلطان حمد بن ثويني وبداية حكم السلطان حمود بن محمد. وما زالت الصلوات تقام في هذه المساجد حتى الآن.

من المساجد القديمة في زنجبار، مسجد كيزيمكازي في منطقة ديمباني، حيث تشير الحفريات إلى أنّ هذا المسجد هو الأقدم الذي لا يزال قيد الاستخدام في زنجبار، ويرجع تاريخ بنائه إلى عام 500 هجرية، 1107 ميلادية، وأعيد بناؤه بشكل كبير عام 1184 هجرية، 1770 ميلادية، باستخدام أساس المسجد الأصلي والجدار الشمالي الذي كان لا يزال قائمًا. يحتوي الأساس على محراب صلاة مع نقش مكتوب بأحرف كوفية على اليسار، تخلد ذكرى بناء المسجد على يد الشيخ أبي موسى الحسن بن محمد، وهناك نقش آخر قريب على اليمين مكتوب باللغة العربية، ويذكر تاريخ إعادة البناء. وللمسجد بئر ماء يستفيد منها المصلون للوضوء، كما أنّ هناك عدة قبور، من بينها -حسبما هو مكتوب- «قبر الشيخ علي عمر، والسيد عبدالله سيد بن شريف، وموانا بنت ميمادي، وابنها مفعول علي عُمر»، والمسجد في منطقة تبعد عن المدينة الحجرية بسبعين كيلومترا.


لا يمكن لنا ونحن نتحدّث عن جوامع ومساجد زنجبار، إلا أن نتطرق إلى أحدثها، وهو جامع زنجبار الذي بُنِي على نفقة السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- في منطقة «مازيزيتي» على الشارع العام؛ وهو معلم إسلامي ومنارة ثقافية لما يحتويه من مكتبة ضخمة، ويشغل مساحة تزيد على خمسة عشر ألف متر مربع، ويشتمل على مرافق متعددة في مقدمتها قاعة الصلاة الرئيسية التي تتسع لألفٍ وثلاثمائة مصلٍّ، ومصلى خارجي، ومصلى للنساء يَسَع ثلاثمائة مصلية، كما جُهِّز الجامع بفصول دراسية ومختبر للغات والحاسب الآلي، ويضم كذلك قاعة متعددة الأغراض ومكتبة، ويتميّز بمعماره الفريد الذي يمزج بين الأصالة والمعاصرة، وتتجلى العمارة العُمانية والأفريقية في تصاميمه، حيث تبرز النقوش الإسلامية التي تزيِّن جدرانه وردهاته، وحاليًّا يتميز الجامع أنّ معظم مسؤولي زنجبار يصلون فيه، وقد أدينا هناك صلاة الجمعة يوم التاسع من مايو 2025، وممّا لاحظتُ أنّ الجامع بحاجة إلى بعض الصيانة، ولا بأس أن يخطب فيه -بعض الجمع- أئمة عمانيون ممن يتكلمون اللغة السواحلية.

وجامعُ زنجبار يقودني إلى الحديث عن القوة العُمانية الناعمة الفاعلة في الشرق الأفريقي كله، ألا وهي جمعية الاستقامة الخيرية الدولية؛ فهي تشرف على ثلاثة وخمسين مسجدًا في زنجبار وحدها، منها ثلاثة عشر جامعًا تقام فيها صلوات الجمعة والأعياد. وحسب إفادة الشيخ عبدالله البحري أحد نشطاء الجمعية في زنجبار وإمام مسجد السيد حمود، فإنّ الجمعية «تشرف على إدارة جزء من هذه الجوامع والمساجد إشرافًا تامًّا، وتبقي بقية المساجد تحت إشراف أصحابها، لكن بالتعاون مع الجمعية في بعض الجوانب، مثل توفير الأئمة والمدرسين، وإعداد خُطب الجمعة والعيدين، وتوفير المصاحف والكتب الدينية والسجاجيد، وكذلك توفير التمور أيام شهر رمضان». وما لفت نظري أنّ ثقافة حضور النساء للمساجد في زنجبار معدومة على ما يبدو، إذ تخلو معظم المساجد من مصليات النساء.

في الواقع لم يقتصر دور المساجد في زنجبار على إقامة الصلوات فقط؛ فقد اضطلعت بدور طليعي في بث العلم، وأخرجت علماء كثيرين، ومن تلك المساجد مسجد «بني رواحة» في ماليندي، الذي اهتم بالعلم وكان يُنظِّم حلقات لقراءة وتدارس علم الفقه والعقيدة.

والحديث عن مساجد زنجبار لا يخلو من المفارقات، بمعنى أنّ بعض المساجد تحتاج الآن إلى صيانة ومتابعة من أبناء وأحفاد بانيها، ومن هذه المفارقات أنّ مسجد الشيخ ناصر بن جاعد بن خميس الخروصي وهو مستشار السيد سعيد، رمّمته المهندسة فاطمة كارة وهي مسلمة هندية، وعند زيارتنا للمسجد، طلب القائمون عليه مساعدة لدفع فاتورة الكهرباء، وهو مبلغ زهيد. أما مفارقات مسجد السيد حمود البوسعيدي في «بوبوبو»، فقد قال لنا بعض المصلين إنّ المسجد من دون ماء الآن، وإنّ كثيرًا من المصلين تركوه لهذا السبب.

وقلتُ لنفسي: «سبحان الله.. هذا الرجل الذي أنفق ماله في سبيل الله، لا يجد مسجدُه الآن ماء للوضوء!».

سبق لي أن تحدّثتُ عن التنوع المذهبي في زنجبار، وهكذا فإنّ الزائر يرى في حي واحد عدة مساجد، في دلالة مهمة على التعايش الديني والمذهبي؛ ففي حي ماليندي -مثلًا- تجد مساجد للإباضية وللسُنّة، وعلى مقربة من ذلك وأنت تتجول في طرقات الحي، ستشاهد مسجدًا للخوجة الإثني عشرية، وبقربه مسجد للبهرة، وآخر للإسماعيلية، وغيره للآغا خان.

ولم يقتصر التسامح والتعايش بين أبناء الدين والواحد فقط؛ بل شمل الأديان كلها؛ فبرغم أنّ غالبية سكان زنجبار مسلمون، وبنسبة تزيد على 95%، فإنّ هناك في المقابل كنائس لمختلف الطوائف النصرانية، ومنها الكنيسة الأنجليكانية الموجودة داخل ما يسمى بـ«سوق العبيد»، وكنيسة أخرى كاثوليكية ضخمة، وهناك معبد للهندوس، الذين رغم أنّ عددهم قليل، فإنهم موجودون في الجزيرة من مئات السنين، وكما أوضح لنا دليلنا السياحي أنّ «لهم في الجزيرة ستة معابد قديمة، برغم قلة عددهم، وأنّ هناك عددًا أقل من طائفة السيخ ولهم معبد قديم في الجزيرة». إنّ كثرة المساجد في زنجبار -خاصة في المدينة الحجرية- وتنوعها لهو شاهد على درجة كبيرة من التسامح والتعايش بين أهل الجزيرة تحت حكم العُمانيين، ممّا يدحض أكاذيب المرشدين السياحيين وكتب الغربيين المغرضين التي تحاول النيل منهم.


Monday, May 19, 2025

هدية أمام ضريح الشيخ

 زاهر بن حارث المحروقي

جريدة عمان 19 مايو 2025

عدا مسجد الشيخ ناصر أبي نبهان الخروصي الذي تحدثنا عنه فـي المقال السابق، يوجد فـي «المدينة الحجرية» أكثر من خمسين مسجدًا، واللافت هنا أنّ لكلِّ مذهب مسجده الخاص، ويصل عدد مساجد الإباضية فـي هذه المدينة إلى عشرين مسجدًا، تحولت إلى مساجد للشافعية بعد انحسار الوجود العُماني فـي الجزيرة.

كنتُ قبل سنوات قد شاهدتُ فـيديو لصلاة العيد فـي مسجد السيد حمود فـي زنجبار، هكذا كتَبَ من أرسل الفـيديو فـي التعريف بالمسجد. ما شدّني فـي الفـيديو أنه لو لم يُذكَرْ فـيه أنّ الصلاة فـي زنجبار لما جادل أحدٌ أنها فـي عُمان؛ لأنّ كلَّ المصلين الظاهرين فـي المقطع عُمانيون وبلباسهم التقليدي. لذا حرصتُ فـي هذه الزيارة على أن نزور هذا المسجد ونصلي فـيه. وما زادني شوقًا لذلك أنني قرأتُ أنّه كان له دورٌ إصلاحيٌّ، إذ كان مدرسة يتعلم فـيها الناس أمور دينهم، كما أنّ الشيخ العلامة أبو إسحاق إبراهيم اطفـيّش كان يلقي دروسه فـيه ما بين صلاتي المغرب والعشاء أثناء زيارته لزنجبار، وكان طلبة العلم يتزاحمون على حلقته، من ضمنهم سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي الذي سيُصبح فـيما بعد المفتي العام لسلطنة عمان.

وقبل أن أواصل سرد حكاية المسجد، وعلى ذكر العلامة اطفـيّش، فقد حكى لي الشيخ سعود بن حمد الرواحي، أحد الذين قضوا فـي زنجبار ردحًا من الزمن، أنّ الشيخ أبو إسحاق كان فـي إحدى رحلاته إلى زنجبار ضيفًا فـي بيت الشيخ حمد بن سالم الرواحي؛ والد الشيخ سعود، طوال زيارته لزنجبار، وطلب منه والدُه أن يلازمه. وممّا يُذكر فـي هذا الشأن أنّ صورة انتشرت فـي مواقع التواصل يظهر فـيها الشيخ اطفـيّش مع طفل قيل إنه سماحة الشيخ أحمد الخليلي، لكن ثبت بعد ذلك أنّ الصورة لسعود الرواحي، بعد أن تحرّى عن الموضوع الباحث فـي تاريخ شرق إفريقيا محمد بن عبدالله الرحبي، وقد سألتُ الشيخ سعود عن نسبة الصورة إليه فأكد لي ذلك.

وأعود إلى حكاية المسجد، فقد كانت المفاجأة أننا وجدناه مسجدًا صغيرًا؛ وعلاوةً على ذلك فإنه بلا اسمٍ فـي واجهته، وإنما مكتوب على بابه «وقف». ولم أكد أبوح لسيف وسليمان بظنّي أنّ هذا ليس هو المسجد المقصود، حتى قطع الشيخ عبدالله بن حميد البحري إمام المسجد، الشكَّ باليقين بتأكيده أنه هو المسجد الذي نبحث عنه. سألني: «متى آخر مرة صليتَ فـيه؟» أجبتُ: «هذه أول مرة أزور فـيها زنجبار»، وحكيتُ له حكاية فـيديو الصلاة.

على أية حال؛ ما زالت جماعة المسجد تحافظ على إقامة دروس دينية فـيه بعد صلاة المغرب كل أربعاء. ولاحظتُ عندما صليتُ الفجر فـيه غير مرة، أنّ عادة السلام المتبعة فـي عُمان قبل جائحة كورونا ما زالت متبعة هناك، حيث يسلم الإمام ويصافح جميع المصلين بعد الصلاة، فـيما يسلم الجميع على بعضهم البعض. ولاحظتُ كذلك أنّ عدد المصلين فـي المسجد قليلٌ، وقد طلب منا الشيخ عبدالله البحري مرة أن نضع أحذيتنا فـي صناديق خاصة معدة لذلك، تشبه صناديق البريد، أو صناديق الأمانات فـي المولات التجارية، حيث يأخذ المصلي مفتاح الصندوق معه أثناء الصلاة. ويبدو أنّ ظاهرة سرقة الأحذية منتشرة هناك.

المسجدُ واحدٌ من ثلاثة مساجد تركها السيد حمود بن أحمد بن سيف البوسعيدي - ضمن أوقاف كثيرة - حيث ترك مسجدين آخرين فـي منطقة «بوبوبو»؛ الأول كان يسمى المسجد الصغير «مسكتي مدوغو» ويقع بالقرب من مركز الشرطة، وقد وُسِّع الآن وأصبح جامعًا كبيرًا، أما الآخر فموجود فـي الداخل حيث مزرعة السيد حمود وقصره، وقد دفن بجنب هذا المسجد بعد أن لازم محرابه فـي سنواته الأخيرة، وقبرُه لا يزال موجودًا هناك.

أفادني الشيخ عبدالله البحري إمام مسجد السيد حمود، أنه تعاقب على إمامة مسجد السيد حمود فـي ماليندي علماء وشيوخ أجلاء معظمهم من الكنود، منهم الشيوخ سعيد بن ناصر الكندي، ومحمد بن سعيد الكندي، وعبدالرحمن بن محمد الكندي، وصالح بن سعيد الكندي، عيسى بن سعيد الكندي، وموسى بن صالح الكندي، وعبدالله بن يحيى الكندي، ومحمد بن عبد الله الكندي، وعلي بن محمد الكندي. والآن المسجد بيد جيل جديد من الأئمة.

لا يفصل بين مسجد السيد حمود ومسجد «ماليندي» إلا شارع ضيّق يسمح بمرور سيارة واحدة فقط. ومسجد «ماليندي» هذا من أهم المعالم التاريخية المحمية؛ لأنه من أقدم المساجد فـي زنجبار، ويرجع تاريخه إلى القرن الخامس عشر، ويتبع القائمون على المسجد إحدى الطرق الصوفـية، وقد لاحظنا عند صلاتنا هناك أنّ الإمام والمصلين يهلِّلُون بشكل جماعي عقب الصلوات مباشرة، أما صلاة المغرب فتقام بعد الانتهاء من الأذان فورًا، بحيث لا يفصل بين الأذان والإقامة فاصل زمني. فـي الجانب الأيمن من المسجد تقبع عدة قبور، منها ضريح السيد أحمد بن أبي بكر بن سميط العلوي الحسيني، وبجواره تلميذه المربي الشيخ سعيد بن دحمان، ودُفِن أيضًا بجوارهما الحبيب أحمد بن حسين بن الشيخ أبي بكر؛ هؤلاء كلهم فـي ضريح واحد. وخارج الضريح هناك قبور الشريف أحمد بن علوي بن محمد باعلوي الحسيني، والشريف علوي بن أحمد بن علوي باعلوي الحسيني وغيرهم، وكلُّ قبر عليه شاهد يحمل اسم المتوفى.

والشيخ أحمد بن أبي بكر بن سميط، هو فقيه وقاض من أصول حضرمية، استقر فـي زنجبار، وعاش فـيها حياة حافلة بالنشاط والعطاء، فازدادت بذلك سمعته.

من المفارقات العجيبة أنّ صديقي أحمد بن فـيصل الجهضمي أرسل لي عبر الواتساب يطلب هدية بعينها من زنجبار، وهي عبارة عن صورة لضريح الشيخ ابن سميط، واصفًا لي موقع المسجد، ولم يكن يعلم أنني ورفـيقَيْ رحلتي صلينا فـيه مرارًا. وما حصل أنّني كنتُ حينئذ قريبًا جدًّا من المسجد، فذهبتُ إليه من فوري، والتقطتُ عدة صور؛ وإذا بإمام المسجد يداهمني فجأة ويسأل: «هل أتيت لزيارة الضريح؟»، أجبتُ: «نعم». قال: «أنا أيضًا أحسستُ برغبة عارمة لزيارته، لذا جئتُ». قلت له: «الله جابك»، فتح لي باب الضريح فدلفت إلى الداخل، قرأتُ الفاتحة وأخبرته بقصة صديقي الذي يريد هدية. التقطتُ الصور وأرسلتُها لأحمد، ولم يستغرق الأمر إلا دقائق قليلة لا تتعدّى الخمس. ومع اندهاش أحمد لهذه السرعة قلتُ له: «إنّ الله استجاب فورًا وأرسل لي الإمام شخصيًّا ليفتح لي الضريح».

وليس بعيدًا عن مسجدَيْ السيد حمود وماليندي، هناك مسجد فرضاني «مسجد الجمعة» المطل على الميناء، ومسجد بني رواحة، الذي سأتحدث عنهما وعن مساجد أخرى فـي مقال الأسبوع القادم إن شاء الله.


Friday, May 9, 2025

ماذا فعلتِ بنا يا سيدة رويته؟!

 زاهر بن حارث المحروقي

جريدة عمان 6 مايو 2025

ونحن نتمشّى في بيت المتوني بصحبة جوهر؛ كبير خدم السيد سعيد، تذكرتُ «البنجلة»، حسب ترجمة العُماني زاهر الهنائي لمذكرات السيدة سالمة، والتي جاءت في الترجمة الأخرى للعراقية سالمة صالح «البنديلة». دار في ذهني أنّ المترجم حين يُترجِم من اللغة الأم مباشرة فهذا يعني أنه يقبض على ميزة لا يتحصّل عليها الذي يترجم من لغة وسيطة. وهذا ما يجعل ترجمتَيْ زاهر الهنائي وسالمة صالح هما الأكثر دقة، لأنهما جاءتا عن الألمانية مباشرة، لا عن الإنجليزية كما هي ترجمة الدكتور عبدالمجيد القيسي. وقد تحدثّتْ المترجمة العراقية في مقدمتها عن أخطاء فادحة قلبت المعنى في ترجمات الكتاب السابقة من الإنجليزية. سألتُ جوهر: أين هي «البنجلة» أو «البنديلة»؟ فأجاب: «الأصح البنديلة. لقد اختفت مع مرور السنين، كانت أجمل مكان في بيت المتوني؛ إذ هي شرفة عظيمة مستديرة، وكان حولها عددٌ كبيرٌ من كراسي الخيزران، وهناك منظارٌ كبيرٌ للاستخدام العام، وكثيرًا ما كان السيد سعيد يمضي هناك ساعات طويلة جيئةً وذهابًا، مفكرًا في شؤون ملكه وأحوال الرعية ومطرق الرأس بحثًا عن الأفكار الجديدة الخلاقة التي تضيف المزيد من الرفاه لشعبه». وأنا أستمع لجوهر تذكرتُ أنّ السيدة سالمة ذكرتْ في مذكراتها أنّ والدها اعتاد وزوجتُه السيدة عزة بنت سيف البوسعيدي وكذلك جميع أولاده البالغين، أن يحتسوا القهوة هنا عدة مرات في اليوم، ومن أراد أن يكلم الأب دون أن يقطع عليه أحدٌ أتاه إلى هنا بالذات وليس في أيِّ مكان آخر.

في تجوالنا أشار جوهر إلى أحد الأجنحة قائلًا: «هذا جناح بيبي عزة»، يقصد السيدة عزة بنت سيف؛ وهي إضافةً إلى كونها زوجة السيد سعيد فهي أيضًا ابنة عمّه. وقد تخيلتُها كما ذكرَتْها السيدة سالمة في مذكراتها: «هي أميرةٌ عُمانية، وكانت الآمرة والناهية في البيت؛ كانت تملك على الرغم من قِصَرها وعدم وجود ما يميّزها في المظهر، سلطة لا تُصدَّق على أبي، حتى إنه كان يتبع تعليماتها طائعًا دائمًا. وكانت مستبدة للغاية تجاه النساء الأخريات وأولادهن، ومتعالية ومتطلبة»، ولا غرابة إذن أن تقول السيدة سالمة: «كان من حُسن حظّنا أنه لم يكن لها أولاد وإلا لكان جبروتُها حتمًا لا يطاق». وأنا أقفُ في جناحها الآن، كنتُ أشاهد ذلك الطابور الذي يأتيها يوميًّا ليؤدي واجب التحية الصباحية دون أن يكنّ لها الحب، «وهكذا كان الجميع يمكن أن يشعروا بالضغط العلوي الصادر منها، ولكن دون أن يسلب ذلك الكثير من روعة الحياة في بيت المتوني عند ساكنيه»، كما تقول السيدة سالمة.

أخذَنا جوهر إلى الغرفة التي وُلِدتْ فيها السيدة سالمة وعاشت سبع سنوات، قبل أن تنتقل هي وأمُّها إلى بيت «الواتورو» في العاصمة، بطلب من أخيها ماجد الذي خلف السيد سعيد في حكم زنجبار. الغرفة باقية كما هي، ودارت أفكارٌ وأسئلةٌ في نفسي: هل تخيلتْ جدرانُ هذه الغرفة وسكانُ بيت المتوني ما ستكون عليه سالمة فيما بعد؟ طلبتُ من سيف أن يلتقط لي صورًا تذكارية في هذه الغرفة بالذات؛ فأنا أدين للسيدة سالمة بأنها عرّفتني ببيت المتوني وساكنيه وبنمط حياة والدها، ويُحسب لها أنها وثّقت حياتها في كتاب، وإلا لما كنّا نعرفُ الكثير ممّا يدور خلف جدران القصور العالية، كما أدين لها كذلك أنها حبّبتني في بيت المتوني قبل أن أزوره؛ لذا فأنا أمام كلِّ غرفة وكلِّ ركن كنتُ أستحضر مذكراتها وسنواتها السبع التي عاشتها هنا.

كانت المفاجأة عندما خرجنا من الغرفة، فإذا نحن أمام السيدة سالمة بشحمها ولحمها، جاءت لزيارة البيت الذي ولدت فيه وعاشت طفولتها، ظهرت طويلة القامة ممتلئة الجسم، ترتدي فستانًا طويلًا، حاسرة الرأس وقد غزاها الشيب. بادرتُها بالسلام مستخدمًا اسمها المسيحي: أهلا سيدة رويته. ردّت علينا وفي وجهها جهامةٌ وكأنّها تتساءل: من هؤلاء المتطفلون على غرفتي؟ ألا يكفي ما أصابني؟! تنحّى عنّا جوهر وابتعد تمامًا عن المشهد؛ يبدو أنه استعاد تلك الأيام التي حملها بين يديه وهي طفلة، وهو يحفظ لوالدتها ذكرى طيبة، إذ كانت محبوبة من الجميع، ولا أدري هل كان ابتعاده من مهابتها في قلبه أم أنّ له موقفًا مما فعلتْه؟

سألتُها: «بعد كلِّ الذي جرى لك ألم تندمي؟ ألم تكوني تعلمين بأنّك بمغامرتك تلك ستوغِرين عليك صدور عائلتك، وسيعُدُّون -هم والعُمانيون جميعًا- ما فعلتِه تلطيخًا لسمعة العائلة وصورة والدكِ العظيم؟ ألم تكوني تعلمين أنك ستدفعين ثمنًا غاليًا؟ وهل بكتابتك مذكراتك كنتِ تدافعين عن نفسك؟!». لم أتلقَ الإجابة لأنني لم أجرؤ أن أطرح أسئلتي علنًا، كانت تلك التساؤلات في نفسي فقط، أما جهرًا فقد طرحتُ هذا السؤال: «سيدة رويته؛ كيف ترين بيت المتوني بعد هذا الغياب الطويل؟» أجابت: «حزنتُ أيّما حزن. فبدلًا من أن أرى بيتًا رأيتُ خرابة متهالكة بالكامل، ولم يكن لأيِّ صوت أو حس قدرة على أن ينفِّس عني الضيق الذي انتابني من هذا المشهد غير المتوقع على الإطلاق (...) لقد وقفتُ ذاهلة طويلًا وأنا أرى اختفاء أحد الجسرين اللذين يقودان إلى الغرفة المنعزلة. اختفى تمامًا. أما الجسر الآخر فقد نمت عليه النباتات وأصبح واهيًا إلى درجة أنّ المرء لا يمكن أن يصعد عليه دون مجازفة»، (أشارت بيدها إلى الجسر الباقي وطلبت منا ألا نقترب منه) لم تعطنا أيَّ فرصة للحديث أو السؤال، إذ واصلتْ: «أكثر من نصف البيت يبدو في حالة خراب تام، كما لو أنه قد انهار، والحماماتُ التي كان الإقبال عليها كبيرًا في يوم من الأيام، وكانت ممتلئة على الدوام بالناس المبتهجة، فقدَتْ جميعُها أسقفها تقريبًا، والذي يدلّ على موقع كلٍّ منها الآن مجرد كومة من الأنقاض، وما بقي قائمًا منها -كما ترون- تجرّد من سقوفه وأرضيته أيضًا. كلُّ شيء قد تداعى أو أوشك على الانهيار، وكما تشاهدون في الفناء بأكمله ترعرعت الحشائش من كلِّ نوع. لا شيء يجعل المُشاهد الذي ليس لديه خلفية عن القصر يدرك حتى أقل القليل من الأبهة التي كان عليها». قلتُ: «سيدة رويته؛ أنتِ تتأسفين على حال بيت المتوني، ماذا لو رأيتِ حال بيت المرهوبي، الذي بناه السلطان برغش؟!». أخرجت على الفور منديلًا من حقيبتها اليدوية يشبه المنديل الذي تحمله المطربة أم كلثوم، ومسحت جبينها فيما اتكأت بيدها الأخرى على الجدار وقالت -وعلامات الغضب بادية على محياها: «لا أعرف بيت المرهوبي، ولا أريد أن أعرفه!».

كان علينا في تلك اللحظة أن نتركها دون أن أفوّت فرصة شكرها إذ حبّبتني في البيت قبل أن أزوره، كما ذكرتُ قبل قليل.

انتقلنا إلى جناح زوجة السيد سعيد الشرعية الثانية وهي فارسية. يذكر الشيخ سعيد المغيري أنها ابنة أريش ميرزا العجمي، وصحِبَتْه إلى زنجبار عام 1849 ومعها حاشية كبيرة، ويقال إنها أغاظت العرب العُمانيين بسيرتها، إذ كانت تركب الخيل وتخرج حاسرة الرأس مع حاشيتها الكبيرة، لذا لم تعش معه طويلًا فطلقها وعادت إلى فارس.

يميّز بيت المتوني تلك الحمّامات التي تقع جميعُها في صف في الفناء عند أقصى نهايته، وفي معزل عنها يقع ما يُدعى بالحمّام الفارسي الذي تصفه السيدة سالمة بأنه «في الواقع حمّام بخاري تركي، كان يُعد في زنجبار فريدًا في طراز فنّه المعماري»، وقد أرانا جوهر الحمّام الخاص بالسيد سعيد وزوجته السيدة عزة، وفيه موضع للاستراحة، كما فيه موضع مرتفع مخصص لأداء الصلوات. يقول جوهر: «كان لا يُسمح لأيِّ أحد أن يطأ هذه المواضع العالية مرتديًا نعاله».

وما لاحظناه في بيت المتوني كثرة السلالم، ولم تكن مريحة. وأنا أصعد عليها وأرى أمامي جوهر وبقربي سيف يلهثان، كنتُ أتساءل كيف كانت النسوة والأطفال يصعدون مثل هذه السلالم «التي يبدو أنها وُضعت لعملاق من العمالقة» كما وصفتها السيدة سالمة؛ لكن يبدو أنّ نمط البناء القديم كان يستخدم سلالم كهذه؛ فهذا ما لاحظتُه في معظم سلالم البيوت القديمة في زنجبار، ومنها سلالم الفندق الذي نزلنا فيه.

على كلّ حال، واصلنا تجوالنا في أقسام البيت المختلفة، وشاهدنا مدرسة تحفيظ القرآن الكريم في الركن الخلفي من البيت، وكأني أسمع المعلم يحفّظ الأطفال القرآن، ويُعلّم الذكور القراءة والكتابة وبعض الحساب، وانتقلنا إلى المطبخ الذي تُعَدُّ فيه المأكولات العربية والفارسية والتركية، بسبب الأعراق المختلفة التي عاشت في هذا البيت وفي «بيت الساحل» في المدينة.

قلتُ لجوهر ونحن نغادر الساحة الداخلية للبيت: «لا أستطيع أن أتصوّر أنّ سكان هذا البيت يصل إلى ألف نفس، كما ذكرَتْ السيدة سالمة»، قال: «هناك أجنحة أخرى للخدم في الجهة الأخرى»، عندما رآني غير مقتنع أضاف: «ثم إنّ مولاي السيد سعيد شرع في بناء بيت الراس على مقربة من هنا، بعض أن ضاق بيت المتوني بساكنيه ولكنه رحل قبل أن يكمله»، ثم أخذَنا جوهر أنا وسيف إلى المدخل الذي دخلنا منه إيذانًا بانتهاء الزيارة.