الشيخ بشير الحارثي عُمر المختار العُماني
زاهر بن حارث المحروقي
مجلة التكوين 20 يناير 2020م
في الخامس عشر من شهر ديسمبر الماضي، مرّت الذكرى المئة والثلاثون لإعدام الشيخ بشير بن سالم البرواني الحارثي، الذي نُفِّذ في 15/12/1889، لتبقى تلك الذكرى، درساً يتجدّد للأجيال عن عظمة الإنسان العماني عبر التاريخ، أينما وُجد، سواءً داخل الوطن الأم عُمان، أم في أيِّ أرض وصلها العمانيون؛ فكان الشيخ بشير بن سالم، أحد النماذج المشرقة لنضال وكفاح الإنسان من أجل الحرية والكرامة، بما سجّله من بطولات ضد الاستغلال الغربي ونهب ثروات الشعوب عامة، والاستعمار الألماني خاصة، لبعض مناطق شرق إفريقيا، التي كانت تحت نفوذ الحكم العماني. ومن حقِّ الأجيال العمانية الشابة – في كلِّ العصور – أن تتعرّف على مثل هذه الشخصيات، لتنير لها الدرب وسط سواد الظلام الحالك المخيِّم على الأمة.
ولنتعرف على جذور ثورة الشيخ بشير بن سالم الحارثي، ينبغي أن نُلِمَّ بالوضع السياسي القائم حينها في زنجبار؛ إذ تولى السيد خليفة بن سعيد بن سلطان السلطة «1888 1890»، بعد وفاة شقيقه السلطان برغش. ويشير البروفيسور بنيان سعود التركي أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الكويت في دراسة معنونة ب «ثورة بشير الحارثي في شرق إفريقيا 1888 – 1889»، أنّ ثمن تولية السلطان خليفة الحكم، كان توقيع عدد من الاتفاقيات، منها اتفاقية وقعت في 28 أبريل 1888م تعطي «شركة شرق إفريقيا الألمانية»، حقّ إدارة المنطقة الممتدة من «أومبا» إلى «رفوما» تحت علم سلطان زنجبار وسلطته. وبرر السيد خليفة للعرب الغاضبين في الساحل، أنه بعمله هذا حمى استقلال زنجبار، ولم يكن لديه من خيار غير الإذعان للتهديد الغربي. وقد ترتّب على ذلك رد فعل قوي من المواطنين والقوى الوطنية الفاعلة في المنطقة؛ فكانت ثورة الشيخ بشير بن سالم الحارثي، التي ناصبت النفوذ الألماني العداء، وهدفت إلى إبعاد القوى الغربية التي أخذت تتكالب للسيطرة على المنطقة ونهب ثرواتها؛ هذا الوجود الذي بدأ يلقي بتبعاته الاقتصادية والدينية على سكان المنطقة، الذين تنامى غضبهم يوماً بعد يوم، ولكن هذا الغضب بلغ ذروته بعد أن تولى زمام شركة شرق إفريقيا الألمانية، المدير العام الجديد الهر إرنست فوهسن، الذي وصل في مايو 1888م خلفاً لكارل بيترز، وكانت المهمة الملقاة على كاهله، هي نقل تبعية المنطقة للإدارة الألمانية، وتطبيق إجراءات وقوانين جديدة، بما يخدم المصالح الألمانية. ترتب على ذلك ردة فعل قوية من سكان المنطقة، سواء العرب أو الأفارقة أو الهنود، تمثلت في الامتعاض والرفض، وتطورت إلى ثورة عارمة ضد الألمان. وقد برز دور الشيخ بشير في هذه الثورة، لما له من مكانة بوصفه أحد رجال الدين المعروفين في سلطنة زنجبار العربية، وعلى طول الساحل الشرقي للقارة الأفريقية. ويرى البروفيسور بنيان سعود أنّ «لقب شيخ هنا له دلالة دينية لا دنيوية؛ أي أنّ بشير الحارثي شيخ دين لا شيخ قبيلة، عُرف عنه تدينه وورعه، وهو الموضوع الذي لم يحظَ بالكثير من الاهتمام من جانب الباحثين الغربيين أو العرب، الذين تناولوا الوجود الألماني في شرق إفريقيا، عدا الشيخ سعيد المغيري، صاحب كتاب «جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار»؛ فلا عجب أن يستدعي الوطنيون السواحليون والعرب، الشيخ الحارثي من سلطنة زنجبار العربية للتصدي للنفوذ الألماني في البر الأفريقي».
يقول البروفيسور بنيّان: «من المرجح أن تفسير موقف الشيخ بشير الحارثي من الأسرة الحاكمة، يكمن في أنّ السيد سعيد بن سلطان وأبناءه من بعده، كانوا يميلون إلى التسامح الديني – بمعناه الواسع – الذي يشمل المسلمين وغير المسلمين، بمن فيهم رجال الإرساليات التنصيرية. ولعل تديّن الشيخ بشير الحارثي وما يراه من نشاط تبشيري واسع بدعمٍ غربيٍ وسكوتٍ عربي، هو سبب موقفه من الحكومة في زنجبار، فقد أجمع كلُّ من زار الساحل الشرقي للقارة الإفريقية من رحالة ومستكشفين ومنصِّرين غربيين على تسامح السيد سعيد وأبنائه من بعده». ويؤكد التركي أنّ الألمان كانوا مثل بقية القوى الأوروبية، يشجعون تنصير الأفارقة، فيقول: «لا بد من التأكيد على أنّ الألمان من جانبهم لم يغفلوا الجانب التنصيري في بسط نفوذهم على شرق إفريقيا، وكذلك في موقفهم من ثورة الشيخ بشير الحارثي. ويكمن الموقف الألماني فيما قاله المستشار بسمارك تدعيماً لوجهة نظره في إرسال حملة عسكرية لشرق إفريقيا بقوله: «إنّ المسألة لا تكمن في دعم شركة شرق إفريقيا الألمانية، ولكن المسألة هي دعم الحضارة والمسيحية والواجب الوطني». وتعد تلك الكلمات دليلا لا لبس فيه على دوافع تنصيرية في الوجود والتوسع الألماني في شرق إفريقيا، كما أنّ رجال الإرساليات التنصيرية في مناطق النفوذ البريطاني والألماني، لم يكتفوا بمحاولة تنصير الوثنيين؛ إنما تعدّوا ذلك إلى حد دعوة العرب والمسلمين للدخول في النصرانية. ليس هذا فحسب؛ بل نجد أنّ الكاثوليك الألمان عملوا جهدهم أولاً على إقناع الحكومة الألمانية، وثانياً ساهموا بجمع الأموال لإرسال حملة للقضاء على ثورة الشيخ بشير الحارثي، كما يمكن إضافة أنّ رجال الإرساليات التنصيرية أخذوا في تشجيع الرقيق على الهروب من ملاكهم، وكان لهذا أثره في حدوث تجاوزات، وهو أمرٌ زاد من العداء بين الطرفين؛ ومع ذلك نجد أنّ الشيخ بشير الحارثي يظهر جانباً إنسانياً، حيث حرم على أتباعه مهاجمة مراكز الإرساليات التنصيرية المسالمة.
وإذا كانت كلُّ الثورات في العالم تقوم بسبب التراكمات الكثيرة، إلا أنّ هناك تلك «القشة التي تقصم ظهر البعير». وفي حالة ثورة الشيخ بشير، فإنّ تلك القشة التي أدت إلى تفجير الموقف، قد تناولها الكاتب والباحث ناصر بن عبد الله الريامي في كتابه «زنجبار» شخصيات وأحداث»؛ فيذكر أنه في محافظة تانجا، حدث انتهاكٌ صارخٌ للعقيدة الإسلامية، وتدنيسٌ سافرٌ للمقدسات الإسلامية في شهر رمضان الفضيل، بأن دخل بعض الألمان أحد المساجد ومعهم كلابهم، رغم علمهم ما لذلك التصرف من مساس خطير بيقينيات الاعتقاد، وتحقير بغيض لأماكن العبادة الطاهرة، وبالتالي اعتداء سافر على كرامة المسلمين؛ فكان هذا الحدث كافياً لتفجير الموقف، وإعلان التعبئة العامة للجهاد ضد المستعمر الألماني، وقد سبق هذه «القشة»، أن قام الحاكم الألماني إميل فون زليسكي، بتمزيق علم سلطان زنجبار، بعد أن أنزله من مبنى مكتبه الحكومي، ورفع محله العلم الألماني، بعد أن كان قد أصدر توجيهاً إلى المحافظ الشيخ الوقور سليمان بن ناصر اللمكي، بأن يراجعه في مكتبه أربع مرات يومياً لأخذ التعليمات منه، في إهانة واضحة له. كما أنه فرض العديد من الضرائب على رعايا سلطنة زنجبار في تنجانيكا والبلدان المجاورة. ويبقى أنّ عملية تدنيس المسجد هي التي أجّجت مشاعر المسلمين في الشريط الساحلي من مختلف الأعراق والأطياف؛ ولهذا قرر الشيخ بشير بن سالم الحارثي إعلان الجهاد ضد المستعمر الألماني، فتمكن مع مقاتليه، الذين قُدِّر عددُهم بعشرين ألف مقاتل من دحر جيوش الألمان من جميع أراضي البر الإفريقي، باستثناء دار السلام وباجامويو، وقد تعاون اللورد ساليسبوري رئيس وزراء بريطانيا مع المستشار الألماني بسمارك في حصار بحري على طول الساحل، وذلك لمنع وصول الإمدادات من السلاح والذخيرة والرجال إلى جيش الشيخ بشير الحارثي؛ فما كان لجيشِ الأخير أن يصمد أمام قوة ألمانيا وبريطانيا، فلقي هزيمة نكراء وقُبِض على القائد بشير.
دارت معارك عديدة وعمليات كر وفر بين الثوار والألمان، وبدأت أعداد الثوار تتزايد، وأحدثوا خسائر كبيرة بين الألمان؛ وأدى النجاح الذي حققه الشيخ الحارثي إلى تحرك قوة ألمانية في 19 أكتوبر 1889م، تحت قيادة القائد الألماني فون جرافتراوت، استُدعيت على عجل من المناطق الشمالية، وقاد جرافتراوت هجوماً عنيفاً ضد الثوار، وتمكّن من تشتيت قوات الشيخ الحارثي ومن معه، وقامت الأسلحة الحديثة المتوافرة لدى الألمان بدورها في ترجيح كفة الألمان. وتوضِّح دراسة البروفيسور بنيان سعود التركي، أنّ القائد الألماني جمع معلومات حول حصن الشيخ بشير، وأدرك أنه مصنوع من الحطب؛ فقرر مهاجمته، فهاجموه فجراً بالعدة والعدد والمدافع، فضربوا الحصن، وأحرقوه وقتلوا أعداداً كبيرة من الثوار، وتوالت الانتصارات الألمانية، فاضطر الشيخ الحارثي إلى اللجوء إلى جبال «أوساجارا»، قاصداً ناحية منطقة «فنجاني»، أملا في إعادة تنظيم صفوفه. وتمكن الشيخ بشير بالفعل من الوصول إلى مكان يُعرف بمكواجا، ومن هناك انتقل إلى كومبي، إلا أنّ القدر كان له بالمرصاد؛ إذ قبضت قوة ألمانية على الشيخ بشير بين فنجاني وكومبي، هو ومن معه من المرافقين العرب، ومنهم محمد وأحمد ابنا عزيز بن عبد السلام، وخلفان بن إبراهيم الضوياني، وناصر بن سليم السيابي.
أعدم الشيخ بشير الحارثي في منطقة فنجاني شنقاً، على الملأ، دون أي محاكمة، بعد ثلاثة أيام من القبض عليه. ومن المرجح أنّ القبض عليه كان في 12 ديسمبر، لأنّ إعدامه تم في 15 ديسمبر 1889 في فنجاني حيث دفن، دون محاكمة حتى صورية. وقد راجت بعض الأقاويل، أنّ الألمان قد نجحوا في تجنيد بعض مستشاري الشيخ بشير للتجسس عليه ولتتبع حركاته، وهذا ما ذهب إليه أيضاً الشيخ سعيد المغيري، عندما أشار إلى أنه لا يستبعد أن يكونوا هم السبب في القبض عليه وتسليمه للألمان، ويرى أنه لولا خداع المستشارين وخيانتهم لنجح الشيخ بشير في الفرار بنفسه والانتقال عبر البحر إلى سلطنة زنجبار العربية أو أي منطقة أخرى، على غرار ما فعله الشيخ مبارك بن راشد المزروعي أحد الذين قادوا ثورة ضد الألمان شرق إفريقيا. وبإعدام الشيخ بشير بن سالم الحارثي، تمكّن الألمان من السيطرة على الوضع في منطقة نفوذهم، وتحقّق لهم بعض الهدوء، ولكنّ جذوة المقاومة سرعان ما اشتعلت على أيدي قوى وطنية أخرى، أكملت مسيرة المقاومة ضد الهيمنة والنفوذ الألماني في شرق إفريقيا؛ بل تواصلت الثورات ضد المستعمرين في أنحاء القارة الإفريقية كلها، ولمعت أسماء في سماء النضال والكفاح ضد المستعمر، فكان هناك الشهيد عُمر المختار في ليبيا، وجمال عبد الناصر في مصر، وأحمد بن بيلا، والهواري بومدين في الجزائر، وباتريس لومومبا في الكونغو الديمقراطية، ونيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، والزعيم الغاني كوامي نكروما، وكثيرون غيرهم في القارة الأفريقية وغيرها من القارات، ممن ناضلوا وكافحوا لصالح أوطانهم ومواطنيهم، ضد المستعمرين. ولكن يبقى أن نقول إنّ هناك الكثير من التهم قد كيلت ضد الوطنيين الذين وقفوا ضد الاستعمار وضد الطغيان، وهي التهم التي يتلقفها حتى أبناء البلاد التي ضحى من أجلهم هؤلاء الوطنيون بحياتهم، بسبب سيطرة قوى الاستعمار على الإعلام، ولأنّ التاريخ يكتبه دائماً المنتصرون، وهكذا رأينا أنّ الصحف الألمانية ظلت تصف ثورة الشيخ بشير بن سالم الحارثي بأنها تمرد، وأنّ إعدامه كان انتصاراً للحضارة الغربية وللإنسانية وللحريّة، تماماً مثلما نشرت جريدة «برقة» ببنغازي في ليبيا، في صفحتها الأولى صبيحة اعتقال الشهيد عمر المختار بتاريخ 18 سبتمبر 1931 مانشيتا بعنوان: «القبض على عُمر المختار زعيم العصاة في برقة».
وفي حياة الشهيدين الشيخ بشير بن سالم الحارثي، وعمر المختار، أوجه تشابه كبيرة؛ ولعل الأخير استلهم النضال والكفاح من الشيخ بشير، الذي سبقه إلى حبل المشنقة وشرف بالشهادة. لذا فإنّي إذا كنتُ قد عنونت المقال بعنوان «الشيخ بشير الحارثي.. عُمر المختار العماني»، – لأن كثيرين شبهوا الشيخ بشير بالمختار -، فإنّ العنوان الآخر هو صادق أيضاً ويؤدي الغرض، وهو «الشهيد عمر المختار.. بشير الحارثي الليبي».
لقد ترك الشيخ بشير بن سالم البرواني الحارثي تاريخاً ناصعاً من الجهاد والمقاومة ضد الطغيان والاستعمار. وإذا كان الله قد قيّض من يهتم بشخصية المناضل الشهيد عمر المختار، ويخلده في فيلم عالمي، فما يؤسف له أنّ هناك الكثير من الأبطال العمانيين وفي مجالات مختلفة، اختفى تاريخهم واختفت آثارهم ولم ينالوا حقهم في التأريخ؛ وإذا وُجد من أُرِّخَ لهم، فغالباً يكون ذلك من الغربيين، الذين يقلبون ويزوِّرون الحقائق، وينظرون إلى الموضوع من زاويتهم الخاصة.