محمد بن سليمان الحضرمي
جريدة عمان
صدر للباحث العماني د. محمد بن ناصر المحروقي بحثا بعنوان (حول أدب الرحلة في زنجبار، “البحث عن أمة واحدة”: قراءة في “رحلة أبي الحارث”، للشيخ الأديب محمد بن علي بن خميس البرواني (ت: 1953)، صدر البحث ضمن إصدارات مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية، والتي تصدر عن المجلس، وهي مجلة علمية محكمة، تصدر عن مجلس النشر العلمي بجامعة الكويت، وفيه يقدم د. المحروقي تحليلا للرحلة التي قام بها الشيخ محمد بن علي بن خميس البرواني، وصدرت في كتاب بعنوان (رحلة أبي الحارث)، طبعت أول مرة في زنجبار عام 1915م.
في تحليله يبرز الباحث ثراء كتابات أدب الرحلة في زنجبار في العصر الحديث، واستقصاء العوامل السياسية والثقافية التي تدخل في تشكيل منظومة ذلك الثراء، ويشير الباحث إلى أن ظهور المطبعة السلطانية في عهد السيد برغش بن سعيد بن سلطان البوسعيدي (ت: 1888م)، قادت إلى نشاط صحفي، وظهور أول صحيفة عربية عمانية في زنجبار، سميت بصحيفة “النجاح”، وذلك في عام 1911م، ثم تبعتها صحف أخرى كالفلق والنهضة وغيرها.
ويؤكد في سياق بحثه أن السلطان حمود بن محمد بن سعيد البوسعيدي، سار على الخطى نفسها، في تشجيع حركة الطباعة والصحافة، وحقق هذا السلطان علاقات جيدة مع رواد حركة الإصلاح العربي، أمثال محمد رشيد رضا، وجرجي زيدان، مما أدت إلى توطيد العلاقة الثقافية بين مثقفي زنجبار ورواد حركة الإصلاح.
وفي هذا سياق الانفتاح الثقافي، وانتعاش حركة النشر، صدر في أدب الرحلات كتب أخرى، من أمثال “الدر المنظوم في ذكر المحاسن والرسوم”، للسيد حمود بن محمد البوسعيدي، وبحسب المحروقي فإن البرواني صاحب رحلة أبي الحارث، سعى إلى تقديم أنموذج للحداثة التي على زنجبار أن تسلكها في بحثها عن هويتها، مما يمكن تسميته بـ”الأمة الإسلامية”، أو “الأمة الواحدة”.
قسم الباحث بحثه إلى أربعة فصول، تتلخص حول ما أسماه بالنهضة المرتقبة، والذي يؤكد فيه أن رحلة أبي الحارث تتموضع ضمن سياق أسئلة النهضة المرتقبة في زنجبار، إشارة منه إلى وجود خطاب نهضوي متعدد الأصوات، يجمع بين الإسلامي والقومي والعلماني، ينشغل بالبحث عن نهضة زنجبار، إلا أن ثورة 1964م، والتي أطاحت بآخر سلطان من أصل عربي، وهو السلطان جمشيد بن عبدالله بن خليفة بن حارب البوسعيدي (لا يزال على قيد الحياة)، وضعت نهاية لذلك التطلع، بعد أن قامت حكومة وطنية في زنجبار، سعت إلى محو السمة الإسلامية.
الدور الإصلاحي للمطبعة السلطانية
وفي فصل تحدث فيه عن دور المطبعة السلطانية في زنجبار ودورها الإصلاحي الريادي، وهو حديث يقود إلى الانجازات التي أدخلها السلطان برغش بن سعيد بن سلطان (1870م – 1888م)، حيث شهدت زنجبار في عهده إصلاحات عديدة تتعلق بالبنى الخدمية الأساسية، من بين أعماله إدخال الكهرباء، وتوصيل الماء العذب إلى جزيرة زنجبار، وتعبيد الطرق، وبناء بيت العجائب، وهو أول بيت من ثلاثة أدوار، مزود بمصعد كهربائي في شرق افريقيا.
وأما أعماله السيد برغش بن سعيد الثقافية، فأبرزها إنشاء المطبعة السلطانية والتي عنيت بطبع الكتب الدينية والأدبية، وأسهمت في ظهور الصحافة العربية في زنجبار، منذ مطلع القرن العشرين.
وتتبعا للظروف التي دفعت السلطان برغش بن سعيد لشراء مطبعة، فقد بزغت فكرتها في ذهنه لأول مرة عندما زار السلطان أوروبا، سنة 1875م، وفي طريقه توقف في القاهرة، وشاهد المطابع العربية، واشترى مطبعتين، الأولى يعتقد أنه اشتراها من انجلترا عام 1875م، وابتدأ العمل بها سنة 1879م، والثانية اشتراها من الآباء اليسوعيين في لبنان سنة 1884م، واستقدم معها طاقما للعمل، وكانت المطبعة السلطانية تطبع الأوامر السلطانية والكتب الدينية والأدبية، ولاحقا أصبحت تطبع الصحف باللغات العربية والإنجليزية والسواحلية.
ويؤكد الباحث المحروقي أنه من العوامل الأخرى التي ساعدت على ولادة الصحافة العربية في زنجبار، ذلك التفاعل الإيجابي النشط، الذي كان بين رواد الصحافة العربية الأوائل في القاهرة وبيروت والأستانة والإسكندرية وباريس ولندن، وبين السلطانين: حمود بن محمد بن سعيد (1896م – 1902م)، وابنه علي بن حمود (1902م – 1919م)، هذا ويحتفظ أرشيف زنجبار بالكثير من المراسلات التي كانت تجري بين رواد الصحافة العربية وهذين السلطانيين.
دعم الصحافة العربية
من جانب آخر كان سلاطين زنجبار يدعمون الصحافة العربية في نشأتها من بينها الراوي والمرصاد والفضيلة، والمنار، والهلال، وغيرها، وتكشف الوثائق عن وجود مراسلات بين محمد رشيد رضا، حيث يكتب رسالة إلى سلطان زنجبار، بتاريخ 5/10/1901م، يعرف فيها السلطان برسالة صحيفة المنار التي أسسها منذ أربع سنين، (زمن كتابة الرسالة)، ويطلب فيها الدعم المادي، ورسالة ثانية من صاحب المنار لسلطان زنجبار، يعرفه بمشروع جديد له، وهو تأسيس جمعية العلم والإرشاد بالأستانة، ويطلب فيها دعم السلطان أيضا.
كما يكتب الأديب جرجي زيدان محرر الهلال، للسلطان حمود، ففي رسالة مؤرخة بتاريخ 30 أكتوبر 1899م، يشير فيها إلى تسلمه مبلغ ستة جنيهات عن اشتراك السنة السابعة، ويذكر أنه يريد أن يخص بنشر الأخبار السلطانية، ويسبق غيره من الصحفيين، وهناك ثلاث رسائل أخرى من جرجي زيدان للسلطانيين حمود وعلي.
ويؤكد الباحث المحروقي أن الصحف العربية التي كانت تصل إلى زنجبار، عبر اشتراكات السلاطين، كانت تلقى طريقها إلى صفوة المجتمع من العلماء والشعراء، وأبرزه هؤلاء الشاعر الكبير وأول محرر لصحيفة عربية، أبومسلم ناصر بن سالم الرواحي (ت: 1920م)، والذي أنشأ صحيفة النجاح في عام 1911م.
ازدهار النثر الفني
وفي فصل يتناول أدب الرحلة في زنجبار، يؤكد الباحث د. محمد المحروقي أن ازدهار الحركة الثقافية في القرن العشرين، وتكون شريحة من القراء أدى إلى ازدهار “النثر الفني” المتصل بأدب الرحلة، وتحضر الكتب التالية، شاهدا على ذلك النشاط الذي لحق هذا الجنس الأدبي الجميل، فإلى جانب “رحلة أبي الحارث البرواني” تمت طباعة كتاب “الدر المنظوم” للسيد زاهر بن سعيد ورتبه لويس صابونجي، و”رحلة عظمة السلطان المطاع خليفة بن حارب إلى أوروبا، لحضور تتويج صاحب الجلالة جورج السادس ملك بريطانيا العظمى”، لسعيد بن علي المغيري، حيث نشرت ملحقا مع كتابه الشهير “جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار”.
وهي رحلات رسمية وذاتية، من ضمنها رحلة أبي الحارث، ومن دوافع كتابتها هو التعرف على حياة المسلمين الآخرين في المدن الإسلامية، ونقلها عبر الكتابات الأدبية، إلى القارئ المسلم في زنجبار، وفي الشرق الإفريقي عامة، على اعتبار أن زنجبار هي مصدر الإشعاع الديني والثقافي في تلك البقعة من الأرض.
ويتناول الباحث في فصل خاص بالشيخ الرحالة محمد البرواني فكره الإصلاحي المعتدل، حيث كان ذات شخصية منفتحة، ومتطلعة، ولا تقنع بالسائد والمألوف، فقد بدأ عندما بلغ الخمسين من العمر، بتعلم اللغة الانجليزية، رغبة في الاطلاع على الفكر والأدب الإنجليزي اطلاعا مباشرا، مدفوعا إلى ذلك بميوله الأدبية وإرادته القوية، وثمة سبب آخر يكمن وراء تلك الرغبة في تعلم اللغة الإنجليزية، هو إعطاء المثال العماني على ما ينبغي أن يكون عليه الموقف من الغرب.
ويضيف المحروقي أن الشيخ البرواني ارتبط بعلاقة جيدة مع الشاعر الكبير ناصر بن سالم بن عديم الرواحي، ففي إحدى المناسبات يكتب أبو الحارث أبيات في عيادة أبي مسلم، مهنئا إياه بالشفاء، من مرض أصابه، وإعجاب أبي مسلم بموهبة أبي الحارث الأدبية، يظهر في تقريضه لهذه الرحلة حيث كتب: إن رحلتكم حبة من فريد الجوهر، تناولتها الثريا لتجعلها ثامنة سبعتها، أو حبة في عنقودها، أو فصا لخاتم كفها، أو واسطة لعقدها، فإن لم يكن ذا فرحلتكم قطعة من النور، دلت على مكان نبوغكم في الكتابة، ثم أتبعها بقصيدة من نظمه يقول فيها:
تجول في بساط الأرض شيئا..
لتنظر صنعة الملك البديع
فلم تك صخرة جبلت فقرت..
فلست إلى المسير بمستطيع
من جانب فإن هذه الرحلة كما يقول الباحث الدكتور المحروقي: إنها طبعت في مطابع النجاح، مما يشير إلى تبني أبي مسلم لهذا العلم، تبنيا تاما.
مسار الرحلة البروانية
أما عن رحلة أبي الحارث، فقد وصفها الباحث المحروقي بالأمة الواحدة، حيث انطلقت من زنجبار صبيحة يوم الجمعة 17/4/1914م، على الباخرة الألمانية المسماة “جتريدورمن”، وذلك للاطلاع على بلدان العالم الإسلامي، ولذلك فهي من نوع السياحة الفكرية، وفي هذه الرحلة سافر البرواني إلى مصر، وبلاد الشام، حيث انطلقت من زنجبار، واتجهت إلى تانجة، ثم ممباسا، وعدن، والسويس، وبورسعيد، والقاهرة، وبيروت، ودمشق، ويافا، ثم العودة إلى بور سعيد، والقاهرة، وجيبوتي، وعدن وممباسا وحتى وصلت إلى زنجبار، حيث غطت مساحة واسعة، من المدن الواقعة في المحيط الهندي، إلى جانب زيارته للقاهرة ولبنان وبلاد الشام، واستغرت ستة أشهر إلا خمسة أيام، ويحرص في رحلته ذكر وسائل التنقل التي استخدمها، لإبراز التقدم الذي وصل إليه العالم في مجال المواصلات.
وفي سرده الوصفي للرحلة يتحدث البرواني عن مظاهر التاريخ الإسلامي، في مدينة الفسطاط، ويذكر عدد مساجدها والتي تصل إلى 36 ألف مسجد، وثمانية آلاف شارع، وأحب في القاهرة خدمة المطاعم والبائعات الافرنجيات في الدكاكين، والمتنزهات، وصيف جسر قصر النيل، وقراءة القرآن قبل صلاة الجمعة، وقصور مصر الجديدة، وكرم عرب الريف. كما أبدى امتعاضا ببعض المشاهد في مصر، من بينها عادات النساء في المآتم، وتلحين القرآن، وتقديس جامع المتولي، وغيرها من المشاهدات التي سردها في رحلته، ويثني على أهل الريف المصري كثيرا، فيصفهم بأنهم أهل الكرم واللطف، ولين الجانب، والاحتفاء بالغريب. ويصف الحرم الشريف في مدينة القدمس، حيث يقول: بعد وصولي الفندق، خرجت قاصدا إلى الحرم الشريف، ولما انتهيت إليه دخلت من أحد أبوابه، فانتهيت إلى مساحة عظيمة، وهي ساحة الحرم، من جانب أخر يستفيد البرواني من وصف بعض الجغرافيين، كوصف ابن جبير لمدينة مدشق.
أسئلة النهضة العربية
يقول د. محمد المحروقي محللا شخصية البرواني الثقافية: لمس بشكل غير مباشر سؤالا من اهم أسئلة النهضة العربية الحديثة، المتصلة بالموقف من الغرب، فشخصيته اتسمت بالمرونة والانفتاح على الآخر، مما انعكس على موقفه من الغرب، ذلك الموقف الذي يقضي بالاستفادة من منجزات الغرب، دون التخلي عن القيم الإسلامية، ودون الابتعاد عن روح الإسلام.
ولد الشيخ الرحلة محمد بن علي بن خميس البرواني في زنجبار سنة 1295هـ/ 1878م، في أسرة متعلمة تعمل في التجارة، كما هي عادة الكثير من العمانيين في شرق افريقيا، وكان والده من علماء زنجبار المشهود لهم في مجال النحو والعروض، كما كان شاعرا مقربا من السلطان برغش بن سعيد، وكان والده ينظم مدائح في هذا السلطان، واشتغل الشيخ علي بالتجارة، وكان من الأثرياء المعروفين، كما عمل بالتعليم، وكانت له مكتبة زاخرة بالكتب الأدبية والدينية، أسهمت في توجيه الولد وجهة أدبية، مستفيدا من نهمه في قراءة الأدب الرفيع، وتوفي الشيخ محمد البرواني بمنزله في زنجبار، يوم الثلاثاء الموافق 21/7/1953م، عن عمر يناهز 76عاما، وترك عدة مؤلفات، من بينها مقامات أبي الحارث، ومجموعة من القصائد الشعرية.