سعيد بن خلفان النعماني
جريدة الرؤية: الأربعاء 28 يناير 2015م
لكل نهر روافد تسقي جوانبه، ولكل بحر سواحل تُلجئ البحارة والمسافرين إلى رحلة الوطن، الإبحار إلى موانئ أخرى، ولكل قافلة وإن طال سيرها، لها حمل وأمير ومطايا، ولكل كتاب نهاية بعد تصفح أوراقه أو قراءتها بعمق وتفكر، ومن يلبث مستقرا إلى أمد يجد كتابا جديدا يقرؤه، كما يجد البحّارة جزرًا آمنة يلجأون إليها.
تمرّ السّنون، وتكتشف الروافد المنسية لنهر جلب معه الحياة إلى المدن التي
مرّ بها، وتمضي الأزمنة، ويأتي الأحفاد لكشف ستار الماضي عن بقايا السفن التي تكسرت
مجاديفها على تلك الجزر البعيدة بعد استقرارها في أعماق سحيقة بنى المرجان عليها
شدودا قاسية، ويأتي رجال بعد عصر بعيد ليعبروا نفس الطرق القديمة ويكشفون السر
الدفين والتاريخ المغيّب لتلك الأمكنة.
التاريخ والتراث.. وإفريقيا التي أعشقها
الروافد والسواحل والموانئ والبحارة والقوافل والمسافرون التي أتغنى بها،
مفردات جمعتها السواحل الإفريقية وشطآن البحيرات العظمى والصغرى، ولئن علاقتي
البحثية بتلك المفردات والدلالات بدأت منذ العام 2000 كأول رحلة استكشافية، كانت
محطتها زنجبار أفادتني بكم هائل من التاريخ العماني بالشرق الإفريقي، ولكن ظلت
أسئلة حيرى عالقة في الذهن تبحث عن إجابات واضحة، فتوالت الرحلات واللقاءات منذ ذلك
العام حتى باتت طريقا أفد إليه في أي سانحة.
في العام 2012 نظمت هيئة الوثائق
والمحفوظات الوطنية ندوة بإسطنبول التركية عنوانها (عمان في الوثائق العثمانية) وفي
ديسبمبر من نفس العام شهدت قاعة المؤتمرات بجامعة السلطان قابوس فعاليات المؤتمر
الدولي "الدور العماني في الشرق الأفريقي" والذي نظمه مركز الدراسات العمانية
بالتعاون مع هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، وجاء العام 2013 ليشهد ندوة دولية عقدت
بزنجبار تعنى بتاريخ الحضارة الإسلامية في شرق إفريقيا، حيث كنت حريصا على حضور
هذه الندوات والمؤتمرات عدا ندوة إسطنبول، فهذه الفعاليات تمثل فرصة كبيرة للبحث
العلمي المؤصل ولأنها تضع النقاط على الحروف وتبيّن بجلاء تام الأدوار العظيمة
للوجود العماني في شرق إفريقيا، وتزيح غبار النسيان عن مجدنا العظيم في تلك البقاع
من خلال الدراسات والأبحاث المعمقة التي تليت هناك، واستمرارا لهذا النهج، نظمت
الهيئة مؤتمرها الدولي الذي أقيم بالعاصمة البروندية بوجمبورا ليسلط الضوء على دول
البحيرات العظمى الإفريقية بشكل خاص ربطا بمحطة العمانيين الكبرى في زنجبار، فكانت
الأطروحات الملقاة في غاية الأهمية والجمهور الكبير من الحضور الدولي والإفريقي
بشكل خاص دلل على عمق الحضارة العمانية بأبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية
منذ أمد بعيد، وأنّ سياسة عمان التي يشيد بها المجتمع الدولي الآن ليست نتاج
اللحظة، ولكن صاغتها رؤى لها جذور شديدة العمق التاريخي بصفحات غاية في الجمال
والرقي، يسودها الحب والوئام والتسامح والخير للجميع.
لوحة الجمال البروندية
وصلنا العاصمة البروندية بوجمبورا بعد رحلتي توقف، الأولى في العاصمة
الإثيوبية أديس أبابا، والثانية بالعاصمة الكينية نيروبي، وهي طريق مختصر وقصير
مقارنة بالطرق التي سلكها العمانيون منذ أمد بعيد نشرًا للمحبة والسلام، فكان
الوصول بعد الظهر وزخّات مطر خفيف نثرتها السماء علينا ونحن نلج بوابة مطار
بوجمبورا الجميل الذي أخذ شكله من الطراز المعماري القديم لمنازل قبائل الهوتو
والتوتسي والتوا، فكان استقبالا حارا، لاسيما وأن الزملاء بهيئة الوثائق والمحفوظات
الوطنية وصلوا باكرًا تنظيمًا لأعمال المؤتمر الدولي (الحضارة والثقافة الإسلامية
والدور العماني في دول البحيرات العظمى الإفريقية) والمؤمل أن تنطلق فعالياته في
فندق الرويال بحضور رئيس جمهورية بروندي بنفسه.
لم يطل بنا المقام طويلا في مطار بوجمبورا، فقد رتبت الهيئة كل شيء، ودخلنا
البلاد، لنشاهد المسطحات الخضراء التي بللها المطر قبل قليل، وتمضي بنا الحافلة الى
أحياء العاصمة وطرقها النظيفة لنصل إلى فندق الإقامة ذي الأدوار الستة الذي تطل
جميع نوافذه على مروج خضراء على مد البصر، ومنازل السكان المنضوية بين الأشجار
الغابية الطويلة وأشجار جوز الهند المتدلية ثمارها الصفراء في لوحة فنيّة رائعة
تستدعي رسامًا ماهرًا كي يلتقط دقائق الحياة فيها.
ألوان العلم البروندي الثلاثة نجدها في كل مكان؛ الأحمر والأخضر والأبيض،
لها رمز ومعنى، فالأخضر يرمز للأمل والأبيض للنقاء والأحمر للكفاح من أجل الاستقلال
ويحتوى العلم على علامة إكس بيضاء تقسم العلم إلى أربع مناطق اثنان باللون الأخضر
واثنان بالأحمر وفي الوسط يوجد دائرة تحتوي على ثلاث نجمات والتي ترمز إلى الثلاث
عرقيات الرئيسية ببوروندي وهم الهوتو والتوتسي والتوا وترمز أيضا إلى العناصر
الثلاثة للشعار القومى الاتحاد, العمل والتقدم .
المؤتمر ...
قرعت الطبول بكل قوة، فرحا واستقبالا للقادمين عبر الآفاق من عمان، وتهيأت
النساء والشباب اصطفافا على جانبي طرقات بوجمبورا بغناء قديم لم نفهم من مصطلحاته
إلا كلمة (عماني)، مختلطا بنبرات عذبة لمجد قديم ينبعث شذاه من مرتفعات العاصمة
البروندية مع نفحات الشاي والبن النابت هناك، وأريج اللبان الظفاري ينعش الباحثين
في ذاكرة الزمن، فزاهر تستهويه نفحات عمان اينما ذهب وقطع اللبان الحوجري هي آخر ما
يتأكد منه بعد شد حقيبته وأول ما يضعه من زاد بجانب كتبه وأوراقه وكاميرته وهاتفه
الخلوي، وتمر الفرض السمائلي تدور موائده عند جلسات الاستراحة، بجانب الحلوى التي
تباهت هناك بما لذ وطاب من طعم ولون.
لقي المؤتمر اهتماما محليا ودوليا ملحوظا، فحفل الافتتاح كان تحت رعاية
فخامة الرئيس/ بيير نكرونزيزا رئيس جمهورية بروندي، الذي أكده في كلمته الموجهة
للحضور وللعالم المتابعين لهذا الحدث الهام الذي تشهده بلاده بأن هذا المؤتمر يعكس
مدى التماسك الحضاري والثقافي بين البلدين، وأنّ هناك علاقات نسب بين العمانيين
والبورونديين حيث يتزوج العمانيون من البورونديين والعكس وهناك عائلات عمانية ما
زالت تعيش في بلادنا ونحن فخورون بذلك, كما أنّ العمانيين الذين يتواجدون هنا في
الجمهورية يمتلكون الطابع السلمي في كافة نشاط حياتهم اليومي، وكان انطباعه عن عمان
منعكسًا على جميع المحاضرين الذين قدموا أوراقهم خلال أيام المؤتمر الأربعة،
باعتبار أنّ عمان نموذجًا تاريخيًا وحاضرًا لكل معاني الحب والسلام.
بذل الباحثون جل جهدهم للوصول إلى الوقائع والتاريخ الذي صحب العمانيين في
مسيرتهم السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية إبّان وجودهم في دول الشرق
الإفريقي ودول البحيرات، وقرعت لهم طبول إفريقيا مرة أخرى كما قرعت من قبل للأوائل،
قرع يؤجج الذاكرة لمزيد من البحث والدراسة في أعماق التاريخ العماني في تلك الأمكنة
الطيبة.
No comments:
Post a Comment