زاهر بن حارث المحروقي
الثلاثاء 20 يناير 2015م: جريدة الرؤية
يبدو أنّ هناك خطة ممنهجة لمحو الآثار
العمانية في زنجبار، حيث وردت الأخبار من هناك أنّه تمّ بيع منزل المغامر العماني
"حمد المرجبي" المعروف بـ"تيبو تيب"، في المدينة الحجرية لشركةٍ خليجيّة بغرض
استخدامه كمرفق لفندق، ضمن الكثير من المنازل التي تم بيعها، وتعود ملكية المنزل
إلى الشيخ مسعود بن علي الريامي بعد أن اشتراه من ورثة المرجبي، إلا أنّ حكومة
زنجبار صادرته ضمن الممتلكات التي صادرتها من العمانيين في مثل هذه الأيام من يناير
1964، وتركت تلك المنازل نهباً للسرقات المنظمة من قبل لصوص الآثار شارك فيها بعض
المسؤولين، حتى أصبحت الأبواب والنوافذ ومتعلقات هذه المنازل تباع في الأسواق
العالمية للآثار خاصة في جنوب إفريقيا، وقد باعت حكومة زنجبار بعض منازل المدينة
الحجرية للأوروبيين أولاً، والآن دخل على الخط مستثمرون خليجيون الذين عملوا على
مسح أي ذكر لأصحاب تلك المنازل، وهو ما حصل الآن مع منزل المرجبي، بعد أن بدأت فيه
عمليات الترميم، وفي المحصلة النهائية فإنّ التراث العماني يُباع بأبخس الأثمان
وكأنّ حكومة زنجبار في طريقها لتدمير ما تبقّى من هذا التراث، وكلُّ ذلك بسبب
التقصير العماني الواضح؛ وهو التقصير الذي لا نستطيع أن نجد له مبرراً، خاصة أنّ
هدف من يشتري تلك الممتلكات معروف.
لقد كان لـ "حمد المرجبي"، نشاط سياسي
وتجاري بارز في شرق ووسط إفريقيا، وقد صدرت له سيرة ذاتية عن بعض مغامراته، وقام د.
محمد المحروقي بترجمتها إلى اللغة العربية تحت عنوان "مغامرات عماني في أدغال
إفريقيا"، وهو المغامر الذي اهتم به الأوروبيون والأفارقة، وصدرت عنه الكثير من
الدراسات والمقالات والأبحاث، وقد عرفه الغربيون والأفارقة بلقب "تيبو تيب".
وقد استوقفت هذه الشخصية، الباحثَ والمؤرخ
د. "محمد صابر عرب"، الذي كتب عنه فصلاً في كتابه "قضايا لها تاريخ"؛ فتحْتَ عنوان
"حميد المرجبي - رجلٌ صنع تاريخاً"، (والصحيح حمد) يقول المؤلف، إنّ شخصية المرجبي،
شخصية عربية مدهشة، ولد ما بين عامي 1830 و 1840 في مدينة تابورة، وكان والده قد
هاجر من عُمان إلى إفريقيا في بدايات عصر السيد "سعيد بن سلطان"، وهي الفترة التي
يعبّر عنها المثل السواحيلي الشهير "إذا دقّت الطبول في زنجبار.. تراقص الناس لها
طرباً في البحيرات الاستوائية"؛ دلالةً على أنّ الثقافة العربية بكلّ مفرداتها قد
عمّت المنطقة من سواحل زنجبار حتى منطقة البحيرات الاستوائية في قلب القارة
السوداء؛ حيث أقيمت المدارس وشُيّدت المحطات التجارية والمساجد؛ لدرجة أنّ ما كان
يحدث في زنجبار كان يصل فوراً إلى البحيرات الإستوائية.
وفي ظلّ هذا الشموخ العربي؛ نشأ المرجبي
الذي مارس مهنة التجارة في عمق القارة الإفريقية، وذاع اسمه بين القبائل الإفريقية
التي كسب ودها ومحبتها، وفي عام 1867، أحرز نجاحاً كبيراً، حينما تمكّن من ضم
الأراضي الواقعة بين جنوب بحيرة تنجانيقا وبحيرة ميروي إلى نفوذه، وفي عام 1870،
قاد حملة لضم المناطق الواقعة بين فرعين من فروع الكونجو في مقاطعة أوتيرا، وأخذ
يمارس سيطرة سياسية وتجارية، خصوصاً وقد أجمعت القبائل الأفريقية على اللجوء إليه
للفصل في المنازعات التي تنشب بينها.
ويذكر المؤلف، أنّ الاهتمام بالمرجبي
تجاوز الأفارقة إلى المستكشفين الأوربيين، من أمثال "لفنجستون" و"ستانلي"، اللذين
اعتمدا عليه في كشوفاتهما داخل القارة وبادلاه تقديراً واحتراماً، لكنّ الرجل أدرك
طبيعة مهمتهما الاستعمارية؛ لذا راح يؤلب عليهما القبائل، ممّا كان سبباً في تدخل
السلطات البريطانية التي ضغطت على السلطان "برغش بن سعيد"، لاستدعاء المرجبي إلى
زنجبار، التي عاد إليها عام 1882، حيث مارس القنصل البريطاني "السير جون" ضغوطاً
كبيرة على السلطان برغش، كي يمكّن بلجيكا من الاستيلاء على الكونجو حتى لا تقع في
أيدي الفرنسيين، ويرجّح المؤلف أنّ المرجبي خضع لتأثير الإنجليز والبلجيك، وتحت
الإغراءات عاد إلى الكونجو ومعه كميات كبيرة من الأسلحة للسيطرة على أعالي الكونجو،
لكن السلطان برغش خشي أن تتحول التجارة الإفريقية من زنجبار إلى غرب إفريقيا؛ لذا
حاول استمالة المرجبي، فعيّنه والياً على تابورا، وطلب منه التوسع في الكونجو ووسط
إفريقيا باسم السلطنة العربية، وأسرع المرجبي بالاستجابة لأوامر السلطان، واستطاع
خلال ثلاث سنوات (1883- 1886)، أن يمكّن نفوذ السلطنة العربية داخل إفريقيا، حيث
شيدت المدارس والمساجد والتكايا والسبل. لقد نجح المرجبي في السيطرة على معظم
مقاطعات الكونجو، وعَيّنَ وكلاء له لإشاعة الأمن وجمع الضرائب، وتمكن من إقامة
تنظيم سياسي واقتصادي امتد في عمق القارة، لكنّ هذا التقدم ما لبث أن توقف عام
1885م، حينما اعترفت الدول الاستعمارية بدولة الكونجو، خلال انعقاد مؤتمر برلين عام
(1884 - 1885)، إضافة إلى اتفاق بريطانيا وفرنسا وألمانيا على تقسيم سلطنة زنجبار
في العام التالي، حيث تم إجبار زنجبار على التنازل عن المناطق الداخلية والاكتفاء
بنفوذ سلطنة زنجبار على المناطق الواقعة على الساحل الشرقي من إفريقيا.
لقد أدرك المرجبي أنّ الدول الاستعمارية
تحاصر نشاطه في كلّ مكان، ومع ذلك فقد حاول الاحتفاظ بالجزء الشرقي من الكونجو
(شلالات ستانلي)، لكن ما لبث أن اصطدم بدولة الكونجو، التي اضطرت إلى تعيينه حاكماً
على هذه المناطق بهدف الاستعانة بنفوذه. وقد اتفقت بلجيكا معه عام 1887، على تعيينه
حاكماً عاماً للكونجو بمرتب شهري قدره 30 جنيهًا، وفق اتفاق بينه وبين ستانلي،
ويبرّر د. "صابر عرب" هذه الخطوة بأنّ المرجبي فكّر طويلاً، قبل التوقيع على هذه
الاتفاقية؛ لكنه أدرك تفكك سلطنة زنجبار وعدم الاعتماد عليها لتأكيد نفوذه في
الداخل، لذا بادر بالتوقيع، ولكن بمجرد أن استقرت الأوضاع للدولة الجديدة، أقدم
البلجيك على عزل المرجبي من منصبه، حيث عاد إلى زنجبار وتوفي بعدها بسنوات قليلة،
(وهذا ما تفعله الدول الاستعمارية مع عملائها والمتعاونين معها، وقائمةُ الضحايا في
العالم طويلة، إذ بمجرد انتهاء المصلحة يتم التخلص من العميل، ثم هناك حقيقة أخرى
هي أنّ العمانيين اصطدموا بالقوى الاستعمارية، ولم يستطيعوا أن يواجهوها لا بالقوة
ولا بالسياسة، ولا بالمكر والخديعة.!)
لقد مثلت نهاية المرجبي، انتهاءَ دور
العرب في الكونجو ووسط إفريقيا؛ بعد أن تبددت الآمال العريضة في إيجاد تنظيم عربي
إفريقي في الداخل، يمكن أن يلحق بالسلطنة العربية على الساحل، ولكنّ وجود العمانيين
في الكونجو أفادها كثيراً في إنشاء المحطات والمراكز التجارية، واتّباع نظام دقيق
في النقل البحري؛ ويرى المؤلف أنّه كان للعرب السبق في التوغل في منطقة البحيرات
الاستوائية، لكنهم لم يتمكنوا من تأسيس ممالك أو إمارات لهم على نحو ما فعلوه في
الساحل، نظراً لصعوبة المواصلات؛ إضافة إلى ما لمسوه من وجود تشكيلات محلية على
جانب كبير من القوة والتنظيم، لذا فقد اكتفوا بتوثيق صلات العلاقات التجارية فقط
داخل القارة.
ويلخص د. صابر عرب قراءته لسيرة المرجبي
أنه "يمكننا القول بأنّ الكشوف الجغرافية التي قام بها الأوروبيون في القارة
الأفريقية خلال القرن التاسع عشر، لم تكن في حقيقتها إلا تسجيلاً علمياً لمناطق
وشعوب؛ سبق أن عرفها العرب وساهموا في نموّها وتطوّرها، وجاء الأوروبيون كي يسرقوا
ما أنجزه العرب، وهو أمر يتكرر كثيراً في تاريخ أمتنا التي لم تستوعب الدرس
بعد."
في العموم فإنّ شخصية المرجبي تحتاج إلى
التركيز عليها لأنّ معظم من كَتب عنها هم الغربيون، وبالتأكيد فإنهم تناولوا هذه
الشخصية من وجهة نظرهم فقط.
إنّ من أبسط أبجديات المحافظة على تراث
هذا الرجل هو المحافظة على إرثه وعدم التفريط في منزله التاريخي، الذي سيختفي من
الوجود كما ستختفي معظم مباني المدينة الحجرية في زنجبار، لأنّ هناك من يخطط لذلك،
وهناك من فضّل النوم في العسل.
No comments:
Post a Comment