Tuesday, January 20, 2015
السيد سعيد بن سلطان.. عصر من التسامح
زاهر بن حارث المحروقي
الثلاثاء، 18 تشرين2/نوفمبر 2014
جريدة الرؤية
يعُتبر السيد سعيد بن سلطان، سلطان عمان وزنجبار (1806-1856م)، واحداً من أعظم الحكام العرب في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بما تميّز به من خصال حميدة، استطاع بها أن يقود دفة الحكم بحكمة واقتدار طوال نصف قرن من الزمن، وهي الفترة التاريخية الصعبة التي شهد العالم فيها بروز بريطانيا وفرنسا كقوتين عُظميين تتنافسان على فرض النفوذ والسيطرة، وقد استطاع الرجل أن يشق طريقه بكل اقتدار، وسط الكثير من العقبات التي اعترضت طريقه كصاحب رؤية وهدف، وحقيقةً فإنَّ شخصيةً مثل شخصية السيد سعيد بن سلطان، لم تنل حظها من الدراسة والاهتمام والتركيز عند الأجيال العربية المتعاقبة، فكلُّ المراجع العالمية تؤكد أن العصر الذهبي للتأثير الحضاري العماني في شرق إفريقيا كان في عهده، حيث كان لقوة شخصيته ودبلوماسيته ورؤيته الشاملة وبُعد نظره، أكبر الأثر في ترسيخ ملامح الحضارة العمانية في شرق إفريقيا، والتي شكلت في مجملها ركائز حضارية كانت بمثابة إشعاع ثقافي وحضاري، وقد كان من أسباب نجاح السيد سعيد، تطبيقه لمبدأ "التسامح وقبول الآخر"، مهما كانت خلفيته العرقية أو الدينية أو المذهبية، وهي الميزة التي استمد منها العمانيون مبدأ التسامح وقبول الآخر، لأنّ ذلك ما طبقه حكامهم منذ زمن، وظهرت نتائجه حتى في العصر الحديث الذي تموج فيه الدول بالفتن والتناحر والتذابح بسبب الخلفيات التاريخية، لذا لم يكن غريباً أن يوصف بأنه كان من أكفأ الحكام وأكثرهم حنكة ومقدرة على الإدارة، ممّا أهّله ليكون من أبرز الرواد السياسيين في تاريخ آسيا وإفريقيا خلال القرن التاسع عشر.
ومن هنا، نجد أنَّ السيد سعيد، قد استعان في شرق إفريقيا بعدد كبير من المستشارين والعلماء في كافة المذاهب والأديان، وأوكل إليهم مهمة تسيير العمل الحكومي، حيث تشير المصادر العربية والأجنبية إلى المكانة العالية التي تبوّأها العلماء والفقهاء من كافة المذاهب، فساد التسامح بين المذاهب والديانات المختلفة، وقد خص السيد سعيد مواطنيه بمعاملة كريمة، وكانت المساواة بين كافة السكان بصرف النظر عن أصولهم العرقية، ويذكر الراحل الشيخ علي بن محسن البرواني في كتابه "الصراعات والوئام في زنجبار"، أنَّ زنجبار عرفت في التقويم الرسمي مناسبتين تخصّان الأقلية الشيعية، توصد المصالح الحكومية أبوابها فيهما، وهما يوما الحادي والعشرين من رمضان ذكرى استشهاد الإمام علي، ويوم عاشوراء ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما، فكم من بلاد لا تفعل مثل هذا احتراماً لأقلية صغيرة من شعبها، "فلم نشهد تقليداً كهذا حتى في بلدان يصل قرابة نصف سكانها من الشيعة". بل إنه يذكر في مكان آخر من الكتاب، أنَّ السيد سعيد أصدر مرسوماً منع فيه المواطنين من ذبح الأبقار والأضاحي في الأحياء التي يقطنها الهنود احتراماً لمعتقداتهم، ولقد كان من نتيجة هذه السياسة أن ساد جوٌ من الألفة والتجانس، وتوثقت العلاقات الاجتماعية بين كافة الأوساط، وانعكس ذلك بشكل لافت على فقهاء المذاهب المختلفة؛ لدرجة أنّ القضاة الشرعيين في عهد السيد سعيد كانوا من الإباضية والسُّنة، وكان لقضاة السُّنة مطلق الحرية في عقد محاكمهم في منازلهم أو في المساجد العامة وفي أيّ وقت شاءوا, إلا أنّ القضايا الكبيرة ذات الطابع العام كان يتم الفصل فيها في بيت الساحل وهو المقر الرسمي للحكومة.
ويعلِّق "روبرتس" مبعوث حكومة الولايات المتحدة الأمريكية إلى مسقط الذي زار عُمان في سبتمبر 1833، لعقد اتفاقية تجارية مع السيد سعيد، يعلق على مبدأ التسامح عند السيد سعيد قائلاً: إن جميع أصحاب الأديان في نطاق دولة السلطان لا يتمتعون بالسماح فحسب، بل إنّ صاحب الجلالة يضعهم تحت حمايته، وليس هناك أيّ عقبة تمنع المسيحيين واليهود والوثنيين من ممارسة شعائر ديانتهم أو إنشاء معابد لهم، ويضيف: "والسلطان لطيف يتمتع بسلوك إسلامي لا يتطلب مجرد شجاعة فوق أي تساؤل، كما اتضح أثناء الحروب حيث أصيب إصابة خطرة، بينما هو يحاول إنقاذ جندي إنجليزي من جنود المدفعية.. وهو محبٌ صارم للعدالة ويمتلك النزعة الإنسانية، وتحبه الرعية حباً جارفاً. كذلك كان يتمتع بوجهة نظر ليبرالية عادلة فيما يخص التجارة، ليس فقط بعدم إقامة أيّ عراقيل في طريقها، ولكن كذلك بتشجيع الأجانب مثلهم مثل رعيته".
ويقول د. محمد صابر عرب في فصل "عصر من التسامح" في كتابه "قضايا لها تاريخ"، اللافت أنّ السيد سعيد لم يفرض عقيدةً بذاتها، ولا مذهباً بعينه على الأفارقة، ولم يستهدف طمس ثقافتهم، ولم يعمل على تفضيل عرق على آخر؛ وإنما راح يزرع الحب والخير في نفوسٍ أرهقها الفقر والشقاء، وهو ما يفسر دخول الأفارقة في الإسلام، ودعْمَ مشروعه الحضاري الكبير، وهي ظاهرة استلفتت نظر الرحالة الأجانب، ويرى د. صابر عرب أنّ الرجل "كان سابقاً عصره؛ بسيطاً في فهمه للإسلام، بقدر عمق الإسلام وبساطته، فهو لا يقنع بأن يُكره الناس على اعتناق الإسلام، وإنما بفطرته السليمة كان على ثقة بأنّ الإسلام يدعو لنفسه من خلال سلوك المسلمين الذين يُترجمون الإسلام عملاً وبناءً وحضارة".
لقد أقام السيد سعيد بن سلطان دولة سياستها التسامح، فلا فرق بين مذهب وآخر أو عقيدة وأخرى، فالناس جميعا متساوون: عرباً وأفارقة، هنوداً وأوروبيين، حتى العبيد، لدرجة أنّ "همرنون" -أول قنصل بريطاني في زنجبار- يصف حال العبيد عام 1844، بأنهم كانوا يأكلون من طعام أسيادهم نفسه، كما لا تساء معاملتهم، "ولم أسمع أنّ عبداً قد ضرب من سيده أو أهين، ولم أشعر بأية فروق اجتماعية بين العبيد وأسيادهم الذين احترموا آدميتهم، وولوهم أهم الأعمال".
والمدهش أيضا -كما يرى د. صابر عرب- أنَّ فقهاء المذاهب الإسلامية في شرق إفريقيا قد التزموا تعليمات حاكمهم، فقد نحّوا الخلافات المذهبية جانباً، وقدّموا الإسلام عقيدةً وشريعة، خالياً من التعقيدات الفلسفية، ولم يتورطوا في فتنة، ولم يستنطقوا من التراث ما يستوجب الاختلاف. (وفي هذه النقطة، فإنّ د. صابر محقٌ، فإسلامُ إفريقيا ظلّ نظيفاً بعيداً عن الفلسفات والتعقيدات، وظل بعيداً عن مناقشة الأحداث التاريخية، وظلت العلاقة بين الإنسان وربه علاقة مباشرة وخالية من التعقيدات، حتى بدأت ظواهر الانشقاق عندما تحوّلت مشاكل الجزيرة العربية إليهم، وأفسدت إسلامهم السهل النظيف البسيط.. إسلام الفطرة).
... إنَّ الباحث في تاريخ شرق إفريقيا في عصر السيد سعيد، تتملكه الدهشة وهو يتابع سياساته، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي؛ فقد زرع المحبة والسكينة في النفوس، لذا أقبل عليه الأفارقة قبل العرب يشاركونه زراعة الأرض وإقامة المدن ونشر الخير والنماء؛ ومن ثم فقد سطر بأعماله عصراً من البناء والازدهار.
ويختم د. صابر عرب فصل "عصر من التسامح"، بأن يقول إنه إذا كانت كل النهضات الكبرى في العالم قد اعتمدت على الشعوب، شريطة إيمانهم بأن ما يشقون من أجله عائد إليهم، فقد كان مشروع السيد سعيد بن سطان نموذجا.
... إنَّ القراءة التاريخية لعصر السيد سعيد بن سلطان وسياسته في حكم شرق إفريقيا؛ تشكل مشروعاً ثقافياً وحضارياً واقتصادياً لرجل آلى على نفسه أن يكون كبيراً وسط عالم الكبار، ليس بالتنمية الاقتصادية فقط؛ وإنما بسياسة التسامح التي اتخذها ركيزة من أهم مقومات دولته، فلا انحياز لدين بذاته أو مذهب بعينه، بل راح ينشر الخير والمحبة وسط الناس، عن طريق سياسة التسامح وقبول الآخر، وهي السياسة التي افتقدها الكثيرون، وظلت المجتمعات تدفع ثمن ذلك حتى يومنا هذا، والدلائل الآن كثيرة، وللأسف فإنّ معظمها في الجزيرة العربية، التي منها انطلق الوح
ي.
No comments:
Post a Comment
Newer Post
Older Post
Home
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment