الجريدة
الخميس 18 فبراير 2016
خليل علي حيدر
(1)
قد الألمان عام 1884 عشر معاهدات مع زعماء القبائل وملوك مناطق شرق إفريقيا بواسطة "كارل بيترز" مؤسس "الجمعية الألمانية للاستعمار" وأحد أنشط دعاة التوسع والضم في إفريقيا، وكانت هذه المعاهدات تنص على استقلال هذه المناطق عن سلطنة زنجبار العربية، بما لها من روابط مع بريطانيا، وتنص على تنازل عن الأراضي لإمبراطور ألمانيا ويلهلم الكبير، وبالتالي فرض الحماية الألمانية على تلك المناطق.
ويشير د. بنيان تركي في بحثه عن "ثورة الشيخ بشير الحارثي" إلى أن هذه الاتفاقيات التي قام بها "بيترز" و"جوهلك" لم يُستشر فيها الحكام العرب، كما أن "الكثير من السلاطين والملوك الأفارقة الذين وقّعوا تلك الاتفاقيات لم يدركوا خطورة ما أقدموا عليه، مع ملاحظة أن تلك الأراضي تخضع على الأقل اسمياً لسلطان زنجبار"، ويضيف أن الإنكليز حاولوا مساعدة السلطات إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل، وهكذا أعلنت الحماية الألمانية على تلك الأراضي، واعتبرت الحكومة الألمانية "كارل بيترز"، رئيس الجمعية الألمانية للاستعمار، ناطقاً باسمها، واتخذت عدداً من الخطوات لدعم موقعها وتعزيزه، وأبلغت سلطان زنجبار السيد "برغش بن سعيد" بإعلان حمايتها على منطقة شرق إفريقيا، وذهبت اعتراضات السيد برغش أدراج الرياح.
ويضيف د. تركي "إن بريطانيا الحليف القوي للأسرة البورسعيدية- حكم زنجبار– أخذت تبحث عن مصالحها ضاربة عرض الحائط بطلبات السلطان ومتخوفة من أن تبتلع ألمانيا المنطقة، ولهذا وجدت أن مصالحها تحتم عليها التعاون مع ألمانيا لا مواجهتها".
اضطر السيد برغش إلى الإذعان تحت تهديد الأسطول الألماني عام 1885، وتنازل عن حقوقه البحرية في ميناء "دار السلام"، ووقع عدداً من الاتفاقيات التجارية الجديدة مع ألمانيا، وتم اختيار دار السلام كميناء بحري مهم للنشاط الألماني، وتم كذلك تكوين مستعمرة شرق إفريقيا الألمانية وبسط نفوذها على الشريط الساحلي، وقد أثار هذا كله حفيظة العرب والهنود من تجار المنطقة، وكذلك السلطان الجديد "خليفة بن سعيد" الذي وجد نفسه مضطراً إلى توقيع عدد من الاتفاقيات، وقد "ترتب على ذلك رد فعل قوي من السكان المحليين والقوى الوطنية الفاعلة في المنطقة، وتعد ثورة الشيخ بشير الحارثي ضمن الثورات الوطنية التي ناصبت النفوذ الألماني العداء".
انحدر الشيخ بشير من قبيلة "الحرث" العربية، التي "لعبت أدواراً مهمة وحيوية في تاريخ عمان وشرق إفريقيا وفي مقاومة النفوذ الأجنبي، كما شاركت في الصراع على السلطة في سلطنة زنجبار العربية، واستعان العديد من أبناء السيد سعيد بهذه القبيلة العربية للثورة أو الثوب على السلطة".
كان بشير الحارثي شيخ دين لا شيخ قبيلة، ويقول الباحث إن أهالي المنطقة الساحلية في البر الإفريقي قد استدعوه للقدوم لقيادة حركتهم التي أطلق الألمان عليها اسم "التمرد العربي"، كما كان الشيخ الحارثي ومنذ زمن بمثابة "منافس للأسرة الحاكمة البوسعيدية في سلطنة زنجبار العربية".
ويقول د. تركي: "من المرجح أن تفسير موقف الشيخ بشير الحارثي من الأسرة البوسعيدية يكمن في أن السيد سعيد وأبناءه من بعده كانوا يميلون إلى التسامح الديني بمعناه الواسع الذي يشمل المسلمين وغير المسلمين، بمن فيهم رجال الإرساليات التنصيرية، ولعل تدين الشيخ بشير الحارثي وما يراه من نشاط تبشيري واسع بدعم غربي وسكوت عربي هو سبب موقفه من أسرة البوسعيد الحاكمة، وأجمع كل من زار الساحل الشرقي للقارة الإفريقية من رحالة ومستكشفين ومنصرين غربيين على تسامح السيد سعيد وأبنائه من بعده".
ويؤكد د. تركي أن الألمان كانوا مثل بقية القوى الأوروبية يشجعون تنصير الأفارقة، فيقول: "لا بد من التأكيد على أن الألمان من جانبهم لم يغفلوا الجانب التنصيري في بسط نفوذهم على شرق إفريقيا، وكذلك في موقفهم من ثورة الشيخ بشير الحارثي.
ويكمن الموقف الألماني فيما قاله المستشار "بسمارك" تدعيما لوجهة نظره في إرسال حملة عسكرية لشرق إفريقيا بقوله: إن المسألة لا تكمن في دعم الشركة (ويقصد "شركة شرق إفريقيا الألمانية") ولكن المسألة هي دعم الحضارة والمسيحية والواجب الوطني. وتعد تلك الكلمات دليلا لا لبس فيه حول دوافع تنصيرية في الوجود والتوسع الألماني في شرق إفريقيا، كما أن رجال الإرساليات التنصيرية في مناطق النفوذ البريطاني والألماني لم يكتفوا بمحاولة تنصير الوثنيين إنما تعدّوا ذلك إلى حد دعوة العرب والمسلمين للدخول في النصرانية، وليس هذا فحسب بل نجد أن الكاثوليك الألمان عملوا جهدهم أولاً على إقناع الحكومة الألمانية، وثانياً ساهموا بجمع الأموال لإرسال حملة للقضاء على ثورة الشيخ بشير الحارثي، كما يمكن إضافة أن رجال الإرساليات التنصيرية أخذوا في تشجيع الرقيق على الهروب من ملاكهم، وكان لهذا أثره في حدوث تجاوزات، وهو أمر زاد من العداء بين الطرفين، ومع ذلك نجد أن الشيخ بشير الحارثي يظهر جانباً إنسانياً، حيث حرم على أتباعه مهاجمة مراكز الإرساليات التنصيرية المسالمة".
وكانت ثمة أسباب أخرى للاستياء وبخاصة تحكم الألمان بالجمارك وإلزام الأهالي بدفع رسوم جمركية باهظة على صادراتهم، وإدخال نظم تجارية وقوانين جديدة لم يألفها سكان الساحل الشرقي، كما "أن إدارة شركة شرق إفريقيا الألمانية حرمتهم مما كانوا يحصلون عليه من فوائد من القوافل المارة بمناطقهم، كما خسر التجار العرب والهنود أموالاً طائلة كانوا يجنونها بسبب علاقتهم التجارية، وكونهم وسيطاً بين الساحل والداخل فلا عجب في تشجيعهم للثورة ضد الوجود الألماني، وهم الذين يخشون منافسة التجار الأوروبيين لهم".
وهناك سبب آخر يستحق أشد الاهتمام ضمن ما يورد الباحث د. تركي من أسباب دعم التجار للثورة من عرب وهنود، وهو خوف هؤلاء من أن تتبنى ألمانيا سياسة محاربة الرق!
يقول د. تركي: "كان هناك تخوف من قبل بعض أصحاب المصالح من التجار والإقطاعيين العرب والهنود والأفارقة من تبني ألمانيا لسياسة محاربة الرق وتجارته، حيث يعني ذلك خسارتهم لليد العاملة في الإقطاعيات الزراعية، وكانت تجارة الرقيق تعد من الأنشطة التجارية المربحة للعديد من الأطراف في شرق إفريقيا وموردا اقتصاديا مهما ولا تقتصر ممارستها بيعا وشراء على الأفارقة والعرب وإنما الهنود والأوروبيون، ومن المعروف أن الهنود ساهموا بشكل مباشر وغير مباشر في الرق وتجارة الرقيق، ويعدون من الممولين الرئيسيين لهذه التجارة، فلا غرابة أن أصحاب المصالح تخوفوا من أن تستغل تلك السياسة لضرب مصالحهم وتحقيق أهداف استعمارية، كما فعلت بريطانيا.
وكانت بريطانيا قد استغلت سياسة محاربة الرق وتجارة الرقيق للتدخل في الشؤون الداخلية للعديد من الإمارات والسلطنات بما فيها السلطنة العربية في زنجبار، وقد يكون في ذهن العرب الخوف مما حدث في سلطنة زنجبار العربية، حيث نجحت بريطانيا في كسر شوكة العرب الاقتصادية، كما كسرت شوكتهم السياسية".
ويشير د. بنيان تركي في بحثه عن "ثورة الشيخ بشير الحارثي" إلى أن هذه الاتفاقيات التي قام بها "بيترز" و"جوهلك" لم يُستشر فيها الحكام العرب، كما أن "الكثير من السلاطين والملوك الأفارقة الذين وقّعوا تلك الاتفاقيات لم يدركوا خطورة ما أقدموا عليه، مع ملاحظة أن تلك الأراضي تخضع على الأقل اسمياً لسلطان زنجبار"، ويضيف أن الإنكليز حاولوا مساعدة السلطات إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل، وهكذا أعلنت الحماية الألمانية على تلك الأراضي، واعتبرت الحكومة الألمانية "كارل بيترز"، رئيس الجمعية الألمانية للاستعمار، ناطقاً باسمها، واتخذت عدداً من الخطوات لدعم موقعها وتعزيزه، وأبلغت سلطان زنجبار السيد "برغش بن سعيد" بإعلان حمايتها على منطقة شرق إفريقيا، وذهبت اعتراضات السيد برغش أدراج الرياح.
ويضيف د. تركي "إن بريطانيا الحليف القوي للأسرة البورسعيدية- حكم زنجبار– أخذت تبحث عن مصالحها ضاربة عرض الحائط بطلبات السلطان ومتخوفة من أن تبتلع ألمانيا المنطقة، ولهذا وجدت أن مصالحها تحتم عليها التعاون مع ألمانيا لا مواجهتها".
اضطر السيد برغش إلى الإذعان تحت تهديد الأسطول الألماني عام 1885، وتنازل عن حقوقه البحرية في ميناء "دار السلام"، ووقع عدداً من الاتفاقيات التجارية الجديدة مع ألمانيا، وتم اختيار دار السلام كميناء بحري مهم للنشاط الألماني، وتم كذلك تكوين مستعمرة شرق إفريقيا الألمانية وبسط نفوذها على الشريط الساحلي، وقد أثار هذا كله حفيظة العرب والهنود من تجار المنطقة، وكذلك السلطان الجديد "خليفة بن سعيد" الذي وجد نفسه مضطراً إلى توقيع عدد من الاتفاقيات، وقد "ترتب على ذلك رد فعل قوي من السكان المحليين والقوى الوطنية الفاعلة في المنطقة، وتعد ثورة الشيخ بشير الحارثي ضمن الثورات الوطنية التي ناصبت النفوذ الألماني العداء".
انحدر الشيخ بشير من قبيلة "الحرث" العربية، التي "لعبت أدواراً مهمة وحيوية في تاريخ عمان وشرق إفريقيا وفي مقاومة النفوذ الأجنبي، كما شاركت في الصراع على السلطة في سلطنة زنجبار العربية، واستعان العديد من أبناء السيد سعيد بهذه القبيلة العربية للثورة أو الثوب على السلطة".
كان بشير الحارثي شيخ دين لا شيخ قبيلة، ويقول الباحث إن أهالي المنطقة الساحلية في البر الإفريقي قد استدعوه للقدوم لقيادة حركتهم التي أطلق الألمان عليها اسم "التمرد العربي"، كما كان الشيخ الحارثي ومنذ زمن بمثابة "منافس للأسرة الحاكمة البوسعيدية في سلطنة زنجبار العربية".
ويقول د. تركي: "من المرجح أن تفسير موقف الشيخ بشير الحارثي من الأسرة البوسعيدية يكمن في أن السيد سعيد وأبناءه من بعده كانوا يميلون إلى التسامح الديني بمعناه الواسع الذي يشمل المسلمين وغير المسلمين، بمن فيهم رجال الإرساليات التنصيرية، ولعل تدين الشيخ بشير الحارثي وما يراه من نشاط تبشيري واسع بدعم غربي وسكوت عربي هو سبب موقفه من أسرة البوسعيد الحاكمة، وأجمع كل من زار الساحل الشرقي للقارة الإفريقية من رحالة ومستكشفين ومنصرين غربيين على تسامح السيد سعيد وأبنائه من بعده".
ويؤكد د. تركي أن الألمان كانوا مثل بقية القوى الأوروبية يشجعون تنصير الأفارقة، فيقول: "لا بد من التأكيد على أن الألمان من جانبهم لم يغفلوا الجانب التنصيري في بسط نفوذهم على شرق إفريقيا، وكذلك في موقفهم من ثورة الشيخ بشير الحارثي.
ويكمن الموقف الألماني فيما قاله المستشار "بسمارك" تدعيما لوجهة نظره في إرسال حملة عسكرية لشرق إفريقيا بقوله: إن المسألة لا تكمن في دعم الشركة (ويقصد "شركة شرق إفريقيا الألمانية") ولكن المسألة هي دعم الحضارة والمسيحية والواجب الوطني. وتعد تلك الكلمات دليلا لا لبس فيه حول دوافع تنصيرية في الوجود والتوسع الألماني في شرق إفريقيا، كما أن رجال الإرساليات التنصيرية في مناطق النفوذ البريطاني والألماني لم يكتفوا بمحاولة تنصير الوثنيين إنما تعدّوا ذلك إلى حد دعوة العرب والمسلمين للدخول في النصرانية، وليس هذا فحسب بل نجد أن الكاثوليك الألمان عملوا جهدهم أولاً على إقناع الحكومة الألمانية، وثانياً ساهموا بجمع الأموال لإرسال حملة للقضاء على ثورة الشيخ بشير الحارثي، كما يمكن إضافة أن رجال الإرساليات التنصيرية أخذوا في تشجيع الرقيق على الهروب من ملاكهم، وكان لهذا أثره في حدوث تجاوزات، وهو أمر زاد من العداء بين الطرفين، ومع ذلك نجد أن الشيخ بشير الحارثي يظهر جانباً إنسانياً، حيث حرم على أتباعه مهاجمة مراكز الإرساليات التنصيرية المسالمة".
وكانت ثمة أسباب أخرى للاستياء وبخاصة تحكم الألمان بالجمارك وإلزام الأهالي بدفع رسوم جمركية باهظة على صادراتهم، وإدخال نظم تجارية وقوانين جديدة لم يألفها سكان الساحل الشرقي، كما "أن إدارة شركة شرق إفريقيا الألمانية حرمتهم مما كانوا يحصلون عليه من فوائد من القوافل المارة بمناطقهم، كما خسر التجار العرب والهنود أموالاً طائلة كانوا يجنونها بسبب علاقتهم التجارية، وكونهم وسيطاً بين الساحل والداخل فلا عجب في تشجيعهم للثورة ضد الوجود الألماني، وهم الذين يخشون منافسة التجار الأوروبيين لهم".
وهناك سبب آخر يستحق أشد الاهتمام ضمن ما يورد الباحث د. تركي من أسباب دعم التجار للثورة من عرب وهنود، وهو خوف هؤلاء من أن تتبنى ألمانيا سياسة محاربة الرق!
يقول د. تركي: "كان هناك تخوف من قبل بعض أصحاب المصالح من التجار والإقطاعيين العرب والهنود والأفارقة من تبني ألمانيا لسياسة محاربة الرق وتجارته، حيث يعني ذلك خسارتهم لليد العاملة في الإقطاعيات الزراعية، وكانت تجارة الرقيق تعد من الأنشطة التجارية المربحة للعديد من الأطراف في شرق إفريقيا وموردا اقتصاديا مهما ولا تقتصر ممارستها بيعا وشراء على الأفارقة والعرب وإنما الهنود والأوروبيون، ومن المعروف أن الهنود ساهموا بشكل مباشر وغير مباشر في الرق وتجارة الرقيق، ويعدون من الممولين الرئيسيين لهذه التجارة، فلا غرابة أن أصحاب المصالح تخوفوا من أن تستغل تلك السياسة لضرب مصالحهم وتحقيق أهداف استعمارية، كما فعلت بريطانيا.
وكانت بريطانيا قد استغلت سياسة محاربة الرق وتجارة الرقيق للتدخل في الشؤون الداخلية للعديد من الإمارات والسلطنات بما فيها السلطنة العربية في زنجبار، وقد يكون في ذهن العرب الخوف مما حدث في سلطنة زنجبار العربية، حيث نجحت بريطانيا في كسر شوكة العرب الاقتصادية، كما كسرت شوكتهم السياسية".
(2)
الجمعة 19 فبراير 2016
رى الباحثون أن علاقة ألمانيا بالرق وتجارة الرقيق بحاجة إلى المزيد من الدراسة، ذلك أن ألمانيا لم تظهر ككيان سياسي موحد كما إنكلترا أو فرنسا مثلاً، قبل القرن الخامس عشر، وكانت "الإمبراطورية الرومانية المقدسة"، كما كانت تسمى ألمانيا الحالية، اتحاداً كونفدراليا تحت حكم "آل هابسبورغ" حكام النمسا، حيث تعرضت هذه "الإمبراطورية الرومانية" إلى المزيد من الانقسام أثناء الحركة الإصلاحية المسيحية في القرن السادس عشر.
ولم تمتلك الولايات الألمانية مستعمرات في أميركا أو أساطيل في المحيط الأطلسي للمساهمة في تجارة الرقيق كبقية السفن الأوروبية، ولكن عندما وصل شارل الخامس إلى الحكم في الإمبراطورية الرومانية عام 1519 كان بحكم الوراثة وقوانينها في أوروبا ملكا على إسبانيا كذلك مع مستعمراتها في "الدنيا الجديدة" أميركا، وهكذا تولى ملك ألماني نمساوي حكم إسبانيا في مرحلة دقيقة من مراحل تجارة الرقيق الإفريقية، حيث عمد شارل الخامس إلى توسعة نطاق تجارة الرقيق، مانحاً الامتياز لأحد رجالات البلاط الهولندي، حيث كانت هذه الدولة كذلك ضمن أملاكه وهو لورنزو غوريفورد Gorrevod بأن يصدّر أربعة آلاف مسترقّ إفريقي عام 1518 إلى أميركا، فكانت هذه بداية تجارة الرق حيث توالت بعدها رحلات نقل الرقيق إلى مختلف المناطق في القارة الأميركية سنوياً بالآلاف.
ورغم أن ظهور حركة مارتن لوثر الإصلاحية المسيحية في ألمانيا في الفترة نفسها فإن هذه الحركة المسماة بالبروتستانتية لم تؤثر مباشرة في هذه التجارة، إلا أن الكنائس البروتستانتية تحولت في القرن التاسع عشر إلى قوة رئيسة في محاربة الرق، ولكن لا مجال لاستعراض تاريخ هذه الحركة في ألمانيا زمن "بسمارك" وقبله، وموقف الكنيسة من الحركة الاستعمارية الألمانية الوليدة.
أشرنا في المقال السابق إلى مرونة الإدارة الاستعمارية البريطانية وذكاء الساسة الإنكليز في مجال التعامل مع الشعوب المحلية الخاضعة لهم، وبخاصة الزعماء والشخصيات الدينية وشيوخ القبائل، وهذا ما لم يتقنه الألمان في شرق إفريقيا.
يقول د. تركي: "كان الفتور سمة العلاقة بين الحكام الألمان والمحكومين من العرب والسواحلية والأفارقة، حيث لجأ الألمان في إدارتهم للمناطق التابعة لهم إلى إحلال موظفين ألمان بدلاً من الموظفين الذين كانوا تحت سلطة السلطنة العربية في زنجبار، كما قام الألمان بتعيين شخصية ألمانية حاكما عاما للمستعمرة يخضع مباشرة لوزارة مستعمراتهم، وكذلك تعيين مديرين للمناطق المختلفة الواقعة تحت سلطة الحاكم العام الألماني.
ومن المفارقات أن كلا من الحاكم والمديرين لم يبذلوا جهدا يذكر للاحتكاك بالوطنيين من عرب وأهل ساحل وأفارقة ومعرفة حاجاتهم ورغباتهم، وبمعنى آخر لم يهتموا كثيرا بمعرفة طبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية للشعب الذي أخضعوه لنفوذهم وسيطرتهم، ومن المفيد ذكره أن الشركة الألمانية كحال أغلب الشركات الغربية التي عملت في إفريقيا شكلت قوات تابعة للشركة وتحت تصرفها، وكان الهدف حماية الشركة وموظفيها وفرض الأمن في المنطقة التابعة لها، وأثر هذا على السلوك الألماني تجاه الأهالي، حيث استخدموا العنف والشدة في التعامل مع أهل الساحل والداخل اعتقادا منهم أن هذا السلوك هو أنجع الوسائل لفرض الهيمنة والنفوذ، فلا غرابة أن تصف صحيفة بريطانية سلوك موظفي الشركة الألمانية بالمتعجرف، حيث إنهم يفتقدون الفطنة واللباقة وطول الأناة، في عملية تعاملهم مع سكان البلاد.
كما لجأت الشركة الألمانية إلى استغلال السكان المحليين للعمل الإجباري والسخرة في مزارعها، فليس من الغريب أن تنطلق الشرارة الأولى من مزارع العمل الإجباري في كل من "باغامويوا" و"فنجاني"، بل إن الرقيق المحررين الذين أجبروا على العمل في الشركة الألمانية فضلوا العودة إلى مالكيهم السابقين، فلا عجب من انتفاض الأهالي أحرارا وعبيدا لحماية مصالحهم من الاستغلال الألماني".
وسنرى في المقال القادم تطور مسار الثورة ومصيرها!
(3)
الجمعة 26 فبراير 2016
وقعت ثورة الشيخ بشير بن سالم الحارثي ضد الألمان في عهد السلطان خليفة بن سعيد البوسعيدي في زنجبار، وتقول بعض المراجع إن "زنجبار" كلمة عربية محرفة أصلها "زنج" و"برّ" أي "برّ الزنج" وتتكون من جزيرتين كبيرتين هما "زنجبار" و"بمبا"، إضافة إلى سبع وعشرين جزيرة صغيرة على بعد 35 كيلو متراً مقابل "تنجانيقا".
وتسمى "زنجبار" بستان إفريقيا الشرقية، حيث يبلغ طولها 85 كيلو متراً وعرضها نحو 40 كم، وتتميز الجزيرة بأرضها الحجرية التي تصلح للزراعة الخاصة، وفيها نحو مليون شجرة قرنفل، ويقطعها نهر كبير يسمى "مويرا"، وقد بقي فيها البرتغاليون قرابة قرنين منذ عام 1503.
وقام العمانيون بطردهم منها في عهد السلطان سعيد بن سلطان، بعد أن حاربهم ابتداء من عام 1650 الإمام سلطان بن سيف الأول، ونجح الأسطول العماني عام 1696 في تدمير الحاميات البرتغالية الموجودة في "بمبا".
ازدهرت الحياة الاقتصادية في "زنجبار" في عهد السلطان سعيد، وقد طور النظام الزراعي باستزراع القرنفل كما انفتح المجال للتجار القادمين من شبه القارة الهندية، وذلك بمساعدة السلطان سعيد الذي جعلهم يستوطنون الجزيرة، وبعد وفاة السلطان سعيد تنازع ولداه "ثويني" و"ماجد" على وراثة الحكم، مما حدا بتقسيم عمان وزنجبار إلى سلطنتين، فقوّى ماجد سلطته من خلال تجارة الرقيق بشرق إفريقيا، أما خليفته برغش بن سعيد فقد ساعد على إلغاء تجارة الرق في زنجبار وطور البنية التحتية للبلد.
وقد تولى حكم زنجبار خليفة بن سعيد البوسعيدي عام 1888 وذلك بعد وفاة أخيه برغش، وقد وقع على معاهدة مع شركة شرق إفريقيا الألمانية فمنح السلطان بمقتضاها للشركة Deutsch Ostafrica Gesellschaft "الحق في تحصيل الرسوم الجمركية والضرائب على طول ساحل تنجانيقا في 1888 مقابل مئتي ألف جنيه إسترليني، رسم تأجير لنصف قرن، مما مكن الألمان من التحكم في طرق التجارة مع زنجبار، واستلم 11 ألف جنيه إسترليني من شركة شرق إفريقيا البريطانية مقابل ممباسا والأجزاء الشمالية من الساحل الإفريقي الخاضع لحكمه، وحصلت في دولته ثورة الشيخ بشير بن سالم الحارثي ضد الألمان".
(عن موقع: https:/om77.net/forums/thread/404492).
ويشرح د. بنيان تركي أسباب الثورة التي أطلق عليها الألمان تسمية "التمرد العربي"، ويقول إن الشيخ "الحارثي"، كان ومنذ زمن منافسا للأسرة البوسعيدية الحاكمة في زنجبار العربية، لكن المراجع لم تحدد نوع المنافسة وماهيتها.
ويرجح د. تركي أن يكون سبب استياء الشيخ بشير هو تساهل السلطات مع الإرساليات التنصيرية، إذ كان "البشير" يقول الباحث "شيخ دين لا شيخ قبيلة".
وكانت شركة شرق إفريقيا الألمانية من ناحية أخرى "قد ارتكبت العديد من الأخطاء؛ مما أثار حنق سكان المناطق، ولعل من أهم تلك الأخطاء إلزام الأهالي بدفع رسوم جمركية باهظة على صادراتهم لم تكن موحودة في السابق.
كما قامت إدارة الشركة بإدخال نظم تجارية وقوانين جديدة لم يألفها السكان لهذا عمّ عدم الرضا، ويكمن السبب في أن إدارة الشركة حرمتهم مما كانوا يحصلون عليه من فوائد من القوافل المارة بمناطقهم، كما خسر التجار العرب والهنود أموالا طائلة كانوا يجنونها بسبب علاقاتهم التجارية، وكونهم وسيطا بين الساحل والداخل فلا عجب في تشجيعهم للثورة ضد الوجود الألماني وهم الذين يخشون منافسة التجار الأوروبيين لهم".
وكان لمنع تجارة الرق علاقة مباشرة بالثورة، إذ كان "هناك تخوف من قبل بعض أصحاب المصالح من التجار والإقطاعيين العرب والهنود والأفارقة من تبني ألمانيا لسياسة محاربة الرق وتجارته، حيث يعني ذلك خسارتهم لليد العاملة في الإقطاعيات الزراعية، وكانت تجارة الرقيق تعد من الأنشطة التجارية المربحة للعديد من الأطراف في شرق إفريقيا، وموردا اقتصاديا مهما لا تقتصر ممارستها بيعا وشراء على الأفارقة والعرب وإنما الهنود والأوروبيين".
ويدرج الباحث ضمن أسباب التمرد فتور علاقة الحكام والإداريين الألمان بالمحكومين العرب والأفارقة حيث لجأ الألمان إلى إحلال موظفين ألمان بدلا منهم، ولم يبذل الألمان كذلك جهدا يذكر للاحتكاك بالسكان المحليين والتجاوب مع حاجاتهم.
قام الألمان بإنزال العلم السلطاني من فوق دار الوالي رغم احتجاجه على هذا التصرف، ورفعوا العلم الخاص بمستعمرة شرق إفريقيا الألمانية، رغم أن الاتفاق كان ينص على رفع علم السلطان، فكان لهذا أثره في احتجاج رجال السلطة العرب وفي غضب السلطان.
ونتيجة لذلك يقول الباحث "ثار سكان المنطقة بمختلف عناصرهم وفئاتهم الذين نظروا لما قام به الألمان باعتباره تدخلا مباشرا وعملا سافرا من دولة غربية وغريبة عن المنطقة، وبصورة لم يعهدوها من قبل".
استفاد الشيخ بشير الحارثي من حالة الاحتقان على الألمان، وبدأت ثورته في أغسطس 1888 من مزارع العمل الإجباري، وتكوّن جيش كبير قام باستدعاء الشيخ بشير الحارثي و"انضم إليهم جيش عظيم من عرب وبلوش وسواحلية".
طالب الحارثي الألمان بالخروج فورا من المنطقة، والحد من نشاط التبشير، واتجه الثائرون جنوبا فهاجموا مقر الشركة الألمانية، وأرسل الألمان سفينة حربية حاول بحارتها النزول في "تانغا"، ولم ينجحوا إلا بعد أن قصفوا المدينة بالمدفعية الحربية، وحاول الإنكليز إقناع السلطان خليفة بضرورة التدخل شخصيا لإنهاء ثورة الشيخ بشير ومن معه، كما استقدم الألمان من جانبهم على عجل أسطولهم البحري، إلا أن السلطان خليفة كان راغبا في نجاح الثورة "نكاية بالإدارة البريطانية"، حيث كانت علاقته غير جيدة مع القنصل البريطاني وكارها للوجود البريطاني وغير مرحب بالوجود الألماني، وكانت بريطانيا على علم بحقيقة عواطف السلطان، ولكنها كانت تهدف إلى منعه من مساندة الثورة، والواقع أن السلطان لم تكن لديه قوات نظامية وإنما قوة بقيادة الجنرال البريطاني ماثيوس قائد القوة السلطانية، ولهذا يقول د. تركي كان الحرص البريطاني على إنهاء الثورة كي لا تمتد إلى مناطق النفوذ البريطانية، وهكذا ترسخت قناعة الجنرال ماثيوس بعد تطور الأحداث بأن أنجع وسلة لتحقيق السيطرة على الوضع هي تفكيك ثورة الشيخ بشير الحارثي من الداخل بمقابلة بعض قادة الثوار والتفاهم معهم وتحييدهم، وتشكل وفد لمقابلة السيد خليفة الذي حاول أن يوضح لهم التطورات الجديدة والاتفاقيات التي وقعها مع الألمان، والتي تعطيهم الحق في إدارة المنطقة، وأن عليهم القبول بالوضع الجديد.
ولم يعجب الوفد رد السيد خليفة ولا تبريراته "فعاد إلى الساحل أكثر غضبا واستياء من السابق، حيث أصبحوا أكثر قناعة بأن السيد خليفة لم يعد له حول ولا قوة، ونشط الثوار في كل من الشمال والجنوب، كما قُتل مسؤولان ألمانيان وأحد عشر من السكان المحليين الذين كانوا بخدمتهم، وفي المقابل قتل من الثوار واحد وعشرون شخصا، وقام عدد من شيوخ القبائل الساحلية بإرسال خطابات للسيد خليفة تحذره من التعاون مع الألمان وإعانة الشركة على استعادة نفوذها، وكان التهديد شديد اللهجة مهددين بالخروج عن
طاعته
(4)
الخميس 3 مارس 2016
ذل السلطان "خليفة بن سعيد" حاكم زنجبار كل ما بوسعه للاستفادة من "ثورة الشيخ بشير الحارثي"، كما فشلت محاولاته بالتقرب من الألمان، وقد كتب إليه المستشار "بسمارك" في سبتمبر 1888 مقترحاً التعاون بين سلطنة زنجبار العربية والحكومة الألمانية للسيطرة على الثورة، وكان رد السلطان بأن لا علاقة لسلطنة زنجبار بما تعانيه "شركة شرق إفريقيا الألمانية" وبما يجري على الساحل، كما اشتكى السلطان من الممارسات الألمانية وفرض قوانين وأنظمة لم يألفها السكان، وتطرق لبعض الأعمال الألمانية غيبر المنضبطة تجاه المساجد الإسلامية، وكذلك عدم احترام العلم السلطاني، الذي اعتبر أن من أسباب الاضطرابات تنزيله ورفع علم الشركة بدلا منه.
ووافق "الرايخستاغ" الألماني على اقتراح المستشار الألماني "بسمارك" بفرض حصار بحري بحجة أن المحرضين على الثورة من تجار الرقيق، وخوفا من انفراد الألمان بالإجراء شاركت بريطانيا في الحصار كذلك، حيث "وافق السيد خليفة مرغماً على مشروع الحصار الألماني– البريطاني، وأصدر مرسوماً بهذا الشأن، كما أعلن عددا من المراسيم بشأن محاربة الرق وتجارة الرقيق".
وحاول الشيخ بشير تغيير منطقته، غير أن سيطرته على الموقع لم تدم طويلاً، حيث كان في مرمى المدفعية الحربية،
واختلطت في هذه المرحلة مشاكل تجارة الرق مع قضايا التبشير والتنصير، كما قُتل في مارس 1889 عدد من رجال الإرساليات وأسر عدد منهم، ثم عقدت معاهدة صلح مؤقتة، وعرضت على الشيخ امتيازات سياسية من قبل السلطان والألمان لم تنجح في إنهاء الثورة، كما خصصت الحكومة الألمانية مليوني مارك لتمويل حملة عسكرية إلى شرق إفريقيا بقيادة "هيرمان فون ويسمان" Wissmann للقضاء على الثورة ومحاربة تجارة الرق.
يقول د. بنيان تركي: "منح بسمارك الصلاحية المطلقة لـ"ويسمان" للتعامل مع الرافضين للهيمنة الألمانية بما فيها استخدام العنف، مع ملاحظة أن ويسمان الذي عرف عنه كرهه لتجار الرقيق وقسوته شرح لـ"الرايخستاغ" الألماني في يناير 1889م أنه يعتقد جازما "بأن الحل الأوحد للتعامل مع الثوار على الساحل يكمن في استخدام القوة لفرض الهيمنة والنفوذ الألماني، وكانت الإشاعات قد سرت في سلطنة زنجبار العربية أن مقدم "ويسمان" من الممكن أن يؤدي إلى إعلان الحماية الألمانية على زنجبار". فلم يعتمد الألمان على جنودهم في قمع الثورة، بل عمد القائد إلى دعم قوته من مصادر أخرى.
ويضيف د. تركي: "زار ويسمان في طريقه لشرق إفريقيا مصر من أجل تجنيد سودانيين للعمل معه في المهمة المكلف بها، وكانت أولى المهام التي قام بها الميجور ويسمان هي إعداد قوة عسكرية من المرتزقة لمواجهة ثورة الشيخ "بشير الحارثي" ومناصريه، ومن المفيد الإشارة إلى أن الحكومة البريطانية ساعدت الحكومة الألمانية على تجنيد المرتزقة... وترتّب على المساعدة البريطانية أن تمكن ويسمان من جمع أكثر من 900 مرتزق أغلبهم من المناطق التابعة للنفوذ البريطاني (600 جندي سوداني من القاهرة و200 من قبائل الزولو من موزمبيق و50 صوماليا و80 جنديا وطنيا من سلطنة زنجبار العربية و20 تركيا بالإضافة إلى 60 ضابطا ألمانيا وفرتهم الحكومة الألمانية لقيادة المرتزقة".
هاجم الشيخ بشير مع ثواره "دار السلام" و"باغامويوا" مع اقتراب ويسمان، وأعلن الألمان من جانبهم الأحكام العرفية وحدثت معارك بين الطرفين. كانت قوات الألمان إلى جانب السفن والمدافع تتجاوز ألف رجل "تشمل 320 أوروبياً بمن فيهم 200 بحار ألماني و80 من قبائل الزونو و600 سوداني وعدة مئات من السود من أهل البلاد".
ويضيف الباحث: "لجأ ويسمان لاتباع سياسة الهجوم السريع الخاطف والقتل والتنكيل أو ما يطلق عليه سياسة "القبضة الحديدية" وبالفعل عمل ويسمان على إبادة العديد من القرى، واجتث مساحات شاسعة من الغابات، وارتكب مذابح واتبع سياسة الأرض المحروقة، وكان بعمله هذا يرغب في أن يبث الرعب والخوف لدى الشيخ بشير ومناصريه من الأهالي".
وعن نتائج هذا الهجوم الواسع يقول: "وأمام ضراوة الهجوم أجبر الشيخ بشير الحارثي على التراجع، وبالفعل تراجع الشيخ الحارثي وثواره بعد أن كبدوا الألمان ومناصريهم خسائر كبيرة، وفي هذا الصدد يشير "المغيري" إلى أن الشيخ "الحارثي" تمكن من قتل وأسر عدد كثير من الألمان".
وعمد الألمان إلى استدعاء المزيد من المساعدات العسكرية بقيادة "فون جرافتراوت"، حيث استطاع الألمان ومن انضم إلى هؤلاء من محاربي بعض القبائل الإفريقية الموجودة على الساحل تشتيت قوات الشيخ الحارثي، وتم قتل أعداد كبيرة من الثوار، وأخيراً تم القبض على الشيخ بشير مع مرافقيه العرب والبلوش.
ويصف د. تركي نهاية الشيخ بشير فيقول: "أعدم الشيخ بشير الحارثي في "فنجاني" شنقا، ودون محاكمة بعد ثلاثة أيام من القبض عليه"، ويشار إلى أن إعدام الشيخ بشير تم بمشهد من عموم الطوائف في بلدة فنجاني، ومن المرجح أنه تم القبض عليه في 12 ديسمبر وتم إعدامه في 15 ديسمبر 1889م في "فنجاني"، حيث دفن ولا يعرف على وجه التحديد لماذا أُبقي على الشيخ ثلاثة أيام بعد القبض عليه، ولماذا لم يحاكم حتى صوريا قبل شنقه؟ ويُقال إن بعض مستشاري الشيخ بشير قد نجح الألمان في تجنيدهم للتجسس عليه وتتبع حركاته، ويشير المغيري إلى أنه لا يستبعد أن يكونوا هم السبب في القبض عليه وتسليمه للألمان". ويعتقد "المغيري" أنه "لولا خداع المستشارين وخيانتهم لنجح في الفرار بنفسه والانتقال عبر البحر إلى سلطنة زنجبار العربية أو أية منطقة أخرى على غرار ما فعله الشيخ مبارك بن راشد المزروعي أحد الذين قادوا ثورة ضد الألمان في شرق إفريقيا".
خاتمة:
إن جملة دراسات د. بنيان تركي الإفريقية، ومنها حركة "الشيخ بشير الحارثي" وثورته ضد الألمان، إضافة حقيقية للمكتبة الخليجية حول منطقة شرق إفريقيا ذات الأهمية الخاصة في التاريخ السياسي والاقتصادي للدول الخليجية، وبخاصة التجارة البحرية وظاهرة الرق والروابط الاجتماعية بين عرب الخليج وسكان شرق إفريقيا، وفي مقدمتهم بالطبع العمانيون الذين استوطنوا هناك منذ قرون.
وقد شهدت هذه المنطقة الإفريقية في مراحل لاحقة بعد منتصف القرن العشرين ممارسات عدائية وأعمال عنف ضد التجار والأقليات العربية والهندية عموماً، ففي عام 1963 مثلاً قامت "ثورة زنجبار" الدموية، حيث قتل الآلاف من العرب والهنود، وتم طرد آلاف آخرين، ومصادرة أملاكهم، كما عادت زنجبار إلى الظهور في الأخبار العالمية عام 2001، من خلال المذابح التي تعرض لها المسلمون بعد انتخابات متنازع عليها.
وتثير حركة الشيخ بشير نفسها ضد الألمان، والأسباب التي عددها د. تركي، العديد من الأسئلة بخصوص نظرة الشيخ بشير الى تجارة الرق ومدى شرعيتها دينياً، وكذلك موقفه من حركة تحرير العبيد، رغم معارضة الملاك العرب المسلمين للمزارع ومن يعمل عليها من الأرقاء الأفارقة، وكذلك حقيقة الأسباب التي حركت الشيخ بشير ومؤيديه ضد السلطان خليفة والألمان.
إن شرق إفريقيا وزنجبار بحاجة إلى زيارات أخرى وبحوث من د. بنيان تركي وكل المهتمين بالشؤون الإفريقية.
.
ولم تمتلك الولايات الألمانية مستعمرات في أميركا أو أساطيل في المحيط الأطلسي للمساهمة في تجارة الرقيق كبقية السفن الأوروبية، ولكن عندما وصل شارل الخامس إلى الحكم في الإمبراطورية الرومانية عام 1519 كان بحكم الوراثة وقوانينها في أوروبا ملكا على إسبانيا كذلك مع مستعمراتها في "الدنيا الجديدة" أميركا، وهكذا تولى ملك ألماني نمساوي حكم إسبانيا في مرحلة دقيقة من مراحل تجارة الرقيق الإفريقية، حيث عمد شارل الخامس إلى توسعة نطاق تجارة الرقيق، مانحاً الامتياز لأحد رجالات البلاط الهولندي، حيث كانت هذه الدولة كذلك ضمن أملاكه وهو لورنزو غوريفورد Gorrevod بأن يصدّر أربعة آلاف مسترقّ إفريقي عام 1518 إلى أميركا، فكانت هذه بداية تجارة الرق حيث توالت بعدها رحلات نقل الرقيق إلى مختلف المناطق في القارة الأميركية سنوياً بالآلاف.
ورغم أن ظهور حركة مارتن لوثر الإصلاحية المسيحية في ألمانيا في الفترة نفسها فإن هذه الحركة المسماة بالبروتستانتية لم تؤثر مباشرة في هذه التجارة، إلا أن الكنائس البروتستانتية تحولت في القرن التاسع عشر إلى قوة رئيسة في محاربة الرق، ولكن لا مجال لاستعراض تاريخ هذه الحركة في ألمانيا زمن "بسمارك" وقبله، وموقف الكنيسة من الحركة الاستعمارية الألمانية الوليدة.
أشرنا في المقال السابق إلى مرونة الإدارة الاستعمارية البريطانية وذكاء الساسة الإنكليز في مجال التعامل مع الشعوب المحلية الخاضعة لهم، وبخاصة الزعماء والشخصيات الدينية وشيوخ القبائل، وهذا ما لم يتقنه الألمان في شرق إفريقيا.
يقول د. تركي: "كان الفتور سمة العلاقة بين الحكام الألمان والمحكومين من العرب والسواحلية والأفارقة، حيث لجأ الألمان في إدارتهم للمناطق التابعة لهم إلى إحلال موظفين ألمان بدلاً من الموظفين الذين كانوا تحت سلطة السلطنة العربية في زنجبار، كما قام الألمان بتعيين شخصية ألمانية حاكما عاما للمستعمرة يخضع مباشرة لوزارة مستعمراتهم، وكذلك تعيين مديرين للمناطق المختلفة الواقعة تحت سلطة الحاكم العام الألماني.
ومن المفارقات أن كلا من الحاكم والمديرين لم يبذلوا جهدا يذكر للاحتكاك بالوطنيين من عرب وأهل ساحل وأفارقة ومعرفة حاجاتهم ورغباتهم، وبمعنى آخر لم يهتموا كثيرا بمعرفة طبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية للشعب الذي أخضعوه لنفوذهم وسيطرتهم، ومن المفيد ذكره أن الشركة الألمانية كحال أغلب الشركات الغربية التي عملت في إفريقيا شكلت قوات تابعة للشركة وتحت تصرفها، وكان الهدف حماية الشركة وموظفيها وفرض الأمن في المنطقة التابعة لها، وأثر هذا على السلوك الألماني تجاه الأهالي، حيث استخدموا العنف والشدة في التعامل مع أهل الساحل والداخل اعتقادا منهم أن هذا السلوك هو أنجع الوسائل لفرض الهيمنة والنفوذ، فلا غرابة أن تصف صحيفة بريطانية سلوك موظفي الشركة الألمانية بالمتعجرف، حيث إنهم يفتقدون الفطنة واللباقة وطول الأناة، في عملية تعاملهم مع سكان البلاد.
كما لجأت الشركة الألمانية إلى استغلال السكان المحليين للعمل الإجباري والسخرة في مزارعها، فليس من الغريب أن تنطلق الشرارة الأولى من مزارع العمل الإجباري في كل من "باغامويوا" و"فنجاني"، بل إن الرقيق المحررين الذين أجبروا على العمل في الشركة الألمانية فضلوا العودة إلى مالكيهم السابقين، فلا عجب من انتفاض الأهالي أحرارا وعبيدا لحماية مصالحهم من الاستغلال الألماني".
وسنرى في المقال القادم تطور مسار الثورة ومصيرها!
(3)
الجمعة 26 فبراير 2016
وقعت ثورة الشيخ بشير بن سالم الحارثي ضد الألمان في عهد السلطان خليفة بن سعيد البوسعيدي في زنجبار، وتقول بعض المراجع إن "زنجبار" كلمة عربية محرفة أصلها "زنج" و"برّ" أي "برّ الزنج" وتتكون من جزيرتين كبيرتين هما "زنجبار" و"بمبا"، إضافة إلى سبع وعشرين جزيرة صغيرة على بعد 35 كيلو متراً مقابل "تنجانيقا".
وتسمى "زنجبار" بستان إفريقيا الشرقية، حيث يبلغ طولها 85 كيلو متراً وعرضها نحو 40 كم، وتتميز الجزيرة بأرضها الحجرية التي تصلح للزراعة الخاصة، وفيها نحو مليون شجرة قرنفل، ويقطعها نهر كبير يسمى "مويرا"، وقد بقي فيها البرتغاليون قرابة قرنين منذ عام 1503.
وقام العمانيون بطردهم منها في عهد السلطان سعيد بن سلطان، بعد أن حاربهم ابتداء من عام 1650 الإمام سلطان بن سيف الأول، ونجح الأسطول العماني عام 1696 في تدمير الحاميات البرتغالية الموجودة في "بمبا".
ازدهرت الحياة الاقتصادية في "زنجبار" في عهد السلطان سعيد، وقد طور النظام الزراعي باستزراع القرنفل كما انفتح المجال للتجار القادمين من شبه القارة الهندية، وذلك بمساعدة السلطان سعيد الذي جعلهم يستوطنون الجزيرة، وبعد وفاة السلطان سعيد تنازع ولداه "ثويني" و"ماجد" على وراثة الحكم، مما حدا بتقسيم عمان وزنجبار إلى سلطنتين، فقوّى ماجد سلطته من خلال تجارة الرقيق بشرق إفريقيا، أما خليفته برغش بن سعيد فقد ساعد على إلغاء تجارة الرق في زنجبار وطور البنية التحتية للبلد.
وقد تولى حكم زنجبار خليفة بن سعيد البوسعيدي عام 1888 وذلك بعد وفاة أخيه برغش، وقد وقع على معاهدة مع شركة شرق إفريقيا الألمانية فمنح السلطان بمقتضاها للشركة Deutsch Ostafrica Gesellschaft "الحق في تحصيل الرسوم الجمركية والضرائب على طول ساحل تنجانيقا في 1888 مقابل مئتي ألف جنيه إسترليني، رسم تأجير لنصف قرن، مما مكن الألمان من التحكم في طرق التجارة مع زنجبار، واستلم 11 ألف جنيه إسترليني من شركة شرق إفريقيا البريطانية مقابل ممباسا والأجزاء الشمالية من الساحل الإفريقي الخاضع لحكمه، وحصلت في دولته ثورة الشيخ بشير بن سالم الحارثي ضد الألمان".
(عن موقع: https:/om77.net/forums/thread/404492).
ويشرح د. بنيان تركي أسباب الثورة التي أطلق عليها الألمان تسمية "التمرد العربي"، ويقول إن الشيخ "الحارثي"، كان ومنذ زمن منافسا للأسرة البوسعيدية الحاكمة في زنجبار العربية، لكن المراجع لم تحدد نوع المنافسة وماهيتها.
ويرجح د. تركي أن يكون سبب استياء الشيخ بشير هو تساهل السلطات مع الإرساليات التنصيرية، إذ كان "البشير" يقول الباحث "شيخ دين لا شيخ قبيلة".
وكانت شركة شرق إفريقيا الألمانية من ناحية أخرى "قد ارتكبت العديد من الأخطاء؛ مما أثار حنق سكان المناطق، ولعل من أهم تلك الأخطاء إلزام الأهالي بدفع رسوم جمركية باهظة على صادراتهم لم تكن موحودة في السابق.
كما قامت إدارة الشركة بإدخال نظم تجارية وقوانين جديدة لم يألفها السكان لهذا عمّ عدم الرضا، ويكمن السبب في أن إدارة الشركة حرمتهم مما كانوا يحصلون عليه من فوائد من القوافل المارة بمناطقهم، كما خسر التجار العرب والهنود أموالا طائلة كانوا يجنونها بسبب علاقاتهم التجارية، وكونهم وسيطا بين الساحل والداخل فلا عجب في تشجيعهم للثورة ضد الوجود الألماني وهم الذين يخشون منافسة التجار الأوروبيين لهم".
وكان لمنع تجارة الرق علاقة مباشرة بالثورة، إذ كان "هناك تخوف من قبل بعض أصحاب المصالح من التجار والإقطاعيين العرب والهنود والأفارقة من تبني ألمانيا لسياسة محاربة الرق وتجارته، حيث يعني ذلك خسارتهم لليد العاملة في الإقطاعيات الزراعية، وكانت تجارة الرقيق تعد من الأنشطة التجارية المربحة للعديد من الأطراف في شرق إفريقيا، وموردا اقتصاديا مهما لا تقتصر ممارستها بيعا وشراء على الأفارقة والعرب وإنما الهنود والأوروبيين".
ويدرج الباحث ضمن أسباب التمرد فتور علاقة الحكام والإداريين الألمان بالمحكومين العرب والأفارقة حيث لجأ الألمان إلى إحلال موظفين ألمان بدلا منهم، ولم يبذل الألمان كذلك جهدا يذكر للاحتكاك بالسكان المحليين والتجاوب مع حاجاتهم.
قام الألمان بإنزال العلم السلطاني من فوق دار الوالي رغم احتجاجه على هذا التصرف، ورفعوا العلم الخاص بمستعمرة شرق إفريقيا الألمانية، رغم أن الاتفاق كان ينص على رفع علم السلطان، فكان لهذا أثره في احتجاج رجال السلطة العرب وفي غضب السلطان.
ونتيجة لذلك يقول الباحث "ثار سكان المنطقة بمختلف عناصرهم وفئاتهم الذين نظروا لما قام به الألمان باعتباره تدخلا مباشرا وعملا سافرا من دولة غربية وغريبة عن المنطقة، وبصورة لم يعهدوها من قبل".
استفاد الشيخ بشير الحارثي من حالة الاحتقان على الألمان، وبدأت ثورته في أغسطس 1888 من مزارع العمل الإجباري، وتكوّن جيش كبير قام باستدعاء الشيخ بشير الحارثي و"انضم إليهم جيش عظيم من عرب وبلوش وسواحلية".
طالب الحارثي الألمان بالخروج فورا من المنطقة، والحد من نشاط التبشير، واتجه الثائرون جنوبا فهاجموا مقر الشركة الألمانية، وأرسل الألمان سفينة حربية حاول بحارتها النزول في "تانغا"، ولم ينجحوا إلا بعد أن قصفوا المدينة بالمدفعية الحربية، وحاول الإنكليز إقناع السلطان خليفة بضرورة التدخل شخصيا لإنهاء ثورة الشيخ بشير ومن معه، كما استقدم الألمان من جانبهم على عجل أسطولهم البحري، إلا أن السلطان خليفة كان راغبا في نجاح الثورة "نكاية بالإدارة البريطانية"، حيث كانت علاقته غير جيدة مع القنصل البريطاني وكارها للوجود البريطاني وغير مرحب بالوجود الألماني، وكانت بريطانيا على علم بحقيقة عواطف السلطان، ولكنها كانت تهدف إلى منعه من مساندة الثورة، والواقع أن السلطان لم تكن لديه قوات نظامية وإنما قوة بقيادة الجنرال البريطاني ماثيوس قائد القوة السلطانية، ولهذا يقول د. تركي كان الحرص البريطاني على إنهاء الثورة كي لا تمتد إلى مناطق النفوذ البريطانية، وهكذا ترسخت قناعة الجنرال ماثيوس بعد تطور الأحداث بأن أنجع وسلة لتحقيق السيطرة على الوضع هي تفكيك ثورة الشيخ بشير الحارثي من الداخل بمقابلة بعض قادة الثوار والتفاهم معهم وتحييدهم، وتشكل وفد لمقابلة السيد خليفة الذي حاول أن يوضح لهم التطورات الجديدة والاتفاقيات التي وقعها مع الألمان، والتي تعطيهم الحق في إدارة المنطقة، وأن عليهم القبول بالوضع الجديد.
ولم يعجب الوفد رد السيد خليفة ولا تبريراته "فعاد إلى الساحل أكثر غضبا واستياء من السابق، حيث أصبحوا أكثر قناعة بأن السيد خليفة لم يعد له حول ولا قوة، ونشط الثوار في كل من الشمال والجنوب، كما قُتل مسؤولان ألمانيان وأحد عشر من السكان المحليين الذين كانوا بخدمتهم، وفي المقابل قتل من الثوار واحد وعشرون شخصا، وقام عدد من شيوخ القبائل الساحلية بإرسال خطابات للسيد خليفة تحذره من التعاون مع الألمان وإعانة الشركة على استعادة نفوذها، وكان التهديد شديد اللهجة مهددين بالخروج عن
طاعته
(4)
الخميس 3 مارس 2016
ذل السلطان "خليفة بن سعيد" حاكم زنجبار كل ما بوسعه للاستفادة من "ثورة الشيخ بشير الحارثي"، كما فشلت محاولاته بالتقرب من الألمان، وقد كتب إليه المستشار "بسمارك" في سبتمبر 1888 مقترحاً التعاون بين سلطنة زنجبار العربية والحكومة الألمانية للسيطرة على الثورة، وكان رد السلطان بأن لا علاقة لسلطنة زنجبار بما تعانيه "شركة شرق إفريقيا الألمانية" وبما يجري على الساحل، كما اشتكى السلطان من الممارسات الألمانية وفرض قوانين وأنظمة لم يألفها السكان، وتطرق لبعض الأعمال الألمانية غيبر المنضبطة تجاه المساجد الإسلامية، وكذلك عدم احترام العلم السلطاني، الذي اعتبر أن من أسباب الاضطرابات تنزيله ورفع علم الشركة بدلا منه.
ووافق "الرايخستاغ" الألماني على اقتراح المستشار الألماني "بسمارك" بفرض حصار بحري بحجة أن المحرضين على الثورة من تجار الرقيق، وخوفا من انفراد الألمان بالإجراء شاركت بريطانيا في الحصار كذلك، حيث "وافق السيد خليفة مرغماً على مشروع الحصار الألماني– البريطاني، وأصدر مرسوماً بهذا الشأن، كما أعلن عددا من المراسيم بشأن محاربة الرق وتجارة الرقيق".
وحاول الشيخ بشير تغيير منطقته، غير أن سيطرته على الموقع لم تدم طويلاً، حيث كان في مرمى المدفعية الحربية،
واختلطت في هذه المرحلة مشاكل تجارة الرق مع قضايا التبشير والتنصير، كما قُتل في مارس 1889 عدد من رجال الإرساليات وأسر عدد منهم، ثم عقدت معاهدة صلح مؤقتة، وعرضت على الشيخ امتيازات سياسية من قبل السلطان والألمان لم تنجح في إنهاء الثورة، كما خصصت الحكومة الألمانية مليوني مارك لتمويل حملة عسكرية إلى شرق إفريقيا بقيادة "هيرمان فون ويسمان" Wissmann للقضاء على الثورة ومحاربة تجارة الرق.
يقول د. بنيان تركي: "منح بسمارك الصلاحية المطلقة لـ"ويسمان" للتعامل مع الرافضين للهيمنة الألمانية بما فيها استخدام العنف، مع ملاحظة أن ويسمان الذي عرف عنه كرهه لتجار الرقيق وقسوته شرح لـ"الرايخستاغ" الألماني في يناير 1889م أنه يعتقد جازما "بأن الحل الأوحد للتعامل مع الثوار على الساحل يكمن في استخدام القوة لفرض الهيمنة والنفوذ الألماني، وكانت الإشاعات قد سرت في سلطنة زنجبار العربية أن مقدم "ويسمان" من الممكن أن يؤدي إلى إعلان الحماية الألمانية على زنجبار". فلم يعتمد الألمان على جنودهم في قمع الثورة، بل عمد القائد إلى دعم قوته من مصادر أخرى.
ويضيف د. تركي: "زار ويسمان في طريقه لشرق إفريقيا مصر من أجل تجنيد سودانيين للعمل معه في المهمة المكلف بها، وكانت أولى المهام التي قام بها الميجور ويسمان هي إعداد قوة عسكرية من المرتزقة لمواجهة ثورة الشيخ "بشير الحارثي" ومناصريه، ومن المفيد الإشارة إلى أن الحكومة البريطانية ساعدت الحكومة الألمانية على تجنيد المرتزقة... وترتّب على المساعدة البريطانية أن تمكن ويسمان من جمع أكثر من 900 مرتزق أغلبهم من المناطق التابعة للنفوذ البريطاني (600 جندي سوداني من القاهرة و200 من قبائل الزولو من موزمبيق و50 صوماليا و80 جنديا وطنيا من سلطنة زنجبار العربية و20 تركيا بالإضافة إلى 60 ضابطا ألمانيا وفرتهم الحكومة الألمانية لقيادة المرتزقة".
هاجم الشيخ بشير مع ثواره "دار السلام" و"باغامويوا" مع اقتراب ويسمان، وأعلن الألمان من جانبهم الأحكام العرفية وحدثت معارك بين الطرفين. كانت قوات الألمان إلى جانب السفن والمدافع تتجاوز ألف رجل "تشمل 320 أوروبياً بمن فيهم 200 بحار ألماني و80 من قبائل الزونو و600 سوداني وعدة مئات من السود من أهل البلاد".
ويضيف الباحث: "لجأ ويسمان لاتباع سياسة الهجوم السريع الخاطف والقتل والتنكيل أو ما يطلق عليه سياسة "القبضة الحديدية" وبالفعل عمل ويسمان على إبادة العديد من القرى، واجتث مساحات شاسعة من الغابات، وارتكب مذابح واتبع سياسة الأرض المحروقة، وكان بعمله هذا يرغب في أن يبث الرعب والخوف لدى الشيخ بشير ومناصريه من الأهالي".
وعن نتائج هذا الهجوم الواسع يقول: "وأمام ضراوة الهجوم أجبر الشيخ بشير الحارثي على التراجع، وبالفعل تراجع الشيخ الحارثي وثواره بعد أن كبدوا الألمان ومناصريهم خسائر كبيرة، وفي هذا الصدد يشير "المغيري" إلى أن الشيخ "الحارثي" تمكن من قتل وأسر عدد كثير من الألمان".
وعمد الألمان إلى استدعاء المزيد من المساعدات العسكرية بقيادة "فون جرافتراوت"، حيث استطاع الألمان ومن انضم إلى هؤلاء من محاربي بعض القبائل الإفريقية الموجودة على الساحل تشتيت قوات الشيخ الحارثي، وتم قتل أعداد كبيرة من الثوار، وأخيراً تم القبض على الشيخ بشير مع مرافقيه العرب والبلوش.
ويصف د. تركي نهاية الشيخ بشير فيقول: "أعدم الشيخ بشير الحارثي في "فنجاني" شنقا، ودون محاكمة بعد ثلاثة أيام من القبض عليه"، ويشار إلى أن إعدام الشيخ بشير تم بمشهد من عموم الطوائف في بلدة فنجاني، ومن المرجح أنه تم القبض عليه في 12 ديسمبر وتم إعدامه في 15 ديسمبر 1889م في "فنجاني"، حيث دفن ولا يعرف على وجه التحديد لماذا أُبقي على الشيخ ثلاثة أيام بعد القبض عليه، ولماذا لم يحاكم حتى صوريا قبل شنقه؟ ويُقال إن بعض مستشاري الشيخ بشير قد نجح الألمان في تجنيدهم للتجسس عليه وتتبع حركاته، ويشير المغيري إلى أنه لا يستبعد أن يكونوا هم السبب في القبض عليه وتسليمه للألمان". ويعتقد "المغيري" أنه "لولا خداع المستشارين وخيانتهم لنجح في الفرار بنفسه والانتقال عبر البحر إلى سلطنة زنجبار العربية أو أية منطقة أخرى على غرار ما فعله الشيخ مبارك بن راشد المزروعي أحد الذين قادوا ثورة ضد الألمان في شرق إفريقيا".
خاتمة:
إن جملة دراسات د. بنيان تركي الإفريقية، ومنها حركة "الشيخ بشير الحارثي" وثورته ضد الألمان، إضافة حقيقية للمكتبة الخليجية حول منطقة شرق إفريقيا ذات الأهمية الخاصة في التاريخ السياسي والاقتصادي للدول الخليجية، وبخاصة التجارة البحرية وظاهرة الرق والروابط الاجتماعية بين عرب الخليج وسكان شرق إفريقيا، وفي مقدمتهم بالطبع العمانيون الذين استوطنوا هناك منذ قرون.
وقد شهدت هذه المنطقة الإفريقية في مراحل لاحقة بعد منتصف القرن العشرين ممارسات عدائية وأعمال عنف ضد التجار والأقليات العربية والهندية عموماً، ففي عام 1963 مثلاً قامت "ثورة زنجبار" الدموية، حيث قتل الآلاف من العرب والهنود، وتم طرد آلاف آخرين، ومصادرة أملاكهم، كما عادت زنجبار إلى الظهور في الأخبار العالمية عام 2001، من خلال المذابح التي تعرض لها المسلمون بعد انتخابات متنازع عليها.
وتثير حركة الشيخ بشير نفسها ضد الألمان، والأسباب التي عددها د. تركي، العديد من الأسئلة بخصوص نظرة الشيخ بشير الى تجارة الرق ومدى شرعيتها دينياً، وكذلك موقفه من حركة تحرير العبيد، رغم معارضة الملاك العرب المسلمين للمزارع ومن يعمل عليها من الأرقاء الأفارقة، وكذلك حقيقة الأسباب التي حركت الشيخ بشير ومؤيديه ضد السلطان خليفة والألمان.
إن شرق إفريقيا وزنجبار بحاجة إلى زيارات أخرى وبحوث من د. بنيان تركي وكل المهتمين بالشؤون الإفريقية.
.
No comments:
Post a Comment