دنيا الوطن
تاريخ النشر : 2010-01-14
" 1 "
في مقال سابق لي في الشبيبة بعنوان ( ليبرمان يزورأفريقيا بحذاء غولدا مائير ) تناولت مقالا كتبته يوسي ميلمان في صحيفة هاآرتس الإسرائيلية بتاريخ 7/8/2009 والتي أشار فيها أن القارة السوداء كانت في الستينيات أحد الأهداف الهامة للسياسة الخارجية الإسرائيلية حيث استطاعت إسرائيل أن تمول فيها أنشطة مختلفة مما أتاح لها توطيد الوجود الهام لممثلي الموساد في أرجاء القارة السوداء الذين خطوا خطواتهم الأولى عبر القارة حتى أصبحوا فيما بعد قادة للجهاز في إسرائيل وذكرمنهم على سبيل المثال دافيد كيمحي ورؤوفين مرحاف وناحوم أدموني
وقال يوسي ميلمان في مقاله ذلك إن الاعتبارالأمني كان مبررا لعناصر الموساد والمستشارين العسكريين في الجيش الاسرائيلي للتدخل في الشؤون الداخلية للأنظمة الافريقية حيث ترددت من خلال تقارير مختلفة أسماء ضباط الموساد كمتورطين في انقلابين على الأقل في كل من زنجبار وأوغندا وهما الإنقلابان اللذان أطاحا بالوجود العماني في الشرق الأفريقي وبنظام الرئيس الأوغندي المسلم عيدي أمين
إن هذه الإشارات الآن حول الدور الإسرائيلي في انقلابين وقعا في زنجبار وأوغندا تطرح تساؤلات كثيرة للمهتمين بالقارة الأفريقية وبالتاريخ العماني هناك ولعل أبرز سؤال مطروح خاصة من العمانيين هو لماذا لم يتدخل الرئيس جمال عبد الناصر ضد الإنقلابيين في زنجبار والذي حدث في مثل هذا اليوم 12/1/ 1964 ولماذا لم يتدخل لإيقاف المجزرة ضد العمانيين مما قد يفسر أنه كان موافقا عليها ، وفي حقيقة الأمر فإن كلاما كثيرا قيل في هذا الموضوع ومن حق الضحايا وأبنائهم أن يوجهوا الاتهامات كما فعل أحد الأصدقاء في جلسة عشاء عندما قال لي إنني أكره جمال عبد الناصر خاصة عندما علمت أنه وقف ضد العمانيين في انقلاب زنجبار ، لذا فمن حق الناس أن يعرفوا إجابة لذلك السؤال وهو لماذا لم يتدخل الرئيس جمال عبد الناصر ؟! وما حقيقة التدخل الإسرائيلي في ذلك الانقلاب ؟!
" 2 "
التحليل الأخير للقضية برمتها يشير إلى أن القيادة المصرية أخطأت التقدير في قضية الإنقلاب في زنجبار لأن القارة الأفريقية كانت ولا تزال تشكل أهمية استراتيجية في السياسة الإسرائيلية طوال ال62 عاما من إنشاء الكيان الصهيوني باعتبار أفريقيا تشكل عمقا أمنيا واستراتيجيا للوطن العربي ، وقد وقف الرئيس جمال عبد الناصر بالمرصاد ضد السياسات الإسرائيلية في أفريقيا واستطاع أن يوقف التغلغل الإسرائيلي في القارة بمواقفه الداعمة لحركات التحرر الأفريقية ولمواقفه المناهضة للإستعمار خاصة البريطاني وضيّق الخناق على إسرائيل في كل مكان اتباعا لسياسته المبنية على الدوائر الثلاث المصرية والعربية والأفريقية إلا أن الرئيس عبد الناصر في قضية زنجبار بالذات نجده وقد وقف ضد سياسته تلك بعد أن أثبتت الوثائق الآن أن إسرائيل طبقت السياسة نفسها بدعمها الإنقلابيين بهدف التضييق على مصر التي كانت على علاقة جيدة بحكومة زنجبار ، والمفارقة الآن أن إسرائيل هي التي تضيق الخناق على مصر وتتبع السياسة نفسها التي اتبعتها مصر في السابق ضدها
إن خطأ القيادة المصرية في قضية زنجبار يبدو واضحا فيما كتبه الأستاذ محمد فائق وهو مهندس العلاقات المصرية الأفريقية في كتابه ( عبد الناصر والثورة الأفريقية ) حيث يقول إن أجهزة الإعلام الغربية صورت الثورة أنها مقتل أمة عربية بل قال عنها الكثيرون إنها مذبحة المسلمين في زنجبار وكان الأمر أبعد ما يكون عن ذلك فجميع السكان من المسلمين وبالتالي لا يمكن لهذه الثورة أن تكون ضد المسلمين ولكنها في حقيقة الأمر كانت ثورة اجتماعية ، ثورة ضد السلطان والطبقة الحاكمة التي تراكمت في يدها ثروة البلاد وكانت هذه الطبقة التي قامت ضدها الثورة تتكون في معظمها من العرب فالسلطان من أصل عربي منذ بسطت عمان في عهد أسرة اليعاربة سيطرتها على الجزيرة أوائل الثلاثينيات من القرن الثامن عشر بعد أن خلصتها من الحكم البرتغالي وأن سيطرة القلة الحاكمة التي كانت تزهو بأصلها العربي من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى ظهور الأفروشيرازية كانتماء وأصل جذب الأغلبية العظمى لمواجهة هذه القلة
ويقول محمد فائق رغم إدراك القاهرة للأبعاد الإجتماعية لثورة زنجبار منذ البداية إلا أنها كانت قلقة خشية أن تتجاوز الثورة هذه الأبعاد فتتحول إلى كراهية واضطهاد تنتقل من الجزيرة إلى الساحل الأفريقي ضد كل ما هو عربي خاصة أن معظم إذاعات الدول العربية كانت قد بدأت حملة من الهجوم الشديد على الثورة في الوقت الذي كانت المشاعر الأفريقية في دول الساحل تؤيدها وتباركها لذا رأى الرئيس عبد الناصر - كما يقول مستشاره للشؤون الأفريقية محمد فائق - رأى أن اعتراف مصر السريع بثورة زنجبار من شأنه أن يضع حدا لعمليات القتل والإضطهاد ضد العناصر القديمة في زنجبار كما أنه يعطي فرصة للثورة لكي تؤكد بُعدها الإجتماعي وتكشف عنه فتعمل على وقف حملة الكراهية ضد العرب
والأستاذ محمد فائق لا يكتفي بتقديم مبرر تأييد القيادة المصرية للثورة بل يقول إن من نتائج ثورة زنجباراتحاد الجزيرة مع تنجانيكا في دولة جديدة هي تنزانيا حيث أيدت مصر هذا الاتحاد الذي رأى فيه البعض اختفاء دولة عربية إسلامية فيما كان رأينا أن الاتحاد سيعمل على زيادة نفوذ المسلمين في شرق أفريقيا لأن تعداد المسلمين في تنجانيكا يفوق تعدادهم في زنجبار كلها ولكن تأثيرهم كان محدودا لتخلف مستواهم الثقافي ، وهكذا بعد أن كان الإسلام في منطقة شرق أفريقيا محصورا في دويلات صغيرة لم يتعد عدد سكانها المليون نسمة تحيطها دول تتربص بها وتخشى نفوذها الإسلامي في المنطقة حيث تنتشر الأقليات المسلمة أصبح تأثير الإسلام ونفوذه عظيما في دولة أكبر تعدادا قادرة بدورها على التأثير في منطقتها وفي أفريقيا كلها وقد انعكس ذلك بالتالي على العلاقة الوثيقة التي نشأت بعد ذلك بين الرئيس عبد الناصر والرئيس جوليوس نيريري رئيس تنزانيا وتوثقت الروابط بين البلدين إلى حد بعيد
إن المبررات التي قدمها الأستاذ محمد فائق لتأييد مصر للثورة في زنجبار غير مقنعة لكنه مع ذلك يذكر عبارة غريبة في نهاية حديثه عن زنجبار إذ يقول هكذا نجد أن ثورة زنجبار كانت ثورة في صالح الإسلام والمسلمين وفي صالح العرب وأصبح لهذه الثورة تأثير عظيم في الدولة الجديدة !!
" 3 "
في كتابه ( زنجبار – شخصيات وأحداث ) تناول ناصر بن عبد الله الريامي مصلحة بريطانيا في سقوط الحكم العماني في زنجبار كما تناول أيضا التدخل الإسرائيلي في دعم الإنقلابيين وقدم معلومات قيمة حول ذلك وهي المعلومات التي أشار إليها الصحفي الإسرائيلي يوسي ميلمان في مقاله المشار إليه كما أن ناصر فند بعض الآراء التي قالها الأستاذ محمد فائق سواء في كتابه عن عبد الناصر والثورة الأفريقية أو في لقائه معه في القاهرة وهو يعد لمادة كتابه زنجبار – شخصيات وأحداث ، وقد سأل محمد فايق ناصر الريامي كم كان عدد العمانيين في زنجبار ، 50 ألفا ؟ فهل كان لنا أن نضحي بمصالحنا كلها في القارة في سبيل 50 ألف شخص فقط ؟ وبما الطبعة الثانية من كتاب زنجبار شخصيات وأحداث قد صدرت وهي موجودة الآن في المكتبات وبما أن مقالي لا يتسع لسرد تحليله حول الواقعة سأكتفي بأفكار رئيسية فقط حيث يذكر ناصر الريامي في كتابه ص 448 أن المراقب لمجمل الظروف والأحوال التي مرت بها القارة الأفريقية في تلك الفترة سيخرج بخلاصة مؤداها أن عبد الناصر ما كان في وضع يسمح له بالتدخل ، ويستخلص هذا مما قاله محمد فايق من أنه كانت هناك محاولة استعمارية خبيثة لإبعاد عرب أفريقيا ومصر تحديدا عن أي نوع من التضامن أو الوحدة الأفريقية ومن ذلك برزت فكرة تقسيم القارة بواسطة الصحراء ليصبح شمالها عربيا وجنوبها أفريقيا ، وبفشل هذه المحاولة برزت فكرة العنصرية العربية الأفريقية كمرتع خصب لتشويه صورة العرب في القارة وإثارة الكراهية ضدهم ، وعلى كل حال كما يقول فائق فإن أي تدخل مصري لإنقاذ الحكومة الشرعية من السقوط كان من الممكن أن يؤدي إلى توسيع نطاق المذبحة لتصل إلى البر الأفريقي وهذا هو الهاجس الذي عملت الإدارة المصرية على تحاشيه وإن سرعة الأحداث لم تترك لهم سوى مجال التدخل الدبلوماسي الذي استهدفوا من ورائه حسب قوله إيقاف المذبحة العرقية والمحافظة على حياة رموز الحكومة السابقة
وإذا ما أخذنا الوضع المتقدم في الاعتبار سنجد – والكلام لناصر – أن أي نوع من التدخل من جانب عبد الناصر مهما بلغت ضآلته لنصرة حكومة عربية من السقوط وسط القارة السمراء كان سينظر إليه بمنظور عنصري مجرد ، ويبدو أن عبد الناصر كان في موقف حرج ووجد نفسه مضطرا إلى وزن قضية زنجبار من ميزان المصالح السياسية فوضع تأييد النفوذ العربي في زنجبار في كفة ووضع في الكفة الأخرى علاقة مصر بالشعوب الأفريقية السمراء فرجحت الأخيرة وتلك هي لعبة السياسة ، ومن ذلك مثلا أن الرئيس جمال عبد الناصر رأى أن الصراع مع إسرائيل قد بلغ أشده ووجد أن ارتباط مصر بالدول الأفريقية في منظمة سياسية واحدة من شأنه إعطاء مصر ميزة هامة في التغلب على إسرائيل يمكن استغلال هذه الميزة في مقاومة التوسع الإسرائيلي في القارة الأفريقية ، ثم إن هناك شيئا آخر هو أن الجيش المصري كان يعاني ما يعانيه في اليمن وهذا بدوره جعل القيادة المصرية في موقف صعب آخر
" 4 "
أيا ما كان فإن الرئيس جمال عبد الناصر كان مخطئا في موقفه من الانقلاب الذي وقع في زنجبار ولا أقول هذا الكلام لأني عماني بل إن الوقائع تثبت ذلك ، فإذا كان هو يريد أن يحجّم إسرائيل في القارة الأفريقية فإن إسرائيل تعاملت مع مصر بالسياسة نفسها خاصة في زنجبار وكان الخطأ الذي وقع فيه عبد الناصرهو أنه استمع إلى آراء مستشاريه وخاصة محمد فائق كما أنه استمع أيضا إلى رأي الرئيس الجزائري أحمد بن بيللا الذي اجتمع معه في القاهرة في يوم الانقلاب نفسه وأثناه عن أي تدخل محتمل باعتبار أن الانقلاب إنما هو انقلاب يقوده راديكاليون عرب ضد الوضع الاجتماعي هناك وضد حكومة موالية للإنجليز ، ولم يكن معلوما أن إسرائيل قد لعبت لعبتها هناك وذلك ما سنتاوله إن شاء المولى في مقال لاحق يوما مّا
في ظني المتواضع أنه كان يمكن للرئيس عبد الناصر أن يوقف المذبحة برفع سماعة الهاتف فقط إلى الرئيس نيريري ولكنه لم يفعل ونيريري من المهندسين الكبار الذين تولوا عملية التحضير للإطاحة بكل ما هو عماني في الشرق الأفريقي
إن مشكلة الرئيس جمال عبد الناصر أن أخطاءه كبيرة بحجمه وكلما كان الثوب ناصع البياض كانت البقعة السوداء فيه أكثر ظهورا ، فلو أننا فرضنا أنه تدخل في زنجبار وفشل التدخل كان هناك من سيلومه مدى الدهر وقد يتساءل لماذا التدخل في زنجبار وهي بعيدة عنا ، وحتى لو فرضنا أنه نجح في ذلك التدخل فإن هناك من كان سيقول وما هي الفائدة التي جنيناها من ذلك التدخل ؟! وهذا هو قدر الرئيس جمال عبد الناصر في كل قراراته سواء التي أصاب فيها أو أخطأ ...!
في مقال سابق لي في الشبيبة بعنوان ( ليبرمان يزورأفريقيا بحذاء غولدا مائير ) تناولت مقالا كتبته يوسي ميلمان في صحيفة هاآرتس الإسرائيلية بتاريخ 7/8/2009 والتي أشار فيها أن القارة السوداء كانت في الستينيات أحد الأهداف الهامة للسياسة الخارجية الإسرائيلية حيث استطاعت إسرائيل أن تمول فيها أنشطة مختلفة مما أتاح لها توطيد الوجود الهام لممثلي الموساد في أرجاء القارة السوداء الذين خطوا خطواتهم الأولى عبر القارة حتى أصبحوا فيما بعد قادة للجهاز في إسرائيل وذكرمنهم على سبيل المثال دافيد كيمحي ورؤوفين مرحاف وناحوم أدموني
وقال يوسي ميلمان في مقاله ذلك إن الاعتبارالأمني كان مبررا لعناصر الموساد والمستشارين العسكريين في الجيش الاسرائيلي للتدخل في الشؤون الداخلية للأنظمة الافريقية حيث ترددت من خلال تقارير مختلفة أسماء ضباط الموساد كمتورطين في انقلابين على الأقل في كل من زنجبار وأوغندا وهما الإنقلابان اللذان أطاحا بالوجود العماني في الشرق الأفريقي وبنظام الرئيس الأوغندي المسلم عيدي أمين
إن هذه الإشارات الآن حول الدور الإسرائيلي في انقلابين وقعا في زنجبار وأوغندا تطرح تساؤلات كثيرة للمهتمين بالقارة الأفريقية وبالتاريخ العماني هناك ولعل أبرز سؤال مطروح خاصة من العمانيين هو لماذا لم يتدخل الرئيس جمال عبد الناصر ضد الإنقلابيين في زنجبار والذي حدث في مثل هذا اليوم 12/1/ 1964 ولماذا لم يتدخل لإيقاف المجزرة ضد العمانيين مما قد يفسر أنه كان موافقا عليها ، وفي حقيقة الأمر فإن كلاما كثيرا قيل في هذا الموضوع ومن حق الضحايا وأبنائهم أن يوجهوا الاتهامات كما فعل أحد الأصدقاء في جلسة عشاء عندما قال لي إنني أكره جمال عبد الناصر خاصة عندما علمت أنه وقف ضد العمانيين في انقلاب زنجبار ، لذا فمن حق الناس أن يعرفوا إجابة لذلك السؤال وهو لماذا لم يتدخل الرئيس جمال عبد الناصر ؟! وما حقيقة التدخل الإسرائيلي في ذلك الانقلاب ؟!
" 2 "
التحليل الأخير للقضية برمتها يشير إلى أن القيادة المصرية أخطأت التقدير في قضية الإنقلاب في زنجبار لأن القارة الأفريقية كانت ولا تزال تشكل أهمية استراتيجية في السياسة الإسرائيلية طوال ال62 عاما من إنشاء الكيان الصهيوني باعتبار أفريقيا تشكل عمقا أمنيا واستراتيجيا للوطن العربي ، وقد وقف الرئيس جمال عبد الناصر بالمرصاد ضد السياسات الإسرائيلية في أفريقيا واستطاع أن يوقف التغلغل الإسرائيلي في القارة بمواقفه الداعمة لحركات التحرر الأفريقية ولمواقفه المناهضة للإستعمار خاصة البريطاني وضيّق الخناق على إسرائيل في كل مكان اتباعا لسياسته المبنية على الدوائر الثلاث المصرية والعربية والأفريقية إلا أن الرئيس عبد الناصر في قضية زنجبار بالذات نجده وقد وقف ضد سياسته تلك بعد أن أثبتت الوثائق الآن أن إسرائيل طبقت السياسة نفسها بدعمها الإنقلابيين بهدف التضييق على مصر التي كانت على علاقة جيدة بحكومة زنجبار ، والمفارقة الآن أن إسرائيل هي التي تضيق الخناق على مصر وتتبع السياسة نفسها التي اتبعتها مصر في السابق ضدها
إن خطأ القيادة المصرية في قضية زنجبار يبدو واضحا فيما كتبه الأستاذ محمد فائق وهو مهندس العلاقات المصرية الأفريقية في كتابه ( عبد الناصر والثورة الأفريقية ) حيث يقول إن أجهزة الإعلام الغربية صورت الثورة أنها مقتل أمة عربية بل قال عنها الكثيرون إنها مذبحة المسلمين في زنجبار وكان الأمر أبعد ما يكون عن ذلك فجميع السكان من المسلمين وبالتالي لا يمكن لهذه الثورة أن تكون ضد المسلمين ولكنها في حقيقة الأمر كانت ثورة اجتماعية ، ثورة ضد السلطان والطبقة الحاكمة التي تراكمت في يدها ثروة البلاد وكانت هذه الطبقة التي قامت ضدها الثورة تتكون في معظمها من العرب فالسلطان من أصل عربي منذ بسطت عمان في عهد أسرة اليعاربة سيطرتها على الجزيرة أوائل الثلاثينيات من القرن الثامن عشر بعد أن خلصتها من الحكم البرتغالي وأن سيطرة القلة الحاكمة التي كانت تزهو بأصلها العربي من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى ظهور الأفروشيرازية كانتماء وأصل جذب الأغلبية العظمى لمواجهة هذه القلة
ويقول محمد فائق رغم إدراك القاهرة للأبعاد الإجتماعية لثورة زنجبار منذ البداية إلا أنها كانت قلقة خشية أن تتجاوز الثورة هذه الأبعاد فتتحول إلى كراهية واضطهاد تنتقل من الجزيرة إلى الساحل الأفريقي ضد كل ما هو عربي خاصة أن معظم إذاعات الدول العربية كانت قد بدأت حملة من الهجوم الشديد على الثورة في الوقت الذي كانت المشاعر الأفريقية في دول الساحل تؤيدها وتباركها لذا رأى الرئيس عبد الناصر - كما يقول مستشاره للشؤون الأفريقية محمد فائق - رأى أن اعتراف مصر السريع بثورة زنجبار من شأنه أن يضع حدا لعمليات القتل والإضطهاد ضد العناصر القديمة في زنجبار كما أنه يعطي فرصة للثورة لكي تؤكد بُعدها الإجتماعي وتكشف عنه فتعمل على وقف حملة الكراهية ضد العرب
والأستاذ محمد فائق لا يكتفي بتقديم مبرر تأييد القيادة المصرية للثورة بل يقول إن من نتائج ثورة زنجباراتحاد الجزيرة مع تنجانيكا في دولة جديدة هي تنزانيا حيث أيدت مصر هذا الاتحاد الذي رأى فيه البعض اختفاء دولة عربية إسلامية فيما كان رأينا أن الاتحاد سيعمل على زيادة نفوذ المسلمين في شرق أفريقيا لأن تعداد المسلمين في تنجانيكا يفوق تعدادهم في زنجبار كلها ولكن تأثيرهم كان محدودا لتخلف مستواهم الثقافي ، وهكذا بعد أن كان الإسلام في منطقة شرق أفريقيا محصورا في دويلات صغيرة لم يتعد عدد سكانها المليون نسمة تحيطها دول تتربص بها وتخشى نفوذها الإسلامي في المنطقة حيث تنتشر الأقليات المسلمة أصبح تأثير الإسلام ونفوذه عظيما في دولة أكبر تعدادا قادرة بدورها على التأثير في منطقتها وفي أفريقيا كلها وقد انعكس ذلك بالتالي على العلاقة الوثيقة التي نشأت بعد ذلك بين الرئيس عبد الناصر والرئيس جوليوس نيريري رئيس تنزانيا وتوثقت الروابط بين البلدين إلى حد بعيد
إن المبررات التي قدمها الأستاذ محمد فائق لتأييد مصر للثورة في زنجبار غير مقنعة لكنه مع ذلك يذكر عبارة غريبة في نهاية حديثه عن زنجبار إذ يقول هكذا نجد أن ثورة زنجبار كانت ثورة في صالح الإسلام والمسلمين وفي صالح العرب وأصبح لهذه الثورة تأثير عظيم في الدولة الجديدة !!
" 3 "
في كتابه ( زنجبار – شخصيات وأحداث ) تناول ناصر بن عبد الله الريامي مصلحة بريطانيا في سقوط الحكم العماني في زنجبار كما تناول أيضا التدخل الإسرائيلي في دعم الإنقلابيين وقدم معلومات قيمة حول ذلك وهي المعلومات التي أشار إليها الصحفي الإسرائيلي يوسي ميلمان في مقاله المشار إليه كما أن ناصر فند بعض الآراء التي قالها الأستاذ محمد فائق سواء في كتابه عن عبد الناصر والثورة الأفريقية أو في لقائه معه في القاهرة وهو يعد لمادة كتابه زنجبار – شخصيات وأحداث ، وقد سأل محمد فايق ناصر الريامي كم كان عدد العمانيين في زنجبار ، 50 ألفا ؟ فهل كان لنا أن نضحي بمصالحنا كلها في القارة في سبيل 50 ألف شخص فقط ؟ وبما الطبعة الثانية من كتاب زنجبار شخصيات وأحداث قد صدرت وهي موجودة الآن في المكتبات وبما أن مقالي لا يتسع لسرد تحليله حول الواقعة سأكتفي بأفكار رئيسية فقط حيث يذكر ناصر الريامي في كتابه ص 448 أن المراقب لمجمل الظروف والأحوال التي مرت بها القارة الأفريقية في تلك الفترة سيخرج بخلاصة مؤداها أن عبد الناصر ما كان في وضع يسمح له بالتدخل ، ويستخلص هذا مما قاله محمد فايق من أنه كانت هناك محاولة استعمارية خبيثة لإبعاد عرب أفريقيا ومصر تحديدا عن أي نوع من التضامن أو الوحدة الأفريقية ومن ذلك برزت فكرة تقسيم القارة بواسطة الصحراء ليصبح شمالها عربيا وجنوبها أفريقيا ، وبفشل هذه المحاولة برزت فكرة العنصرية العربية الأفريقية كمرتع خصب لتشويه صورة العرب في القارة وإثارة الكراهية ضدهم ، وعلى كل حال كما يقول فائق فإن أي تدخل مصري لإنقاذ الحكومة الشرعية من السقوط كان من الممكن أن يؤدي إلى توسيع نطاق المذبحة لتصل إلى البر الأفريقي وهذا هو الهاجس الذي عملت الإدارة المصرية على تحاشيه وإن سرعة الأحداث لم تترك لهم سوى مجال التدخل الدبلوماسي الذي استهدفوا من ورائه حسب قوله إيقاف المذبحة العرقية والمحافظة على حياة رموز الحكومة السابقة
وإذا ما أخذنا الوضع المتقدم في الاعتبار سنجد – والكلام لناصر – أن أي نوع من التدخل من جانب عبد الناصر مهما بلغت ضآلته لنصرة حكومة عربية من السقوط وسط القارة السمراء كان سينظر إليه بمنظور عنصري مجرد ، ويبدو أن عبد الناصر كان في موقف حرج ووجد نفسه مضطرا إلى وزن قضية زنجبار من ميزان المصالح السياسية فوضع تأييد النفوذ العربي في زنجبار في كفة ووضع في الكفة الأخرى علاقة مصر بالشعوب الأفريقية السمراء فرجحت الأخيرة وتلك هي لعبة السياسة ، ومن ذلك مثلا أن الرئيس جمال عبد الناصر رأى أن الصراع مع إسرائيل قد بلغ أشده ووجد أن ارتباط مصر بالدول الأفريقية في منظمة سياسية واحدة من شأنه إعطاء مصر ميزة هامة في التغلب على إسرائيل يمكن استغلال هذه الميزة في مقاومة التوسع الإسرائيلي في القارة الأفريقية ، ثم إن هناك شيئا آخر هو أن الجيش المصري كان يعاني ما يعانيه في اليمن وهذا بدوره جعل القيادة المصرية في موقف صعب آخر
" 4 "
أيا ما كان فإن الرئيس جمال عبد الناصر كان مخطئا في موقفه من الانقلاب الذي وقع في زنجبار ولا أقول هذا الكلام لأني عماني بل إن الوقائع تثبت ذلك ، فإذا كان هو يريد أن يحجّم إسرائيل في القارة الأفريقية فإن إسرائيل تعاملت مع مصر بالسياسة نفسها خاصة في زنجبار وكان الخطأ الذي وقع فيه عبد الناصرهو أنه استمع إلى آراء مستشاريه وخاصة محمد فائق كما أنه استمع أيضا إلى رأي الرئيس الجزائري أحمد بن بيللا الذي اجتمع معه في القاهرة في يوم الانقلاب نفسه وأثناه عن أي تدخل محتمل باعتبار أن الانقلاب إنما هو انقلاب يقوده راديكاليون عرب ضد الوضع الاجتماعي هناك وضد حكومة موالية للإنجليز ، ولم يكن معلوما أن إسرائيل قد لعبت لعبتها هناك وذلك ما سنتاوله إن شاء المولى في مقال لاحق يوما مّا
في ظني المتواضع أنه كان يمكن للرئيس عبد الناصر أن يوقف المذبحة برفع سماعة الهاتف فقط إلى الرئيس نيريري ولكنه لم يفعل ونيريري من المهندسين الكبار الذين تولوا عملية التحضير للإطاحة بكل ما هو عماني في الشرق الأفريقي
إن مشكلة الرئيس جمال عبد الناصر أن أخطاءه كبيرة بحجمه وكلما كان الثوب ناصع البياض كانت البقعة السوداء فيه أكثر ظهورا ، فلو أننا فرضنا أنه تدخل في زنجبار وفشل التدخل كان هناك من سيلومه مدى الدهر وقد يتساءل لماذا التدخل في زنجبار وهي بعيدة عنا ، وحتى لو فرضنا أنه نجح في ذلك التدخل فإن هناك من كان سيقول وما هي الفائدة التي جنيناها من ذلك التدخل ؟! وهذا هو قدر الرئيس جمال عبد الناصر في كل قراراته سواء التي أصاب فيها أو أخطأ ...!
No comments:
Post a Comment