موروني- سيف المعولي
كنت أرقبه من البعيد، شيءٌ ما في داخلي يخبرني بأنه ليس بغريب، شيءٌ في داخلي يدفعني للذهاب إليه، كان فضولي يسبقني لرجل لا أعرفه، لكن رأيت فيه ملامح أحد كبار السن الذين كنت أزورهم قبل أن توافيه المنية، كان بالنسبة لي الفاصل الزمني بين الماضي والمستقبل، واليوم أرى نسخة منه تقف على مقربة مني، يدفعني الشغف للتعرف عليه، حتى قادتني قدماي دون أن أدري لأجدني أمامه. يسكنني الصمت تمتم لي بكلمات بسيطة مخنوقة: “نصفي عُماني ونصفي الآخر قمري”..بهذه العبارة استوقفني رجلٌ في جزر القمر يلبس الدشداشة العُمانية ويعتمِر كمة نُقِش عليها عبارات بالخط العربي. لكنته ولسانه وبعض كلماته توحي بانتمائه إلى إحدى ولايات السلطنة، ومن الوهلة الأولى التي حطت عيناي عليه، كنت أرى في وجهه تلك الشقوق العميقة التي تحكي عمرا من الزمن.
وتتوقف عقارب ساعتي عندما بدأ التمتمة بأن انتماءه هو لعُمان ذلك البلد التي لا أستبدله بأي وطن آخر.
إنه عبدالله ودعان -هكذا يُطلَق عليه كما أخبرني- الذي اقتربت منه لأعرف حكايته، فرحّب بابتسامته، وعباراته التي تؤكد جريان الدم العُماني في عروقه، وسرد قصته لـ “أثير”.
حكايته تعود إلى فترة تقترب من المائة عام حيث خرج رجل عُماني من جزر القمر عائدا إلى السلطنة وتحديدا إلى ولاية صور، تاركًا خلفه زوجته وهي حامل، لأسباب قال عنها عبدالله ودعان إن أخواله في صور استدعوا جده للرجوع إليهم.
تميّز الجد بأن ضميره الحي -كما يصفه حفيده- جعله يُخبِر أبناءه في صور بأن لهم أختا في أفريقيا وأن عليهم البحث عنها، والمميز أيضا أن أبناءه تاقوا إلى لقاء أختهم فقاموا بالبحث المضني عنها عبر خطابات كثيرة أرسلوها إلى أفريقيا لكنها ضلت الطريق إلى جزر القمر بسبب كتابة مدغشقر على العنوان ظانين بأن مدغشقر وجزر القمر هي بلاد واحدة.
في الجانب الآخر من الحكاية هناك أحداث درامية جرت منذ ولادة أم عبدالله (شيخة) ، إذ رفض أهلها الذين تربت معهم في جزر القمر تزويجها لغير ذوي الأصول العربية خوفا من اختلاط الدم العربي بالدم الأفريقي، حتى جاء رجل أصله يمني من حضرموت فارتبط بها، وأنجبت منه أولادا من بينهم عبدالله ودعان راوي هذه الحكاية.
ظل طرفا الحكاية يسيران نحو اللقاء، خصوصا من قبل أخوال عبدالله الذين استمرت رسائلهم في المجيء إلى أفريقيا حتى سقط اسم “مدغشقر” من أحدها فعرفت طريقها هذه المرة إلى جزر القمر، لتصل إلى شيخة وعائلتها وابنها عبدالله فانتعش الأمل لديهم بعدما ظن الجميع “ألا تلاقيا”.
عبدالله لم يكن يُجيد العربية جيدا فحصل على منحة من المملكة العربية السعودية للدراسة فذهب إلى هناك ودرس الثانوية ثم التحق بالجامعة في تخصص إدارة الأعمال. لباسه (الدشداشة العمانية والكمة) جعل الطلاب العمانيين في الجامعة نفسها يتساءلون عنه، حتى كشف لهم ذات يوم عن قصته التي جعلت أحدهم ( جمعة) يكون حلقة الوصل لترتيب اللقاء بين عبدالله وخاله الأكبر.
يقول عبدالله عن هذه اللحظات: “استقبلت خالي الذي جاءني إلى جدة بفرح كبير، وقد كتبت إلى أمي في جزر القمر عن هذا اللقاء وأرسلت لها الصور عن ذلك ففرحت فرحا كبيرا”.
أحداث الحكاية ظلت تتوالى لكنّ فصولها لم تكتمل بلقاءٍ بين الأخت وأشقائها بعد ، حتى تخرّج عبدالله من الجامعة وعمِل في بنك التنمية الإسلامي في جدة، فقرر الرجوع إلى جزر القمر وأخذ أمه إلى صور العفية بالتنسيق مع خاله الأكبر.
اللقاء الكبير الذي صاحبه بكاء فرح وسرور كان في بداية تسعينيات القرن الماضي حيث أخذ عبدالله أمه إلى صور. يصف عبدالله هذه اللحظات قائلا: استقبلونا من المطار، في موكب يتجاوز الخمس سيارات، أصروا علينا الذهاب إلى صور رغم بيوتهم الموجودة في مسقط، ذهبنا من الطريق القديم واستمرت رحلتنا حوالي 7 ساعات، لكن مشقة الطريق تلاشت واختفت من الاستقبال الكبير والبهيج الذي حصلنا عليه في صور؛ كانوا يتنافسون في إكرامنا، ويُكثرون من العزائم التي لا تخلوا من “الذبيحة” في كل مرة”. رأينا “شيخة” أخرى لديهم، حيث وجدنا إحدى بنات خالي “نسخة طبق الأصل” من أمي في الاسم والشكل”.
الفصول لم تنتهِ، واللقاء الكبير فتح المجال للقاءات متواصلة يحكي بعضها عبدالله ودعان قائلا لـ”أثير”: لم يتحمل خالي رجوعنا من صور، إذ جاء مشتاقا إلى رؤية أخته في جزر القمر هو وزوجته بعد مجيئنا بحوالي أسبوعين، وتوالت الزيارات بيننا، إلى وقتنا الحالي، نحن نذهب إليهم وهم يأتون إلينا”.
عبدالله ودعان الذي يفتخر بأصله العُماني أصبح الآن رجل أعمال معروفا في جزر القمر حيث يمتهن “المقاولات”، وله تواصلٌ مع شخصيات معروفة في دول الخليج، وقصته ألهمته لمساعدة آخرين يبحثون أن تكتمل حكاياتهم مع أصولهم العُمانية والعربية، التي غيّبتها الأحداث المتتالية، أو غيّبها “الضمير الإنساني” ذات زمن، فهل سينجح في ذلك؟
No comments:
Post a Comment