زاهر بن حارث المحروقي
جريدة عمان، 23 يناير 2022
كثيرًا ما يطرح العمانيون مسألة عدم تدخّل الرئيس جمال عبد الناصر عسكريًا في أحداث زنجبار، في الثاني عشر من يناير عام 1964، التي أنهت الحكم العماني لتلك الجزيرة. ويكاد الكلام يتكرّر سنويًا مع ذكرى الانقلاب الذي يسمّيه البعض "ثورة"، وأحيانًا يتجاوز الأمر التساؤلات إلى توجيه التهم جزافًا لعبد الناصر، كأنّه وراء الانقلاب. وحقيقةً فإنّ عبد الناصر اهتم بعرب زنجبار، وأنشأ لهم "بيت شرق أفريقيا" في القاهرة عام 1959، ضمّ أكثر من أربعين شابًا وشابةً، بعد مقابلته للراحل علي بن محسن البرواني زعيم الحزب الوطني الزنجباري، وأرسل بعثة تعليمية إلى زنجبار، وشاركت مصر في احتفالات زنجبار بمناسبة الاستقلال عن بريطانيا، بوفد كبير ضمّ أكثر من مئة عضو يمثلون كلّ الأطياف، برئاسة أنور السادات. وينقل حلمي شعراوي الذي كان مشرفًا اجتماعيًا على "بيت شرق أفريقيا" وعمل في الشؤون الأفريقية بمكتب الرئيس عبد الناصر من عام 1960، في مقال لجريدة "الاتحاد" الإماراتية تحت عنوان "ذكرياتي عن شعب وثورة زنجبار" عدد 27 مايو 2014، عن البرواني، أنه حكى له بعد المقابلة أنه حدّث عبد الناصر عن أحوال شعب زنجبار مع الاستعمار الإنجليزي، و”حتى عن ظلم العائلات العربية الإقطاعية للأفارقة، وضعف قيمة السلطان العربي، ناهيك عن أوضاع الأفارقة الأصليين؛ فتأثّر عبد الناصر تأثرًا عاطفيًا شديدًا. وأنا أعتقدُ أنّ هذه العبارة توضّح كيف جرت الأمور فيما بعد. المهم أنه تشكّل “لوبي” في مصر مؤيد لزنجبار من شخصيات في العمل العام وأساتذة في الجامعة وبعض رجال التعليم، إلى جانب شعراوي نفسه وحماس محمد فايق مستشار عبد الناصر للشؤون الأفريقية، إضافة إلى بعض الأزهريين، وكان هذا اللوبي حسب شعراوي "يصُبّ في خانة عروبة زنجبار وأهميتها في شرق أفريقيا، إذا اهتممنا بدعم أفارقة زنجبار مثل عربهم، لأنّ صورة زنجبار بسلطان عُماني الأصل لم تلق ترحيبًا لدى كلّ عناصر اللوبي المذكور... كانت العائلات العربية بادية التسلط على المجالس المحلية وزراعة وتجارة القرنفل على السواء"، ويقول شعراوي “لقد شعرتُ كثيرًا أنّ علي محسن البرواني نفسه يريد التخلص من هذا العبء، وإنه تبادل هذا الشعور مع عبد الناصر، وإنه يريد ذلك بالتوافق لا بالاتجاه يسارًا". في هذه الفقرة يقدّم حلمي شعراوي صورة لعلي محسن، بأنه كان متذمرًا من ظلم العائلات العربية الإقطاعية للأفارقة، وعن ضعف قيمة السلطان العربي، بل يصل إلى نتيجة هي أنه شعر بأنّ علي محسن نفسه يريد التخلص من هذا العبء؛ وفي كتاب "الصراعات والوئام في زنجبار" لعلي محسن البرواني، يذكر لقاءه بعبد الناصر وانطباعه الجيد عن اللقاء وعن المكاسب التي حقّقها، ولا يشير من قريب أو بعيد إلى ما ذهب إليه شعراوي. وأذكر أني تواصلتُ مع السفير مبارك بن خلفان ناجم الصباحي الذي كان رئيس اتحاد طلبة زنجبار في القاهرة، وأحد الذين عايشوا الانقلاب، فقال إنّ فكر علي محسن كان قائمًا أساسًا على أن يشارك العرب في زنجبار في أيّ انتخابات تقام هناك كمواطنين زنجباريين وليسوا كعرقية عربية، حتى لا تبدو المسألة كأنها صراعٌ عرقي، وهو الذي أشار إليه حلمي شعراوي عندما قال إنّ علي محسن لجأ إلى نمط التوازن بتحالفه مع حزب “الأفروشيرازي”، بعدما أصبحت زنجبار عام 1962، وقبل الاستقلال بشهور تمثل عند زعماء شرق أفريقيا التقليديين أحد احتمالين؛ إما قنبلة عروبية ناصرية، أو قنبلة ماركسية ماوية.. وكلاهما مُر، لكن الذي حدث في يناير 1964 أن انفجرت القنبلة العنصرية أو العرقية (أفارقة - عرب).
أما عن حادثة الانقلاب فيحكي عنها شعراوي أنه في 12 يناير 1964، وبعد إقامة السفير أحمد اللمكي سفير زنجبار في القاهرة لبضعة أسابيع، رنّ الهاتف في منزله حوالي الواحدة صباحًا، فكان اللمكي يطلب منه الذهاب معه حالًا لمحمد فايق ليقابله بعبد الناصر، لطلب تدخله العسكري فورًا ضد الانقلاب، وضرورة حماية العرب من المذابح التي يتعرضون لها هناك. ويقول شعراوي إنّ فايق استبعد أن يوقظ عبد الناصر في تلك الساعة، فأخذ في تهدئة اللمكي، الذي أشار إلى أنّ قوات مصر في اليمن قريبة وتستطيع الوصول إلى زنجبار بسرعة. ويعلق شعراوي أنّ ذلك كان مستحيلاً، "لأننا كنّا أقمنا منظمة الوحدة الأفريقية، ونستعد لاستقبال مؤتمر قمّتها الأول في مايو1964، ونقرّ مبدأ عدم التدخل، وأخيرًا فإنّ مأزقنا في اليمن بات معروفًا.. فلا سبيل إلا التدخل الدبلوماسي". ويدافع حلمي شعراوي عن الموقف المصري، ويرى أنه لم يُفهم لسنوات، لأنّ ما شاع عقب الانقلاب هي قصصٌ وحكاياتٌ وأوهام، وأنّ هناك باحثين عربًا يثيرون التساؤل إلى الآن عن الدور المصري، أحدهم "ناصر الريامي"، الذي صحبه منذ عدة سنوات إلى محمد فايق شخصيًا لمعرفة الحقيقة.
بعيدًا عن العواطف نقول لم يكن بإمكان عبد الناصر أن يتدخّل عسكريًا في زنجبار، لأنّ الجيش المصري كان في مأزق في اليمن، ولم يكن عبد الناصر في وضع يسمح له بفتح جبهة قتال جديدة وهو غرقانٌ أصلا؛ ومن هنا فإنه اعتمد نصيحة مستشاره للشؤون الأفريقية محمد فائق، الذي أقنعه بأنّ ما حدث في زنجبار هو "ثورة اجتماعية ضد السلطان والطبقة الحاكمة التي تراكمت في يدها ثروة البلاد، وتتكون في معظمها من العرب، وأنّ سيطرة القلة الحاكمة التي كانت تزهو بأصلها العربي، من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى ظهور "الأفروشيرازية" كانتماء وأصل جذب الأغلبية العظمى لمواجهة هذه القلة"، وكانت نصيحة فائق، مثلما ذكر في كتابه "عبد الناصر والثورة الأفريقية"، هي أنّ "اعتراف مصر السريع بثورة زنجبار، من شأنه أن يضع حدًا لعمليات القتل والاضطهاد ضد العناصر القديمة في زنجبار، كما أنه يعطي فرصة للثورة، لكي تؤكد بُعدها الاجتماعي وتكشف عنه، فتعمل على وقف حملة الكراهية ضد العرب".
بغضّ النظر عن وجهة نظر محمد فائق هل كانت صائبة أم خاطئة، إلا أنّ وصول خبر الانقلاب إلى عبد الناصر كان بعد سقوط الحُكم، وبعد أن سقطت جميع مفاصل الدولة بيد الانقلابيين بما في ذلك المطار، فكيف كان يمكن لعبد الناصر أن يسيّر الجيش إلى زنجبار؟ وأين كان سيقيم هذا الجيش، ودولُ الجوار كلها قد أيّدت الانقلاب؟!
كان الوضع داخل زنجبار أقرب إلى أن يكون هشًا، باعتبار أنّ الدولة نالت استقلالها من بريطانيا من شهر واحد فقط، فلم يكن هناك جيشٌ، وكانت الشرطة بيد الإنجليز، وهم الذين تآمروا على إسقاط الحكم العربي، والدليل على تلك الهشاشة ما ذكره الكاتب الباحث ناصر الريامي في الجزء الخامس من سلسلة "الذكرى ال58 لسقوط سلطنة زنجبار- شهود على الحدث" بجريدة "الوطن" بتاريخ 17 يناير 2022، أنّ السلطان جمشيد قال له عام 2006، إنّ الأمر الذي أزعجه كثيرًا، وجعله يشعر بالمرارة، أنه لم يكن قد تلقّى أيّ إبلاغٍ عن أعمال الشغب المرتقبة، ممّن يُتوقّع منهم ذلك – مجلس الأمن القومي أو رئيس الوزراء، أو حتى وزير خارجيّته – في الوقت الذي بادره بذلك أحدُ التجار الهنود، ممّن يدينُ له بالولاء، في اليوم السّابق للعدوان، حيثُ طلب الالتقاء به لأمرٍ غاية في الأهمية.
يحمّل البعضُ عبد الناصر مسؤولية عدم التدخل، لكن الواقع يثبت استحالة ذلك على ضوء المعطيات في الأرض، فلو أننا فرضنا جدلًا أنه تدخّل في زنجبار وفشل التدخل كان هناك من سيلومه مدى الدهر، وحتى لو فرضنا أنه نجح في ذلك التدخل فإنّ هناك من كان سيقول وما هي الفائدة التي جنيناها من ذلك التدخل؟! يقول ناصر الريامي، إنّ أيّ نوع من التدخل من جانب عبد الناصر - مهما بلغت ضآلته لنصرة حكومة عربية من السقوط وسط القارة السمراء - كان سيُنظر إليه بمنظور عنصري مجرد، كان عبد الناصر في موقف حرج، ووجد نفسه مضطرًا إلى وزن قضية زنجبار من ميزان المصالح السياسية، فوضع تأييد النفوذ العربي في زنجبار في كفة، ووضع في الكفة الأخرى علاقة مصر بالشعوب الأفريقية السمراء، فرجحت الأخيرة.. وتلك هي لعبة السياسة.
لا وجود للعاطفة في السياسة، وأنا كثيرًا ما أستغربُ من النظرة العاطفية الشديدة من البعض، لموضوع عدم تدخّل عبد الناصر في الانقلاب. ويزيد استغرابي أنّ من يتحمّس للحديث عن هذا الموضوع، ليس مستعدًا للتبرّع بريال واحد، لصالح العمانيين الذين تقطعت بهم السبل في الشرق الأفريقي، فذلك أولى من توجيه اتهامات باطلة دون دراية حقيقية لوضع جمال عبد الناصر حينها.
No comments:
Post a Comment