د.سليمان المحذوري
ملحق أشرعة ، جريدة الوطن 1 ابريل 2018م
تعود الصلات التاريخيّة والحضاريّة للعُمانيين بمنطقة إفريقيا الشرقية إلى أكثر من ألفي عام ، وقد نتج عن تلكم العلاقات المبكرة هجرات عُمانية متتابعة على مدى فترات زمنية مختلفة بدوافع اقتصاديّة وسياسيّة وغيرها أدّت في نهاية المطاف إلى استقرار قبائل وأسر عُمانية على ساحل شرق إفريقيا، وكذلك في دواخل وأعماق القارة الإفريقية. وبالتالي تكوين امارات عربية لا تزال آثاها ومعالمها الحضاريّة باقية إلى يومنا هذا. ومع استقرار كثير من العُمانيين في زنجبار وما جاورها لا سيما بعد أن أضحت حاضرة لدولة السيد سعيد بن سلطان (1804-1856م) عام 1832م، وتبوأت مكانة علمية مرموقة في عهد السيد برغش بن سعيد (1870-1888م)، باتت زنجبار مقصدًا لأهل عُمان حيث وفد إليها كوكبة من العلماء والأدباء والشعراء الذين كان لهم اسهام علمي حضاري لا تخطئه العين.
ويُعتبر الشيخ سالم بن محمد الرواحي أحد هؤلاء المشايخ العُمانيين الأجلاء الذي هاجروا إلى زنجبار بصحبة اخوته عبدالعزيز وعبدالرحمن وعبدالله عام 1883م تقريبًا بدعوة من السلطان برغش بن سعيد. يقول الباحث سلطان الشيباني “ولا غرو أن تستقطبه زنجبار فيعيش فيها بقية عمره، فقد كانت مهوى أفئدة العُمانيين، وكعبة أهل العلم، يقصدها من تعسّرت حاله لطلب الرزق، ويؤمها طالب المعرفة بغية الاستزادة، حتى غدت منارة حضارية مشرقة”.
ولا يُعرف على وجه الدقة مكان ولادة الشيخ سالم الرواحي في عُمان الذي يرجّح ما بين نخل أو بلدة مسلمات في وادي المعاول عام 1868م . ورغم أنّه استوطن زنجبار في وقت مبكر من حياته؛ إلا أنه لم ينقطع عن عُمان التي كان يزورها بشكل مستمر.
تتلمذ الشيخ الرواحي في زنجبارعلى يدي الشيخين يحيى بن خلفان الخروصي، وسيف بن ناصر الخروصي. وخلال فترة وجيزة أصبح من أدباء عصره، وعلم من أعلام سلطنة زنجبار البارزين؛ غير أن ما ميزه دون سواه هو حسن خطه العربي؛ لذلك لا عجب أنه اشتغل بكتابة الوثائق والصكوك والرسائل، وجمع ونسخ ونشرالكتب خاصةً مع درايته بعلوم الدين وأصول الكتابة الشرعية، وإلمامه بقواعد اللغة وآدابها. فقد عمل في كتابة الدواوين السلطانية لدى سلاطين زنجبار، وبالتالي اكتسب لقب “كاتب الحضرة السلطانية”، و”كاتب أسرار ملوك زنجبار”. ولا شك أنه استحق هذا اللقب جراء عمله كاتبًا ومستشارًا لسبعة من سلاطين زنجبار منذ عهد السيد برغش بن سعيد وحتى عهد السيد حمود بن محمد (1896-1902)، وفي عهد السيد علي بن حمود (1902-1911م ) استقال من منصبه وتفرع لأعماله الخاصة بيد أنه لم ينقطع عن مجلس السلطان، وفي عهد السيد خليفة بن حارب (1911-1960م) عمل لديه كاتبًا بصفة غير رسمية بعد أن تقدم به العمر.
كما بذل ماله في تحصيل العلم والمعارف حتى تجمعت لديه مكتبة ضخمة حوت نوادر المخطوطات والكتب في شتى الفنون والعلوم. يقول الشيخ أحمد بن سعود السيابي في معرض تقديمه لكتاب “سالم بن محمد الرواحي” “وقد تفاعل الشيخ سالم بن محمد مع تلك الحياة المليئة بالعلم والمجد والفضل – أي في زنجبار- فهو تارة يراسل العلماء شرقًا وغربًا، وتارةً ينسخ الكتب المخطوطة، وثالثةً يجمع تلك الكتب ليقتنيها، ومرة رابعة يقوم بنشر تلك الكتب طباعة لكي ينشر العلم إلى غير ذلك من مفردات الأعمال الخيرية والخيرة. كما كان موئلا للضعيفـ، ومأوى للضيف إذا ما ضاق بالضيف المكان ، وقد هيأه الله تعإلى لقضاء حوائج الناس، مع ما من الله به عليه من صلاح في الدين ، وحسن في السيرة ، وصفاء في السريرة “.
وقد كان مقصدًا للعامة في حل مشكلاتهم، وله نشاط اجتماعي بارز في عمل الخير والاصلاح بين الناس حدثني الشيخ أفلح الرواحي أنّ الشيخ الرواحي كان يعتز بلباسه العُماني ورفض أن يلبس غيره، كما كان يؤم المصلين في مسجد بني رواحة في زنجبار، ويأخذ أولاده معه في جميع الصلوات وبعد صلاه الظهر يتبعه أصحاب الحاجات. ورغم أنه لم يشتغل بالتأليف إلا أن الشيخ نور الدين السالمي ينسب له الفضل في اقتراح فكرة وموضوع كتاب “تلقين الصبيان”. كما كان له دور مهم في نشر المعارف الإسلامية، ودعم الحركة العلمية ما بين عُمان وزنجبار، وترك جملة من المآثر العلمية تمثلت في التراجم، ونسخ وطباعة الكتب، والمراسلات، ومقالات صحفية نشرت في جريدة الفلق وغيرها.
ومن ضمن مآثر الشيخ الرواحي نقوش وزخارف الآيات القرآنية بالإشتراك مع أخيه عبدالعزيز على أبواب ونوافذ وجدران بيت العجائب في زنجبار الذي بناه السلطان برغش بن سعيد. كما كان الرواحي عضوا بارزا في الجمعية العربية بزنجبار. وكانت له أملاك كثيرة في زنجبار وبساتين وأعمال تجارية يشرف عليها بنفسه إلا أنها نهبت ابان العدوان الغاشم على زنجبار في يناير عام 1964م.
ارتبط الشيخ الرواحي بعلاقات واسعة مع أعيان وعلماء عصره في زنجبار مثل السيد حمود بن أحمد بن سيف البوسعيدي، والشيخ عبدالله بن علي المنذري، وحمد بن محمد المرجبي، والشيخ ناصر بن سالم الرواحي، والشيخ سعيد بن علي المغيري، والشيخ علي بن خميس البرواني، والشيخ الأمين بن علي المزروعي وغيرهم. وفي عُمان كانت له صلات وطيدة كذلك مع علمائها وأعيانها مثل الإمام محمد بن عبدالله الخليلي، والشيخ نورالدين السالمي، والشيخ سعيد بن ناصر الكندي، والأمير عيسى بن صالح الحارثي. كما وثّق علاقاته بعلماء بلاد المغرب العربي مثل الشيخ محمد بن يوسف أطفيش، والشيخ سليمان الباروني. يقول الشيخ الرواحي في احدى مراسلاته “إني أعتقد أنّ أيام العلماء فيها بركة عظيمة، جعلها الله رحمة لعباده لمنافعهم الأخروية والدنيوية، وأرجو أن ينفعنا الله ببركتهم وينفعنا بعلومهم إن شاء الله” . وقد استفاد من علمه وتتلمذ على يديه جملة من طلبة العلم، كما افتتح مدرسة في بيته لحرصه على تعليم أولاده القرآن الكريم ومبادئ العبادات.
توفي الشيخ سالم بن محمد بزنجبار ودفن فيها عام 1947م وقد جاوز الثمانين من العمر. رحل الشيخ الرواحي وترك وراءه مآثرخالدة ومكانة علمية واجتماعية لا تخفى على أحد، كما كان له وجاهة ومنزلة خاصة عند سلاطين زنجبار. وصفه الإمام محمد بن عبدالله الخليلي(1919-1954م) في رسالة تعزية لأبنائه بأنّه “ذلك الرجل الصالح الذي قدم إلى ربه والمسلمون عنه راضون، ولفعله شاكرون، فإنه كان نافعًا للمسلمين متحملا لأمورهم، فالله يجزيه عن أفعاله الصالحة خير الجزاء”.
المراجع:
• مقابلة مع الشيخ أفلح بن حمد بن سالم الرواحي، سبتمبر 2017م .
• سلطان بن مبارك الشيباني. سالم بن محمد الرواحي تاجر صدوق وسلعة رابحة. مكتبة مسقط، مسقط، 2011م.
• سلطان بن مبارك الشيباني . التاريخ المصوّر للشيخ سالم بن محمد الرواحي. ذاكرة عمان، مسقط، 2015م.
No comments:
Post a Comment