بقلم .د. محسن الكندي .
في صيف العام 1993، قدِّر لي أن اتصل بالصحافة العمانية المهاجرة وأن تلامس يداي أوراقها الصفراء المبهرة، الحاوية لكثير من التفاصيل المتصلة بالحضور العماني في الديار الإفريقية.
كانت رحلتي مضنية ورغم ما فيها من مصاعب ومضانك البحث والتقصي والكشف والمقاربة في الأراشيف والخزائن الخاصة؛ الا أنها أضفت عليّ بنتائج أحسبها جيدة، فقد حققت لي مطلب شغفي المعرفي، ولبّت غايتي العلمية الرامية إلى تأصيل ما أثراه اجدادنا العمانيون من فكر أدبي وفقهي وتاريخي وثقافي، جسّده خطابهم التنويري في تلك الديار..
كانت أوراق هذه الصحف ملأى بكل تلك التدفقات المعرفية، وﻻ تحتاج منا سوى من ينفض عنها غبار الزمن، ويعيدها الى سابق تألقها المجيد، حينما كانت تروي عطش الطبقة المثقفة المستنيرة من أبناء عمان والعرب القاطنين تلك اﻵفاق.
كانت جهودي أوّليّة في جمع كل ما أجده وأطال تصويره.. ثم ما برحت توثيق ما وجدته لتكون محصلة ذلك أوّل مقال نشرته في مجلة "نزوى" الغرّاء، بتشجيع ومؤازرة من رئيس تحريرها الشاعر المثقف الكبير سيف الرحبي ثم سرعان ما تحول ذلك المقال الى كتاب اتخذ عنوان "الصحافة العمانية المهاجرة وشخصياتها "وصدر عن مؤسسة رياض الريس ببيروت في طبعتين اﻻولى صدرت عام 2000 والثانية 2009 .
ومع تواصل المكتشف والعثور على أعداد متفرقة وأخرى مكتملة من صحف ومجلات ودوريات بلغ عددها ثلاث عشرة صحيفة ونشرة تعود أقدمها إلى العام 1911 حيث صحيفتي "النجاح"، و"النادي"، وإلى العام 1929 حيث صحيفة "الفلق"، وإلى العام 1951 حيث صحيفة "النهضة"، إضافة إلى صحيفة "المرشد" ، و"الأمة" و"المعرفة"، ومجلة "المعلمين"، وصحيفة "الإصلاح" التي أصدرها الشيخ الأمين بن علي المزروعي، زعيم حزب الإصلاح في ممباسة، بالساحل الكيني قرابة العام 1930. وكانت كل هذه الصحف والنشرات تهدف الى تأسيس خطاب إعلامي معرفي يسهم في بلورة الهوية الثقافية للعمانيين والعرب، وبناء مؤسسة إعلامية تامّة الشروط، إضافة إلى اهتمام بالغ بالدور الوحدوي النهضوي ذي الطابع الإسلامي العربي الذي يحمل على عاتقه تكوين خطاب سياسي عربي، يعنى بقضايا العروبة، ويبحث في مستلزماتها وسط منعرجات ذلك الزمن البعيد.
من هنا برز في هذه الصحف الخطاب القومي ممثلاً في البحث في قضايا العرب الكبرى، وعلى رأسها قضية فلسطين، إذ سجلت صحيفة "الفلق" وحدها ما مجموعه 15% من خطابها السياسي المفعم بالثورة واﻻستنهاض، فوجدنا فيها مقاﻻت بعنوان "فلسطين الشهيدة"، و"فلسطين الثائرة" و"يوم فلسطين"، و"تهويد فلسطين"، و"فلسطين تناشد الإنسانية"، وكلها مقاﻻت استنهاضية مبكرة كتبت بين العامين 1938 و 1939م ، بأقلام عمانية، على رأسها قلم المحرر الشيخ الوجيه هاشل بن راشد المسكري، وزملائه أعضاء الجمعية العربية بزنجبار، لترسم لوحة شرف صفحاتها بيضاء ناصعة، تسجل أسماء الكرام البررة الأسخياء من العمانيين وأهل الخليج وأهل حضرموت وعدن وجزر القمر والطوائف غير العربية ، وغيرهم ممن قطن تلك الديار، الذين جادوا بما يملكون من مال في سبيل نصرة القضية، لينالوا الجزاء الأوفى في لحظة فارقة من تاريخ ذلك الزمن العصيب . فتطلعنا تلك الصحف على أسماء النساء قبل الرجال بكثرة واضحة، نفضت عن بعضها غبار الزمن المدوَّنة اﻹلكترونية حين طالعتنا بالأمس رسالتها المتداولة المنقولة اصﻻ من صحيفتي: " الفلق" ، و"المرشد" الصادرتين خﻻل الفترة من ( يونيو _سبتمبر 1948 ) والتي تقدم قائمة تضم أكثر من مائتين وسبعين اسماً تتقدمهم المحسنة زوجة سعيد بن سيف بن سالم البوسعيدي التي تبرعت وحدها بالفين شلنجا تلتها نساء ورجال أمثال : السيد محمد بن سعيد بن سليمان البوسعيدي ،والشيخ عبدالله بن سليمان الحارثي رئيس الجمعيةالعربية بزنجبار ، والشيخين محمد بن هﻻل البرواني وهاشل بن راشد المسكري محرري صحيفة الفلق ، و اﻻديب محمد بن علي بن خميس البرواني صاحب المقامات المعروفة في عمان وأسماء أعيان ورشداء وشيوخ قبائل أمثال : الشيخ مسعود بن علي الريامي ، وعبدالله بن صالح الفارسي ، وعيسى بن سعيد بن ناصر الكندي ، ومحمد بن علي المسكري ومحمد بن سليمان اللمكي ، و محسن بن علي البرواني وابنه علي محسن الذي صار فيما بعد وزيرا للخارجية في حكومة اﻻستقﻻل ، وأطباء أمثال الدكتور علي بن سعيد بن سيف المعمري ، والدكتور سعيد محفوظ ورجال من الجاليات القمرية والحضرمية أمثال : اﻻستاذ صالح بن يحيى القمري ، والشيخ محمد برهان اﻻموي ، ومحمد بن عبدالرحيم باوزير.. ومؤسسات المجتمع المدني من مثل : النادي العربي بزنجبار ، ونادي السيدات العربيات بمالندي ، ونادي السيدات القمريات . ومدارس حكومية من مثل : مدرسة الحكومة بالبلد منازموجه ،و مدرسة الحكومة بمييراني . واتحادات الطوائف غير العربية كاتحاد مالندي ،وصحف كجريدة " المرشد " ومساجد كمسجد حمود بن أحمد البوسعيدي . وشخصيات غير عربية كالمستر م. قرشي وفدا حسين النهري وغير ذلك من الشخصيات اﻻعتبارية وﻻسيما شخصيات المراة التي حضرت بقوة في هذه القوائم مما يعني حضورها اﻻجتماعي ووعيها المبكر بقضايا التحرر الوطني وأمور السياسة وتضامنها مع القضايا العربية واﻹسﻻم .
وما أثار انتباهي في تلك القوائم اسم المناضل الوطني البحريني عبدالرحمن الباكر، الذي برز اسمه بجوار زوجته العمانية التي ابتنى بها في تلك المرحلة الزنجبارية، ومعروف عن الباكر أنه أقام في إفريقيا ردحاً من حياته (1946 _ 1948) وعُرف بموقفه الوطني المناهض للاستعمار الذي أبان عنه بإسهاب كتابه المهم "من البحرين إلى المنفى: سانت هيلانه".
وغير بعيد عن هذه المقاﻻت العمانية، وقصائد الشعر والأعمدة والتحقيقات الإخبارية، وجدنا في طيات هذه الصحف إشارات إلى أسماء تشارك في الكفاح المسلح، وتنخرط في الجيوش العربية الأولى عندما حلت النكبة العربية الدهياء ، فتقدم أرواحها فداء لفلسطين الجريحة.
ولم تقتصر مشاركة العمانيين والعرب في نصرة القضية على خطابات ثقافية وهتافات شفوية، بل شارك أبناء عمان في كل بادرة تشجع نصرة القضية، فكانت قوائم التبرعات تمتلئ بها مخطوطاتهم الدفينة وقد بلغت فيما تم نشره فقط قرابة 37581 شلنجا بقيمة الشلنج المالية في ذلك الوقت.
لقد وقع في نفسي ورود اسم الشيخ عبدالرحمن الباكر ضمن قوائم المتبرعين موقعاً بالغ الأهمية، وأحاطني بهالة من اﻻستغراب، بل بدوّامة من الأسئلة عن مدى الترابط الخليجي، وعن وحدة الجذور والأرومة والمصير المشترك، والأهداف السامية المشتركة بين أبناء الخليج، ولم أخف أوج فخري بكون عمان، بلدي العزيز، جذرٌ عميق ممتد لكل مناضل ومستنير منذ أقدم العصور. فهي الحاضنة والأم الرؤوم، والداعم لكل مشروع حضاري عربي طليعي يخدم الإنسانية، ويدعم العروبة والإسلام.
فرحم الله الباكر، وأثاب أهل عمان والعرب الأسخياء الكرام البررة الذين ناصروا القضية الفلسطينية منذ بداياتها الأولى، وكانوا اليد الطولى الممتدة إليها كرماً وسنداً وإحاطة تهدف نصرة الإسلام والذود عن المسلمين.
في صيف العام 1993، قدِّر لي أن اتصل بالصحافة العمانية المهاجرة وأن تلامس يداي أوراقها الصفراء المبهرة، الحاوية لكثير من التفاصيل المتصلة بالحضور العماني في الديار الإفريقية.
كانت رحلتي مضنية ورغم ما فيها من مصاعب ومضانك البحث والتقصي والكشف والمقاربة في الأراشيف والخزائن الخاصة؛ الا أنها أضفت عليّ بنتائج أحسبها جيدة، فقد حققت لي مطلب شغفي المعرفي، ولبّت غايتي العلمية الرامية إلى تأصيل ما أثراه اجدادنا العمانيون من فكر أدبي وفقهي وتاريخي وثقافي، جسّده خطابهم التنويري في تلك الديار..
كانت أوراق هذه الصحف ملأى بكل تلك التدفقات المعرفية، وﻻ تحتاج منا سوى من ينفض عنها غبار الزمن، ويعيدها الى سابق تألقها المجيد، حينما كانت تروي عطش الطبقة المثقفة المستنيرة من أبناء عمان والعرب القاطنين تلك اﻵفاق.
كانت جهودي أوّليّة في جمع كل ما أجده وأطال تصويره.. ثم ما برحت توثيق ما وجدته لتكون محصلة ذلك أوّل مقال نشرته في مجلة "نزوى" الغرّاء، بتشجيع ومؤازرة من رئيس تحريرها الشاعر المثقف الكبير سيف الرحبي ثم سرعان ما تحول ذلك المقال الى كتاب اتخذ عنوان "الصحافة العمانية المهاجرة وشخصياتها "وصدر عن مؤسسة رياض الريس ببيروت في طبعتين اﻻولى صدرت عام 2000 والثانية 2009 .
ومع تواصل المكتشف والعثور على أعداد متفرقة وأخرى مكتملة من صحف ومجلات ودوريات بلغ عددها ثلاث عشرة صحيفة ونشرة تعود أقدمها إلى العام 1911 حيث صحيفتي "النجاح"، و"النادي"، وإلى العام 1929 حيث صحيفة "الفلق"، وإلى العام 1951 حيث صحيفة "النهضة"، إضافة إلى صحيفة "المرشد" ، و"الأمة" و"المعرفة"، ومجلة "المعلمين"، وصحيفة "الإصلاح" التي أصدرها الشيخ الأمين بن علي المزروعي، زعيم حزب الإصلاح في ممباسة، بالساحل الكيني قرابة العام 1930. وكانت كل هذه الصحف والنشرات تهدف الى تأسيس خطاب إعلامي معرفي يسهم في بلورة الهوية الثقافية للعمانيين والعرب، وبناء مؤسسة إعلامية تامّة الشروط، إضافة إلى اهتمام بالغ بالدور الوحدوي النهضوي ذي الطابع الإسلامي العربي الذي يحمل على عاتقه تكوين خطاب سياسي عربي، يعنى بقضايا العروبة، ويبحث في مستلزماتها وسط منعرجات ذلك الزمن البعيد.
من هنا برز في هذه الصحف الخطاب القومي ممثلاً في البحث في قضايا العرب الكبرى، وعلى رأسها قضية فلسطين، إذ سجلت صحيفة "الفلق" وحدها ما مجموعه 15% من خطابها السياسي المفعم بالثورة واﻻستنهاض، فوجدنا فيها مقاﻻت بعنوان "فلسطين الشهيدة"، و"فلسطين الثائرة" و"يوم فلسطين"، و"تهويد فلسطين"، و"فلسطين تناشد الإنسانية"، وكلها مقاﻻت استنهاضية مبكرة كتبت بين العامين 1938 و 1939م ، بأقلام عمانية، على رأسها قلم المحرر الشيخ الوجيه هاشل بن راشد المسكري، وزملائه أعضاء الجمعية العربية بزنجبار، لترسم لوحة شرف صفحاتها بيضاء ناصعة، تسجل أسماء الكرام البررة الأسخياء من العمانيين وأهل الخليج وأهل حضرموت وعدن وجزر القمر والطوائف غير العربية ، وغيرهم ممن قطن تلك الديار، الذين جادوا بما يملكون من مال في سبيل نصرة القضية، لينالوا الجزاء الأوفى في لحظة فارقة من تاريخ ذلك الزمن العصيب . فتطلعنا تلك الصحف على أسماء النساء قبل الرجال بكثرة واضحة، نفضت عن بعضها غبار الزمن المدوَّنة اﻹلكترونية حين طالعتنا بالأمس رسالتها المتداولة المنقولة اصﻻ من صحيفتي: " الفلق" ، و"المرشد" الصادرتين خﻻل الفترة من ( يونيو _سبتمبر 1948 ) والتي تقدم قائمة تضم أكثر من مائتين وسبعين اسماً تتقدمهم المحسنة زوجة سعيد بن سيف بن سالم البوسعيدي التي تبرعت وحدها بالفين شلنجا تلتها نساء ورجال أمثال : السيد محمد بن سعيد بن سليمان البوسعيدي ،والشيخ عبدالله بن سليمان الحارثي رئيس الجمعيةالعربية بزنجبار ، والشيخين محمد بن هﻻل البرواني وهاشل بن راشد المسكري محرري صحيفة الفلق ، و اﻻديب محمد بن علي بن خميس البرواني صاحب المقامات المعروفة في عمان وأسماء أعيان ورشداء وشيوخ قبائل أمثال : الشيخ مسعود بن علي الريامي ، وعبدالله بن صالح الفارسي ، وعيسى بن سعيد بن ناصر الكندي ، ومحمد بن علي المسكري ومحمد بن سليمان اللمكي ، و محسن بن علي البرواني وابنه علي محسن الذي صار فيما بعد وزيرا للخارجية في حكومة اﻻستقﻻل ، وأطباء أمثال الدكتور علي بن سعيد بن سيف المعمري ، والدكتور سعيد محفوظ ورجال من الجاليات القمرية والحضرمية أمثال : اﻻستاذ صالح بن يحيى القمري ، والشيخ محمد برهان اﻻموي ، ومحمد بن عبدالرحيم باوزير.. ومؤسسات المجتمع المدني من مثل : النادي العربي بزنجبار ، ونادي السيدات العربيات بمالندي ، ونادي السيدات القمريات . ومدارس حكومية من مثل : مدرسة الحكومة بالبلد منازموجه ،و مدرسة الحكومة بمييراني . واتحادات الطوائف غير العربية كاتحاد مالندي ،وصحف كجريدة " المرشد " ومساجد كمسجد حمود بن أحمد البوسعيدي . وشخصيات غير عربية كالمستر م. قرشي وفدا حسين النهري وغير ذلك من الشخصيات اﻻعتبارية وﻻسيما شخصيات المراة التي حضرت بقوة في هذه القوائم مما يعني حضورها اﻻجتماعي ووعيها المبكر بقضايا التحرر الوطني وأمور السياسة وتضامنها مع القضايا العربية واﻹسﻻم .
وما أثار انتباهي في تلك القوائم اسم المناضل الوطني البحريني عبدالرحمن الباكر، الذي برز اسمه بجوار زوجته العمانية التي ابتنى بها في تلك المرحلة الزنجبارية، ومعروف عن الباكر أنه أقام في إفريقيا ردحاً من حياته (1946 _ 1948) وعُرف بموقفه الوطني المناهض للاستعمار الذي أبان عنه بإسهاب كتابه المهم "من البحرين إلى المنفى: سانت هيلانه".
وغير بعيد عن هذه المقاﻻت العمانية، وقصائد الشعر والأعمدة والتحقيقات الإخبارية، وجدنا في طيات هذه الصحف إشارات إلى أسماء تشارك في الكفاح المسلح، وتنخرط في الجيوش العربية الأولى عندما حلت النكبة العربية الدهياء ، فتقدم أرواحها فداء لفلسطين الجريحة.
ولم تقتصر مشاركة العمانيين والعرب في نصرة القضية على خطابات ثقافية وهتافات شفوية، بل شارك أبناء عمان في كل بادرة تشجع نصرة القضية، فكانت قوائم التبرعات تمتلئ بها مخطوطاتهم الدفينة وقد بلغت فيما تم نشره فقط قرابة 37581 شلنجا بقيمة الشلنج المالية في ذلك الوقت.
لقد وقع في نفسي ورود اسم الشيخ عبدالرحمن الباكر ضمن قوائم المتبرعين موقعاً بالغ الأهمية، وأحاطني بهالة من اﻻستغراب، بل بدوّامة من الأسئلة عن مدى الترابط الخليجي، وعن وحدة الجذور والأرومة والمصير المشترك، والأهداف السامية المشتركة بين أبناء الخليج، ولم أخف أوج فخري بكون عمان، بلدي العزيز، جذرٌ عميق ممتد لكل مناضل ومستنير منذ أقدم العصور. فهي الحاضنة والأم الرؤوم، والداعم لكل مشروع حضاري عربي طليعي يخدم الإنسانية، ويدعم العروبة والإسلام.
فرحم الله الباكر، وأثاب أهل عمان والعرب الأسخياء الكرام البررة الذين ناصروا القضية الفلسطينية منذ بداياتها الأولى، وكانوا اليد الطولى الممتدة إليها كرماً وسنداً وإحاطة تهدف نصرة الإسلام والذود عن المسلمين.
No comments:
Post a Comment