أثير – تاريخ عمان
إعداد- نصر البوسعيدي
تقع جميع الثورات في العالم نتيجة الظلم، والفقر الذي يتعرض له شعب من الشعوب في مقابل عدم اكتراث حكومته ومن في السلطة المرفهين لحاجياته، وحلّ المشاكل التي تتراكم حتى تصل إلى مرحلة الانفجار، وبالتالي ثورة يذهب ضحاياها الكثير في ظل الفوضى التي تحدث نتيجة كل ذلك.
وفي المقابل هناك أنواع من الثورات تقوم بيد مجموعة من الساخطين على الحكومة لتوجهات سياسية، ولمصالح تتعلق بالسلطة، ولا علاقة لها بالعدالة، أو إحقاق الحق، بل ثورات إيديولوجية موجهة نحو استخدام بعض المعلومات المستمدّة من الواقع، وتجاهل تفسيرها المنطقي عمدا لفرض فكرة سائدة لتحقيق أهدافها.
ففي أغلب الأحوال يقوم هذا النوع من الثورات بعد الحصول على تأييد من دولة أخرى مساندة لنوعية التغير الذي يتماشى مع المصالح، فالسلطة، والمصالح هي أساس هذه الشراكة ، وليس من أجل مصلحة الشعوب ورفاهيتها وإحقاق العدالة لها، وعادة تصبح نتيجة تلك الثورات بعد أن تنجح في قلب الوضع إلى أداة مسيرة من قبل الدولة الداعمة لها.
لقد انطبق هذا النوع من الثورات في زنجبار، وكانت الإيديولوجية التي انطلقت منها تحمل في أساس فكرتها أن العرب كانوا يستغلون الأفارقة في بلدانهم، وأن العرب ثروتهم الوحيدة هي الأرض التي تكمن أهميتها في مزارع القرنفل ثروة زنجبار التي أدخلها العمانيون إليها في عهد السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي، مع العلم أن الهنود والأفارقة كذلك يملكون جزءا كبيرا من هذه الأرض، ولذلك فقد اكتسبت ثورة زنجبار طابعا عنصريّا مقيتا ضد العمانيين والعرب بشكل عام.
كان المزارعون في زنجبار يعيشون فوق أراض مملوكة لغيرهم، فالملّاك كان عليهم تنمية العمل برأس المال، وبالتالي التعاقد مع العمال الأفارقة بالأجر اليومي، أو الأسبوعي، أو الشهري حسب المتفق عليه، ولذلك من كان يرغب في زراعة محصول يوفّر له غذاءه، فإنه يستطيع أن يفعل ذلك، ويجني الطرفان الفائدة المشتركة نتيجة الاتفاق.
ولكن الثوار تجاوزوا كلّ هذه الحقائق، وخدعوا البقية بمبررات من أجل تغطية أسبابهم ومطامعهم لنيل السلطة في زنجبار.
وكان الحلم الذي روّج له الثوار للشعب بأنّه وبمجرد الإطاحة والتخلّص من العرب في هذه الثورة ومصادرة أراضيهم، وتوزيعها أو تفتيتها إلى ملكيات صغيرة عليهم سيصبح كل فرد مشاركا في الثورة ثريّا، وهذا النوع من الترويج هو من زاد تزكية عنصريتها، وإجرامها بالقتل، والتنكيل بكل عماني،أو عربي يتواجد في الأرض الزنجبارية بثورتهم الدموية عام 1964م.
وفعلا بعد الثورة، وقتل الآلاف من العمانيين، والعرب تمت تجزأة الأرض في زنجبار إلى ملكيات صغيرة مساحة كل منها فدان واحد، وتم توزيعها فيما بينهم، وهي مليئة بأشجار القرنفل، وجوز الهند، وهي أشجار تغلّ حاصلاتها موسميّا، وتحتاج من الفرد أن ينفق أموالا طائلة للمحافظة عليها، وزرع أشجار أخرى بدل تلك التي تموت.
ونتيجة لذلك، فقد تركها، وأهملها الملاك الأفارقة الجدد المشاركون في الثورة وهربوا من تكاليفها، ليعودوا للعمل مشتتين عمالا بالأجر، وبالإضافة إلى كل هذه المشاكل التي عانى منها شعب زنجبار بعد الثورة أرغمت الحكومة كل المزارعين أن لا يبيعوا محصول القرنفل إلا إليها، وبأسعار تحددها هي، وكان السعر الذي تشتري به الحكومة الرطل من القرنفل هو 150 شلنا، وتبيعه للولايات المتحدة الأمريكية بـ 1700 شلنا هذا بالإضافة إلى الكثير من التكاليف التي يجب أن يلتزم بها المزارع من أجل الحصول على محصول اقتصادي يسد به متطلبات حياته، ولذلك، فأغلب، أو جلّ المزارعين بعد الثورة لم يكسب من زراعته مثلا ما كان يحصل عليه، وهو عامل بأجر متفق عليه، فقد كان العمانيون أصحاب الأرض يستأجرون العامل لخدمة الأرض بأجر يعادل 150 شلنا كلّ ثلاثة أيام، وكلّ عمله هو صعود أشجار القرنفل لجنيها في الصباح، ثم يأتي في المساء ليفصل القرنفل من زهره، ويستلم أجره، وأما باقي الأعمال، فيتكفل بها صاحب الأرض الذي كان يمارس عمله كذلك في مجتمع كان الحب والتعايش فيه حاضرا بين الجميع بود، وسلام.
ولذلك، فقد أحسّ الملاك الجدد للأرض بخيبة أمل واستغلال قاسٍ من حكومة الانقلاب الدموي، وتبخرت جميع أحلامهم بالثراء، والعيش الكريم، وأصبحت البلاد فقيرة من الموارد البشرية أولا نتيجة هجرة المثقفين والمتعلمين منها سواء من العمانيين أو العرب بشكل عام، والأفارقة على السواء ولجأ ما لا يقل عن 100 ألف منهم إلى دار السلام، وهاجر أكثر من 20 ألف عماني وعربي إلى موطنهم الأم.
والغريب في أمر هذه الثورة بأن بعض من خطّط لها، وشارك في تنفيذها أبناء بعض ملاك الأرض العرب بقيادة عبد الرحمن محمد المعروف باسم بابو.
وكان بابو سكرتيرا عاما للحزب الوطني الزنجباري، ثم تواصل مع الصين حينما أوفده حزبه للحصول على تأييد بكين، ومن ثم عاد إلى زنجبار مدعوما من الصين لنشر الفكر الشيوعي عن طريقة مجلته التي أسسها واسمها “زانيوز”، ثم انفصل عن الحزب الوطني، وشكّل مع مجموعة من الشباب حزب الأمة، ولتحقيق مصالحه أدمج حزبه مع حزب الأفروشيرازي للقيام بالثورة، والانقلاب.
ولكي نفهم لماذا وقعت الثورة يجب أن نعي بأن الاستعمار الأوربي الذي بدأ يزحف على أفريقا لم يكن باستطاعته تقسيم الأرض إلا عن طريق اختلاق كل الوسائل والأسباب لإنهاء الوجود العربي، وخلق العداوة، والفتنة بين الأفريقيين، والعرب بعدما كانوا لحمة واحدة لسنوات طويلة.
ولقد ظهرت بوادر الدعايات الأوربية المعادية للعرب في أفريقيا بكل وضوح حينما رفض السلطان برغش بن سعيد سلطان زنجبار التعاون مع الألمان ضد شعب تنجانيقا الذين ثاروا ضد المستعمر الجديد، فهرب عدد كبير من الألمان إلى زنجبار للاحتجاج مع السلطان برغش الذي ردّ عليهم بأنه لا يستطيع مساعدتهم لأن الشعب هناك شعب حر، وليسوا عبيدا، ويتبعون سلطانه بمحض إرادتهم، ولا يمكن أن يسلمهم إليهم، وليتحمل الألمان تبعيات سوء معاملتهم للأهالي الثائرين.
لقد حاول الألمان إقناع السلطان برغش باستخدام القوة لقمع الأهالي، ولكن السلطان رفض ذلك وبشدة، وعقب ذلك هاجمت السفن الحربية الألمانية زنجبار عام 1884م، ومن ثم فرض الألمان والإنجليز بقوتهم حصارا على الأهالي لمدة عام من ديسمبر 1888م إلى 1889م انتهى عن طريق القوة، والمؤامرات، والتهديد إلى توقيع اتفاق انجلو ألماني في برلين عام 1890م لتصبح زنجبار وأفريقيا كلها تحت الاستعمار الأوربي، ووقوع السيد برغش ومن بعده من السلاطين ضحية للتنافس الاستعماري الأوربي على افريقيا.
وقد ذكر المؤرخ البريطاني هولنج روث في هذا الصدد أن إنجلترا سمحت لألمانيا بأخذ خير الأجزاء من ممتلكات السلطان برغش، وأنها أخذت لنفسها الباقي.
والباقي هنا، طبعا ، زنجبار التي وقعت تحت الحماية البريطانية كمستعمرة لا حول لها ولا قوة تحت غطاء حماية البلاد من الأطماع الأوربية الأخرى، وحماية سلطة السلطان من الاستغلال، وفرض القانون والنظام، وتنمية البلاد وتطويرها.
أما في الواقع، فإن الإنجليز، وخلال فترة حمايتهم لزنجبار نهبوا خيراتها، وزرعوا فيها الفرقة، والبغض، والنزاعات بين أفراد شعب عاش، وتزاوج فيما بينه في ظل وحدة وطنية لا ينظرون فيها إلى الأصول التاريخية.
لقد نجحت الدول الاستعمارية وبالأخص بريطانيا، وألمانيا، وفرنسا في تقسيم شرقي أفريقيا إلى وحدات سياسية وتقسيم الشعوب إلى مجموعات صغيرة كل واحدة منها تبحث عن مصالحها الذاتية وليست الوطنية.
وخلال الحرب العالمية الثانية تم تقسيم الأهالي بشكل مزر، إذ تم السماح للأهالي من الأصل الآسيوي فقط بشراء الأرز، والسكر، والمنسوجات البيضاء، بينما تم السماح للأفارقة بشراء دقيق الذرة، والأقمشة السوداء لنسائهم، وكان هذا الأسلوب مريعا يجسد تطبيق مبدأ “فرّق تسد” لأن هذا النظام، أي نظام الرقابة على التغذية بهذا التقسيم مهّد لإشاعة الكراهية، والعنصرية بين الأهالي.
لذلك، لكي نتتبع بذور الانقلاب في زنجبار، علينا التعمق في فترة الاستعمار وتقسيمه لأفريقيا مع استغلال ثرواته، وخلق العديد من الأسباب لتفريق الشعوب عن بعضها، وخلق الفتن، والكراهية بينها خاصة بين العرب، والأفارقة.
والجدير بالذكر، أن الأعضاء المعينين في المجلس التشريعي في زنجبار قبل عام 1964م يمثل مختلف المجموعات العنصرية، وهم 3 عرب، و2 من الأفارقة، و2 من الهنود، وأوربي واحد، ولم يكن لهم أي نفوذ في المجلس، لأن كل السلطات التشريعية كانت بيد المقيم البريطاني، وحفنة من المسؤولين البريطانيين، ورغم أن العمانيين والعرب أقلية، فقد أعطتهم بريطانيا بسياستها الخبيثة معظم الامتيازات التي كانت في الأساس مظهرية لإثارة الكراهية، والعنصرية في زنجبار.
ولكن العمانيين أدركوا في النهاية حقيقة هذا الخطر المثير للعنصرية، فقد عملوا على تجنبه بشكل حازم حينما قدّموا للحكومة البريطانية عام 1954م قائمة طويلة بمطالبهم لتحقيق نهضة سياسية اقتصادية لشعب زنجبار جميعه تتضمن الاقتراع العام للبالغين، وانتخابات على أساس صوت واحد لكل رجل، وأغلبية غير رسمية من الأعضاء المنتخبين في المجلس التشريعي، ونظام وزاري، وملكية دستورية.
وكما كان متوقعا، فإن الحكومة البريطانية رفضت جميع هذه المطالب، ونتيجة لذلك سحبت المجموعة العربية أعضاءها من المجالس، وقاطعت كل اللجان الحكومية وامتنعت طوال 18 شهرا من التعامل مع الحكومة البريطانية، وناشدت كل المجموعات الأخرى بتأييدها لإقرار السلام، والمساواة، والبعد عن العنصرية التي تعمد بريطانيا الإصرار عليها، ولقد لقي هذا الموقف تأييدا اجتماعيّا في زنجبار، لأنه كان الطريق المضمون للوحدة وكسر شوكة المستعمر.
ولذلك، فقد عملت بريطانيا على إثباط كل هذه المحاولات قبل استقلال زنجبار، ودبرت حملات سرية لتهديد الجماعات العنصرية الأخرى إن استجابت لنداء العمانيين والعرب الذين تزاوجوا مع الافريقيين، وعاشوا معهم، وتحدثوا لغتهم في نسيج اجتماعي مترابط يشهد عليه التاريخ.
في هذه الأثناء، وحينما بلغت المقاطعة العربية شهرها الثامن في ديسمبر عام 1955م قامت مجموعة صغيرة من الفلاحيين بتشكيل الحزب الوطني الزنجباري الذي ناضل لتوحيد الشعب الزنجباري تحت شعار القومية للتخلص من فتن العنصرية التي تزكيها بريطانيا بكل خساسة، وانضمّ إلى هذه الحركة الكثير، وبالأخص الوطنيون المؤيدون لموقف العرب بشكل عام، وقد أثمر كل ذلك إلى زيادة الضغط على الحكومة البريطانية التي أرغمت على تخصيص 6 مقاعد منتخبة من بين الـ25 مقعدا في المجلس التشريعي ثم الإعداد للانتخابات، ولكن البريطانيين وعملاءهم من الصحفيين استخدموا الكثير من الحملات ضد الحزب الوطني وكل ذلك لم يزد الحزب الوطني إلا قوة وإصرار وشعبية من قبل الكثير.
وهنا لم تقف بريطانيا متفرجة على انتصارات، وشعبية الحزب الوطني الموحد لشعب زنجبار، لذلك عمدت إلى تشكيل حزب منافس آخر على أسس عنصرية مدعون منهم ألا وهو حزب الأفروشيرازي عام 1957م، وقد اعترف الإنجليزي بيني الذي أشرف على الانتخابات عام 1957م في تقريره أن مكتب الانتخابات التابع له، وموظفي الحكومة الإنجليزية كانوا وراء تشكيل الحزب الأفروشيرازي، لكي يعارض الحزب الوطني وليس الاستعمار البريطاني.
ورغم أن القوانين لا تسمح بأي حملة تقام على أسس عنصرية، لأنها تخالف قوانين الانتخاب إلا ان الحكومة البريطانية سمحت للحزب الأفروشيرازي أن يمارس عنصريته علانية ضد الحزب الوطني، والعرب بشكل خاص.
وحينما ذهب الجميع للإنتخابات الأولية في زنجبار خسر الحزب الوطني لهزيمة أمام الحزب الأفروشيرازي الذي حصل على 5 مقاعد وذهب المقعد السادس لجمعية الهنود المسلمين.
وبعد الإنتخابات النهائية فاز الحزب الوطني الزنجباري وحزب شعبي زنجبار وبيمبا بأغلبية المقاعد، وتم تشكيل الحكومة، وتحديد يوم 10 ديسمبر 1963م موعدا للاستقلال من الاستعمار البريطاني.
وبعد ذلك بشهر فقط، أي في 11 يناير الأسود من عام 1964م وقع الانقلاب الدموي في زنجبار بقيادة الحزب الأفروشيرازي ومجموعة كبيرة من المرتزقة ، والذي راح ضحيته أكثر من 20 ألف قتيل من العمانيين، والعرب على السواء بجريمة يخجل منها التاريخ أمام صمت المجتمع الدولي لكل المجازر التي حدثت في الإنقلاب بعهد السلطان جمشيد بن عبدالله بن خليفة البوسعيدي آخر السلاطين العمانيين في الجزيرة والذي ترك زنجبار متوجها إلى بريطانيا لتنتهي بذلك العلاقة الطويلة بين العرب والأفارقة والتي استمرت لأكثر من ثلاثة ألاف عام.
وبعد 14 عاما من الثورة أدركت سلطات زنجبار أن السياسة العنصرية ألحقت أضرار جسيمة بالبلاد، وحاولت جاهدة من حث العرب على العودة إلى زنجبار والمساعدة في أحياء اقتصاد البلاد.
*المرجع: عمان وشرقي أفريقيا، أحمد حمود المعمري، ترجمة محمد أمين عبدالله، الطبعة الثالثة 2016، وزارة التراث والثقافة، سلطنة عمان.
No comments:
Post a Comment