Thursday, September 18, 2025

تساؤلات حائرة بعد زيارة لمُتحف بيت الأمان والأرشيف الوطني الزنجباري

زاهر بن حارث المحروقي

أثير 10 سبتمبر 2025

يوم الاثنين السادس عشر من ديسمبر 2024م زرنا متحف “بيت الأمان” الذي يسمّيه البعض “بيت السلام”، وقد بناه السلطان خليفة بن حارب في عام 1925م بواسطة المهندس المعماري البريطاني جيه إتش سنكلير. يقع المتحف على طريق الخور في منطقة تسمى “منازي مموجا” وترجمتها “نارجيلة واحدة”، وهي التسمية نفسها لحارة في ولاية مطرح العُمانية، خلف سور اللواتيا مقابل الباب الصغير وملاصق لسوق الذهب؛ مّا يدل على أنّ التسمية جاءت من زنجبار.

ومتحف “بيت الأمان” عبارة عن مبنى مطلي باللون الأبيض بمخطط سداسي، مع نوافذ أرابيسك، وقبة مركزية كبيرة وست قباب أصغر، وهو يشبه مساجد “آيا صوفيا” في تركيا.

يبدو أنّ زوار المتحف قليلون، فلم نصادف أحدًا أثناء زيارتنا له. قدّم لنا المرشد - الذي انتظرْنا وصوله قليلًا - شرحًا عن مقتنيات المتحف، وأخبرَنا أنه أغلق فترة من الوقت، وأعيد فتحه في مايو 2024م بعد أن نُقلت بعض المقتنيات إلى “بيت العجائب”، ويقدّم المتحف للزوار - بمقتنياته - مزيدًا من المعلومات عن التاريخ والعادات في زنجبار، وضمن المعروضات بعض مقتنيات السلاطين العُمانيين وصورهم وبعض الهدايا التي أرسلت لهم من ملوك العالم. كما أنه يضم مجموعةً مميّزة من القطع الأثرية والكنوز التاريخية التي تقدّم لمحة عن التراث الثقافي الغني في زنجبار، مثل المنسوجات النادرة والرائعة، كالدشاديش و“الوزرة” و“اللواسي“، وكذلك الأثاث العتيق، وقطع زخرفية من عصر السلطنة، تعكس فخامة وعظمة ماضي زنجبار الملكي. كما يضم المتحف مجموعة من الآلات الموسيقية التقليدية التي كانت جزءا لا يتجزأ من التعبير الثقافي السواحيلي لأجيال.

ومن جميل ما شاهدنا المنحوتات المعقدة، بما في ذلك أبواب زنجبار الشهيرة، والتي تشتهر بتصميماتها المعقدة وأهميتها الرمزية، وبجانب المتحف يوجد متحف التاريخ الطبيعي الذي يقدِّم فكرة عن الحياة الفطرية والنباتات في الجزيرة، وقد اكتفينا بما شاهدناه في المتحف، لأنّ مقتنياته قليلة، فلم نكمل الجولة في متحف التاريخ الطبيعي، بسبب الرطوبة المرتفعة.

ومن الغريب أنّ المبنى بجماله لا يوجد به تكييف، لكنه على كلِّ حال يبقى شاهدًا على حُكم العُمانيين لزنجبار، ويحتفل هذا العام بمرور مائة عام على بنائه، حيث افتتح السلطان خليفة بن حارب رسميا يوم 11 نوفمبر 1925م.

كانت وجهتنا التالية الأرشيف الوطني الزنجباري. لم تكن الزيارة مُرضية من بدايتها؛ فحين نزولنا من السيارة وقفتُ أمام الأرشيف طالبًا من رفيقي سليمان المحروقي أن يأخذ لي صورة تذكارية، فقال لنا الحارس: “لا تصوّر قبل أن تدفع الرسوم”. دفعنا الرسوم، ودلفنا إلى الداخل. كان الاستقبال باردًا من رجل وامرأتين يعملون هناك. أردنا أن نشاهد ما يضمه الأرشيف من الوثائق العُمانية؛ فسألَنا الرجلُ بلغة عربية: هل تريدون إعداد بحوث؟!. أجبنا: “لا. إنما نود مشاهدة الوثائق من المخطوطات والصحف العربية ومراسلات السلاطين وغيرها”. قال: “لا بد أن تكتبوا طلبًا رسميًّا ونرفعه للمسؤول للموافقة”، لكنه بعد أخذ ورد، سمح لنا أن نشاهد أعدادًا من صحيفتَيْ “الفلق” و“النهضة” مجموعة في عدة مجلدات، مع منعنا من التصوير؛ فيما كان الرفيق الآخر سيف بن سعود المحروقي يكتب رسالة طلب للاطلاع على المراسلات السلطانية. بعد فترة عاد إلينا الرجل قائلًا: “إنّ المسؤول ليس هنا”.

كانت تلك حصيلة زيارتنا للأرشيف الوطني الزنجباري. خرجنا ونحن لا نعلم ما يضمه بين جنباته، فقد رأينا صناديق كرتونية كثيرة ومرقمة، مّا يدلّ على أنّ هناك الكثير الذي لم يمط اللثام عنه بعد، وبالتأكيد فإنّ تلك الوثائق والمخطوطات تحتاج لمعالجات دقيقة من قبل مختصين في علم الوثائق والأرشيف. كما أنها تحتاج لوجود خبراء صيانة وثائق، وهذا علم نادر لا يضطلع به إلا القلة من علماء الكيمياء على مستوى العالم لحساسيته وخطورته في الآن ذاته، وأظنّ أنّ طريقة التخزين والحفظ التي شاهدتُها لتلك الوثائق، لو استمرت لفترة طويلة بهذا الشكل، فسيجدونها تالفة بعد فتح تلك الكراتين؛ وقد اقترَحَ عليهم سيف معالجة تلك الوثائق إلكترونيًّا بالسرعة القصوى لضمان سلامتها، وسُعدنا عندما أبلغَنا الرجل بأنّ العمل جار الآن لتنفيذ هذا المشروع، وأستطيع القول إننا قد خرجنا من الأرشيف بخُفّيْ حنين، باستثناء بعض الصور الخاصة وأنا أشاهد مجلدات صحيفتَيْ “الفلق” و“النهضة“، وكنتُ أمنّي نفسي بأن أقرأ بعض التعليقات التي كان يُرسلها أبي لـ “الفلق”، كما ذكر لي.

يبقى أنّ الأرشيف الوطني الزنجباري (وهو في الحقيقة عُماني صرف) يتيح للباحثين والدارسين والمهتمين الاطلاع على جانب مهم من التاريخ العُماني في الساحل الشرقي لأفريقيا، ويمكن من خلال ذلك معرفة ودراسة مواطن القوة والضعف في هذا التاريخ.

ونحن خارجون من مبنى الأرشيف، تذكرتُ ما قاله لي الزميل الإعلامي والباحث إبراهيم اليحمدي عندما ذهب مع فريق تليفزيوني عُماني لتصوير ذلك المتحف، إذ لم يجد شيئًا ذا بال؛ فالكثير من الوثائق العُمانية اختفت، وذكر لي أنّه حتى المجلات والجرائد لم يجد منها إلا الأعداد القليلة التي لا يمكن أن تعطي الصورة الحقيقية لتلك الفترة الحية والمهمة في التاريخ العُماني، وتذكرتُ ما قاله لي صديقٌ من أنّ “أحد الخليجيين اشترى بطريقة ما مراسلات السلطان علي بن حمود بن محمد البوسعيدي كاملة بمبلغ زهيد جدًا”، وكما هو معلوم فإنّ السلطان علي كان له نشاط عالمي غير مسبوق، وكان له طموحات كبيرة وحاول أن ينشئ منظمة تُعنى بالتعاون الإسلامي، وزار في ذلك إسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية، وأجرى اتصالات كثيرة حول ذلك، واهتم كثيرًا بالتعليم والتعريب، مّا أدى إلى الإطاحة به من قبل البريطانيين، الذين كانت زنجبار خاضعة لسيطرتهم خلال فترة حكمه؛ وعلى ذلك فإنّ مراسلاته تلك تشكّل ثروة حقيقية لحقبة مهمة من التاريخ العُماني هناك، ولا ندري من المستفيد من ضياعها؟!.

وفي الحقيقة؛ فإنّ الراحل جمعة الماجد بذل من خلال مركزه الرائد للثقافة والتراث في دبي جهودًا في جمع التراث العُماني في زنجبار، حيث نسخ جميع موجودات المتحف الوطني الزنجباري وجمع كلَّ ما استطاع الوصول إليه وجعله متاحًا لكلِّ المراجعين من الباحثين والأكاديميين، إذ إنه استطاع أن يحافظ على البقية الباقية من مفردات ذلك التراث الكثيرة، وهو ما فعله كذلك الراحل السيد محمد بن أحمد البوسعيدي، إذ جمع بعض الوثائق والمخطوطات وأتاحها للباحثين.

كان سيف وسليمان ومرافقُنا في تلك الجولة أحمد المزروعي في حديث طويل ونحن عائدون إلى الفندق، وكنتُ أسمع أصواتهم فقط، بينما كان فكري قد ذهب بعيدًا إلى السؤال الحائر: أين هي كتب ومخطوطات العُمانيين في زنجبار؟ أين مراسلات السلاطين؟ أين الرسائل الخاصة التي كتبها العُمانيون في زنجبار لذويهم في عُمان والعكس؟ أين دواوين أشعارهم؟ أين وثائق أوقافهم؟ أين وصاياهم؟! سرح فكري بعيدًا ووصل ثانيةً إلى “المتوني” حيث عاش ومات ودُفن الشيخ ناصر بن جاعد الخروصي، وكنتُ أسأل نفسي: أين هي مؤلفاته الكثيرة؟ أين اختفت؟ ولماذا لم تر النور؟ أين هي الكتب التي أوقفها السيد حمود بن أحمد البوسعيدي لطلبة العلم في مساجده الثلاثة، ومن ضمنها كتب الشيخ ناصر بن أبي نبهان؟ أين أشهر مؤلفاته وهو كتاب “الحق اليقين” الذي ألفه في ستة مجلدات جوابًا على سؤال طويل يتعلق بقضايا العقيدة؟ أين كتاب “لطائف المنن في أحكام السنن”؟

سرحتُ طويلًا، وحلّقَت روحي وهي حائرة عطشى بعيدًا عن زنجبار، وعادت بي الذاكرة إلى عام 2006م حيث قرأتُ في منتدى “سبلة العرب” الإلكتروني، موضوعًا حول سرقة التراث القومي (ما يزال موجودًا في شبكة الإنترنت حتى اليوم) قالت التفاصيل فيه إنّ إحدى وزارات الدولة شكلت فريقًا من ثلاثة أشخاص عُمانييّن وهولندي (خبير) للذهاب إلى زنجبار لتتبع وجمع المخطوطات وأمهات الكتب، وجرت الاستعانة بالسفارة هناك، وبدأت رحلة التقصي، وتهافت العُمانيون على تقديم ما لديهم من أثمن المخطوطات ونفائس أمهات الكتب لتصويرها ثم إعادتها إليهم، وبالفعل جُمع ما يملأ ثلاث حقائب كبيرة، ثم شحنت لكن ليس إلى عُمان بل إلى هولندا؛ واختفى الخبير مع المخطوطات، وانتهت مهمة العُمانييَّن وعادا إلى أرض الوطن خاويَيْ الوفاض. كتبتُ حينها: “إنّ خبرًا كهذا كان يستدعي إجراء تحقيق كامل، ولكنه مرّ مرور الكرام ولم يُثر أية ردة فعل، ممّا يطرح تساؤلات كثيرة - إن كان الخبر صحيحًا - أولها لماذا لم يُلاحق الخبير الهولندي الذي (نصب) على القوم قانونيًّا وأنتربوليًّا؟ ولماذا تُرك له الحبل على الغارب ليحتضن هو وحده المخطوطات؟!.

لا يمكن بالطبع أن نتجاهل الدور الكبير الذي تضطلع به هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية في جمع الوثائق العُمانية والحفاظ عليها، فهو دور كبير ونبيل ومجهود واضح تشكر عليه؛ وقد آن الأوان - كخطوة تالية بعد الجمع - أن يُهتمَّ بدراسة وتحقيق المخطوطات العُمانية بأيدي مختصين حتى يعرف العُمانيون تاريخهم وماضيهم التليد؛ ومن نافلة القول إنه عندما يعرف أيُّ إنسان تاريخه وماضيه تمام المعرفة سينعكس ذلك على سلوكه الشخصي وأخلاقه وتصرفاته في الحاضر والمستقبل. 

Monday, September 8, 2025

حوارٌ مع حمود البرواني

 زاهر بن حارث المحروقي

أثير:3 سبتمبر 2025

نحن نغادر البيت الذي سكنه حمود بن محمد البرواني، متجهين إلى مُشاهدة بقية معالم المدينة الحجرية، كان بالي مشغولًا به. وجدتُ نفسي في حوار متخيّل معه، ولم يكن سهلًا أن أجري هذا الحوار وأكتُبه، فأنا لم ألتقِ به شخصيًّا، إذ مضى على “استشهاده” عند البعض، و“قتله” عند البعض الأخر أكثرُ من نصف قرن. أي أنّ الآراء قد تباينت حوله وحول مصيره أيضًا، لكنني حاولتُ أن أستحضر صوته وفكره، وربما حتى مشاعره، بقدر ما تسمح به المراجع والذاكرة والخيال معًا.

حمود بن محمد البرواني

تركتُ سيف المحروقي ومسعود الريامي يتحدّثان، وقلتُ لنفسي: اسرق دقائق أو ثوانٍ قليلة، واغتنم فرصة خروجك من بيت البرواني وتحدّث معه. سألتُه: “هل كان اغتيالك لعبيد كارومي انتقامًا شخصيًّا؟ أم تصفية حسابات بين أطراف، كنتَ أنتَ مجرد أداة تنفيذ فيها؟”.

أجابني بهدوء: “دعني أسألك قبل أن أجيب عن سؤالك. ما الذي دعاك أنتَ أن تلعب لعبة - وأنت طفل - تتخيّل فيها أنك تقتل كارومي؟”، وقبل أن أجيب واصل حديثه: “ربما كانت كلّ تلك الأسباب مجتمعة. لكن ما دفعني فعلًا هو رؤيتي لمقتلة العُمانيين رأي العين، والتمثيل بجثثهم، واغتصاب نسائهم، ونهب ثرواتهم، ودفنهم أحياء، وتهجيرهم من زنجبار. كان أبي واحدًا منهم، ولم نكن نعلم مصيره، غير أنّ الله سبحانه وتعالى قيّض أناسًا كُتب عليهم الإعدام، لكن الله أنجاهم وكانوا شهودًا على تلك الحادثة الأليمة، التي عرفتُ بها فيما بعد، فظلَّ قلبي يشتعل نارًا. لقد أُمر أبي ومن معه من الضحايا - تحت تهديد السلاح - بحفر قبر، ثم أطلقت النار عليهم ليسقطوا سريعًا في تلك الحفرة، دون محاكمة ودون جريرة ارتكبوها.

استُشهد مع أبي في هذه الحادثة كلٌ من محمد بن سالم البرواني (الشهير بجينجا)، وعامر بن زاهر الإسماعيلي، وحمزة بن محمد. وأهيل التراب على الحفرة دون التأكد من أنّ هناك من قد يكون به رمقٌ من الحياة. نفذوا جريمتهم تلك بدم بارد على مرأى من مجموعة من السجناء العُمانيين، الذين أحضروا إلى ذلك المكان خصيصًا لترهيبهم، وليؤمروا بعد ذلك بردم القبر. كان من ضمن هذه المجموعة سعيد بن علي بن حمود الحارثي وعبد الرحمن حيدر وسلطان بن بريك وهو من أصل حضرمي، وجوخة بنت محمد بن سالم بن علي الريامية، - وهي امرأة عُرفت بالسخاء وبنشاطها الاجتماعي -. وبعد أن فرغوا من ردم القبر قيل لهم إنّ قتلهم سيكون في الغد وبالطريقة التي شاهدوها“.

سكت حمود لحظات، ثم أضاف: “طريقة قتل والدي ومن معه، عرفناها من خلال هذه المجموعة التي نجت من الموت بمعجزة إلهية، إذ لم يُقتادوا إلى ذلك المصير المشؤوم في اليوم التالي كما كان مقررًا، وكأنّ رجالات القتل والتعذيب غفلوا عنهم فبقوا في السجن حتى أفرج عنهم”.

سألني: “هل عرفتَ سبب سؤالي لك: ما الذي جعلك تلعب لعبة القتل تلك وأنت بعيدٌ من موقع الانقلاب ولم يصبك ما أصابنا؟ لقد تألم قلبك - وأنت الطفل الصغير - من مصير إخوانك في الدم. ثم إنّ ما تعرضْتَ له أنت وأقرانُك من سخرية وتهديد، لا يمكن أن يقارن بما عشناه نحن في الواقع.

ألم تكتب أنتَ مرةً أنّ حكايات زنجبار تحتاج إلى مؤلفات كثيرة؟! أنا أتفق معك في هذه النقطة، فما قيل غيضٌ من فيض، ونحن عرفنا قصة استشهاد أبي ومَن معه، لأنّ الله كتب الحياة لمن شهد الحادثة، ولكن هناك المئات ذهبوا واختفوا دون أن يعلم بهم أحد، منهم والد الرجل الطيب الذي يمشي معكم الآن" (يقصد مسعود).

سألتُه: “يقول بعضُهم إنك بطلٌ قومي وإنك شهيد، بينما يراك آخرون مجرمًا قتل رئيس دولة. كيف ترى نفسك؟”

ردّ: “أرى نفسي ابنًا بارًّا لوالد قُتل ظلمًا، وعُمانيًّا لم يجد وسيلة أخرى للرد على كلِّ المظالم التي وقعت للعُمانيين. أما الألقاب، فليطلقوها كما يشاؤون. لا يهمني - وأنا في العالم الآخر - أن أكون بطلًا أو مجرمًا في نظر الناس، المهم أني لم أبع ضميري كما باعه الآخرون”.

هنا سألتُه: “هل كان الانتقام لوالدك فقط؟!”. قال: “وأنا في العالم الآخر أعلم أنّ هناك من قال ذلك. وهناك من قال إني لعبة في مشروع أكبر مني، لكني كما قلتُ لك: كلُّ ذلك لا يهم. أنا فخورٌ أني انتقمتُ لأرواح الآلاف من الأبرياء”.

سألتُه عن لحظة الاغتيال، فصمت قليلًا، ثم قال:

“الغريب أنني كنتُ ساكنًا تمامًا. دخلتُ عليه بكلِّ ثقة. لم أرتجف، لم أتردد. كنتُ فقط أنفذ. كأنّ الزمن توقف. كان داخلي يمتلئ بمشاهد القتل التي رأيتُها لعُمانيين عزّل، وبأصوات الأمهات، ونظرات الأطفال، والمقابر الجماعية، وقصص الفقد المؤلمة. كان صوتُ أبي يحفزني، ويدعوني: تقدّم يا حمود ولا تخف، تقدّم يا حمود، تقدّم ولا تخف. كان ذلك الصوت يبث في نفسي الراحة والطمأنينة والسكينة”.

ثم التفت إليّ، وصوتُه يتهادى بشيء من الطمأنينة وقال: “تريد أن تعرف كيف كانت لحظتي الأخيرة؟ سأقول لك، في ثانية واحدة فقط، شعرتُ كأنني انسلخت من هذا العالم. لا ألم، لا صراخ، فقط هدوء عجيب. رأيتُ أبي. نعم أبي كان هناك ينتظرني على الطرف الآخر. احتضنني بقوة لم أعهدها فيه من قبل، وهو يقول: “أهلًا يا حمود يا ولدي، أنت فعلًا ابن أبيك، أنت فعلًا ابن أبيك. ما إن فرغ من كلماته حتى رأيتُ آلاف الأرواح تنتظرني، كانت تبتسم وتضحك في آنٍ واحد. كانوا ضحايا الانقلاب، شهداء المذابح من 12 يناير 1964، حتى هذه اللحظة في 7 أبريل 1972. كنتُ بين تلك الأرواح عريسًا في زفة الشهداء. لم أكن ميِّتًا، كنتُ حيًّا معهم. لكني لاحظتُ أنّ هناك من بين المستقبلين من تختلف سحناتُهم عن سحنات الشهداء. كان في الاستقبال السلاطين والعلماء والشعراء والقضاة والشيوخ العُمانيون الذين عاشوا في هذه الجزيرة منذ مئات السنين”.

صمت قليلًا، وابتسم ابتسامة هادئة كأنه يراهم من جديد، وقال: “في تلك اللحظة فقط، شعرتُ أني وصلت”.

سألته: “هل ندمت على ما فعلت؟”.

التفتَ إليّ وبدا في عينيه شيء من الفخر والحنين، وقال بنبرة هادئة: “لقد فرحتَ، وأنت ابن العشر سنوات، حين علمتَ بما فعلتُه أنا، أتعرف لماذا؟ لأنّ الأطفال يعيشون على الفطرة، هم مرآة الحقيقة. حين فرحتَ أنت، وفرح أقرانُك، ومن هم في سنك، تيقنتُ أنّ ما فعلتُه كان يتّسق مع العدالة والكرامة، مع ردّ المهانة، فكيف تسألني اليوم: هل ندمت؟”.

بدا عليه شرود عميق، وقال بصوت منخفض كأنما يحدِّث نفسه: “تعرف؟ كلما تابعتُ ما يقدّمه الفلسطينيون من تضحيات، أتذكّر جيدًا أنّ منبع الشجاعة ليس التدريب ولا السلاح، بل الإيمان. أولئك يقاتلون لأنهم مقتنعون بعدالة قضيتهم، ولأنهم رأوا أهاليهم ممزقين أمام أعينهم، صارت الحياةُ والموتُ بالنسبة لهم سواء. وفي النهاية سينتصرون. أنا أيضًا سمعتُ عن والدي كيف قُتل بطريقة مهينة. بعد تلك اللحظة، لم أعد إنسانًا عاديًّا”.

ثم أردف بنبرة حادة: “ما يدفع الإنسان إلى التضحية القصوى هو الإحساس العميق بالظلم، والرغبة في أن ينكسر هذا الظلم يومًا ما، ولو بعدة طلقات”.

أعادتني كلمات حمود إلى فترة الثمانينيات من القرن الماضي عندما كنتُ أعدَّ وأقدّم برنامج “ضيف الأسبوع” في الإذاعة، فتحمستُ لمواصلة الحوار المتخيّل. وقبل أن أغادره، سألتُه عن نهايته، وقد كثرت الروايات حولها؛ إذ قيل إنه انتحر بعد تنفيذ العملية، وقيل إنّ الحراس أطلقوا عليه النار، بينما قال آخرون إنّ زميلًا له قتله بالخطأ أثناء الهروب. ابتسم بحزن وقال: “كلّ تلك الروايات قد تحمل جزءًا من الحقيقة، لكنها لا تعكس الواقع بالكامل. الشيء المؤكد أني لم أنتحر. بعد تنفيذ العملية، اندلع تبادلٌ لإطلاق النار. في خضم الفوضى، أصابتني رصاصة قاتلة. لا أعلم من أطلقها، وربما لم يكن مهمًا حينها. كنتُ مستعدًا للموت منذ لحظة اتخاذي القرار. المهم أنّ المهمة نجحت، والرسالة وصلت، وأنّ دم والدي ودماء الأبرياء لم تذهب سدى”.

تلاشت صورتُه أمامي، لكن صوته ظلّ يتردد في أذني، حتى سمعتُ صوتًا آخر يهمس لي من خلف كتفي: “وصلنا إلى البيت الذي تبحث عنه، هذا هو بيت المدفع”.

التفتُّ، فإذا هو مسعود الريامي، وإلى جانبه سيف المحروقي، وعدتُ من حواري مع حمود، إلى زنجبار الحقيقية.

*ملاحظة: حكاية استشهاد والد حمود ومَن معه، منقولة من كتاب ناصر بن عبد الله الريامي (زنجبار- شخصيات وأحداث).