Wednesday, July 16, 2025

بيت الراس والأميـرة التي أثارت حفيظة العرب

 زاهر بن حارث المحروقي

أثير، 16 يوليو 2025

عد عودتي من زيارتي الأولى لزنجبار في ديسمبر 2024م بفترة غير قصيرة، تلقيتُ رسالة واتسب من الصديق سالم بن محمد الخنجري:

“أخي زاهر.. إذا زرتَ زنجبار مرةً أخرى هناك مَعلمٌ تاريخيّ اسمه بيت الراس، ما زالت بعض أطلاله قائمة، وهو غير بعيد عن قصر بيت المتوني. أرجو أن تذهب إليه. كثيرون لا يعرفون بيت الراس، هناك من يعتقدُ أنّ السيد سعيد بن سلطان خصّصه للشيخ العالِم ناصر بن جاعد الخروصي للتعليم، وهو الذي أسماه بهذا الاسم نسبة إلى [بيت الرأس] الكائن في العلياء بولاية العوابي في عُمان”.

الرسالة مشجِّعة ومحفزة لي لأهتم بالبحث عن بيت الراس هذا، خاصة أنها المرة الأولى التي أسمع فيها عنه، وقلتُ لنفسي: “سأجعل زيارته ضمن الأولويات في السفرة المقبلة لزنجبار بإذن الله”، وهو ما تحقّق بالفعل، والحمد لله. بعد الرسالة تواصلتُ مع بعض أقرباء الشيخ ناصر بن جاعد الخروصي، لكنّ معظم إجاباتهم كانت تشير إلى عدم صحة معلومة أنّ السيد سعيد بن سلطان خصّص البيت للشيخ ناصر للتعليم، وإن لم يستنكرها البعض، إذ سبق وأن مرّت بهم. لكن نفسي كانت تحدّثني بضرورة البحث عن الموضوع وربط بيتَيْ الراس في عُمان وزنجبار ببعضهما البعض.

شددنا الرحال إلى زنجبار للمرة الثانية - أنا ورفيق رحلتي السابقة سيف المحروقي - يوم الجمعة 25 أبريل 2025م بعد أن تواصلنا مع مرافقنا محمد بن أحمد الفلاحي، المعروف بـ“ود العم“، والشهير بالمقاطع الترويجية لزنجبار والتي يُنهيها دائمًا بصرخة: “صح”، وطلبنا منه أن يُدرج زيارة بيت الراس ضمن البرنامج، وهو ما تحقق لنا بالفعل يوم السبت 26 أبريل 2025م.

ونحن في الطريق من المدينة الحجرية إلى بيت الراس، كنتُ أفكّر في أهمية الحفاظ على بيوت بعض الشخصيات التاريخية البارزة، إذ إنّ الإهمال أدى إلى غياب معالمها، وفي أحيان أخرى أدى إلى عدم معرفة مواقعها، وهو في تصوري تفريط في ذاكرة الأمة؛ فهذه البيوت هي شواهد حية تُخلّد سيرة أصحابها وتُقرّب الأجيال من إرثهم الحضاري، وكان في ذهني المطرب العالمي فريدي ميركوري المولود في زنجبار في الخامس من سبتمبر 1946م والذي أصبح فيما بعد المغنّي الرئيسي لفرقة “الملكة” البريطانية الشهيرة، إذ تحوّل البيتُ الذي وُلد فيه في “بوستر” في حارة “شنجاني”، إلى متحف يضمّ تاريخه ومقتنياته، وفي المقابل دار في خاطري سؤالٌ طرحه عليّ الصديق مسعود بن عبد الله الريامي: هل بيت الشيخ أبي مسلم البهلاني ما زال موجودًا في زنجبار؟ إنه سؤالٌ مهمٌ حقًا، لكن إذا كان شخصٌ مثل مسعود يسألني أنا سؤالًا كهذا - وهو الخبير ببيوت المدينة الحجرية كلها - فهل هناك من سيعرف الإجابة أكثر منه؟!. أوضحتُ له أنني زرتُ قبر الشيخ البهلاني وهو معروفٌ في منطقة “مويمبي لادو” جنب مسجد الجمعية العربية، أما عن بيته فالأمر يحتاج إلى بحث، لكن ما يُتداول وليس هناك ما يؤكده، أنّه كان في منطقة ماليندي بالقرب من جامع الشوافع، وإنه لخطبٌ جلل حقًا أن يختفي بيت شخصية مهمة كأبي مسلم البهلاني.

للوصول إلى “بيت الراس” لا بد من الدخول إلى باحة مدرسة فنية ثانوية بُنيت في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وأطلق عليها اسم مدرسة السيد خليفة الثانوية، ويبدو أنها حُوّلت فيما بعد إلى مدرسة أو معهد لتكوين المعلمين، لكن للوهلة الأولى سقط من ذهني الربطُ بين بيتَيْ الراس في عُمان وزنجبار؛ فما بقي من أطلال البيت تدلّ على أنه كان بيتًا عملاقًا لا يمكن لشخص مثل الشيخ ناصر - وهو العالِم الزاهد - أن يعيش فيه.

في هذا المكان كانت لي أول تجربة تسجيل مقطع مرئي، تساءلتُ فيه عن العلاقة بين هذا البيت وبيت الراس في العلياء في ولاية العوابي. صعدنا إلى البيت سالكين السّلالم الحجريّة التي تؤدّي إلى الأعلى، وفي منتصف درجات السّلم وقفتُ فجأة لأتأمّل جمال ما حولي. سألتُ سيف: ترى هل يحتاج الشيخ ناصر إلى بيت ضخم كهذا؟ ولو فرضنا أنه بيته، فكم مرّة صعد ونزل هذه السلالم في رحلة ذهابه وإيابه إلى مسجده؟ وكم من طالب علم صعد هذه الدّرجات يومًا ما بحثًا عن إجابة لمسألة استعصى عليه حلّها؟، بل كيف بُنيت هذه الدّرجات أصلًا؟ وكيف استصلحت الأراضي الزّراعيّة المحيطة به؟ وهل صلى الشيخ ناصر في هذا المسجد القريب من البيت؟!

من المفارقات أننا في الوقت الذي كنّا نبحث فيه عن تاريخ بيت الراس في زنجبار، كان المعرض الدولي للكتاب في مسقط يدشن كتاب “تاريخ زنجبار المصور (1800 - 1964)”، للأستاذ رياض بن عبد الله بن سعيد البوسعيدي، الصادر عن دار “الآن ناشرون وموزعون”، وهو ربيب القصور السلطانية في زنجبار، قدّم فيه معلومات قيّمة وصورًا عن أطلال البيت؛ مّا ينفي الربط بين بيتَيْ الراس في عُمان وزنجبار إلا في تشابه الاسم فقط.

أهم المعلومات الواردة في الكتاب تقول إنه في عام 1847م وفي سن 56 عامًا، تزوج السيد سعيد بن سلطان الأميرة الفارسية شهرزاد ابنة الأمير أرش ميرزا، وحفيدة شاه بلاد فارس. كانت شابة جميلة ومفعمة بالحيوية تعيش حياة باذخة، انتقلت إلى زنجبار في عام 1849م برفقة حاشية كبيرة مكونة من 150 مرافقًا، بمن فيهم فرسان وخيولهم، وكانت بارعة في استخدام السيوف والرماية وتحمل دائمًا خنجرًا معها. يبدو أنّ حياة بيت المتوني لم تعجبها، خاصة أنّ معها حاشية كبيرة، فبدأ السيد سعيد بن سلطان في بناء قصر لها في بيت الراس، وجلب من بلاد فارس مصممين وحرفيين وبنائين، وبنى لها حمامات مزخرفة على الطراز الفارسي في منطقة “كيديتشي”، على بُعد بضع كيلو مترات من المدينة الحجرية، ما تزال أطلالها باقية حتى اللحظة.

أثار سلوك هذه الأميرة المتعالي الاستياء بين العرب، الذين لم يعهدوا هذا النوع من الحياة، وكذلك أثارت قدرًا كبيرًا من الدهشة والتعجب بين سيدات العائلة المالكة، وهو ما أشار إليه الشيخ سعيد المغيري في كتابه “جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار”، ورغم أنّ السيد سعيد شرع في بناء بيت الراس لها ولحاشيتها، إلا أنها أصبحت أكثر إسرافًا وتبذيرًا، وتزايدت مطالبُها، فغضب السلطان منها وطلقها، فعادت إلى بلادها دون أن يكون لها أيُّ ذرية من السيد سعيد.

توفي السيد سعيد قبل اكتمال بناء قصر بيت الراس، ولم يرغب خليفتُه السلطان ماجد في إكماله، فأرجع جميع البنائين الفرس إلى بلادهم، وأثناء بناء سكة حديد بوبوبو، هُدمت جدران القصر غير المكتمل واستُخدمت الحجارة لتعبيد مسار السكة الحديدية. لم يتبق من المبنى الآن سوى جزء صغير منه، وهو الشرفة العملاقة التي تتميّز بأقواسها العالية والدرجات التي تؤدي إلى أحد جوانبها، وقد بُني القصر باستخدام الحجر المرجاني، وهو مادة البناء التقليدية الشائعة في زنجبار، نظرًا لتوفرها في الجزيرة.

كانت تلك قصة بيت الراس الذي نغادره الآن لنكمل صورة حياة الأميرة الفارسية من خلال زيارتنا للحمامات الفارسية. تقع هذه الحمامات في منطقة كيديتشي (Kidichi)، شمال غرب زنجبار، كما سبقت الإشارة، على بُعد كيلومترات شرق المدينة الحجرية، بالقرب من مزارع التوابل الشهيرة، وكما مرَّ سابقًا فقد بناها السيد سعيد بن سلطان هدية لزوجته الفارسية شهرزاد، وحتى الآن احتفظت تلك الحمامات بطابعها القديم؛ مّا يدلّ على متانة البناء، وتتميّز بتصميمها المستوحى من العمارة الفارسية التقليدية، وقد تجوّل بنا المرشد السياحي في غرف البخار والماء الساخن والبارد، وشرح لنا عن نظام التهوية الذي يُعدُّ في ذلك الزمان متطورًا، وقال إنّ الأميرة كانت تَقْدِم من المدينة الحجرية يوميًّا فوق الحصان لتستمتع بالبخار والماء الساخن، وفي السابق كان بيت العجائب - في المدينة الحجرية - يُرى من هنا بوضوح (مشيرًا إلى زاوية معينة)، نظرًا لارتفاعها عن مستوى سطح البحر.

ونحن ننهي الزيارة، كان سيف متشككًا من قدرة الأميرة الحضور يوميَّا من المدينة الحجرية إلى هذا المكان البعيد نوعًا ما، لكن في كلِّ الأحوال ذهبَت الأميرة وتركت تلك الآثار مع ذكرى سيئة، حسب الشيخ المغيري الذي يقول إنها أثارت حفيظة العرب بتصرفاتها.

لكن هل انتهت قصة الأميرة الفارسية بطلاقها من السيد سعيد وعودتِها إلى بلادها؟! لا. يقول الأستاذ رياض البوسعيدي في كتابه “تاريخ زنجبار المصور”: “بعد عودتها إلى بلاد فارس، وبعد بضع سنوات، عندما ذهب السيد سعيد لمحاربة الفرس في هرمز، رأى زوجته السابقة مرةً أخرى، لكنها كانت على حصانها تقود وحدة من الجيش الفارسي ضده. لم ينتصر السيد سعيد في المعركة، وعاد إلى عُمان”.

Tuesday, July 15, 2025

عمان وزنجبار.. علاقات مستدامة

 د.عبدالملك عبدالله الهنائي

جريدة عمان، 14 يوليو 2025

تعود العلاقة بين عمان و شرق أفريقيا إلى عصور موغلة في التاريخ، لكننا لا نعرف عن بداياتها سوى ما وصلنا عن لجوء ملكي عمان سليمان وسعيد ابني عباد بن عبد بن الجلندى إلى تلك البلاد على إثر قيام الأمويين بإخضاع عمان لسلطتهم، وذلك في القرن الأول الهجري، أي السابع الميلادي. لكني لستُ هنا بصدد الكتابة عن تاريخ العلاقة بين عمان وشرق أفريقيا؛ فقد كُتب الكثير عن هذا الموضوع، ورفوف المكتبات وشبكة الإنترنت بها عدد هائل من الصفحات التي كتبها خبراء وباحثون ورحالة وصحفيون ومغامرون.

ما أردت الكتابة عنه جانب مما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين عمان وذلك الجزء من العالم، وتحديدا مع زنجبار التي هي اليوم جزء من جمهورية تنزانيا المتحدة حيث مازال كثير من العمانيين يرتبطون معها بعلاقات ثقافية واجتماعية واقتصادية وثيقة. وهنا يجب التأكيد على أن زنجبار جزء من جمهورية تنزانيا المتحدة، ويجب التعامل معها على ذلك الأساس؛ تجنبا لأي التباس قد يعكر صفو العلاقة بين عمان وتنزانيا.

حتى عهد قريب لاسيما قبل ظهور «الترمبية» -إن صح التعبير- كانت هناك ثلاث أسس للعلاقات بين الدول؛ فهي تكون على أساس المصالح المشتركة وهو الغالب، أو على أساس أيديولوجي مثل العلاقات التي تطورت بين بعض الدول خلال فترة الحرب الباردة، أو أنها تقوم في جانب منها على الأخلاق والقيم الإنسانية، مثل: احترام مبادئ حقوق الإنسان، والعدالة، والسلم العالمي وغير ذلك.

وفيما يتعلق بمستقبل علاقات عمان مع زنجبار خاصة، ومع تنزانيا عامة -وهو موضوع هذا المقال-؛ فإنني أرى أنه لا بد أن تؤسّس على عاملين اثنين، وبشكل متوزان، وهما عامل الأخلاق والقيم الإنسانية، وعامل المصالح المشتركة. وليس من التحيز لبلدي أو مجانبة للحقيقة القول: إن عمان هي من الدول النادرة في العالم التي مازالت تضع وزنا كبيرا لعامل الأخلاق والقيم الإنسانية في علاقاتها الدولية. ولما كان الأمر كذلك فإن جعل هذا العامل في المقدمة في العلاقة مع جمهورية تنزانيا مهم من النواحي السياسية والاقتصادية والدبلوماسية.

صحيح أن هناك من العمليين، أو البراجماتيين من يضعون المصالح المشتركة في مقدمة أسس العلاقة بين الدول، لكن العلاقة مع زنجبار تحتم أن تكون الأخلاق والقيم الإنسانية في المقدمة. ربما نحتاج إلى الرجوع إلى جانب من التاريخ غير البعيد لشرح وجهة نظرنا هذه، ولتقريب الموضوع إلى القراء الكرام.

نعرف أنه في ثلاثينيات التاسع عشر الميلادي نقل السيد سعيد بن سلطان عاصمة حكمه من مسقط إلى زنجبار؛ لأسباب كثيرة لا يتسع المقال لذكرها، وإن كانت الأسباب الاقتصادية هي الأبرز. وخلال فترة حكم السيد سعيد ازدهرت التجارة بين عمان وشرق أفريقيا، وزادت إيرادات عمان المالية، سواء من إيرادات الجمارك، أو من الصادرات من المنتجات الزراعية. صحيح أنه كان لعمان إيرادات مالية من موانئ ومناطق أخرى، مثل: مسقط، وبندر عباس، وجوادر، لكن معظم إيرادات الدولة العمانية في ذلك الوقت كان مصدره شرق أفريقيا، خاصة زنجبار. وعندما توفي السيد سعيد بن سلطان واختلف أبناؤه على حكم الإمبراطورية قلّت موارد عمان الاقتصادية، وتأثرت إيراداتها المالية بصورة كبيرة، وأثر ذلك على استقرارها السياسي والاجتماعي.

المعلوم أن أبناء السيد سعيد بن سلطان اتفقوا بعد فترة من وفاة والدهم على تقسيم الامبراطورية، وبموجب الاتفاق التزم الجانب الأفريقي بتقديم معونة مالية سنوية لعمان قدرها أربعون ألف قرش فضة من عملة ماريا تيريزا، وقد سميت «معونة زنجبار»، وبقيت حكومة زنجبار تدفع تلك المعونة لسنوات طويلة. وبدراسة اقتصاد زنجبار ومواردها الموالية في تلك الفترة نتحقق أنها جاءت من مصادر داخلية، وليس ريعا يأتي من الخارج.

وأهم تلك المصادر الضرائب، والرسوم الجمركية، والأيدي العاملة الرخيصة، خاصة في المزارع والموانئ والأنشطة التجارية، وهو ما يؤكد أنه من الواجب جعل عامل الأخلاق والقيم الإنسانية في مقدمة الأسس التي تبنى عليها العلاقة بين عمان وتلك البلاد.

أما الأساس الثاني في العلاقة بين الجانبين فهو المصالح المشتركة. المعروف أن عمان قدمت ولازالت تقدم كثيرا من المساعدات لزنجبار، سواء لترميم الآثار، أو في تحسين البنية الأساسية فيها، كما أنه مازال لبعض العمانيين حاليا مصالح اقتصادية هناك، سواء كان ذلك في قطاع العقار، أو في قطاع السياحة أو غيرها من القطاعات الاقتصادية، ومن المناسب تشجيع القطاع الخاص والقطاع الأهلي العماني، ممثلا في الجمعيات الخيرية، على زيادة النشاط التجاري و الاستثماري والخيري هناك.

ولا شك أن تنمية وتطوير العلاقة بين الجانبين سيساعد على منع آخرين ممن يحاولون تهميش استمرار الدور العماني في تلك البلاد. ولتنفيذ ذلك بمنهجية ومهنية عالية؛ لا بد من تبني برنامج تنموي مستدام وبأهداف واضحة للمديات القصيرة والمتوسطة والبعيدة. الهدف البرنامج المقترح المساعدة على إحداث تنمية شاملة ومستدامة في زنجبار؛ بحيث يركز على تمويل مشاريع في مجال التعليم، لاسيما التعليم الأساسي والمهني، وكذلك تمويل مشاريع القطاع الصحي، خاصة المراكز الصحية ومشاريع الصحة العامة.

كما أن البرنامج يجب أن يتضمن تمويل مشاريع للإسكان وفي البنية الأساسية، وبشكل خاص مشاريع الطرق التي تحتاج إلى تطوير واسع، لاسيما داخل مدينة زنجبار، إلى غير ذلك من مشاريع، سواء داخل المدن أو في الأرياف.

قد يتساءل البعض عن مدى كفاءة الجهاز الإداري في زنجبار لاستخدام موارد هذا البرنامج، وهو تساؤل في محله؛ لذلك من الأفضل التفاهم مع حكومة زنجبار على أولويات البرنامج والمشاريع التي ستمول، وأن تكون إدارة هذا البرنامج من سلطنة عُمان.

وفي كل الأحوال، وبغض النظر عن نوع مشاريع البرنامج، وحجم تمويله، وكيفية إدارته؛ فإنه من الأهمية السياسية والدبلوماسية أن تتبنى سلطنة عمان برنامجا تنمويا طويل الأجل في زنجبار، وألا تترك تلك البقعة المهمة لها من العالم لتنبت فيها ضغائن الماضي، أو لترعرع عليها مكائد المستقبل.


السيد خالد بن برغش: أبدًا لم تكن حربًا

 زاهر بن حارث المحروقي

أثير : 8 يوليو 2025

صلينا أنا ورفيق رحلتي إلى زنجبار سيف بن سعود المحروقي صلاتي المغرب والعشاء في مسجد ”فروضاني“. بعد خروجنا من المسجد وسلامِنا على شاب عُماني يبيع الفوشار (”الفرّاخ“ كما نسميه في لهجتنا العُمانية) يدعى حمد الغيثي، لمحتُ شبحًا نورانيًّا يمشي من حديقةٍ بين بيت العجائب وبيت الساحل، حيث كان قصر بيت الحكم قبل أن تدمره بريطانيا عام 1896، احتجاجًا على تولي السيد خالد بن برغش الحكم دون إذنها. سألتُ سيف: ”هل ترى ما أراه؟ أم أني أتخيّل شيئًا ليس له وجود؟!“. أجاب: ”ما تشاهده حقيقة وليس خيالًا“. قلتُ: ”إذن علينا أن نحث الخطى لنتبيّن حقيقة ما نرى“. اتجه الخيال النوراني إلى المقبرة السلطانية القريبة، ووقف أمام قبور بعينها يقرأ الفاتحة ويدعو الله للنائمين في تلك القبور.

اقتربتُ منه فإذا هو شاب في مقتبل العمر، قصير القامة، أبيض اللون مع لحية سوداء كثة وعلى رأسه العمامة السعيدية، ملامحُه توحي بالطمأنينة والسكينة. وعندما رأى اندهاشي وأنا أركز على ملامح وجهه، بادرني بالكلام فورًا دون أن أساله: ”نعم أنا خالد بن برغش بن سعيد بن سلطان. اعتادتْ روحي بين فترة وأخرى أن تزور هذا المكان من العالم الآخر، لتشاهد ما أُخفي عني من لحظة الهجوم البريطاني البربري عليّ وعلى قصر الحكم. ذلك الاعتداء الذي أودى بحياة أكثر من خمسمائة روح بريئة، وكل جرمها أنها أرادت الحرية والاستقلال، ورفضت التبعية والهيمنة البريطانية“.

كانت أصوات الباعة في ساحة ”فروضاني“ تتداخل مع هدوء المقبرة. قلتُ: ”لم أتوقع أن ألتقي بك هنا! كيف ترى الأحداث التي جرت بعد أن تصدّيْتَ للبريطانيين؟“. رد: ”على المستوى الشخصي دفعتُ ثمنًا غاليًا بسبب موقفي، وانتقلتُ من منفى لآخر أنا وأولادي الذين ليس لهم أيّ ذنب. كانت أيامًا مضطربة، لكني -رغم مرور كلِّ تلك السنين- ثابت على إيماني بأني لم أكن مخطئًا حين قاومتُهم. فالبريطانيون لم يأتوا ليحفظوا مجدنا، بل ليخدموا مصالحهم، كما هي عادتهم في كلِّ زمان ومكان“. قلتُ: ”لكنهم انتصروا عليك بسرعة في تلك الحرب الشهيرة، وأصبحوا يتغنون بها كأقصر حرب في التاريخ، هل كنتَ تتوقع مثل هذه النتيجة؟“. رد بانفعال: ”من الخطأ تسمية الحادثة بالحرب، كانت عدوانًا سافرًا على دولة مستقلة وحاكم له تأييد شعبي كبير. ولكن ما أود قوله الآن هو أنّ أسلافي ومن جاء بعدي من السلاطين، ظنوا أنّ البريطانيين حلفاء لهم، فمهّدوا لهم الطريق ليبسطوا نفوذهم. عندما حان وقت المواجهة، كان الميزان مختلًا لصالحهم، وهذه نتيجة منطقية للأمور“.

أحسستُ أنّ النقاش بيننا أخذ يسخن، فطلبتُ من سيف أن يسجله صوتيًّا حتى لا أفوّت كلمة قد تكون مهمّة، وأن يلتقط لنا صورًا تذكارية، لكن السيد اعتذر قائلا: ”لا داعي لذلك. فمصيري درسٌ بليغ وقاس لكلّ الأحرار الذي يرفضون السيطرة الأجنبية على أوطانهم، لكن ضميري مرتاح، وهذا هو المهم“. سألتُه: ”هل ترى أنّ العُمانيين كانوا سُذّجًا في تعاملهم السياسي مع القوى الأجنبية؟“. أجاب: ”ليس كلهم، ولكن بعضهم لم يدرك للأسف أنّ الوعود السياسية لا تُحفظ إلا بمقدار القوة التي تقف وراءها. كنا نحكم زنجبار، ولكن بدون استعداد حقيقي للحفاظ على السيادة، فضعُف موقفنا. والتدافع الاستعماري الغربي للسيطرة على أفريقيا ليس جديدًا. ففي عهد والدي السلطان برغش، استولى الألمان على مناطق البر الأفريقي التابعة لنا، بالتواطؤ مع الحكومة البريطانية (المفترض أنها صديقة لنا)، وعندما احتج الوالد بشدة على هذا الاستيلاء غير القانوني، أرسل الألمان خمس سفن حربية إلى زنجبار، وأمهلوه أربعًا وعشرين ساعة، إما أن يرضخ للأمر الواقع أو يقصفوه إلى أن يستسلم، ولم يكن أمامه خيار سوى الموافقة“. هنا دخل سيف إلى الحوار، وسأل السيدَ خالد: ”لو كان بإمكانك إعادة كتابة التاريخ، ماذا كنتَ ستفعل بشكل مختلف؟“، أجاب: ”كنتُ سأعمل على بناء تحالفات أعمق مع القوى الأخرى، ربما مع بعض الدول الإسلامية الكبرى، أو حتى تشكيل قوة عسكرية توازي البريطانيين. ولكن التاريخ لا يُعاد، وإنما يُتعلَّم منه. وأنا تعلمتُ الكثير، ودفعتُ الثمن من حالي ومالي. وما يؤلمني أنّ عائلتي دفعت الثمن معي دون جريرة اقترفتها“. شعرتُ برغبة شديدة في مواساته، لكنني وجدتُ نفسي أطرح بعفوية هذا السؤال: ”هل ترى أنّ زنجبار فقدَت هويتَها بسبب تلك الأحداث؟“، وبالعفوية نفسها أجاب: ”زنجبار ظلت زنجبار، بأهلها وتراثها، ولكن النفوذ العُماني تراجع فيها، بدليل أنكم تدخلونها الآن زائرين بغرض السياحة لا أكثر. والسؤال الذي لَطالما فكرتُ فيه: هل من المنطق أن يذهب كلّ شيء كأنه لم يكن؟! ربما كان ذلك حتميًا ولا مفر من قدر الله، وهذا ما نؤمن به، ونحن في العالم الآخر نرى ما لا ترون ونعلم ما لا تعلمون، ولكن ربما كان يمكن تفادي الانقلاب، لو كانت القرارات مختلفة“.

في هذه اللحظة، علا صوت أذان العشاء، فابتسم السلطان خالد وردّد الأذان مع المؤذن، ثم قال بصوت هادئ: ”على الأقل، لم تقدر القوى العظمى على محو صوت الإيمان من هذه الأرض، وهذا كان أحد المخططات“. سألته: ”سيدي كيف تنظر إلى ما حدث في ذلك اليوم المشؤوم؟“ نظر إليّ نظرة عجيبة، هي خليط بين الحزن والكبرياء، ثم قال: ”لم يكن يومًا مشؤومًا فقط، بل كان لحظة فارقة في تاريخ زنجبار. حينما توليتُ الحكم، كنتُ أعلم أنّ بريطانيا لن تتسامح مع استقلالية قرارنا، لكنني لم أتصور أنّ الحرب ستكون بهذه السرعة والوحشية. كنتُ أظن أنّ لدينا فرصة للمقاومة. أعددنا بعض القوات، وأغلقنا الطرق المؤدية للقصر، لكن حين بدأت القذائف تتساقط، أدركنا أنّ البريطانيين لم يكونوا يريدون مجرد مفاوضات، بل كانوا يريدون حسم الأمر بشكل قاطع. القصف دمّر بيت الحكم وأجزاء كبيرة من بيت الساحل وبيت العجائب، وكانت الخسائر فادحة، ولم يكن أمامي خيار سوى البحث عن ملاذ آمن، حفاظًا على ما تبقى من أرواح الأبرياء الذين وقفوا معي ضد الهيمنة البريطانية“.

- ”وهكذا انتهى بك المطاف في القنصلية الألمانية؟“

- ”نعم، كان الخيار الوحيد المتاح في ذلك الوقت. لم يكن من الحكمة البقاء، وإلا لأريق مزيد من الدماء، وكان مصيري الاعتقال أو ما هو أسوأ. الألمان وفروا لي ملاذًا مؤقتًا، ولكن بعد ذلك بدأ نفيي من مكان إلى آخر، وكانت الرحلة طويلة ومؤلمة“.

- ”كيف ترى اليوم قرارك بعد هذه السنوات؟ هل كان بالإمكان التصرف بطريقة مختلفة؟“

- ”لو عاد الزمن، ربما كنتُ سأحاول التفاوض بشكل مختلف، أو إعداد دفاع أكثر قوة، لكن الظروف كانت شديدة التعقيد، والمصالح الدولية كانت أقوى من إرادة رجل واحد. ومع ذلك، أؤمن بأنّ الشعوب دائمًا تجد طريقها لاستعادة كرامتها، مهما طال الزمن“.

- ”هل تشعر بالحسرة على زنجبار؟ بعد أن ذهبَت عن العُمانيين؟!“

- ”زنجبار ستبقى دائمًا في قلبي. إنها أرض تحمل تاريخًا عظيمًا. وأفخر أنني كنتُ جزءًا من هذا التاريخ، وقد جعل منها جدي السيد سعيد بن سلطان عاصمةً هامةً، تتهافت إليها الدول الكبرى، كما إنّ إنجازات والدي السلطان برغش لا يمكن إنكارها. وكان لي شرف الدفاع عن سيادتها، ولو ليوم واحد فقط“.

- ”هل تسمح لي عندما أعود إلى عُمان أن أكتب عن لقائي بك هنا؟“

- ”وما المانع؟! لقد صرتُ جزءًا من التاريخ، ومن حقّ أيٍّ كان أن يكتب عني وعن أجدادي. ولكني أتمنى عليك أن تشير إلى حادثة تاريخية مهمة حدثت قبل ولادتي بعام، ولها ما بعدها، وستظهر يومًا ما عندما تُنشر الوثائق“.

- ”أي حادثة تقصد؟“

- ”في عام 1873، أبلغ الإنجليز أبي، عبر مبعوث بريطاني أثناء اجتماع مع كبار المسؤولين أنّ الأفارقة سينقلبون عليكم، إذا شعروا بأنّ البريطانيين هم حلفاؤهم وليس العُمانيين. كانت النبرة لا تخلو من تهديد لأبي السلطان برغش، وكانت الخطة واضحة، ولكنها للأسف لم تؤخذ على محمل الجد. وبعد مرور واحد وتسعين عامًا، أي في يناير 1964، نُفِّذ الانقلاب فعلًا كما تعلمون. عندما تطالعون الوثائق ستدركون أنّ ما أقوله ليس رأيًا، بل حقائق مدعومة بالأدلة. لقد طبخت الطبخة بنار هادئة“.

- ”سأنشر -إن شاء الله تعالى- ما تقوله حرفيّا، ونحن نتشوق لهذه الوثائق، حتى يكون الناس على بيّنة من الأمر“.

- ”رائع. هذا أمر يريحني مثلما أراحني مجرد البوح لك ولزميلك بما يعتمل في نفسي. وأود أن أشير إلى أنّ السلاطين كانوا على علم بما يجري، لكنهم للأسف يفتقرون إلى البصيرة والرؤية البعيدة. لم يتوقعوا أن ينقلب عليهم البريطانيون، كما حدث في عام 1964. لم يدركوا أنّ ما فعله البريطانيون في زنجبار قد يتكرر في أيّ مكان وفي أيّ زمان“.

- ”نعم. بدليل أنه تكرر كثيرًا في زماننا، وهناك قول شهير لرئيس عربي وُلِد بعد وفاتك بسنة واحدة، قال عندما تخلت عنه أمريكا: ”المتغطي بالأمريكان عريان“.

- ”من المؤلم أن يعرف الإنسان الحقيقة بعد فوات الأوان، أُضيف لمقولة هذا الرئيس أن المتغطي بالبريطانيين أيضًا عريان، وكذلك كلّ من يعتمد على الخارج على حساب شعبه“.

وجهنا -سيف وأنا- تحية إجلال وإكبار للسلطان خالد بن برغش، وقلنا له بلسان واحد: ”سيظل اسمك دومًا محفورًا في ذاكرة زنجبار وأهلها، ليس بوصفك مجرد سلطانٍ تولى العرش، بل كقائدٍ رفض الإملاءات الأجنبية وأصر على حماية سيادة وطنه“. ويبدو أنه ابتهج بهذا التقدير، فقد وضع يده على كتفي وقال وهو يبتسم بوقار: ”أشكرك يا أبا محمد“.

اندهشتُ من كونه يعرف اسمي، فسألتُه: هل تعرفني؟

”سلامتك زاهر. لو ما كنتُ أعرفك ما سافرتُ معك!“

هنا عاد لي وعيي، وانتبهتُ أنّ الذي وضع يده على كتفي وكلمني هو سيف وليس السيد خالد. سألتُه باستغراب: ”ألم تكن قبل قليل تحاور معي السيد خالد بن برغش؟“

”كم كان سيسعدني ذلك، لكنه مات منذ سنين طويلة، كما تعرف. كلّ ما في الأمر أنني شاهدتُك تنسلّ إلى المقبرة كالمسرنم، فتبعتُك. هيا، علينا العودة إلى الفندق الآن“.

عدنا إلى الفندق وكان فكري مشغولًا بخالد بن برغش، لأنه ظهر وكأنه في آخر حياته استسلم عندما كتب رسائل الاستعطاف للإنجليز (كما سبق وأن أشرتُ إلى ذلك)، هل تلك الرسائل تهز صورة البطل الذي قاوم الإنجليز؟ قد يخفت بعض الإعجاب، ولكن لا ينفي صلابة الرجل في شبابه، ثم إنّ الحادثة كلها تشير إلى نقطة هامة، هي أنّ الإنجليز وجّهوا رسالة من خلال تعاملهم مع خالد لمن خلفه، هي أنهم لن يتسامحوا مع من يقف ضدهم أبدًا.