Tuesday, March 25, 2025

في بيت مغامر عُماني لا يخشى المجهول

زاهر بن حارث المحروقي

جريدة عمان 24 مارس 2025

يوم الجمعة الثالث عشر من ديسمبر (2024) كان يومًا حافلًا، فقد بدأناه بزيارة بيت التاجر والمغامر العُماني حمد بن محمد المرجبي الشهير بـ«تيبو تيب» فـي منطقة «شنجاني». وبيتُ تيبوتيب يُعدّ من المعالم التاريخية المميزة التي تعكس الطابع الثقافـي والمعماري لزنجبار، وقد ارتبط بفترة التجارة المزدهرة التي شهدتها الجزيرة فـي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عندما كانت زنجبار مركزًا تجاريًّا مهمًّا للتوابل والعاج. ومعظم من سكن منطقة شنجاني هم من أثرياء العرب، وما يلفت النظر أنّ هناك شجرة كبيرة فـي الجانب الأيمن من البيت، قال لي الشيخ سالم بن محمد الخنجري الخبير بشؤون زنجبار، إنها تسمى «أوشنجا»، استجلبها المرجبي من خارج زنجبار، وسببُ التسمية أنّ ثمار الشجرة تشبه فصوصًا حمراء اللون وسُمِّيت المنطقة نسبة إلى هذه الشجرة، التي قاومت كلَّ الأحداث وبقيت صامدة حتى يومنا هذا، وشهدت كلَّ الأحداث الحلوة والمرة، ولو قُدّر لها أن تتكلم ماذا عساها أن تقول؟!. لم ندخل البيت لأنه مغلق، وقد أخَذَنا شابٌّ زنجباري إلى قبر المرجبي القريب من المكان، حيث كانت هناك مقبرة، إلا أنها طمرت ولم يبق إلا قبر المرجبي، والذي كان كثيرون يعتقدون لسنوات طويلة أنّ اسمه الأول «حُميد»، إلى أن جاء الباحث والمترجم العُماني الدكتور محمد المحروقي صحّح الاسم فـي مقدمته لكتاب «مغامر عُماني فـي أدغال أفريقيا» إلى حَمَد، معتمِدًا على طريقة كتابته من قبل المستشرقَيْن «برود» و«وايتلي» اللذين كانا يرسمانه هكذا (Hamed).

فـي تجوالنا بين البيت والقبر، بدتْ لنا المنطقة مرتبة نوعًا ما بوضع «الإنترلوك» على الممرات. أخذني الشاب إلى القبر فـيما انشغل سيف بتصوير بعض اللقطات للذكرى، قبل أن يقول لي: «أريد إطلاعك على شيء، ولكن ليس الآن». وقفنا أمام قبر «تيبوتيب»، مستذكرين سيرة ذلك المغامر الذي شغل العرب والأوروبيين سنين طويلة. رآه البعض مغامرًا، ورآه آخرون جنديَّا مقاتلًا شجاعًا مقدامًا، فـيما ذهب البعض إلى أنه مستكشف ساعد الغربيين على اكتشاف مجاهل إفريقيا وبحيراتها ومن ثَم استعمارها ونهب ثرواتها، ولَمْ يَخْلُ الأمر من كارهين له وحانقين عليه، لم يروا فـيه أكثر من كونه تاجرًا للعبيد لا يستحق تلك السمعة التي نالها؛ لكن تيبوتيب فـي الحقيقة هو كلّ هؤلاء.

ربما يسأل البعض من هو هذا المرجبي بالضبط؟ ولماذا أضحى شهيرًا لهذا الحد؟ وفـي ذلك نقول إنه أحد أبرز الشخصيات العُمانية فـي شرق إفريقيا خلال القرن التاسع عشر؛ فقد بدأ حياته تاجرًا، إلا أنه لم يكن تاجرًا عاديًّا، إذْ كان قائدًا للقوافل التي كانت تتنقل ما بين زنجبار والعمق الإفريقي، ولعب دورًا محوريًّا فـي تجارة العاج والقرنفل، وقيل الرقيق، وقادته همّته لاستكشاف المناطق الداخلية فـي العمق الإفريقي حتى وصل لأعماق الكونغو، حيث أضحى زعيمًا محليًّا على عدد من المناطق، ممّا ساعده على تأسيس شبكة تجارية واسعة، وأقام علاقات قوية مع السلطان العُماني برغش بن سعيد. كانت للمرجبي علاقات مع الأوروبيين وساعدهم فـي رحلاتهم الاستكشافـية باعتباره صاحب خبرة لا تدانى فـي العمق الإفريقي. أما لقب «تيبو تيب» فقد أُطلق عليه بسبب الصوت الذي كانت تصدره أسلحته النارية، والذي كان يُسمَع هكذا: «تيبو تيب»، وهذا الصوت يشير غالبًا إلى صوت سلاح رشاش، وربما أنّ كلامه كان سريعًا كهذا السلاح أو أنه كان سريعًا فـي مغامراته ولا يخشى المجهول ولا العواقب. وقد ظلّ المرجبي ذا نفوذ كبير فـي القارة الإفريقية حتى قبل سنوات قليلة من وفاته عام 1905، حين تقلّص هذا النفوذ لتنامي الهيمنة الأوروبية فـي القارة.

فـي طريق عودتنا من قبر تيبوتيب إلى الفندق أطلعني سيف على ما أثار انتباهه، وهو أنه شاهد أغطية الصرف الصحي مكتوبًا عليها باللغة العربية «بلدية أبوظبي». أخبرتُه أنني قرأتُ بعض الأخبار عن بيع المنزل لشركةٍ خليجية بغرض استخدامه كمرفق لفندق ضمن الكثير من المنازل التي بيعت لمستثمرين، ولكن البيع لم يثبت حتى الآن، لأنّ اللوحة التعريفـية بالمرجبي ما زالت معلقة فـي الجدار. تعود ملكية المنزل أساسًا إلى الشيخ مسعود بن علي الريامي بعد أن اشتراه من ورثة المرجبي، إلا أنّ حكومة زنجبار صادرته ضمن الممتلكات التي صادرتها من العُمانيين عام 1964، وتركت تلك المنازل نهبًا للسرقات المنظمة من قبل لصوص الآثار، شارك فـيها -كما قيل- بعض المسؤولين، حتى أصبحت الأبواب والنوافذ ومتعلقات هذه المنازل تباع فـي الأسواق العالمية للآثار خاصة فـي جنوب إفريقيا. باعت حكومة زنجبار بعض منازل المدينة الحجرية للأوروبيين والهنود أولًا، والآن دخل على الخط مستثمرون خليجيون ومغاربة عملوا على مسح أيِّ ذكر لأصحاب تلك المنازل، ومن المباني التاريخية التي بيعت بالفعل، المنازل التابعة لقصر بيت الساحل وتقع خلف القصر مباشرة، وكذلك بيت الشيخ سالم بن بشير البرواني.

من جهتي كنتُ أؤمن دائمًا أنّ هذه الهجمة الشرسة على التاريخ العُماني فـي شرق إفريقيا ومحاولات البعض طمسه من الذاكرة لن تنجح؛ لأنّ المد العُماني فـي الساحل الشرقي لإفريقيا موثقٌ ومحصنٌ تمامًا، هكذا عبّرتُ عن رأيي لسيف الذي باغتني بالقول: «لا تحلم كثيرًا؛ فالمالُ يلعب دورًا مُهمًا فـي تحقيق ذلك الهدف، هذا إذا أضفنا إليها إهمالنا».

بجانب بيت حمد المرجبي، هناك مدرسة الشيخ عبد الله بن سليمان الحارثي لتعليم القرآن الكريم فـي منزل يسمى «بوماني». وقد أفادني الشيخ سالم الخنجري أنّ ورثة المنزل (عائلة عُمانية حارثية) اتفقوا على جعل هذا العقار وقفًا خيريًّا بعد إجراء أعمال الترميم والصيانة والتعديلات المناسبة، ليصبح مدرسة لتعليم القرآن وعلوم الدين الإسلامي، وتعيين ناظر للوقف. تكفّل بالمشروع المكرم الشيخ محمد بن عبد الله بن حمد الحارثي، عضو مجلس الدولة العُماني، وسلم الوقف إلى جمعية الاستقامة الخيرية، تحت مسمى «مدرسة الشيخ عبد الله بن سليمان الحارثي»، وذلك بتاريخ ٦ ديسمبر ٢٠٢٤م. وبدأت الدراسة الفعلية فـي يناير ٢٠٢٥م للإناث فقط بعدد يفوق المائة طالبة.

حقيقةً إنّ عرب زنجبار كانوا متقدمين فـي وقف أموالهم ومزارعهم، ويأتي على رأسهم السيد حمود بن أحمد بن سيف البوسعيدي الذي ترك أوقافًا كثيرة، منها بيتا الرباط فـي مكة المكرمة؛ الأول يسمى بيت الرباط الكبير، والثاني بيت الرباط الصغير، ومسجدان فـي «بوبوبو»، بالإضافة إلى مسجده فـي زنجبار -الذي صلينا فـيه غير مرة- ويدير أموره حاليًّا الشيخ عبد الله بن حميد البحري أحد نشطاء جمعية الاستقامة، وكذلك أوقف السيد حمود مبنى يسمى مبنى القطار فـي زنجبار.

ونحن نغادر منطقة شنجاني ومدرسة الحارثي، بُحتُ لسيف بما يدور فـي نفسي عن شخصية المرجبي التي أرى أنها لم تنل ما تستحقه من الدراسة، إذْ إنّ معظم من كَتب عنها هم مستشرقون غربيون تناولوها من وجهة نظرهم هم فقط، وهي بحاجة إلى اهتمام منا نحن العرب، كما فعل محمد المحروقي بترجمته سيرة تيبوتيب. ومن أبسط أبجديات المحافظة على تراث هذا الرجل المحافظة على إرثه وعدم التفريط بمنزله التاريخي المهدد بالاختفاء من الوجود، مثلما هي معظم مباني المدينة الحجرية فـي زنجبار إن لم تُفَعَّلْ منظومة فاعلة للحفاظ على هذا الإرث. كنتُ أبُثُّ سيف هذه الهواجس وأنا أستذكر تعليق أحد القراء العُمانيين على مقال قديم لي عن المرجبي دعوتُ فـيه إلى هذا الاهتمام به، فإذا به -أي القارئ- يكتب إليَّ متسائلًا: «أيُّ اهتمام تريد بمنزل هذا الرجل الذي اشتهر بأنه نخاس يبيع العبيد؟!! وما فائدة الاهتمام ببيته؟!». وفـي الحقيقة فإنّ ما لم يستطع هذا القارئ استيعابه أنّ التاريخ لابد أن يُكتب بكلِّ علاته وحسناته لفائدة الأجيال القادمة وأيضًا لفائدة التراث الإنساني العالمي. ولو سلّمنا جدلًا بصحة الادعاءات على تيبوتيب (وأنا شخصيًّا أعلم أنها مبَالغٌ فـيها) فإنّ علينا ألا ننسى أنّ القرآن الكريم حكى لنا قصصًا كثيرة عن الطغاة والكفرة والمجرمين والملحدين منذ أن خلق الله آدم عليه السلام، ولنا أن نتخيّل كم سيكون تاريخ البشرية مبتورًا لو أنّ كتاب الله حدثنا فقط عن الصالحين والأتقياء.

 

Wednesday, March 19, 2025

السيدة سالمة .. قصة حب في وقت عصيب

 زاهر بن حارث المحروقي

جريدة عمان ،17 مارس 2025

من المفارقات العجيبة أنّ فكري كان مشغولًا برجل شغل العالم بقوته وحنكته وتسامحه، هو السيد سعيد بن سلطان، فإذا دليلنا يُخرجني من شرودي إلى وضع آخر مختلف عنه تمام الاختلاف؛ عندما سألنا: هل تعرفون هذين المبنيين؟! قبل أن يضيف: «هذا هو بيت السيدة سالمة بنت سعيد، والبيتُ المقابل هو بيت الرجل الألماني الذي هربت معه وتزوجته فـيما بعد». ففـي لحظة واحدة عادت قصة السيدة سالمة وكتابها الذي شغل الناس «مذكرات أميرة عربية» إلى ذهني وحملقتُ بكثير من التركيز فـي بيتها، فإذا هو بُني من جديد على الطراز نفسه، وتخيلتُ فـي أيِّ نافذة كانت تقف لترى ذلك الألماني الذي يقيم حفلات استقبال فـي سطح شقته المقابلة لغرفتها؟ وقستُ المسافة بين نافذتها وسطح بيته فإذا هي قريبة، مع تساؤل كيف بدأ الأمر بينهما؟ ومن الذي تولى أمر نقل الرسائل بينهما؟ وهل كانت أعين الحراس غافلة؟ وفورًا خطر على بالي كلامُ أمير الشعراء أحمد شوقي:

نَظرَةٌ.. فَابتِسامَةٌ.. فَسَلامٌ.. فَكَلامٌ فَمَوعِدٌ فَلِقاءُ فَفِراقٌ يَكونُ فـيهِ دَواءٌ أَو فِراقٌ يَكونُ مِنهُ الداءُ لكن الذي حصل بينهما لم يكن فراقا فـيه دواء، وإنما كان لقاء منه الداء.

من خلال قراءة «مذكرات أميرة عربية» للسيدة سالمة، يتضح أنها كانت فـي ذلك العُمر المبكر من حياتها فـي وضع نفسي صعب وتعاني من فراغ قاتل؛ فبعد وفاة أبيها لحقت به أمُّها، ووجدت نفسَها يتيمة الأبوين، وشاركت مشاركة فعالة فـي معارك التنافس على كرسي الحكم بين أخَويْها ماجد وبرغش، إذ وقفت فـي البداية فـي صف برغش ضد ماجد مدفوعة بأختها خولة ذات النفوذ، لكن السلطان ماجد استطاع أن يستميلها لصالحه، فإذا خولة تعاديها، وكذلك ابتعدت عنها نساء العائلة. وفـي هذا الوقت بالذات، ظهر فـي حياتها زوجُها المستقبليّ فكان ما كان؛ وهي نفسُها وصفت هذا الوقت بأنه «مشؤوم، حيث ساد الجفاء والانقسام فـي عائلتنا، وشعرتُ بالسعادة من خلال حبِّي لشاب ألماني كان يقيم فـي زنجبار كممثل لشركة تجارية من هامبورج، والذي أصبح زوجي لاحقًا». المهم أني التقطتُ صورة تذكارية للبيتين، وواصلنا مسيرنا إلى شارع «هروموزي»؛ فإذا السيدة سالمة تفرض نفسها علينا من جديد كما سيأتي.

لصديقي سيف أسلوبه الخاص فـي التعامل مع الناس؛ فهو يأخذ معه فـي تنقلاته حقيبة ظهر، بها بعض المبالغ التي يوزعها؛ إما للمحتاجين، أو لمن يقدّمون له خدمة تستحق الشكر، وفـي الحقيبة أنواع متعددة من حلويات الأطفال يوزّعها عليهم أينما صادفهم. وفـي هذا الشارع وزع الحلويات على مجموعة منهم فتناولونها فرحين، إلا أنّ مرافقنا قال: «الشيخ سيف.. لا تعطِ الأطفال شيئًا؛ فالحكومة تمنع توزيع الحلاوة للأطفال»، وقبل أن نفـيق من دهشتنا من هذا القرار الغريب أضاف: «لأنّ بعضهم وزعوا حلويات بها مخدرات»، وبينما كنا ننظر إلى بعضنا البعض متخيلين ما يمكن أن يجلبه لنا كرم سيف الحاتمي من متاعب شاهدنا محلًا تتصدره لافتة استطاعت أن تحوّلنا إلى وجهة تفكير أخرى.

المحل هو «متحف السيدة سالمة» الذي تتصدر واجهته أيضًا لوحةٌ ذهبية اللون معلقة عند الباب بها التوقيع العربي للسيدة سالمة. هذا المتحف عبارة عن دكان فـي سوق كان مغلقًا، فاتصل مرافقنا محمد بشخص أتى بعد قليل وفتح لنا المحل. عرّفنا الرجلُ بنفسه - وهو يمسح العرق - أنه سعيد بن ناصر الغيثي، وأنه فتح هذا المتحف بجهوده الذاتية ويحتوي على بعض المقتنيات الأصلية للسيدة سالمة مثل مصحفها وثوبها الذي كانت ترتديه وهي فـي الشام وبعض الصور والمراسلات وغيرها من الأشياء. وتتفاوت رسوم المتحف بين سائح وآخر، فالسائح الذي يكتفـي بإلقاء نظرة على المعرض دون شرح يدفع سعرًا أقل من ذلك الذي يطلب شرحًا لما يشاهده من مقتنيات أو صور، وقد استمعنا إلى شرح وافٍ عن تاريخ السيدة سالمة خاصة أنّ الأستاذ سعيد على تواصل مع أحفادها، وأخذ تلك المقتنيات منهم، وله صورٌ معهم وهم يزورون ذلك المتحف أيضًا.

وأرانا كتابًا قال: إنه بالألمانية ولم يُترجم بعد إلى اللغة العربية أو السواحلية، هو عبارة عن رسائل كتبتها السيدة سالمة لصديقة مجهولة، وإنها قد تكون ليست رسائل حقيقية، إنما هو مجرد بوح فـي أسلوب أدبي. قلتُ له: إنّ هذه الرسائل صدرت باللغة العربية بترجمة زاهر الهنائي عن الألمانية مباشرة، ونُشرت تحت عنوان «رسائل إلى الوطن ــ الجزء الثاني من مذكرات أميرة عربية». ومما ذكره لنا أن السيدة سالمة كسرت التقاليد المتعلقة بتعليم المرأة، فعلمت نفسها الكتابة، ويُنظر إليها باعتبارها أول امرأة من شرق إفريقيا تكتب سيرة ذاتية، كما أنها كانت تتحدّث عدة لغات هي السواحلية والعربية والتركية والألمانية. وأضاف أنّ «قصة حبِّها فجّرت زلزالًا فـي العائلة المالكة فـي زنجبار وفـي الشركة الأجنبية للتجارة هناك، إذ اعتقد التجار الأجانب أنّ رودولف رويته بخطوته تلك يُعرِّض حياة الأوروبيين الذين يحظون بثقة السلطان للخطر، وأنّ الألمان على نحو خاص اعتبروا أنه تصرّف بطريقة غير مسؤولة، كما اعتبر أهالي زنجبار أنّ لرودولف تأثيرًا مفسدًا على الأميرة». وعند الحديث عن تجارة الرق، قال لنا سعيد: «ستسمعون كلامًا مغلوطًا ومبالغات كثيرة عن العُمانيين، ولكن الذي أود قوله: إنّ الرق كان منتشرًا فـي العالم حتى فـي آسيا الحالية؛ والدليل أنّ من ضمن سراري (جواري) السلاطين شركسيات وآشوريات وغيرها من أجناس آسيا، فمن كان يبيع هؤلاء، هل هم عُمانيون؟!».

تركنا المكان وملابسُنا مبللة بالعرق، وبدأ النشاط الثاني فـي هذا اليوم بالرحلة البحرية لجزيرتين، وهي الرحلة التي سبق وأن تحدثتُ عنها سابقًا.


Monday, March 10, 2025

شرود في حضرة السيد سعيد

 زاهر بن حارث المحروقي

جريدة عمان، 10 مارس 2025

تركنا المقبرة السلطانية واتجهنا صوب «الحصن القديم»، المعروف أيضًا بأسماء أخرى من ضمنها «حصن العرب»، وهو أحد المعالم الرئيسية في «المدينة الحجرية» ولا يبعد كثيرًا عن بيت العجائب، ويُعَدُّ أقدم مبنى في زنجبار وموقعًا سياحيًّا رئيسيًّا لجذب السياح في «المدينة الحجرية»، أخبرَنا دليلنا محمد أنّ البرتغاليين هم الذين بنوه قبل وصول العُمانيين وأنّ العُمانيين رفعوا جداره بعد طردهم للبرتغاليين؛ لذا فلا حرج أن يُسمَّى «قلعة البرتغاليين» أو «قلعة العرب» لأنّ كليهما اشترك في بنائه؛ غير أنّ هناك رأيًا آخر يقول إنّ العُمانيين هم الذين بنوه في أواخر القرن السابع عشر، بعد أن طردوا البرتغاليين من زنجبار. ومن ينتصر لفرضية أنّ البرتغاليين هم الذين بنوا الحصن يُدلِّل على ذلك بوجود آثار كنيسة برتغالية داخل الحصن قبل وصول العُمانيين إليه، الذين بعد أن طردوا البرتغاليين أضافوا للحصن تحصينات في عام 1699، واستُخدم كحامية للجنود وسجن في القرن التاسع عشر. والحصنُ عبارة عن مربع عالي الجدران وبه ثغرات تحمي الفناء الداخلي ويتميّز عمومًا بطراز عربي إسلامي يجسِّد بنحو جلي التأثير العُماني الطاغي على معظم المعالم بالجزيرة، وحاليًّا هناك بعض التصليحات والترميمات تُجرى على الحصن من الداخل، لكن لا تمنع من الدخول إليه، على عكس ما هو حاصل في «بيت العجائب» و«بيت الساحل». وهناك مجموعة من الدكاكين يبيع أصحابها بعض المنتجات الزنجبارية من ملابس وزيوت وتحف وغيرها. ويُستخدم الحصن حاليًّا كمركز ثقافي حيث يوجد به مسرح غنائي، وتقام فيه عروض الرقص والموسيقى والمهرجانات السينمائية وغيرها من الفعاليات الثقافية.

هذا ما استطعتُ تذكُّرَه من شرح دليلنا عن تاريخ الحصن، لأنني ساعتها كنتُ مشغولًا الفكر بشخصية نادرة في التاريخ العُماني، هي شخصية السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي الذي غادرْنا ضريحه قبل دخولنا الحصن بدقائق؛ وأخالني لا أقول شيئًا جديدًا إذا قلتُ إنّ السيد سعيد كان واحدًا من أعظم سلاطين الدولة البوسعيدية والحكام العرب في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ومن قرأ تاريخ ذلك العصر يعرف أنه أقام علاقات تجارية مميزة مع بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، كما اهتم بتعزيز الأسطول البحري وتوسيع التجارة الدولية مع العديد من الدول، فضلًا عن خصاله الحميدة التي تميّز بها واستطاع عبرها أن يقود دفة الحكم بحكمة وحنكة واقتدار طوال نصف قرن من الزمان، جعل خلالها زنجبار مركزًا عالميًّا لتجارة القرنفل والعاج والتوابل، الأمر الذي أدى لازدهار التجارة في عهده، رغم أنها فترة تاريخية صعبة شهد العالم فيها بروز بريطانيا وفرنسا كقوتين عُظميين تتنافسان على فرض النفوذ والسيطرة على المزيد من الدول الأفريقية، وفي إطار تنافس محموم لا تزال آثاره السلبية واضحة للعيان في عموم القارة الأفريقية. استطاع الرجل أن يشق طريقه بكلِّ اقتدار وسط الكثير من العقبات التي اعترضت طريقه كصاحب رؤية وهدف. وفي ظني أنّ شخصيةً كشخصية السيد سعيد بن سلطان لم تنل حظها بعد من الدراسة والاهتمام والتركيز عند الأجيال العربية المتعاقبة؛ فكلّ المراجع الغربية تؤكد أنّ العصر الذهبي للتأثير الحضاري العُماني في شرق أفريقيا كان في عهده، ‏حيث كان لقوة شخصيته ودبلوماسيته ورؤيته الشاملة وبُعد نظره، أكبر الأثر في ‏ترسيخ ملامح الحضارة العُمانية في شرق أفريقيا، والتي شكلت في مجملها ركائز ‏حضارية كانت بمثابة إشعاع ثقافي وحضاري. وكان من أسباب نجاح السيد سعيد تطبيقه لمبدأ «التسامح وقبول الآخر» مهما كانت خلفيتُه العرقية أو الدينية أو المذهبية، وهي ميزة تميّز بها العُمانيون عمومًا، ولا يزالون يحتفظون بهذه الخصال الحميدة حتى اليوم بفضل الله وتوفيقه. وكان حكامُهم القدوة في ذلك منذ تلك الحقب وحتى عصرنا الحديث الذي تموج فيه الدول بالفتن والتناحر والتذابح بسبب الخلفيات التاريخية والمذهبية والعرقية؛ لذا نجد أنّ حادثة مثل «حادثة الوادي الكبير»- التي حدثت في مسقط في 15 من يوليو 2024 - استنكرها العُمانيون بكافة مذاهبهم، لأنّ ما حدث لا يمت لنا بصلة لا من بعيد ولا من قريب، وعلموا يقينًا أنّ تلك الحادثة وذلك الفكر غريبان عن المجتمع العُماني ولا ينتميان إلى الأخلاق العُمانية الفاضلة.

خص السيد سعيد مواطنيه بمعاملة كريمة، ‏وساوى بين كافة السكان بصرف النظر عن أصولهم العرقية. ومما ذكره الراحل الشيخ علي بن محسن البرواني في كتابه «الصراعات والوئام في زنجبار» أنّ زنجبار عَرفت في التقويم الرسمي مناسبتين تخصّان الأقلية الشيعية توصد المصالح الحكومية أبوابها فيهما، وهما يوما الحادي والعشرين من رمضان ذكرى استشهاد الإمام علي، ويوم عاشوراء ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما. ويذكر في مكان آخر من الكتاب أنّ السيد سعيد أصدر مرسومًا منع فيه المواطنين من ذبح الأبقار والأضاحي في الأحياء التي يقطنها الهنود احترامًا لمعتقداتهم، وكان من نتيجة هذه السياسة أن ساد جوٌّ من الألفة والتجانس بين كافة مكونات سكان الجزيرة، وتوثقت العلاقات الاجتماعية بينهم، وانعكس ذلك بشكل لافت على فقهاء المذاهب المختلفة، لدرجة أنّ القضاة ‏الشرعيين في عهد السيد سعيد كانوا من الإباضية والسُنّة، وكان لقضاة السُنّة مطلق ‏الحرية في عقد محاكمهم في منازلهم أو في المساجد العامة وفي أيّ وقت شاءوا، إلّا أنّ القضايا الكبيرة ذات الطابع العام كان يتم الفصل فيها في «بيت الساحل»؛ المقر ‏الرسمي للحكومة.‏

عن تسامح السيد سعيد يقول الباحث المصري الدكتور محمد صابر عرب في فصل «عصر من التسامح» من كتابه «قضايا لها تاريخ»: «اللافت أنّ السيد سعيد لم يفرض عقيدةً بذاتها ولا مذهبًا بعينه على الأفارقة، ولم يستهدف طمس ثقافتهم، ولم يعمل على تفضيل عرق على آخر؛ وإنما راح يزرع الحب والخير في نفوسٍ أرهقها الفقر والشقاء، وهو ما يفسّر دخول الأفارقة في الإسلام زرافات ووحدانًا، ودعْمَ مشروعه الحضاري الكبير، وهي ظاهرة استلفتت نظر الرحالة الأجانب»، ويرى صابر عرب أنّ الرجل «كان سابقًا عصره؛ بسيطًا في فهمه للإسلام، بقدر عُمق الإسلام وبساطته؛ فهو لا يقنع بأن يُكره الناس على اعتناق الإسلام، وإنما بفطرته السليمة كان على ثقة بأنّ الإسلام يدعو لنفسه من خلال سلوك المسلمين الذين يُترجمون الإسلام عملًا وبناءً وحضارة».

إذن؛ فقد أقام السيد سعيد بن سلطان دولة سياستها التسامح، فلا فرق بين مذهب وآخر أو عقيدة وأخرى؛ فالناس جميعًا متساوون عربًا وأفارقة، هنودًا وأوروبيين. ومن يزر زنجبار الآن يدرك يقينًا أنّ سياسة التسامح تلك التي طبّقها السيد سعيد بن سلطان لا تزال تنفّذ بحذافيرها؛ ففقهاء المذاهب الإسلامية في شرق أفريقيا نحُّوا الخلافات المذهبية جانبًا، وقدّموا الإسلام عقيدةً وشريعةً خاليًا من التعقيدات الفلسفية ولم يتورطوا في فتنة، وظلت العلاقة بين الإنسان وربه علاقة مباشرة وخالية من التعقيدات، حتى بدأت بعض الظواهر السلبية عندما تحوّلت أو تسللت مشكلات الجزيرة العربية إليهم، لكنها - ولله الحمد - لم تدم، وفي فترة وجودنا القصير في زنجبار صلينا في أكثر من مسجد؛ فهناك مساجد بناها الإباضيون ويؤمّها الشوافع، وهناك مساجد يؤمّها الإباضيون ويصلي فيها الشوافع، وكلهم في انسجام تام، وهناك مساجد وحسينيات للشيعة، وهكذا أصبحت زنجبار واحة للتعايش والانسجام.

وبينما أنا سارحٌ في فكري مع السيد سعيد بن سلطان - النائم على بُعد خطوات مني في هذه اللحظات - تذكرتُ ما كتبه الشيخ سعيد بن علي المغيري من أنّ عمارة مدينة زنجبار من قصورها ومساجدها ومدارسها، إنما هي عمارة العرب العُمانيين، حيث زاد هذا العمران منذ أمر السيد سعيد بزرع القرنفل. ومن ذلك الوقت بدأت هجرة العُمانيين والحضارم والهنود تفد إلى الجزيرة ومن جميع الاتجاهات بإفريقيا.

حكى لنا مرافقنا أنّ السيد سعيد عندما عزم على زراعة القرنفل عارضه «أهل العزم» الأوروبيون الموجودون في زنجبار ذلك الوقت، مثل همرتن القنصل الإنجليزي بزنجبار وبعض الأمريكيين، مشيرين إليه بزراعة قصب السكر، لكنه لم يعر هذه الأقوال اهتمامًا ولم يتحول عن عزمه، وصمّم على زراعة القرنفل وجلب البذور من جزيرة موريشيوس. وفي هذا الشأن يذكر صاحب «جهينة الأخبار» أنّ السيد ألزم الناس بزراعة ثلاث أشجار قرنفل مقابل شجرة جوز هند واحدة.

كانت الرطوبة عالية لدرجة أن يتمنى الواحد منا العودة إلى الفندق بسرعة، لكن محمدًا سألنا: هل تعرفون هذين المبنيين؟! ولمّا أجبنا بالنفي قال: «هذا هو بيت السيدة سالمة بنت سعيد، والبيتُ المقابل هو بيت الرجل الألماني الذي هربت معه وتزوجته فيما بعد».

وإذن؛ فقد حان الوقت للحديث عن السيدة سالمة، وهو ما سأفعله في المقال القادم إن شاء الله.


Tuesday, March 4, 2025

قبور عُمانية بلا شواهد!

 زاهر بن حارث المحروقي ، جريدة عمان 3 مارس 2025

وعدتُ فـي نهاية مقال الأسبوع الماضي أن أسرد حكاية تدمير الإنجليز لقصر «بيت الحكم»؛ أحد أهم مفردات التاريخ العُماني فـي شرق أفريقيا، والذي كان يتوسط «بيت العجائب» و«بيت الساحل»، وقد دمره الإنجليز تدميرًا كاملًا بالفعل يوم 27 أغسطس 1896، فـي اعتداء سافِر حدث اعتراضًا على تسلّم السيد خالد بن برغش الحكم. وجراء هذا الاعتداء لم يحكم السيد خالد إلا ثلاثة أيام فقط، وكان مدفوعًا بقوة التأييد الشعبي الواسع له ومساندة قوة الحرس السلطاني التي خلفها له السلطان حمد بن ثويني. وتنقل الموسوعة العُمانية عن السيد خالد أنه كان «يرى فـي تسلط الإدارة الإنجليزية بحجة اتفاقية الحماية تدخلًا فـي سيادة الدولة لا يمكن الرضوخ له، وكان السلطان حمد بن ثويني مشجعًا له فـي تعميق توجهه المضاد للاستعمار من خلال إسناد بعض المهام القيادية إليه، ووجد أنه يتمتع بشعبية وطنية قوية بين العرب، وكان يظن أنّ الإدارة الإنجليزية سترضخ للإرادة الشعبية، وعندما اشتد على السلطان حمد بن ثويني مرض موته، أرسل إلى السيد خالد بألا يتأخر بعد وفاته عن ارتقاء العرش»، لكن الإنجليز كان لهم رأيٌ آخر، «فبعد انقضاء مهلة الأيام الثلاثة التي منحتها له سلطة الحماية للخروج من القصر بتاريخ 27 أغسطس 1896 وامتناعه عن ذلك، قصفت البوارج البريطانية «بيت الحكم» و«بيت العجائب» و«بيت الساحل»، مسجلة بذلك ما عُرف زورًا وبهتانًا بحادثة «أقصر حرب فـي التاريخ».

وفـي الواقع لم تكن تلك حربًا ولا هم يحزنون، وإنما كانت عدوانًا سافرًا -كما سبقت الإشارة- وتدخلًا فـي شؤون السلطنة، خرج بعدها السيد خالد بن برغش من أنقاض قصر الحكم بمساندة رئيس الحرس السلطاني الذي بقي مواليًا لسيده ومرابطًا معه، فاتجه به مباشرة إلى القنصلية الألمانية، ونقله الألمان إلى دار السلام التي كانت مستعمرة ألمانية وبقي هناك لاجئًا سياسيًّا، ماكثًا فـيها حتى نشوب الحرب العالمية الأولى، وعندما خسر الألمان الحرب عرضت عليه الإدارة الألمانية الانتقال والعيش فـي برلين إلا أنه رفض، فنفته بريطانيا إلى سيشل ثم جزيرة سانت هيلانة، ثم سمحت له الإدارة البريطانية بالعيش فـي ممباسا بعد تدخل واليها السيد علي بن سالم البوسعيدي، وبقي فـيها حتى وفاته عام 1927.

المحزن فـي حكاية تدمير «بيت الحكم» من قبل الإنجليز أنه لم يُعَد بناؤه بعد ذلك، وإنما حُوِّل إلى حديقة، على عكس «بيت الساحل» الذي رُمِّم وأجريت له بعض الإصلاحات.

على بعد خطوات من «بيت الساحل»، وفـي الباحة الداخلية، حيث نسير وراء دليلنا السياحي محمد، وجدنا المقبرة السلطانية مفتوحة فتوّجهنا إليها. من الجيد أن أذكِّر هنا أن هذه المقبرة أنشأها السيد سعيد بن سلطان لدفن المتوفـين من الأسرة البوسعيدية الحاكمة، وقد ظلّ أموات هذه الأسرة يُدفنون فـيها حتى انتهاء الحُكم العُماني عام 1964. سألتنا موظفة الاستقبال: هل أنتم ضيوف أم من أبناء البلد؟ فأجبناها أننا ضيوف، وقد كان سؤالها لأنّ رسوم تذكرة الدخول للضيوف تختلف عنها للمواطنين. وبعد أن دفعنا الرسوم المقررة أخذتنا هذه الموظفة فـي جولة داخل مبنى بجانب المقبرة، عبارة عن المعرض الوثائقي والتاريخي الدائم للمقبرة السلطانية بزنجبار، الذي هو من تنظيم هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية العُمانية، بعد إجرائها أعمال تحسينات وصيانة وترميم لتلك المقبرة، وبات فـيها أرشيف دائم يؤرخ لأسماء وتواريخ المدفونين فـيها. وقد أحسنت الهيئة بهذا الصنيع؛ فحالة المقبرة قبل الترميم كان يُرثى لها، وكلُّ الشواهد على القبور اختفت؛ بل إنّ الأمر الأسوأ أنها كانت مفتوحة ويدخلها العابثون، وسبق لي أن كتبتُ عن ذلك فـي أحد مقالاتي، غير أنّ المفاجأة السارّة هذه المرة، أنّ الفرق صار شاسعًا على الصعيد الإيجابي بالطبع.


تنقسم المقبرة إلى ثلاثة أجزاء، وتضم عددًا من القبور يصل عددها إلى سبعة وثمانين قبرًا، كما يتضمن الضريحُ الذي يقع فـي الركن الشمالي للمقبرة -وهو أبرز معلم فـيها- قبرَ السيد سعيد بن سلطان، إضافة إلى ثمانية قبور أخرى. شيَّد هذا الضريح السلطان ماجد بن سعيد تكريمًا لأبيه، حيث أرسل إلى الهند يطلب المهندسين والبنّائين والأحجار المناسبة وغير ذلك من مواد البناء، وأنفق فـي سبيل ذلك أموالًا كثيرة، فشرع فـي بناء مقام الضريح الذي ضمَّ فـيما بعد قبور السلاطين ماجد وبرغش وخليفة بن سعيد، الذين تولوا حكم زنجبار بعد وفاة أبيهم. ويحكي الشيخ سعيد بن علي المغيري فـي كتابه «جهينة الأخبار فـي تاريخ زنجبار» أنه عندما بلغ بناء القبة ارتفاعًا معينًا، اعترض المطاوعة (علماء الدين) على ذلك البناء وعدّوه منكرًا عظيمًا وأفتوا بعدم جواز البناء على القبور، فلم ير السيد ماجد بُدًّا من الانصياع لاعتراضات هؤلاء العلماء وأهمل البناء. «والذي يشاهد ذلك المقام اليوم يرى ذلك النحت البديع البادي فـي أعمدته، وتلك النقوش الفنية البارعة فـي بنيانه، ويتصور مقدار حسنه ونفاسته رغم أنه قديم ولم يكتمل، ويرى كم فقدت مدينة زنجبار جاذبية سياحية نتيجة إهمال ذلك التذكار على ضريح ذلك الرجل الجليل»، كما يقول المغيري.

وقد ذكرَتْ لنا موظفة أرشيف المقبرة أنّ جميع سلاطين زنجبار ابتداءً من السيد سعيد بن سلطان دُفنوا فـي تلك المقبرة عدا اثنين منهم هما: السلطان علي بن حمود الذي دفن فـي فرنسا، والسيد خالد بن برغش الذي دفن فـي ممباسا بكينيا حاليًّا، أما آخر السلاطين العُمانيين السلطان جمشيد بن عبدالله بن خليفة بن حارب فقد توفـي فـي الثلاثين من ديسمبر 2024، أي بعد انتهاء هذه الرحلة بنحو أسبوعين.

وفـي نهاية زيارتنا للمقبرة السلطانية، وجّهنا -أنا وسيف- ملاحظة لموظفة الاستقبال بأنّ القبور حتى الآن ليس بها شواهد، وإنما هناك شرحٌ مفصل لجهات المقبرة ولمن دفن فـيها. بل إنه حتى من دفن بجانب قبر السيد سعيد بن سلطان من أبنائه، لا توجد شواهد على قبورهم، وهم الذين تولوا السلطة من بعده. وبالطبع فإنّ وجود الشواهد على تلك القبور كان سيضيف بُعدًا معرفـيًّا للمقبرة، وما من شك لديّ أنّ الشواهد كانت موجودة، وربما كان الهرج والمرج الذي ساد بعيد الانقلاب هو ما أدى إلى اقتلاعها فـي إطار الحقد الأعمى على كلِّ ما هو عُماني فـي تلك الفترة العصيبة، التي حاول الانقلابيون خلالها طمس كلِّ شيء جميل يعود لفترة الحكم العُماني لزنجبار.