Friday, February 28, 2025

تاريخ لا يُشترى ولا يُباع !

 زاهر بن حارث المحروقي ، جريدة عمان 25 فبراير 2025

«أنا سيف.. وأنا سليمان.. وأنا زاهر».

هكذا أجبنا الدليل السياحي الذي سألَنا عن أسمائنا بعد أن أخبرَنا بأنّ اسمه محمد.

«ما شاء الله. تحملون أسماء تُشبه أسماءنا».

«وهل أنتَ مستغرب من هذا الأمر وأنتَ دليلٌ سياحي؟! ألا تعلم التأثير العُماني على كلِّ ما فـي زنجبار من بشر وحجر وشجر؟!»

حدث هذا الحوار صبيحة الأربعاء الحادي عشر من ديسمبر 2024 عندما مرّ بنا محمد فـي الفندق. بالقطع فاجأه تعليقُنا، إذ ربما لم ينتبه إلى حقيقة أننا من عُمان، بحكم أنه يؤدِّي هذا العمل يوميًّا بشكل روتيني ويصادف أناسًا من بقاع شتى من العالم.

خرجنا من الفندق وبدأنا الجولة مشيًا على الأقدام أمام ساحة فرضاني التي تُعدّ من أبرز المعالم السياحية فـي المدينة الحجرية (Stone Town)، بل تُعدّ قلب زنجبار الثقافـي والتاريخي. وقفنا أمام لوحة عليها شعار سلطنة عُمان وتشير إلى أعمال الترميم التي تُجرى لـ«بيت العجائب». عدتُ بذاكرتي أربع سنوات إلى الوراء عندما علمتُ بتساقط جزء من هذا المَعْلم التاريخي، لكنّ محمدًا أضاف إلينا تفاصيل أكثر؛ فقد حدث هذا التساقط فـي الساعة الثانية عشرة وعشر دقائق من ظهر يوم الجمعة الخامس والعشرين من ديسمبر 2020، وانهار الجزء الأمامي من «بيت العجائب»؛ وتحديدًا الواجهة المطلة على البحر وبها برج الساعة. وبرج الساعة هذا له حكاية أخرى لا تقل دهشة عن حكاية الانهيار؛ فقد بُني عوضًا عن منارة دُمِّرت خلال الاعتداء الإنجليزي على زنجبار عام 1896، والذي سأسرد حكايته بعد قليل، وأثناء إعادة الترميم عام 1897 بُني برج الساعة مكان المنارة.

كنتُ أمنّي نفسي بأن يتمكن دليلنا من إدخالنا إلى «بيت العجائب»، ولكن أعمال الترميم حالت دون ذلك، مثلما حالت دون الدخول إلى «بيت الساحل» الذي يرمم بدوره ويقع بجانب «بيت العجائب» الذي ظلّ شامخًا منذ عام 1883، عندما بناه السلطان برغش بن سعيد بن سلطان – كما ذكرنا فـي مقال سابق – واستخدمه قصرًا للاستقبالات الرسمية وقاعة للاحتفالات، وسُمِّي بهذا الاسم لأنه كان أول مبنى فـي زنجبار تصل إليه الكهرباء، وأول مبنى فـي شرق أفريقيا يحتوي على مصعد كهربائي، وأدخل القصرُ عناصر معمارية جديدة إلى شرق أفريقيا، بما فـي ذلك الأعمدة الخارجية التي كانت مصنوعة من الحديد، ممّا ساعد فـي ثبات السقوف العالية وصموده، حتى سقوط جزء منه فـي ذلك اليوم المشؤوم. ولاحظنا من خارج المبنى أنّ أعمال الترميم تجري على قدم وساق، رغم أنّ الحكومة العُمانية وقّعت على وثائق إسناد مناقصة إعادة تأهيل المبنى فـي أكتوبر 2019م، وهي فترة طويلة نسبيًّا، إذ مرّ على تاريخ التوقيع حتى هذه اللحظة خمس سنوات، علمًا بأنّ سقوط ذلك الجزء وقع – كما أشرنا – بعد توقيع مناقصة إعادة تأهيل المبنى.

أذكر أني تابعتُ سِجالًا فـي مجموعات التواصل حول الاهتمام ببيت العجائب، إذ رأى كثيرون أنّ الموضوع غير ذات قيمة الآن وأحرى بنا أن ننساه بما أنه انهار وانتهى أمره، فـيما وجّه آخرون اتهامات بالتقصير للمسؤولين عن ترميمه. ومرةً أخبرني الدكتور محسن بن حمود الكندي – المهتم بالأثر الثقافـي والمعماري العُماني فـي زنجبار، وله كتابات مبكرة فـي هذا الشأن – متأسفًا أنه خلال زيارته لـ«بيت العجائب» وجد أنّ طريقة الترميم كانت بدائية وبطيئة ولا ترقى إلى أن تُسمّى ترميمًا، رغم أنّ المبلغ المرصود له ليس بالمبلغ الضئيل. ومن الغريب بالفعل أن يكون عدد العاملين فـي الترميم وقت الانهيار أربعة عُمّال فقط!

وأنا أقف أمام «بيت العجائب» خطَر لي أنّ الانتقادات التي أثيرت حول ترميمه ليست مبررة؛ لأنّ هذه الآثار جزءٌ من التراث العُماني ولا يصح أصلًا أن نهمل هذا التراث، سواء كان فـي أفريقيا أو آسيا أو أيِّ مكان فـي العالم، بل إنّ الاهتمام بها واجب؛ لأنّ من حق الأجيال القادمة من العُمانيين أن تقرأ تاريخ أجدادها بطريقة صحيحة وعلمية وأن ترى بأعينها المعالم الحضارية والآثار التي خلّفها العُمانيون خلف البحار. ويكفـي أن أذكِّر بأنّ ما فـي جعبتنا من تاريخ وحضارة هناك من يتمنى أن يشتريه بأيّ ثمن كان، لكن التاريخ لا يمكن أن يُشترى وحتمًا لا يمكن أن يُباع.

وبما أنّ الشيء بالشيء يُذكَر فالحقيقةُ التي لمستُها بنفسي خلال هذه الرحلة أنّ لعُمان قوى ناعمة وفاعلة وإيجابية كثيرة فـي الشرق الأفريقي، إلا أننا لم نستغلها – للأسف – كما ينبغي، ربما لقصور فـي النظر وعدم إدراكنا لقيمتها العالية فـي تلك المجتمعات، باعتبارها تمثل يد عُمان الطولى والناعمة فـي الآن ذاته فـي الشرق الأفريقي كله. ولأننا لم نهتم بتلك القوى الناعمة فقد أضحت مكانة عُمان والعُمانيين تتراجع لصالح أطراف لم تكن موجودة هناك فـي الأصل، وأظن أنه آن الأوان لاستدراك هذه الثغرة بالسرعة القصوى، فإذا أهملنا اليوم تراثنا خارج عُمان – والذي لا يُقدّر بثمن – فإننا سنفرط فـيه داخلها غدًا، ومن يهمل ثقافته وتاريخه فإنه سيهمل وطنه برمته.

أحد أهم مفردات التاريخ العُماني فـي شرق أفريقيا هو «بيت الحكم» الذي كان يتوسط «بيت العجائب» و«بيت الساحل»، والذي دمره الإنجليز تدميرًا كاملًا يوم 27 أغسطس 1896، فـي اعتداء سافر سمّوه زورًا وبهتانًا «أقصر حرب فـي التاريخ». وسأسرد حكاية هذا البيت والاعتداء عليه فـي مقال الأسبوع القادم إن شاء الله.

Tuesday, February 18, 2025

ماذا لو انقلب القارب يا سليمان؟

 زاهر بن حارث المحروقي

جريدة عمان 17 فبرار 2025

كان اليومُ يومَ ثلاثاء حين تجولنا فـي المدينة الحجرية، وهي الجزء التاريخي الأقدم من مدينة زنجبار، وتتميّز بشوارعها الضيّقة والمباني الحجرية المصنوعة من المرجان الجيري، ومن معالمها الرئيسية «بيت العجائب» الذي يُعدّ أحد أشهر المباني فـي المدينة وأكبرها، وكان قصرًا لسلاطين زنجبار بدءًا من بانيه السلطان برغش بن سعيد، ومن معالمها أيضًا قلعة العرب القديمة، تقع المدينة على الساحل الغربي لجزيرة «أونغوجا»؛ الجزيرة الرئيسية لأرخبيل زنجبار، وهي التي اتخذها السيد سعيد بن سلطان عاصمة لملكه، وكانت مركزًا لتجارة التوابل، ويزعم الأوروبيون أنها كانت مركزًا كذلك لتجارة الرقيق فـي أواخر القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر. استمرت تلك البقعة عاصمةً لعُمان وزنجبار حتى وفاة السيد سعيد، ثم بقيت عاصمة لسلطنة زنجبار حتى وقوع الانقلاب عام 1964، عندما اتحدت تنجانيقا وزنجبار لتكوّنا جمهورية تنزانيا المتحدة، فانتقلت العاصمة إلى دار السلام، مع احتفاظ زنجبار بحُكم ذاتي، وعاصمتها المدينة الحجرية التي نجوب شوارعها حاليًّا وكأننا فـي سوق الظلام فـي مطرح بعُمان.

تتميز المدينة بمجموعة متنوعة من الأساليب المعمارية التي يعود تاريخها فـي الغالب إلى القرن التاسع عشر، مع عناصر عربية وفارسية وهندية وأوروبية، وهي معروفة أيضًا بأبوابها الخشبية الكبيرة المنحوتة بشكل معقد مع كتابات عربية واضحة، وصُنِّفت المدينة موقعًا للتراث العالمي لليونسكو فـي عام 2000، وهي خطوة من شأنها أن تحافظ عليها من العبث الذي طال الكثير من الأبنية بعد عام 1964.

أخذتنا أقدامنا إلى حواري المدينة الحجرية وأسواقها القديمة وأزقتها، تلك الأزقة التي تشبه المتاهات الضيقة، ويكثر فـيها مرور الدراجات النارية بشكل مزعج. والمدينة الحجرية هي حاليًّا مركز للثقافة السواحيلية، وتستضيف مهرجانات وأحداثًا ثقافـية باللغة السواحيلية على مدار العام، بما فـي ذلك أكبر مهرجان سينمائي فـي شرق إفريقيا، وهو مهرجان زنجبار السينمائي الدولي السنوي متعدد التخصصات، ويقام المهرجان الموسيقي السنوي داخل القلعة القديمة فـي المدينة، ويضم موسيقيين من إفريقيا وخارجها.

تتميّز المدينة الحجرية بسوقها القديم وبالطعام الممتاز؛ فهناك الكثير من المتاجر المتخصصة فـي التوابل ومنتجات الأعشاب البحرية ومستحضرات التجميل والصابون والملابس وغيرها، بالإضافة إلى الفن التقليدي والأقمشة والأبواب المنحوتة والأثاث، ويقول سيف - الذي تولى بجدارة مسؤولية الرحلة كلها بما فـي ذلك المصاريف والمشتريات -: إنه لاحظ أنّ التجّار إذا حددّوا سعرًا معيّنًا لأيِّ بضاعة، يثبتون على ذلك مهما ساومتَهم، «وإذا لم تشتر يتركونك وشأنك»، وأعتقدُ أنّ هذا السلوك يُعدّ نهجًا تجاريًّا مقبولًا ويُضفـي مصداقية على السوق، وأيضًا تجنبًا للشد والجذب الممل بين البائع والمشتري، والذي نراه فـي الكثير من الأسواق العربية، وهناك من الناس مَنْ لا يحبّ أسلوب المساومة وقد يدفع مبلغًا أكبر من قيمة البضاعة تجنبًا لذلك الشد، وأنا من هؤلاء إنْ لم أكن أولهم.

تجولنا فـي «فرضاني» ووقفنا طويلًا أمام تلك الساحة التي يؤمها الناس لبيع المأكولات والمشروبات، وفـيها يجد المارّ كلَّ ما يريده من طعام وشراب، وهي منطقة مزدحمة بالناس، الكلُّ يبيع ويشتري، ولكن الذي ظهر لي أنّ متطلبات النظافة ليست موجودة، وأظنّ أنه لو كان الأمر هنا بيد بلدية مسقط لمنعت كلَّ هؤلاء من مزاولة شَيّ السمك وبيع الأطعمة، حتى وإن كان الطعام يبدو مغريًّا.

مررنا أمام «بيت الساحل» و«بيت العجائب»، وشاهدتُ لوحة مشروع ترميم بيت العجائب يزيّنها شعار حكومة سلطنة عُمان، وقفتُ أمامهما وألقيتُ نظرة متفحصة عليهما، وتفاجأتُ أنّ «بيت العجائب» أكبر ممّا كنتُ أشاهده فـي الصور، فهو بيت عملاق وشديد الارتفاع، بني عام 1883 بأمر من السلطان برغش بن سعيد ثالث سلاطين زنجبار بعد أبيه وأخيه ماجد، وسنعود للحديث عنه لاحقًا.

تعد منطقة فرضاني نقطة انطلاق للعديد من مناطق الجذب الإقليمية وأنشطة الجزيرة، بما فـي ذلك رحلات القوارب إلى بعض الجزر وجولات التوابل والجولات الثقافـية ورحلات الصيد وغيرها من المغامرات التي يقصدها السياح، خاصة الغربيين منهم، وقد ذهبنا إلى بعض هذه الجزر التي تستقطب كثيرًا من السياح من محبي الغوص والسباحة. كانتا رحلتَين؛ يومي الأربعاء والخميس الحادي عشر والثاني عشر من ديسمبر 2024، وفـي رحلة الخميس ركبنا قاربًا يملكه شابٌ عُماني الملمح والأصل اسمه صالح العبري، وكنا مجموعة كبيرة ومن جنسيات مختلفة. وفـي الحقيقة لم أرتح لتينك الرحلتين؛ لأنهما استنزفتا منّا وقتًا ليس بالقصير، ثم إنني لا أجيد فنون البحر والسباحة، وقد كانت لي تجربة وحيدة، غير أنها مريرة منذ سنوات خلت، كدتُ أغرق فـيها وشربتُ من ماء البحر المالح قدرًا معتبرًا جعلني أتحسّس طعم الملح فـي فمي كلما نظرتُ إلى البحر؛ لذا تركتُ تجارب ركوب البحر والسباحة فـيه والمغامرات البحرية برمتها، ولم تعد تغريني. وطوال رحلة الذهاب والعودة إلى تلك الجزر على مدى يومين كانت نفسي تحدّثني: «ماذا لو انقلب القارب؟» وحتمًا هذا النوع من المخاوف ينتاب كلَّ من لا يجيد السباحة مثلي، عكس الذين يجيدونها فإنهم يتطلعون فـي شغف لمعانقة هذه المياه بملحها الأجاج بحب وسعادة. وبما أنني من ذلك النوع الذي لا يجيد السباحة فمن الطبيعي أن أسأل نفسي وقاربُنا يمخر عباب البحر: «كيف لهؤلاء أن ينقذوني وأنا الذي لا أعرف فنّ العوم؟»، وبغتةً ظهر طعم الملح القديم فـي فمي المرتبط بتجربتي مع السباحة، والسؤال: هل يمكن أن ينشغل بي أحدٌ فـي ظرف كذلك، والكلُّ سيقول وفـي صدق كامل: «اللهم نفسي.. نفسي»؟!

لكن سليمان المحروقي كان أكثرنا سعادة بتلك الرحلات، إذ مارس هوايته فـي السباحة فـي البحر. وأكثر ما أثارني أنّه طلب من سائق قاربنا التوقف وسط المحيط لكي يسبح، وللوهلة الأولى كنتُ أظنّ أنه يمزح، ولم أُدرِكْ أنه كان جادًا للغاية إلا عندما رمى بنفسه فـي البحر وسط خوف الجميع وقلقهم إلا سيف الذي يبدو أنه اعتاد مثل هذه المغامرات. وفـي الواقع؛ كان سليمان نجم الرحلات البحرية بامتياز، بما تمتّع به من فكاهة وحس دعابة، وقد أضحَكَنا وأضحَك مرافقينا فـي القوارب بنكاته وبمحاولاته الفاشلة فـي التحدث باللغة السواحلية التي لا يجيدها، ولكن ذلك لم يمنعه من ترديد الأغاني السواحلية وإن كان بلغة مكسرة.

عُدنا إلى الفندق وأنا أحدّث نفسي أنّ من يسألني عن هذه الرحلة حين أعود إلى عُمان فسأنصحه بالتأكيد بعدم بزيارة زنجبار فـي شهر ديسمبر؛ فالحرارة شديدة وكذلك الرطوبة، وما لاحظتُه أنّ معظم المساجد التي دخلناها لا يوجد بها تكييف، وكذلك المطاعم التي يُقدّم الطعام فـي معظمها فـي الهواء الطلق ممّا يسبب إرهاقًا نفسيًّا؛ فمن ناحية رطوبة الجو عالية، ومن ناحية أخرى رائحة المشويات على الهواء تمتزج مع العرق البشري النفّاذ ممّا يستدعي تغيير الملابس فـي كلِّ نزهة ولو صغيرة.


Tuesday, February 11, 2025

معرض الكتاب يناقش أثر الثقافة العمانية في الشرق الإفريقي

الأهرام 30 يناير 2025

 استضافت "القاعة الدولية"؛ بلازا "٢"؛ بمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ56 ؛ ندوة تحت عنوان "أثر الثقافة العمانية في الشرق الإفريقي"، بمشاركة: الدكتور سليمان المحذوري، والدكتور محسن الكندي، وأدار الندوة الدكتور يحيى رياض يوسف.

وقال الدكتور يحيى رياض يوسف: "إن سلطنة عمان دولة محورية في الشرق الأوسط،؛ وتعد الوحيدة التي كونت إمبراطورية ضمت دولًا من آسيا وإفريقيا؛ وعمان كانت وما زالت معروفة بالحفاظ على هويتها الثقافية، وكان لذلك أكبر الأثر في الحفاظ على لغة السواحلية التي ما زال العمانيون يتحدثون بها".

من جانبه، تحدث الدكتور محسن الكندي؛ عن التأثير الثقافي العماني في شرق إفريقيا، موضحًا أن الحضور الثقافي العماني ليس مجرد تواجد عابر؛ بل هو متجذر في المنطقة على مدى التاريخ، مشيرًا إلى أن الرحيل المعرفي كان له أكبر الأثر في الصحافة، حيث نتج عنه 13 صحيفة شكلت عماد الثقافة العربية؛ ةالرحيل المعرفي امتد ليظهر بوضوح في نشأة المراكز الثقافية في شرق إفريقيا؛ وكذلك في تطور المسرح والسينما؛ وأشار الكندي؛ إلى أن مصر كان لها دورًا محوريًا في دعم المشاريع الثقافية العمانية، حيث نشأت الصحافة العمانية بكوادر مصرية، سواء من المخرجين أو الكتاب الصحفيين، كما أشار إلى دور "بيت شرق إفريقيا" الذي تأسس في القاهرة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، وكان له دور في استقلال "زنجبار" في تلك الفترة.

أما الدكتور سليمان المحذوري، فقد تناول العلاقات التاريخية بين عمان؛ وشرق إفريقيا، موضحًا أن الهجرات العمانية إلى المنطقة بدأت منذ القرن الأول الميلادي، حيث كانت العلاقات التجارية قائمة بين عمان ومنطقة الخليج؛ وأشار المحذوري؛ إلى أن هذه الهجرات استمرت عبر الحروب الداخلية في عمان، خاصة هجرة أبناء عباد؛ والنبهانة؛ إلى شرق إفريقيا.

وأوضح المحذوري؛ أنه في عهد "اليعاربة" تم تحرير العمانيين من البرتغاليين، ولكن كان هناك نداءً من منطقة شرق إفريقيا؛ لعمان؛ لتحرير المنطقة في عام 1660، وهو ما تم، وتولى أحد الولاة العمانيين حكم المنطقة؛ كما نقلت العاصمة العمانية إلى "زنجبار" في عهد السيد سعيد بن سلطان، مما شجع على المزيد من الهجرات العمانية إلى المنطقة، بداية من بوروندي وصولًا إلى موزمبيق.

وفي حديثه عن دخول العمانيين إلى شرق إفريقيا، قال المحذوري: "العمانيون لديهم جينات مسالمة، مما ساهم في استقرار الحكم العماني في منطقة شرق إفريقيا"؛ وأوضح أنه بسبب هذه السمة، تدخلت بريطانيا لتقسيم المنطقة؛ ولعبت على تأجيج الطائفية والعرقيات، مما أدى إلى سقوط "زنجبار" في عام 1960.

ومن جانبه، أكد الدكتور محسن الكندي؛ أن هجرة العمانيين إلى "زنجبار" كانت جزءًا من تراث ثقافي كبير، حيث ساهم العمانيون في إثراء المشهد الثقافي في المنطقة؛ وذكر أن أكثر من 70 شاعرًا عمانيًا كتبوا عن حضور "زنجبار" في إبداعاتهم الشعرية، موضحًا أن العمانيين انتقلوا من بيئة صحراوية إلى بيئة أكثر مدنية في "زنجبار".

وتطرق الكندي إلى دور الصحافة العمانية في التأثير الثقافي، حيث كانت الصحافة العمانية تستقي أخبارها من الصحف المصرية، وتناقش العديد من القضايا الاجتماعية والسياسية مثل حرية المرأة، وتبنت أساليب شبه ديمقراطية في إدارة المجلات، حيث كان يتم التصويت لاختيار رئيس تحرير الصحيفة.



Monday, February 10, 2025

في «البيت» الذي ينكأ الجراحات القديمة

 زاهر بن حارث المحروقي

جريدة عمان 10 فبراير 2025

تحدثتُ فـي مقال سابق عن مطار زنجبار الأنيق والنظيف رغم صغر مساحته. كان وصولنا إليه فـي الساعة الواحدة والربع ظهرًا بتوقيت مسقط. وفـي الشرق الإفريقي يُسمّى هذا الوقت الساعة السابعة والربع ظهرًا، لأنّ اليوم هناك مقسّم إلى اثنتي عشرة ساعة ليلًا ومثلها نهارًا، وغالبًا ما يتساوى الليل والنهار، لوقوع المنطقة قرب خط الاستواء. واليوم الجديد يبدأ فـي زنجبار مع بداية الليل لا فـي منتصفه كما هي طريقة الغرب فـي حساب الأيام التي قلدناهم - نحن العرب - فـيها، وكان العُمانيون الأوائل إذا ذكروا التوقيت يقولون: «الساعة الأولى من النهار»، أو «الساعة الثانية من الليل» وهكذا، ولم يكونوا يستعملون لفظ «الساعة الواحدة» مطلقًا، بل يقولون: «الساعة الأولى».

أخيرًا وطئت قدماي زنجبار بعد حُلم طويل تأجّل كثيرًا. كانت مشاعري حينئذ مختلطة بين الفرح لتحقق الحلم، والترقّب لما ينتظرني من مواقف أو مشاهدات. وقد بُحْتُ فـي مقال سابق بخواطر وتساؤلات راودتني فـي رحلتي الجوية التي استمرت خمس ساعات، والآن وقد هبطتُ من السماء إلى الأرض فإنّ خواطر وتساؤلات أخرى تعنّ فـي البال، وحب استطلاع شديد لكلِّ شيء.

تركتُ رفـيقَيْ سفري سيف وسليمان يتحدثان مع مرافقنا أحمد المزروعي، فـيما كنتُ ألقي نظرة أحاول أن تكون موضوعية على كلِّ شيء وأيِّ شيء، وأسعى من خلالها إلى حشو الذاكرة بأكبر قدر ممكن من المشاهدات لتغدو معينًا لي فـي مقبل الأيام، وفـي إطار السرد الذي ينبغي تقديمه لمن يسألني عن مشاهداتي فـي زنجبار وانطباعاتي عنها. نظراتي احتضنت فـي مودة البيوت والأشجار والشوارع والمطاعم وحركة الناس ولباسهم وطريقة كلامهم، وبنحو خاص - ولحاجة فـي نفس يعقوب - كنتُ أبحث عن العُمانيين فـي الأسواق والشوارع، حتى وصلنا إلى منطقة «فرضاني» وهي فـي الأصل (الفُرضة) حسب التسمية العُمانية للميناء الصغير، وأضيف إليها (ني) التي تعني (فـي)، وهكذا وصلنا إلى فندق (مزينجاني) الذي حجزه سيف قبل سفرنا. وكلمة (مزينجا) تعني باللغة السواحلية «المدفع»، وبالفعل هناك مدفعان صغيران على مدخل الفندق، كتأكيد على تطابق الاسم مع الواقع المُشاهَد، وبما أنه أضيفت كلمة (فـي) على (مزينجا) فالمعنى صار (فـي المدفع).

دخلنا بهو الفندق فإذا هو تحفة معمارية عُمانية من الطراز الرفـيع، يشعر المرء أنه فـي إحدى قلاع عُمان أو حصونها. وفـي تلك اللحظة دخل فـي روعي أنّ هذا القصر ربما هو المكان نفسه الذي قصده أبي - عليه رحمة الله - عندما دُعِيَ إلى الغداء فـي بيت الشيخ هاشل بن راشد المسكري المسمى «بيت المدفع»، وهذا يعني أنني أتلمس الآن خطى والدي على نحو صحيح، وأُكمل خريطة هجرته التي حملته قسرًا لا اختيارًا من عُمان إلى هذه الجزيرة الأسطورية، ليس وحده وإنما كلّ العُمانيين المهاجرين، هذا ما خطر لي فـي تلك اللحظة. وبما أنّ بيوت تلك المنطقة كلها كانت مملوكةً للعُمانيين، وبعضها تابع للحكومة، فقد صادرها الانقلابيون ظُلمًا ولم يسمحوا بمجرد ذكر أصحابها الأصليين؛ لذا فإنّ رحيل أصحاب البيوت وأبنائهم مع عدم توثيق أسمائهم يُعرِّض أصحاب هذه البيوت للنسيان، وعندما سألْنا أحدَهم عن البيت قال: «لا تسألني عن التاريخ»، وكان يقصد فـي الواقع: «لا تنكأ الجراحات القديمة»، ولكن أحد الشباب العاملين فـي الفندق من ذوي الأصل العُماني أخبرنا أنّ البيت يعود للحكومة السلطانية، وكان يُستخدم بيتًا للضيافة فصادَرتْه حكومة الانقلاب، ثم باعته لأحد المستثمرين الذي رممه وأضاف له ركنًا جديدًا، وهو ما أجاب عن تساؤلاتي حين شاهدتُ البيت للوهلة الأولى: هل يمكن أن يكون هذا القصر بفخامته وغرفه الكثيرة مُلكًا لشخص واحد؟ ماذا تراه يفعل بكلِّ تلك الغرف؟! ومع ذلك تواصلتُ مع الشيخ سيف بن هاشل المسكري وسألتُه هل هذا هو «بيت المدفع»؟ فأكد لي أنّ البيت كان للضيافة، وأنّ «بيت المدفع» يقع فـي منطقة أخرى اسمها (مكونازيني) وهو حاليًّا وقفٌ فـي سبيل الله مثل كثير من بيوت العُمانيين فـي زنجبار وممتلكاتهم ومساجدهم. إذن فقد فاتني أن أرى البيت الذي انطلقت منه تلك المقالات الاستنهاضية التي كان الشيخ هاشل بن راشد المسكري يكتبها فـي «الفلق»، وفاتني أن أعيش تلك اللحظات التي دعا فـيها الشيخ هاشل أبي للغداء، ولا أدري كيف كان شعور والدي وهو الفقير المعدم القادم من عُمان عندما يدعوه أحد الأكابر للغداء فـي بيته، ولا كيف تقبّل الشيخ هاشل هدية أبي المتواضعة وهي قلم رخيص كما أشرتُ سابقًا. رحل أبي ولم يُضف لي جديدًا أعرفه، وها أنا أقف الآن على الأرض ذاتها التي صال والدي فـيها وجال مع عُمانيين كثر، وعلى مرمى حجر فقط من البيت الذي دخله بدعوة كريمة من الشيخ هاشل.

على كلّ حال؛ فإنّ مبنى الفندق التقليدي جميل بديكوراته وأبوابه الخشبية. وفـي السقف يمكن للرائي أن يُشاهد ألواح الخشب، وكذلك الأسرّة التي هي خشبية أيضًا وضخمة، ومحاطةٌ بناموسيات ضد البعوض الذي - ولله الحمد - لم يصادفنا لأنّ زيارتنا حدثتْ فـي صيف زنجبار.

قال لنا مرشدنا: «إنّ برنامج اليوم سيكون جولة فـي المدينة الحجرية وفرضاني، وبرنامجُنا الفعلي سيبدأ منذ صباح الغد، حيث سيرافقنا مرشد ملم بالتاريخ، وسيأخذكم فـي جولة ويشرح لكم كلّ شيء».

نظرتُ إلى المرشد بامتنان، وأنا أتحرّق شوقًا لهذه الجولة فـي المدينة الحجرية وفرضاني، التي سأتحدّث عنها فـي مقال الأسبوع المقبل.


إذا رأيت عربيًّا فاذبحه

 زاهر بن حارث المحروقي

جريدة عمان 3 فبراير 2025

أهمُّ عنوان يقابلك وأنت فـي زنجبار هو التسامح وقبول الآخر، فإذا اتجهت إلى المساجد وجدتَها ملأى بالمصلين من أعمار مختلفة، ولكلِّ مذهب مساجده؛ فهناك مساجد للإباضية وهم الأقلية، وهناك مساجد للشافعية وهو المذهب السائد فـي زنجبار، وهناك مساجد وحسينيات للشيعة، وكلهم (ظاهريًّا على الأقل) فـي تناغم وانسجام يُحسدون عليه، ولا يفرق بينهم شيء كما هو واقع فـي دول أخرى. وليس من قبيل الشوفـينية المجانية أو الانحياز لعُمانيتي القول إنّ ذلك التسامح منبعه وجذوره عُمانية بامتياز، وإنما هو وصفٌ للواقع وانحياز للأمانة التاريخية، ولا أدل على ذلك من كلام قاله الدكتور عمر علي جمعة نائب رئيس جمهورية تنزانيا الاتحادية فـي شهر نوفمبر من عام 1999، وهو يفتتح جامع الخليلي بـ«شاكي شاكي» فـي بيمبا (الجزيرة الخضراء) بحضور سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتي عام سلطنة عُمان، إذ قال: «إنكم لو أردتمونا وأردتُم هذا الشريط الساحلي كله إباضيًّا منصبغًا بكم لكان فـي وسعكم ذلك؛ لأنّ آباءكم كانوا يحكموننا، وكانت مصائر الناس بأيديهم؛ لكن سماحتهم التي كانوا عليها والتي نراها فـيكم أنتم كذلك كأبناء لهم -ونحن الذين تتلمذنا على أيديهم- قد نالنا من ذلك التسامح، فتركوا لنا الخيار لنعبد الله تعالى تحت أيِّ منهج ومدرسة، ولم يلزمونا أن نكون إباضيين؛ فالفضل فـي هذا التسامح يعود لله سبحانه وتعالى، ثم لسماحة آبائكم، نحن اليوم ندين لهم بهذه الميزة التي نعيشها».

وإذن؛ فإنه يُحسب للسلاطين العُمانيين تركهم حرية اختيار المدرسة الفقهية لأيِّ شخص كما يريد، وإحضارهم إلى شرق إفريقيا علماء وفقهاء من اليمن وجزر القمر، وتعيينهم قضاة شرعيين يمثلون السلطة، وعدم فرضهم مذهبهم على الناس لا بالسيف ولا باللسان، بل إنهم -أي العمانيين فـي شرق إفريقيا- انغلقوا على أنفسهم ولم يسمحوا لمعتقداتهم الشخصية بالتمدد خارج ذواتهم، وهذه حقيقة تاريخية لا يشوبها شك؛ ولهذا فإنّ الأصوات المنصفة تذكر لهم ذلك بكلّ تقدير واحترام، وهي أصوات بدأت ترتفع الآن فـي الشرق الأفريقي كله، بعد الهجمة الشرسة التي رافقت الانقلاب فـي يناير 1964، والتي اجتهدت لشيطنة العُمانيين وإلصاق كلِّ العيوب والتهم بهم. وفـي هذه الجزئية لنا مثل بسيط؛ ففـي زيارتنا -أنا وسيف وسليمان رفـيقَيْ الرحلة، ومعنا مرافقنا- لبيت ومأتم أحمد بن النعمان الكعبي مبعوث السيد سعيد بن سلطان لأمريكا، استوقفنا رجلٌ وتجاذب معنا أطراف الحديث فقال: «إنّ ظروف زنجبار سيئة، وإنّ الحال لن ينصلح لأنّ الناس الطيبين طردناهم»، وكان يشير بالطبع إلى الحُكم العُماني. وكلامٌ كهذا لم يكن أحدٌ يجرؤ على التفوّه به أبدًا قبل عدة سنوات لأنّ الشحن ضد العُمانيين كان على أشده، وهم الذين خسروا أموالهم ومزارعهم وقصورهم وبيوتهم التي استولى عليها الانقلابيون ثم باعوها لمستثمرين، ووصل الأمر بأن تُنشد أناشيد تنادي بذبح العرب (وهي تعني العُمانيين بالطبع)، وزُرِعَ الحقدُ فـي النشء الجديد عبر المناهج الموجهة ضد العرب، وألصقت بهم ألقابٌ مهينة، مع تهديدات بـ«حلق لحاهم بموسى دون ماء»، وأنا هنا أقتبس الجملة حرفـيًّا. ومن الطرائف فـي هذا الشأن ما حكاه لي الزميل المخرج الإذاعي حمد بن سعيد الحبسي أنه شارك وهو طفل فـي احتفالات مدرسته باليوم الوطني التنزاني، وكان ممّا ينشده الطلبة مع الرقصات الشعبية: «chaka – chinja – ukiona muwarabu»، وترجمتها هي: «شد الحيل.. شد الحيل.. إذا رأيتَ عربيًّا فاذبحه».. وكلمةُ شد الحيل هي تقريبية من عندي لتقريب معنى كلمة «mchaka»، إذ ليس لها معنى معين مثل كلمة «يودان دان»، وكانت هذه الأهزوجة تؤدى مع رقصات الهرولة، أي أنها حماسية بما يعني «شدوا الهمة يا رجال لقتل العرب»، فترد المجموعة بصوت عالٍ: «اذبح.. اذبح». يقول حمد: إنّ والده كان من بين الحضور فـي المقاعد، وتصادف أنّه (حمد) يردد المقطع ويشير بيده إلى رقبته ناظرًا إلى أبيه الذي أخذته ابتسامة من سخرية ما يشاهد.

غير أنّ الأمر -على ما يبدو ولله الحمد- قد تغيّر الآن؛ ففـي النهاية لا يصح إلا الصحيح، }فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ{. وبالمنطق؛ فإنّ زائرًا مثلي لمدة قصيرة لا تتجاوز أسبوعًا واحدًا لا يمكن أن يتأتى له الغوص فـي الأعماق الاجتماعية الغائرة، ولكن الكتاب قد يُقرأ من عنوانه كما يقال؛ فهناك عُمانيون ما زالوا يعيشون فـي زنجبار ويمارسون تجارتهم بكلِّ حرية، وهناك مدارس لتحفـيظ القرآن تتبع للعُمانيين، وثمة جمعيات خيرية نشطة جدًا، وكلها قوى عُمانية ناعمة تعمل بشكل إيجابي، واستطاعت إزاحة الصورة السلبية عن العُمانيين لدى كثير من الأفارقة.

واقعيًّا ليس هناك إحصاء دقيق لعدد العُمانيين فـي زنجبار أو فـي الشرق الأفريقي كله، وكلُّ ما نعرفه أنهم متوزعون بين تنزانيا وكينيا وأوغندا ورواندا وبوروندي وزائير وجزر القمر، وأغلبهم قد تقطعت بهم سبل العودة إلى وطنهم الأصلي؛ لأنّ الجيل العُماني الذي هاجر من عُمان لم يعُد موجودًا فـي إفريقيا الآن، والجيلُ الثاني المولود فـي المهجر فـي سبيله للاختفاء أيضًا، ولم يبق إلا الأحفاد، وتجد بعضهم يحاول التمسك بأصوله وجذوره، وبعضهم يعرف أسماء القبائل العُمانية والمناطق التي يرجع أصله إليها، ولكنه مقطوع الصلة بعُمان، وقد حدث لي وأنا خارج من مسجد «فروضاني» أن رأيتُ عُمانيًّا لا تُخطئه العين يبيع الفُشار (الفرّاخ)، فسلّمتُ عليه، فإذا هو يتحدّث باللهجة العُمانية، لكنه لا يعرف أصله من أيِّ ولاية فـي عُمان، وقال إنّ جده هاجر إلى زنجبار وإنّ أباه وأمه مولودان فـيها. ومثل هذا كثيرون، ومنهم الشباب الذين يعملون فـي استقبال فندق «مزينجاني» الذي نزلنا فـيه؛ فهناك «خايفـي» وهناك «رمضاني» وغيرهم ممن يحملون قبائل عُمانية.

ثمة من العُمانيين من يرّحب بك أيما ترحيب ويرى نفسه جزءًا منك بالدم والإحساس؛ وهناك منهم من ينظر إليك بنوع من الغضب لإحساسه بأنه أُهمل؛ وثمة من يعتقد أنّ باستطاعتك مساعدته سواء للعودة إلى عُمان أو فـي معيشته هناك؛ وهناك من يغضب إذا سألتَه هل أنت عُماني؟ فـيرد عليك بغضب: لا. لأنه يظن أنه «إنسانٌ للفرجة فقط» كما قال لي أحدهم.

أثناء زيارتنا لزنجبار أرسل لي الصديق سليمان بن سعيد الوهيبي رسالة عن تجنيس إحدى دول الخليج أكثر من ستة لاعبين استعدادًا لكأس الخليج لكرة القدم، فرددتُ عليه: «الأولى بعُمان أن تفعل ذلك؛ فالمواهبُ عُمانية الأصل منتشرة بكثرة فـي إفريقيا، وبما أنّ الدولة اتجهت إلى التجنيس وإلى إعادة الجنسية، فمثل هؤلاء هم الأولى». وهناك مقترحات كثيرة يمكن أن تقوم بها الدولة لدعم هؤلاء الذين تقطعت بهم السبل بما يجعلهم قوة عُمانية حقيقية إضافة إلى كونهم قوة ناعمة.

خرجنا من المطار، فإذا هناك مجموعة كبيرة من العُمانيين جاءت لتستقبل ضيوفها من الأهل والأصدقاء؛ واتصل سيف بمرافقنا وهو شاب لطيف من أصول عُمانية اسمه أحمد بن عمر المزروعي، الذي رافقنا طوال رحلتنا إلى زنجبار.


أخيرًا .. نحن في زنجبار

 زاهر بن حارث المحروقي

جريدة عمان 27 يناير 2025

مطار زنجبار صغير، لكنه أنيق ونظيف، ويستقبلك العاملون فـيه بابتسامة تشع جمالًا ويحيّون الضيف بتحية إسلامية عربية، وهو من مشروعات التعاون بين حكومتَيْ عُمان وزنجبار.

كان ضمن المشرفـين على بناء هذا المطار فـي الثمانينيات من القرن الماضي علي بن محمد الطيواني الذي مثّل وزارة المواصلات العُمانية، وانتهز فرصة وجوده هناك فكتب سلسلة من المقالات لجريدة «عُمان» عن زنجبار، كانت -فـيما أعلم- البداية فـي كتابات العُمانيين عن هذه الجزيرة.

كتب الطيواني عن تأثر زنجبار بالثقافة العُمانية، وعن فرقة «إخوان الصفا» الفنية، وعن الطرب الزنجباري، وعن موضوعات أخرى، فـي وقت كنّا فـيه فـي أمسّ الحاجة إلى معرفة تلك الجزيرة، ولا عجب أن يكتب علي، فقد كان والده الشيخ محمد الطيواني محررًا فـي صحيفة «النجاح» التي صدرت فـي زنجبار عام 1911، متحدثة بلسان العرب، وحَوَتْ صفحاتُها العديد من الدراسات والمقالات عن عُمان وتاريخها وشخصياتها.

لزيارة زنجبار لا بد من التأشيرة ويمكن استخراجها عن طريق الحاسوب أو الهواتف بخمسين دولارًا، وتشترط حكومة زنجبار التأمين الصحي خلال مدة الزيارة، وبإمكان الزائر أن يؤمّن قبل وصوله أو فـي المطار عندما يصل. هناك من ينتظر الضيوف ليتأكد من التأمين، وهو متاح عبر الهواتف لمن أمّن من قبل، أما من لم يؤمِّن فهناك مكاتب للتأمين تفـي بالغرض مقابل مبلغ حسب مدة الزيارة، وفـي حالنا دفعنا مبلغًا يُعادِل سبعة عشر ريالًا عُمانيًّا، وإذا ما قُلنا: إنّ الضيف نادرًا ما يستفـيد من التأمين عرفنا أنّ هذا المبلغ كبيرٌ نسبيًّا، وقد حدث مثلًا أن مَرِض سيف المحروقي واحتاج إلى علاج، ولكن عند ذهابه إلى العيادة رفضت التأمين قائلة إنها لا تتعامل إلا بالدفع المباشر، وهي ليست العيادة الوحيدة فـي زنجبار -على أي حال- التي تفاجئ المريض بهذا الموقف.

والغريب أننا -فـيما بعد- عندما زُرْنا الجزيرة الخضراء (بيمبا) -وهي واحدة من الجزر الرئيسة التي تشكّل أرخبيل زنجبار وتقع على بُعد خمسين كيلومترًا شمال شرق جزيرة زنجبار الرئيسة (أونجوجا)- أصرّ موظفو المطار علينا أن نُبرِز وثيقة التأمين الصحي، ورغم أننا أبلغناهم أننا انتهينا من إجراءات التأمين فـي مطار زنجبار، إلا أنهم أصرّوا على إظهار الوثيقة.

وقد ذكّرني هذا الموقف بإجراءات التأمين لدينا فـي عُمان؛ فأغلبُ الأحيان تربح شركات التأمين كثيرًا على حساب الزبائن المُؤَمِّنين؛ وعند تعرّض أحد هؤلاء لحادث -لا قدّر الله- فإنه لن يستطيع نيل شيء من هذه الشركات إلا بعد جهد جهيد.

ولعلّ هذا أمر طبيعي إذا ما علمنا أنّ الدفع مؤلم، بخلاف الأخذ المتفق عليه بشريَّا أنه أمرٌ جميل ومبهج، وهكذا فإنّ حكومة زنجبار تحصد هذه المبالغ من السياح غالبًا مقابل لا شيء.

وهؤلاء السياح يؤمّون الجزيرة من كافة أنحاء العالم عربًا وأعاجم من أوروبيين وآسيويين، بل وحتى من الكيان الإسرائيلي، وبإمكان المرء أن يرتدي ما يشاء من ملابس؛ فلا يثير ذلك غرابة أحد، لأنّ أهل زنجبار اعتادوا الضيوف وعرفوا مشارب وأهواء كلّ الأطياف والأجناس؛ فهناك من يأتي للسياحة البحرية مثل الأوروبيين؛ وهناك من يَقْدِم للسياحة التاريخية، وثمة من يجيء للاستجمام فقط، وهناك من تكون زيارته للتجارة، هذا عدا من يأتي للدراسة، ومن يستهدف زيارة قبور الأولياء والتبرك بهم، بل إنّ هناك من يأتي للعلاج الشعبي الذي اشتهرت به إفريقيا والذي هو خليط من الطب البديل والسحر والتعاويذ، وكلُّ جماعة من هؤلاء ستجد بلا شك ما ترغب فـيه.

فـي الغالب الأعم فإنّ شعب زنجبار ودود ولطيف المعشر؛ وقد لاحظتُ ذلك منذ اللحظات الأولى لهبوطنا فـي مطار عبيد كرومي الدولي على بعد خمسة كيلومترات جنوب مدينة زنجبار، وهو المطار الذي كان يُعرف سابقًا باسم مطار «كيسواني»، وبُدِّلَ اسمه عام 2010 تكريمًا لعبيد أماني كرومي أول رئيس لزنجبار، أسوة بمطار دار السلام الذي سُمِّي باسم جوليوس نيريري. الكلّ هنا يحييك بتحية الإسلام، ويحاول أن يجاريك فـي السلام باللغة العربية حتى وإن لم يكن يجيدها، مما أعاد إلى ذاكرتي ما قاله لي الصديق محمد بن سلطان البوسعيدي، بأنّ السلام منتشر بين الناس.

من المواقف التي حدثت فـي المطار أنني كنتُ فـي طابور فإذا بامرأة من ذوي الإعاقة تُقاد على كُرسيٍّ متحرك، فأخذتني النخوة وطلبتُ من إحدى النساء التي يبدو من ملامحها أنها أوروبية أن تُفسح المجال لتلك المرأة المقعدة، فإذا بالأوروبية تصرخ: «هذا طابور وهذا دوري»!.

وبينما كنتُ وسيف وسليمان نكمل إجراءات الدخول، رآنا أحد الضبّاط، فطلب منا بكلِّ تهذيب واحترام، التوجّه إليه، وما إن وصلنا إليه حتى أشار إلى منضدة تخليص المعاملات، طالبًا منّا التوجّه إليها وهذا ما حدث، ظننتُ للوهلة الأولى أنّ الرجل قد يطلب منا مبالغ تجاه تلك الخدمة، كما يحدث فـي مطارات بعض الدول ومنها العربية، لكنّ ظني خاب ولله الحمد؛ واكتشفتُ أنّ الرجل كان يؤدي واجبه حيال الالتزام بالنظام وإرشاد الزوار ليتسنّى لهم الانتهاء من الإجراءات بسرعة ويسر.

فـي الواقع إنّ بشاشة الناس ولطفهم وتهذيبهم واحترامهم للزوار كانت عناصر حيوية رافقتنا طوال أيام رحلتنا فـي زنجبار، والملاحظ أنّ النساء يرتدين اللباس الإسلامي، وهناك نسبة منهن منقبات، وأستطيع أن ألخِّص كلَّ ذلك بأنّ زنجبار جميلة.


هذا ما يقوله الإنجليز .. فلماذا لا تكتبون أنتم ؟

 زاهر بن حارث المحروقي

جريدة عمان 20 يناير 2025

إذا كانت الأيام دولًا، فإنّ ما أقامه السيد سعيد بن سلطان من دولة مترامية الأطراف، انهار بوفاته عام 1856، إذ دخلت عُمان وشرق إفريقيا وزنجبار عهدًا جديدًا بانفصال الحكم العُماني فـي زنجبار عنه فـي عُمان، وقد استمرّ حكم العُمانيين لهذه الجزيرة الإفريقية حتى الثاني عشر من يناير 1964، تاركًا بصمات لا تخطئها العين وإن أصابها الرمد، إذ أضحت زنجبار تساير ركب الحضارة والمدنية قَدَمًا بقدم وساقًا بساق، كلّ ذلك مصحوب بإرثٍ إنساني وآثارٍ حضارية لا تُقدّر بثمن. وها هي الجزيرة تستقبل اليوم أفواجًا من السياح من العالم أجمع؛ وعندما تتجول فـي أزقتها تستطيع أن تشاهد بأم العين تنوعًا بشريًّا من أجناس شتى، لا أحد ينشغل بأحد، فهذا يلبس البنطال القصير، وذاك يرتدي الطويل، والبعض يرتدي الدشداشة العُمانية، وآخرون يزدهون باللباس المغربي التقليدي، وتتناغم فـي شوارعها وأزقتها ذات التاريخ والعبق البعيد العديدُ من لغات ولهجات العالم.

وفـي اعتقادي أنّ هذا التعايش الذي يميِّز زنجبار وأهلها اليوم ليس سوى ثمرة التسامح الذي أرساه الحكام العُمانيون؛ فلم يفرّقوا بين مذهب وآخر ولم يميّزوا هذا الدين عن ذاك. ويستطيع المرء أن يقف على هذا التسامح عندما يحين موعدُ الصلاة، إذ تسمع من يكتفـي بالأذان العادي دون زيادات، وتسمع الآخر يضيف: «الصلاة خير من النوم»، وثالث يردد: «أشهد أنّ عليًّا وليُّ الله»، وكلهم متناغمون ومنسجمون فـي وحدة تسر الناظرين لا يفرّق بينهم شيء.••هذا الفرح بتعايش المسلمين وتسامحهم فـي زنجبار مبعثه علمنا المسبق أنّ ثمة من حاول زعزعة هذا التعايش وذلك التسامح، لكنه فشل ولله الحمد، وهو ما نبّه إليه ذات مرة الشيخ عبدالرحمن بن حمود السميط، الداعية الكويتي الراحل فـي محاضرته فـي جامع الجيطالي بالموالح الشمالية فـي مسقط، عندما قال: «إنّ أسوأ شيء فعلناه، أننا نقلنا إلى إفريقيا أمراض الجزيرة العربية»، وهو بذلك حذّر من تلك الأصوات التي تفرّق ولا تجمع وتشعل الحروب ولا تسعى أبدًا لإطفائها.

وإذا كنتُ قد تحدّثتُ عن والدي وسفره إلى الشرق الإفريقي واستقراره هناك من أجل لقمة العيش، فإنّ ما يؤسف له أنّ كلّ تلك الهجرات الخاصة والعامة لم تُدوَّن؛ فلم يكن من اهتمام العرب تدوين تجاربهم وأعمالهم ونشاطاتهم واكتشافاتهم، باستثناء الكتب القليلة التي تناولت الموضوع مثل كتاب «جهينة الأخبار فـي تاريخ زنجبار» للشيخ سعيد بن علي المغيري، وكتاب «مذكرات أميرة عربية» للسيدة سالمة بنت سعيد، الذي نعرف أنَّ باعثه هو كتابة سيرتها الشخصية أكثر من كونها تأريخًا للجزيرة. صحيح أنّ الألفـية الجديدة شهدت صحوة متأخرة لكتابة تاريخ العُمانيين فـي شرق إفريقيا، لكن ما لم يُكتَب بعدُ أكثر بكثير مما كُتِب. وهنا لا بد من النظر إلى النصف الممتلئ من الكأس والإشادة بكتابَين مهمَّيْن افتتحا عام 2009 سلسلة التأريخ للوجود العُماني فـي زنجبار وشرق إفريقيا، هما «زنجبار: شخصيات وأحداث» للباحث ناصر بن عبدالله الريامي، و«الصحافة العُمانية المهاجرة وشخصياتها: الشيخ هاشل بن راشد المسكري نموذجًا» للأكاديمي والباحث محسن بن حمود الكندي، تبعهما عدد من الكتب الأخرى التي توزعت بين التأريخ السياسي والاقتصادي والمذكرات الشخصية، مثل «زنجبار - التكالب الاستعماري وتجارة الرق» لعيسى بن ناصر بن عيسى الإسماعيلي، و«زنجبار فـي عهد السيد سعيد بن سلطان» للباحث سليمان بن عمير المحذوري، و«الصراع والوئام فـي زنجبار»؛ لعلي بن محسن البرواني أحد رجال الحكم العُماني فـي زنجبار قبل الانقلاب، و«الهجرات العُمانية إلى شرق إفريقيا» لسعيد بن سالم النعماني؛ فهؤلاء - وبالتأكيد هناك غيرهم - وثقوا جزءًا كبيرًا من هذا التاريخ والنشاط الإنساني ممّا جعل هذه الكتب مصادر تاريخية تُنصِف العُمانيين بدلًا من الاعتماد على كتب الغربيين الذين لم يروا فـي العُمانيين إلا تجار عبيد، وحوّلوا ما هو مضيء إلى قاتم وقبيح القسمات والملامح، وهذا ما فاجأنا به المرشد السياحي عندما زرنا «بيت المرهوبي»، حين قال: إنّ المرهوبي هو أول عُماني يصل إلى هذه المنطقة ليتاجر بالعبيد! فعاجَلَه سيف المحروقي بالقول: إنّ الرجل كان تاجرًا وحسب ولم يكن تاجر عبيد، فكان رد المرشد: «هذا ما يقوله الإنجليز، فلماذا لا تكتبون أنتم الحقيقة التي تعرفونها؟!».

مؤكدٌ أنّ هذا المرشد لم يقرأ كتاب عيسى بن ناصر بن عيسى الإسماعيلي «زنجبار - التكالب الاستعماري وتجارة الرق»، وإلا لما دعانا أن نكتب، وحالُ هذا الدليل هو حال الببغاوات التي تحدّث عنها الكاتب الروسي فـيودور دستويفسكي ذات يوم؛ تلك الببغاوات التي تردِّد فقط ما تُلقّنه. يقول دوستويفسكي: «لك أن تقول آراء جنونية؛ ولكن لتكن هذه الآراء آراءك أنت. لئن يُخطئ المرء بطريقته الشخصية، فذلك يكاد يكون خيرًا من ترديد حقيقة لقّنه إياها غيره. أنت فـي الحالة الأولى إنسان، أما فـي الحالة الثانية فأنت ببغاء لا أكثر». غير أنّ المبهج فـي الأمر أنني لاحظتُ من خلال مشاهداتي اليومية خلال هذه الرحلة القصيرة أنَّ نغمة العداء الشديدة للعُمانيين خفّت حدّتُها، غير أنّ ما يؤسف له أنّ المناهج التعليمية هناك لا تزال تهاجم العُمانيين، رغم تحسن العلاقات بين البلدين ورغم المساعدات التي تقدِّمها عُمان إلى زنجبار بسخاء.

بعد أن هبطت الطائرة رأيتُ الميناء الذي وصل إليه أبي قبلي بعقود، ثم وددتُ أن أطرح بعض الأسئلة: متى كان وصوله لهذا الميناء؟ من الذي استقبله؟ وكيف دبّر أمره وهو الفقير المعدم؟ وما هي الأماكن التي ارتادها؟ ومن الذي سبقه فـي القدوم إلى هذا المكان؟ وماذا قال؟ وماذا قيل له؟ لقد دار الزمن دورة عظيمة، ذهب فـيها من ذهب وجاء من جاء؛ أناس رحلوا وآخرون ولدوا، لا الجدد يتذكرون وجوه الذين مضوا ولا الذين مضوا يعرفون ما حدث بعد رحيلهم، هكذا تدور عجلة الحياة بغير توقف. وما أعرفه يقينًا أنّ الجو العام فـي زنجبار أعجب والدي كثيرًا، حيث الصحف والصخب السياسي والندوات والنقاشات والشخصيات والعلماء. فـي هذا الجو الصاخب وجد أبي نفسه، فانغمس فـي رحيق الاستزادة من الثقافة متعددة المشارب مختلفة الألوان متباينة السحنات. كان ممن التقاهم وسعد بهم الشيخ هاشل بن راشد المسكري، صاحب جريدة «الفلق» وهو الذي كان - إضافة إلى أنه رجلُ فكر وسياسة - كريمًا مع كلِّ العُمانيين الذين هاجروا إلى زنجبار، وذكر لي غير مرة أنه كان معجبًا بثقافة المسكري وجرأته، وقد استقبله أول وصوله إلى زنجبار وأكرمه إذ دعاه إلى الغداء فـي بيته المعروف ببيت «المدفع». وبما أنّ أبي كان فقيرًا لا يملك شيئًا فقد أهدى الشيخ هاشل قلمًا قائلًا له: «لا أملك شيئًا أعطيك إياه إلا هذا القلم الرخيص، عسى أن تكتب به مقالاتك فـي «الفلق». أنت مقامُك أعلى لكن هذه إمكانيتي»، وحكى لي أنه كان يرسل بعض الأسئلة للجريدة وتُنشر مع الإجابة عليها.

وبما إنني أقف الآن على الأرض ذاتها التي مشى فـيها أبي سأقول: إنّ لقمة العيش كانت قاسية وعزيزة فعلًا، ولولا أنّه اتخذ هذه الخطوة الواسعة ربما ما كنتُ أتحدّث الآن من زنجبار. وقد كان مثله مثل كلّ العُمانيين الذين كتبت عليهم خطى فمشوها مهاجرين إلى تلك الديار. كان الشرق الإفريقي هو الساحة الخلفـية لعُمان عبر التاريخ، وما زلتُ أعتقدُ أنها كذلك الآن ومستقبلًا. إذن فكلّ ما هنالك أنه ترك زنجبار إلى البر الإفريقي، ترك ابنَيْ عمه اللذين سبقاه وهما سلطان وسيف بن ماجد المحروقي، ليلتحق بأقربائه الآخرين، حيث ذهب فـي البداية إلى «سِنْجيدا» التي سبقه إليها ابن خالته أحمد بن شامس المحروقي، ثم توجه إلى «بوكوبا» ليلتحق بمجموعة من قبيلته، وكان على رأسهم جدّي لأمي سعيد بن حارب المحروقي، وكذلك ابن عم الوالد محمد بن حمد المحروقي؛ رغم أنّ الجو العام فـي زنجبار قد أخذه من نفسه كلّ مأخذ.


الطريق إلى زنجبار

 زاهر بن حارث المحروقي

جريدة عمان 13 يناير 2025

كان سفرُنا إلى زنجبار يوم الثلاثاء العاشر من ديسمبر 2024، عبر الناقل الوطني (الطيران العُماني). وأنا أتابع خارطة الرحلة فـي الشاشة المثبتة أمام ناظري فـي المقعد، خطر ببالي العمانيون العظماء الذين قطعوا هذه المسافات الشاسعة بسفن شراعية تعتمد فقط على الرياح الموسمية محرِّكًا وحيدًا قادرًا على مناطحة أمواج البحار العاتية ومقاومتها. كم كان صبرُهم عجيبًا وإرادتُهم حديدية صلبة لا يعرفون للمستحيل معنى، ولا يؤمنون بهول الصعاب والمشاق فـي رحلات بحرية خطرة غير مضمونة العواقب. ورغم أنّ احتمال أن تصل تلك السفن للسواحل الأفريقية الشرقية قائم، إلا أنه غير مؤكد؛ فقد يبتلعها البحر ويتحول كلُّ الركاب والجنود إلى طعام لأسماك القرش الضارية، (وكثيرًا ما حصل هذا). ومع ذلك قَبِل العُمانيون القدماء هذه التحديات الجسام، وشادوا تلك الامبراطورية مترامية الأطراف، وأثبتوا بجدارة أنهم سادة البحر، مشيدين الممالك الحصينة التي نشدّ الرحال إليها الآن، وحافرين اسم عُمان بكلِّ تفرده فـي العمق الأفريقي.

لم يكن وصول العُمانيين لسواحل أفريقيا الشرقية نزهة بحرية سعيدة؛ بل العكس، فقد خاضوا نزالات شرسة لتطهير المنطقة من البرتغاليين، وهم لمن يعرفهم جيدًا أعداء لا يعرفون معنى الرحمة، يؤمنون فقط بأنّ فناء الآخر هو السبيل الوحيد المفضي للوصول لغاياتهم مهما كانت شريرة؛ لذا احتلوا الساحل الشرقي الأفريقي كله، ووصلوا إلى الهند والبصرة مرورًا بعُمان، لكن الجيوش العُمانية البحرية الهادرة خلال فترة حكم اليعاربة شلت أيادي البرتغاليين وطهّرت المنطقة كاملة منهم، تعزيزًا وتأكيدًا للنفوذ العُماني فـي المحيط الهندي، فضلًا عن حماية الطرق. وقد استجاب الإمام سيف بن سلطان اليعربي (قيد الأرض) لنداء أهل أفريقيا الشرقية وطهّرها من شرور البرتغاليين. والمؤكد أنّ تلك الانتصارات التي حققها اليعاربة كانت مقدمات لبناء الإمبراطورية العُمانية خلف البحار حتى نقل السيد سعيد بن سلطان عاصمة ملكه من مسقط إلى زنجبار عام 1832، وظلّ مقيمًا بها بقية حياته، ودُفن فـي المقبرة السلطانية التي بناها بجانب بيت الساحل؛ فقد كان من المستحيل أن تسيطر حكومة عُمان سيطرة فعلية على ممتلكاتها البعيدة فـي شرق أفريقيا إلا باتخاذها قرارًا مثل ذلك.

وبينما أنا منغمس فـي تذكر هذه الأمجاد المضيئة، إذا بالمضيفة تنتشلني مما أنا فـيه، عندما توقفت أمامي لتقدِّم الضيافة المعتادة فـي رحلات كهذه. ورغم أنّ الطعام كان جيدًا ويستحق الإشادة، غير أني لاحظتُ أنّ العصائر المقدّمة لم تكن عُمانية، مع وجود أكثر من شركة عُمانية تنتج العصائر نفسها. لحظاتُ اليقظة التي قطعت عليّ حبل الاسترسال الجميل فـي أمجاد الآباء والأجداد جدّدت فـي نفسي ملاحظة هي أنّ كلَّ مقاعد الطائرة مشغولة ولا يوجد مقعدٌ واحدٌ فارغ، وهو ما سيحدث فـي رحلة العودة إلى مسقط بعد أسبوع، ذلك دفعني لأتساءل عن السبب الحقيقي لخسائر الطيران العُماني، ولماذا تُخفّضُ الرحلات إلى زنجبار ودار السلام إذا كانت كلّ المقاعد تُحجز بالكامل؟! وهذا التساؤل لم يكن وليد اللحظة، فقد خطر ببالي فـي رحلة مماثلة إلى دار السلام قبل عدة سنوات، وكان الأمر مشابهًا، ممّا يشير إلى أننا نحتاج فقط إلى إعادة تخطيط رحلات الطيران إلى أفريقيا - بل وآسيا - وجدولتها. وأستطيع أن أجزم أنّ تخفـيض الرحلات إلى دول مثل تنزانيا وباكستان والهند وسريلانكا وتايلاند، أو استخدام طائرات أصغر يفسح المجال للشركات الأخرى لاستقطاب الركاب على حساب الطيران العماني. وعلى ضوء هذه الحقائق لن نندهش أن يأتي التقرير السنوي ليؤكد بأنّ الطيران العُماني يحقق خسائر. ومما لاحظته أنّ فـي الخارطة هناك إشارة تتكرر إلى مدينة «طنجة»، فكنتُ أستغربُ ما الذي أتى بطنجة من المغرب إلى الشرق الأفريقي حتى تبين أنّ المدينة المقصودة هي «تانجا» التنزانية.

عدتُ للخريطة أمامي على الشاشة الصغيرة لأتابع خط سير الطائرة. وبما إنني كنتُ أجلس على النافذة، فطبيعي أن ألقي نظرات على المحيط الهندي وعلى الساحل الشرقي للقارة الأفريقية، مقترنة بتفكير عميق عبر مقارنة غير متكافئة ما بين رحلتنا ونحن معلقون ومحلقون بين السماء والأرض، وبين رحلات الأجداد؛ فالفرقُ شاسع. كنتُ أتأمل السواحل التي مرّ بها العُمانيون من مطرح وصور ومحوت ومرباط وغيرها فـي رحلات الشتاء والصيف، وفـي تلك اللحظة تذكرتُ والدي - رحمه الله - الذي قطع تلك المسافة من ولاية أدم فـي داخلية عُمان على الإبل حتى محوت، بعد أن زوّده الشيخ سعيد بن هلال المحروقي - رحمه الله - برسالة لأحد الربابنة طالبًا منه بأن يرعاه وييّسر له أموره. ومن هناك ركب البحر إلى زنجبار، التي أشدّ إليها الرحال الآن بعد عقود طويلة من الزمن، غير أنّ ثمة فرقًا كبيرًا بين مطية والدي ومطيتي. والدي توجّه إليها عبر السفن الشراعية المرتهنة فـي اندفاعها إلى قوة الرياح وسماحة الأمواج العاتية، وقبل ذلك إلى لطف الله عز وجل ورحمته. قصد أبي زنجبار بحثًا عن لقمة العيش بعد أن عزّت عليه فـي ذلك الوقت، وللمرة الثانية فرق واسع بين هدف رحلته ورحلتي؛ هو توجّه لزنجبار من أجل لقمة العيش، وأنا أتوجه إليها الآن لأتحسس مواضع خطى والدي على تلك الأرض الأفريقية، وليتسنى تقدير الجهد الكريم الذي بذله - وهو حال جميع العُمانيين الذين هاجروا إلى هناك -. نعم كانت الرحلة صعبة، هكذا يمكنني وصفها وأنا على متن الطائرة، غير أنني سرعان ما أعود لعقد المقارنة بين رحلتي ورحلة أبي، فإذا كانت رحلتي صعبة كما أتصورها وأنا على مقعدي الوثير والتكييفُ يدثرني ويغلفني، فـيا ترى كيف لي أن أصف رحلة الوالد؟ هل أقول كانت صعبة، قاسية، فادحة، متبعة، مؤلمة؟ لا أدري. ما أعرفه أنّ رحلة أبي أو هجرته كانت علقمًا مقارنة برحلة الطعام الفاخر والشراب الذي اعترضتُ عليه. فقد سألتُ نفسي بغير أمل فـي الحصول على إجابة تشفـي وتريح: هل كانت لقمة العيش تستحق إلى تلك المغامرة؟!

كانت زنجبار على مبعدة دقائق قليلة وأنا أتأملُّ من نافذة الطائرة، المحيطَ الهندي ذلك العملاق الأزرق المهول. كنتُ أتساءل فـي قرارة نفسي: مَنْ يستطيع ترويض هذا العملاق! ووجدتُني أجيب نفسي دون تردد: إنه «قيد الأرض»؛ الإمام سلطان بن سيف اليعربي، تلك الشخصية العُمانية الفذة التي استطاعت حقًّا ترويض هذا المحيط فـي غفلة من الزمن ومن المحيط نفسه. لقد تمكن هذا القائد العظيم من طرد البرتغاليين من آسيا وأفريقيا، بعدما استنجد به أهالي شرق أفريقيا. وعندما أقول إني منبهرٌ بشخصيته، فلأنّ الرجل أساسًا ليس من منطقة ساحلية وإنما من الرستاق البعيدة عن البحر، لكن العزم والإرادة والإيمان بحتمية نصرة الحقّ، كلّ هذا جعل منه شخصية استثنائية فـي صحائف التاريخ، ولأنهم نصروا الله فقد نصرَهم الله. ونحن نعلم أنّ الوجود العُماني فـي الشرق الأفريقي عامةً وفـي زنجبار خاصة قديم ويعود لمئات السنين، ولكن وصول السيد سعيد بن سلطان إلى هناك كان نقطة تحوّل هامة فـي تاريخ الشرق الأفريقي كله؛ فهو الذي جعل من الجزيرة النائية ملتقى الدول الكبرى فـي ذلك الزمان، بعد أن أصبحت زنجبار عاصمة مركزية لحكمه. لذا كان الرجل بصيته ومجده رفـيقي فـي تلك الساعات الخمس فـي الجو، وكنتُ أتخيله وأسطوله الضخم الذي وصل به إلى هناك لأول مرة عام 1818م، وما لبث أن اتخذ من زنجبار عاصمة لمملكته مترامية الأطراف برًا وبحرًا، ووجّه همتّه لرفع شأنها، فزرع فـيها القرنفل الذي اشتهرت به زنجبار فـي جميع دول العالم، وكان وقتها سلعة تعادل البترول الآن، وبنى المساجد والقصور، ونقل زنجبار من جزيرة نائية تعج بالأكواخ المتواضعة إلى عاصمة بهية الطلعة متوشحة بالخضرة والجمال الأخّاذ، تتسابق الدول الكبرى إلى كسب ودها ورضاها.

كنت أسأل نفسي: هل يا ترى سأرى آثار «بيت المتوني» الذي سكنه؟ وما هو حال «بيت العجائب» الآن؟ وما موقف الزنجباريين اليوم من العُمانيين بعد ستين عامًا من الانقلاب الدموي الذي أطاح بالحكم العُماني هناك؟ هل ما زالوا مشحونين بالكراهية أم أنَّ هذه السنين الطويلة استطاعت أن تغيّر مشاعرهم تجاهنا؟ هنا تذكرتُ ما أخبرني به الصديق محمد بن سلطان البوسعيدي الذي زار زنجبار بعد غياب سنوات. قال محمد: «لم أجد زنجبار التي تركتُها، وجدتُ 90% منها قد تغيّر. الناس محترمون كما ينبغي، واللباس الإسلامي واضح عند النساء، ولا يمر عليك أحد إلا ويحييك بتحية الإسلام: (السلام عليكم)».


زنجبار: "حتمًا هذه الفاكهة من الجنة"

 زاهر بن حارث المحروقي

جريدة عمان5 يناير 2025

تشكِّل زنجبار لي حالة خاصة، فلطالما همتُ بها كثيرًا وما برحتُ أتخيلها كلما أرخى الليل سدوله وأزورها منامًا، ثم همسًا وجدانيًّا كلما أشرقت شمس يوم جديد. هكذا كانت عندي على مدى عقود من الزمن، منذ أن كنتُ صغيرًا وأسمعُ عن مذبحة العُمانيين هناك يوم الأحد الثاني عشر من يناير 1964، عندما كان بعض الطلبة الأفارقة يهددوننا بأنهم سيذبحوننا مثلما ذبحوا عرب زنجبار.

عرفتُها من خلال والدي الذي شدّ إليها الرحال مهاجرًا - مثل كلِّ العُمانيين المهاجرين -، فصارت منذ ذلك الوقت مرافقة لي وملازمة لتفكيري، وكانت تدور في ذهني أسئلة كثيرة؛ من قبيل: لماذا ذُبح العُمانيون؟ ولماذا التهديد بذبحنا ونحن نرى أنّ آباءَنا يعامِلون الناس بالحسنى؟

كانت هناك شخصية تشدّني شدّا إلى زنجبار، هي شخصية السيد سعيد بن سلطان الذي حوّل عاصمة ملكه من مسقط إلى زنجبار، وكما شدتني هذه الشخصية فقد أثار إعجابي أيضًا حفيدُه السيد خالد بن برغش لرفضه السيطرة الإنجليزية على مقدرات البلاد؛ فما كان من البوارج الإنجليزية إلا أن دكت "بيت الحكم" وحوّلته إلى تراب، في أكذوبة سموها "أقصر حرب في التاريخ" راح ضحيتها في أربعين دقيقة أكثر من خمسمائة نفس، وفرضت بريطانيا السلطان الذي تريده، فيما ذهب خالد إلى المنفى حتى توفاه الله.

إذن؛ كانت تلك القوى العجيبة تسوقني إلى زنجبار التي عرفتُ معالمَها قبل أن تراها عيني، وعشتُ تفاصيلها بروحي عن بُعد قبل أن أزورها واقعًا حيًّا. إنّ حنيني لها جعلني أرسم عنها صورة زاهية في مخيلتي لدرجة أنني زرتُها منامًا مرارًا وتكرارًا كما أشرتُ، وكنتُ في كلِّ مرة أراها جنة من جنان الله على الأرض لها معنى ومغزى ومدلول، تنتابني - كما يخيل إليّ في لياليّ ومن بعيد - إيقاعات طبول أفريقية تلامس طبلة أذني كأنها تناديني وتذكرّني بأنّ في هذه الأرض وطئت قدَمَا والدك أوَّل هجرته إلى الشرق الأفريقي، وأنّ عليّ الإسراع بالحضور، فلربما كان لنا هناك خلف تلك البحار المتلاطمة شجرة غرسها أبي، كما كان يفعل، إذ ترك شجرة في روي كان يرعاها ويسقيها أثناء ذهابه وعودته لدكانه، مثلما ترك شجرة أخرى في أحد مطاعم إزكي، ظلَّ يرعاها كلما ذهب إلى أدم أو نزوى، وما من شك أنه إذا كان قد ترك تلك الشجرة في زنجبار، فإنها الآن ضخمة لها ظلّ ظليل وثمارٌ قطوفها دانية. وقد أخذني الخيال إلى ظلِّ تلك الشجرة أتصفح صحف "الفلق" و"النهضة" و"النجاح"، أحضر المجالس التي يعقدها السلاطين يوميًّا مع الرعية، وكم مرة استمعتُ إلى قصائد أبي مسلم البهلاني الاستنهاضية، وصليتُ خلف أبي نبهان ناصر بن جاعد الخروصي في مسجده المجاور لبيت المتوني، ووقفت مشدوهًا أمام مسجد المحسن السيد حمود بن أحمد البوسعيدي، الذي صليت فيه أيضًا، كما كنتُ أرى خميس ذلك الزنجباري الشهير والخبير في تسلق أشجار النارجيل يناديني بالاسم، على ذلك سكنتني زنجبار قبل أن آوي إليها في هذا المقصد البديع.

كانت زنجبار الرئة الثانية التي تتنفس عبرها عُمان في تلك السنين الخوالي، إذ تعود علاقاتُ أهل عُمان بتلك المنطقة إلى قرون عديدة خلت قبل ظهور الإسلام وبعده، حتى اتخذها السيد سعيد بن سلطان عاصمةً لملكه، وهي الفترة التي شهدت هجرات عُمانية واسعة لتلك الديار، بتشجيع من ذلك الرجل بعيد النظر.

ردّدتُ لبعض الأصدقاء من الكتّاب أنّ قصة زنجبار يمكن أن ينتج عنها روايات وقصص ومسرحيات وكتب وأفلام، فهي لا تزال بكرًا إزاء التناول الأدبي والتاريخي والفني والتراثي العريق والفريد لمجاهل تلك الجزيرة التي كانت تقود الأحداث في القارة الإفريقية كلها ولقرون، وكانت مركز الإشعاع الحضاري والفكري والعلمي والثقافي في عموم القارة، وكنتُ وما زلت أرى أنّ على المشتغلين بالمسرح والسينما والفنون والأدب والشعر وكتّاب السيناريو شد الرحال لزنجبار، فكلّ شخص هناك هو مشروع قصة ورواية ومسرحية وفيلم، وكلّ هذه الأجناس الأدبية لها هناك إرث لا ينفد ومنهل لا ينضب؛ فصعوبة الحياة في عُمان في تلك الفترات كانت السبب الرئيسي لهجرة الناس؛ ولكي أوضح أكثر أروي قصة معاناة ابن عمي عبد الله بن محمد المحروقي، الذي اضطرته ظروف اليتم والفقر أن يهاجر إلى الشرق الأفريقي وهو طفل صغير تاركًا والدته ثريا بنت حمد بن سالم وأخته الطفلة جوخة في ولاية أدم ليلتحق بعمه (أبي). يقول: "بعد رحلة صعبة ومضنية من أدم عبر قوافل الجِمال إلى محوت في المنطقة الوسطى من عُمان ركبنا البحر وتزوّدنا بالماء في عدن، ثم واصلنا رحلتنا حتى تانجا في تنجانيكا، ومن هناك إلى زنجبار". خطُّ الرحلة هذا هو خط اعتيادي، ولكن ماذا يقول عن وصوله إلى زنجبار؟ يقول: "قُدِّم لنا الفطور الصباحي، وكنتُ أرى لأول مرة في حياتي أطايب المآكل والمشارب بهذه الكمية والنوعية، فقلت في نفسي: ربما هذه هي الوجبة الرئيسية فليس هناك غداء أو عشاء، ولكني فوجئت في الظهر بأنّ وجبة الغداء كأنها المائدة التي وُصفت في القرآن الكريم، وهو ما تكرر أيضًا في العشاء"، تعكس دهشة ابن عمي هذه وضع عُمان الصعب للغاية في ذلك الوقت ممّا حدا بالناس أن يهاجروا إلى الشرق الأفريقي. ولا أنسى عندما حكى لي كيف تذوّق طعم البرتقال لأول مرة، فقال في نفسه "حتمًا هذه الفاكهة من الجنة".

وإذا كانت زيارتي لزنجبار تأخرَت عقودًا، فلا يعني ذلك أني كنتُ بعيدًا عنها أو أنها كانت بعيدة عني، فكما سبق وأن أشرتُ؛ فقد عشتُ هناك بروحي وقلبي، وذلك في الثمانينيات من القرم الماضي عندما قرأتُ كتابين صادرين من "وزارة التراث القومي والثقافة" هما "جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار" للشيخ سعيد بن علي المغيري، و"مذكرات أميرة عربية" للسيدة سالمة بنت سعيد بن سلطان الذي حققه عبد المجيد حسيب القيسي، وعدتُ إلى المذكرات من جديد في شهر أكتوبر 2024، وهذه المرة بترجمة زاهر الهنائي من اللغة الألمانية مباشرة ممّا أعادني إلى أجواء تلك الفترة، وأيقظ فيّ الحماس من جديد لزيارة زنجبار. وكثيرًا ما راودتني تلك الفكرة، لكن ظروف الحياة حالت دون تحقيق ذلك الحلم القديم المتجدد. وعندما عرض عليًّ الأخ والصديق العزيز سيف بن سعود المحروقي فكرة الزيارة ولمدة أسبوع تردّدتُ في البداية لاعتقادي أنّ مدة الأسبوع قد لا تكفي لزيارة كلِّ المعالم التاريخية التي سمعنا وقرأنا عنها، مثل بيت العجائب وبيت الساحل وبيت الحُكم وبيت المتوني والمقبرة السلطانية وغيرها من الآثار العُمانية من مساجد ومدارس وبيوت ومزارع وقصور، وهناك ما هو أهمّ من الحجر هم البشر بطبيعة الحال، فهذه فرصة سانحة للالتقاء بهم. لكني قلت في نفسي في النهاية فلأبدأ بهذه الزيارة القصيرة الآن، فمن يدري لعلها تكون فاتحة لزيارات أخرى أطول. كان اقتراح سيف أن نذهب مع فوج سياحي لكني لم أفضّل ذلك لأسباب منها أني قرأتُ كثيرًا عن زنجبار وعلى دراية مسبقة بما أود زيارته ومشاهدته، ثم إنّ الالتزام مع فوج سياحي يفرض علينا قيودًا ويلزمنا بنظام معيّن يحرمنا من حرية الحركة والتنقل كما نرغب؛ لذا كان القرار أن نذهب بمفردنا بعد أن انضم إلينا الأخ سليمان بن سالم بن سيف المحروقي، الذي أعطى الرحلة طابعًا خاصًا بعقله اللماح وبما تميّز به من فكاهة وتعليقات.

وأستطيع أن أقول إنّ مذكرات السيدة سالمة أفادتني كثيرًا في هذه الرحلة، خاصة عند زيارتي لبيت المتوني، فقد وجدتُ نفسي أحد ساكني القصر وملمًا بتفاصيله ونمط الحياة الملكية، وألممتُ بأسلوب حياة السيد سعيد بن سلطان. كما أنّ كتاب "جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار" فتح لي آفاق التفكر في تاريخ العُمانيين ومآثرهم في الشرق الأفريقي وكذلك أخطائهم، إذ لدى الشيخ سعيد أسلوب فريد يجمع بين المدح والقدح والنقد، ويؤرخ للأشخاص مثلما يؤرخ للأحجار، ويُعدّ الكتاب الآن مرجعًا مهمًا لمعرفة تاريخ عُمان وزنجبار، ويستطيع القارئ أن يقف بسهولة على الجهد الذي بذله الشيخ سعيد في تتبع الروايات واستقصاء المعلومات.

إذن وبتوفيق من الله، عزمنا السفر إلى زنجبار، يوم الثلاثاء العاشر من ديسمبر 2024، عبر الناقل الوطني (الطيران العُماني)، وكانت رحلة طويلة نسبيًّا، استغرقت خمس ساعات من الطيران المتواصل، في تلك الساعات الخمس كنتُ شاردًا بأفكاري بين ما ينتظرني في قارة الأسرار والعجائب والغموض، وشريط الذكريات الطويل عن زنجبار.


توثيق مدون لعمليات البحث والتقصي كتاب الحضور العماني في شرق افريقيا

سليمان بن عمير المحذوري

 مجلة نزوى العدد 119 يوليو 2024

ترتبط عُمان بعلاقات متجذرة مع مناطق ساحل إفريقيا الشرقي من الصومال شمالًا وحتى موزمبيق جنوبًا؛ إذ تمتد هذه الصلات إلى ما قبل القرن الأول الميلادي كما يُشير إلى ذلك صاحب كتاب “الطواف حول البحر الأريثري” Periplus Maris Erythraei. فقد استثمر البحارة العُمانيون خبرتهم الملاحية الواسعة في الإبحار بثقة واقتدار في مياه المحيط الهندي مع حركة الرياح الموسميّة. ونتيجة لهذه الحركة المستمرة تواصلت الهجرات العُمانية، واستقرت في مناطق متفرقة من هذا الإقليم الواسع سواء على الشريط الساحلي أو في جزره المتناثرة أو حتى داخلية إفريقيا جهة البحيرات الاستوائية.
ومع هذا الحضور العُماني المتواصل والمكثّف في هذا الإقليم وتأثيره الحضاري الذي لا يُمكن تجاوزه أو إنكاره؛ بيد أنّ المصادر العُمانية في هذا الجانب كانت قليلة جدًا إن لم تكن نادرة، ولعل أبرزها “جهينة الأخبار” للمغيري، و”مذكرات أميرة” للسيدة سالمة، وكتاب الفارسي “البوسعيديون حكام زنجبار”. فيما تناولت مؤلفات غربية هذا التأريخ مثل كوبلاند، وهولينجروث، وبينت، وجراي وآخرين بحسب توجهاتهم ومنطلقاتهم الأيديولوجية. وبهذا الخصوص يُمكن العثور على معلومات مهمّة في الوثائق والمخطوطات، وكتب الرحّالة الذين دونوا كثيرًا من التفاصيل عن المنطقة وسكانها لا سيما خلال النصف الثاني من القرن 19م مثل برتون، وليفينجستون، وستانلي. كما أنّ هنالك دراسات أكاديمية سواء في سلطنة عُمان أو خارجها تناولت موضوعات مختلفة وإن غلب عليها طابع التكرار، إلى جانب المؤتمرات العلمية التي سلطت الضوء على سبر كنه العلاقة بين عُمان وشرق إفريقيا مثل مؤتمرات هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، وجامعة السلطان قابوس والتي خرجت بأبحاث مهمّة لا يُمكن إغفالها.
ومن وجهة نظري أنّ هذه التوطئة مهمّة للقارئ قبل الشروع في القراءة التحليلية والنقدية لهذا الكتاب الذي حمل عنوان “الحضور العُماني في شرق إفريقيا”. ورغم مشاركتي في هذا الكتاب بمقال عن التاجر العُماني أحمد بن إبراهيم العامري ص 118-121؛ إلا إنني سأجتهد قدر المستطاع في قراءة الكتاب قراءة موضوعية.

وصف الكتاب:

يقع الكتاب في 320 صفحة بحجم قطع كبير من الورق المصقول بإنتاج مشترك بين شركة ديماكس DEMX GmbH الألمانية، ومجلة نزوى وبإخراج وتصميم فني لافت وجذاب؛ ولكن ربما بسبب إصداره في نسخة ذات طباعة فاخرة سيكون من الصعوبة بمكان اقتناء الكتاب لفئة ليست هينة من القرّاء. وهذا الكتاب هو النسخة العربية، المؤلف أساسًا باللغة الإنجليزية تحت عنوان Omani Presence in East Africa، كما أنّ الكتاب مترجم إلى اللغة السواحيلية كذلك. ولا شك أنّ صدوره بلغات ثلاث سيتيح له مجالًا واسعًا للانتشار في رقعة جغرافية كبيرة من العالم؛ ووصوله إلى أيدي شريحة واسعة من الباحثين والمهتمين.
كتاب “الحضور العُماني في شرق إفريقيا” من تأليف وتحرير الشركة الألمانية المُشار إليها، وهو ذو غلاف أزرق داكن من ورق مقوى طبع على غلافه قصر بيت العجائب الشهير الذي بناه السلطان برغش بن سعيد عام 1883م في زنجبار، وهو أيقونة حضارية من مآثر سلاطين البوسعيد في شرق إفريقيا أعطت للكتاب رمزية مهمّة.
ظهر الكتاب لأول مرة خلال معرض مسقط الدولي للكتاب 2024. تجدر الإشارة إلى أنّ المادة العلمية للكتاب هي حجر الزاوية والأساس الذي اعتمدت عليه الأفلام الوثائقية الثلاثة “بيت العجائب” التي أنتجتها شركة ديماكس بالتعاون مع مجلة ، والتي عُرضت مؤخرًا في دور السينما، ولا ريب أنّ هذا أمر محمود كنا نتمناه وتُشكر عليه مجلة . وهذه الأفلام تروي قصة الوجود العُماني في قارة إفريقيا؛ الجزء الأول من هذه السلسلة تناول إمبراطورية السّيد سعيد بن سلطان، والثاني ركّز على عصر القوافل، أما الجزء الثالث فكان بعنوان صوت مومباسا.
أسلوب الكتاب سهل يشجع على القراءة سواء من المهتمين أو الباحثين أو حتى جمهور الناس، لا سيما وأنه تضمّن صورًا ملونة وخرائط ووثائق بعضها نادر في جميع فصول الكتاب؛ مما أكسبه ميزة بصرية تساعد على توضيح وترسيخ المعلومات في ذهن القارئ.

مضمون الكتاب:

يُمكن الاستدلال على الهدف الرئيس للكتاب من خاتمته وهو نشر الوعي بالتراث المشترك بين عُمان والدول الواقعة في شرق إفريقيا. ويبدو ذلك جليًا من خلال اختيار موضوعات الكتاب بعناية فائقة حيث اتسمت بالشمولية مع التركيز على ثلاث شخصيات عُمانية كان لها حضور حضاري طاغٍ في تفاصيل الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة في شرق إفريقيا؛ وهي السّيد سعيد بن سلطان في زنجبار، وحمد بن محمد المرجبي الملقب بـ “تيبوتيب” في داخلية إفريقيا، والشيخ مبارك بن علي الهناوي في ممباسا.
توزعت موضوعات الكتاب بين أربعة فصول مرتبة بطريقة منطقية بحيث تعطي القارئ صورة متكاملة عن ماهية العلاقة بين عُمان وشرق إفريقيا؛ وهي على التوالي: بناء العلاقات مع شرق إفريقيا، وميلاد إمبراطورية تجارية، واكتشاف قلب إفريقيا، والإرث العُماني في حاضر شرق إفريقيا. قدّم للكتاب أستاذنا الدكتور إبراهيم الزين صغيرون المتخصص في التاريخ العُماني في إفريقيا الشرقية مما أعطى الكتاب قيمة علمية مهمّة. ولعل مساهمة نخبة من المختصين الذين ينتمون إلى مدارس متنوعة بكتابة مقالات علمية رصينة حول الموضوعات التي تناولها الكتاب أسهم في معالجة كثير من القضايا بشكل موضوعي وسيُكسب الكتاب مصداقية لدى القرّاء.
وفي الحقيقة، من الصعوبة بمكان تناول كل الفصول والموضوعات في مقالة كهذه محددة بعدد معين من الكلمات؛ إلا إنني سأحاول التركيز على بعض النقاط دون غيرها خشية الإطناب الممل في تحليل مضمون الكتاب.
بدأت مقدمة الكتاب ص11 تحت عنوان عُمان “موطن التجار وربابنة السفن”، وهي افتتاحية موفقة؛ كون أنّ أساس علاقة عُمان بالدول المطلة على المحيط الهندي بُنيت أساسًا من خلال ركوب البحر، واعتمدت على مهارة العُمانيين في الإبحار، وصناعة السفن الشراعية التي حملتهم إلى تلك البلدان مع هبوب الرياح الموسمية. فخلال فصل الخريف كانوا يبحرون إلى ساحل إفريقيا الشرقي مع الرياح الشمالية الشرقية التي تسمى بـ الأزيب، ويعودون مع الرياح الجنوبية الغربية التي تسمى بـ الكوس في فصل الربيع. وفي ص20 من المقدمة وُصفت الأحداث الدامية في زنجبار والتي حدثت في 11 يناير 1964 بأنّها “انقلاب دموي”، وتارة بأنها “ثورة”؛ فيما يرى بعض الباحثين بأنها “غزو” خارجي تعرضت له زنجبار من خارج أراضيها؛ وبالتالي ربما كان من الأفضل تحري المصطلح الدقيق في وصف تلك الأحداث الأليمة حتى لا يلتبس هذا الأمر على القارئ. ولعله من المُناسب كذلك إعادة النظر في صياغة الفقرة الأخيرة في الكتاب ص30 بما يتناسب مع الوقائع التاريخية؛ حيث تتحدث هذه الفقرة عن الصراعات بين المسلمين التي حدثت في عهد الإمام علي، ونشوء المذاهب الإسلامية.
في ص32 تعرّض الكتاب للهجرات العُمانية إلى شرق إفريقيا مثل هجرة آل الجلندى بقيادة سعيد وسليمان ابني عباد بن عبد بن الجلندى في الربع الأخير من القرن الأول الهجري، واستقرت هجرتهم في أرخبيل لامو. ولا شك أنّ الهجرات العُمانية المتواصلة سواء أكانت فردية أو جماعية كانت هي النواة لتأسيس المجتمعات العُمانية في ساحل أو داخلية إفريقيا. وعدا الإشارة المقتضبة في ص275 إلى هجرة النباهنة تمنيت لو توسع الكتاب قليلًا بشأن هذه الهجرة التي حدثت في القرن السابع الهجري، واستقرت في جزيرة بتة أو باتي بزعامة الملك سليمان النبهاني؛ حيث تذكر المصادر أنّ هذا الملك تزوج من أميرة سواحيلية وهي ابنة حاكم الجزيرة إسحاق بن محمد البتاوي الذي تنازل له عن الحكم عام 1203م، وبذلك استطاع الملك النبهاني تأسيس مملكة عربية استمرت عدة قرون.
وفي مقالة تتحدث عن حكم السّيد سعيد بن سلطان وردت في الكتاب ص75 معلومة عن أحد وزراء المالية لدى السّيد سعيد، وهو أحد أقرب المستشارين إليه “يدعى هذا الصابئ أحمد بن أمان”؛ لعله يُقصد به أحمد بن نعُمان الكعبي الذي ولد في البصرة، والتحق بخدمة السّيد سعيد في العقد الثاني من القرن 19م، وأصبح سكرتيره الخاص؛ فإن كان الأمر كذلك فهذا الأخير كان مسلمًا وزعيمًا لطوائف الشيعة في شرق إفريقيا.
ومن الموضوعات المهمّة التي تناولها الكتاب في الصفحة148 وهي جديرة بالبحث المعمق والتمحيص كتابات الرحّالة الأجانب حول المناطق التي زاروها في داخلية إفريقيا خلال القرن 19م. ومن أولئك الرحّالة البريطاني ليفينجستون، والأمريكي ستانلي، الذين غامروا في الوصول إلى منطقة البحيرات الإستوائية بدعوى الاستكشاف؛ رغم أنّ لهم مآرب أخرى تنصيرية واستعمارية. وفي ظل غياب المصادر المحلية لا جدال أنّ لكتاباتهم أهمية كبيرة في تدوين كثير من التفاصيل وخاصة تسجيل بعض الإشارات عن الوجود العُماني في داخلية إفريقيا وممارستهم للتجارة، وتأسيس المراكز الحضارية على طول الطرق الرئيسة المؤدية إلى هضبة البحيرات بحثًا عن العاج، تلك السلعة التي كانت تلقى رواجًا عالميًا. ورغم أسبقية التجار العرب في الولوج إلى الأدغال الإفريقية مثل حمد المرجبي المعروف بـ تيبوتيب، وكانوا هم المرشدين أساسًا للرحّالة الأجانب، كما حظيت بعثاتهم بحماية مباشرة من سلطان زنجبار؛ بيد أن الكتابات الغربية كرّست التفوق الثقافي الغربي فيما تجاهلت الإنجازات العربية.
ومن خلال تصفح محتوى الكتاب نجد مقالات مهمّة منصفة سلطت الضوء على مثل هذه القضايا مثل المقال المعنون بـ أعظم تجار العاج على مرّ العصور ص 150. إلى جانب تناول قضايا شائكة بشأن علاقة عُمان مع شرق إفريقيا وبموضوعية مثل موضوع تجارة الرقيق ص138 وص184؛ ذلك أن الكتابات الأجنبية كانت تدسّ السم في العسل، وتروج للدعاية الغربية بنشر مفاهيم مغلوطة عمدًا تصوّر العرب على أنهم تجار رقيق بدواعٍ استعمارية خبيثة، اتضح ذلك لاحقًا في الصراع الأوروبي البريطاني والألماني والبلجيكي على استغلال ثروات بلدان إفريقيا الشرقيّة، وتقاسم ممتلكات سلطان زنجبار خلال النصف الثاني من القرن 19م.
وإضافة إلى ذلك ركّز محتوى الكتاب على موضوعات ذات صبغة حضارية تمثل جسرًا مشتركًا بين الثقافتين العربية والإفريقية مثل موضوع اقتصاد القرنفل ص66، ومقال التبادل المعرفي العُماني ص112 فضلًا عن تخصيص فصل بأكمله وهو الفصل الرابع الذي تناول الإرث العُماني في حاضر شرق إفريقيا ص211-297.
بالنسبة لهوامش موضوعات الكتاب فقد وُضعت في نهاية كل فصل مما يمكن القارئ من متابعة القراءة بشكل متواصل دونما الحاجة إلى النظر إلى الهوامش؛ إلا أنه يُلاحظ وجود فقرات طويلة إلى حد ما بلا توثيق. كما توجد قائمة بالمصادر والمراجع التي تمت الاستعانة بها في كل فصل على حد سواء للمادة العلمية أو الصور المستخدمة وإن كان من الصعوبة التمييز بين مصدر كل صورة مضمّنة في محتوى الكتاب.
خاتمة الكتاب عُنونت بـ “هجرة أم استعمار” ويبدو لي أنّها خاتمة تجيب عن أية تساؤلات تتعلق بهدف ومقصد هذا الكتاب، وفسرّت بجلاء طبيعة الوجود العُماني في منطقة إفريقيا الشرقية وهل يُمكن اعتباره استعمارًا بالمفهوم الحديث؟ كما تروج له بعض الكتابات المغرضة التي تهدف إلى تسميم علاقة العُمانيين بسكان تلكم المناطق. بشكل عام تضمّن الكتاب رسائل حضارية مهمّة أكدت على طبيعة تلك العلاقة وخصوصيتها ونوعيتها في ذات الوقت. فالتواصل التجاري الحضاري مع المنطقة قديم جدًا، والهجرات العُمانية لم تنقطع طيلة الحقب التاريخية، والمستوطنات العُمانية متوزعة على طول ساحل إفريقيا الشرقي، وامتدت إلى داخلية إفريقيا وهذا ربما يجيب على تلكم التساؤلات. ومما يُلفت النظر في التاريخ الحديث نقل السلطان سعيد بن سلطان بلاط ملكه إلى زنجبار عام 1832م حيث استقر فيها لأكثر من عقدين من الزمان، وأصبح يدير شؤون دولته من إفريقيا. وبسبب طبيعة العُمانيين المنفتحة على الآخر فقد انتشرت ظاهرة الزواج من مختلف الأعراق الإفريقية مما ساعد على تأسيس مجتمع مندمج ذي لغة وثقافة مشتركة وهي السواحيلية، وبالتالي فإنّ العُمانيين هم مكوّن أساس للمجتمع السواحيلي.
كلمة أخيرة؛ في هذا الإطار هنالك سؤال جوهري يطرح نفسه بصورة ملحّة.. هل انتهت علاقة عُمان مع مناطق إفريقيا الشرقية بعد الأحداث السياسيّة عام 1964؟ وللإجابة عن هذا السؤال نستطيع القول وبثقة كما ورد في خاتمة الكتاب: إنّ “العلاقة بين عُمان وشرق إفريقيا لم تنقطع بشكل يتعذر معه استردادها، فعُمان حاضرة في شرق إفريقيا حضور شرق إفريقيا في عُمان”.

المصادر والمراجع:

تاجر يوناني مجهول. الطواف حول البحر الأريثري، ترجمة د.أحمد إيبش، (أبوظبي: هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، 2014).
الفارسي، عبدالله بن صالح. البوسعيديون حكام زنجبار، (مسقط: وزارة التراث القومي والثقافة، 1994).
المحذوري، سليمان بن عمير. زنجبار في عهد السّيد سعيد بن سلطان (1804-1856)، (دمشق: دار الفرقد، 2014).
المغيري، سعيد بن علي. جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار، (مسقط: وزارة التراث القومي والثقافة، 2001).
النعُماني، سعيد بن سالم. الهجرات العُمانية إلى شرق إفريقيا، (دمشق: دار الفرقد، 2012).
وزارة التراث القومي والثقافة. عُمان وتاريخها البحري، (مسقط: مطابع النهضة، 2002).
Bennett, Studies in East African History,(Boston: Boston University Press, 1963).
Gray, History of Zanzibar from the Middle Ages to 1856,(London: Oxford University Press, 1962).
Hollingsworth, Zanzibar Under The Foreign Office 1890-1913,(USA: Greenwood Press Publishers, 1975)


التأريخ الشفوي.. ذاكرة وطن

 د. سليمان المحذوري

جريدة الرؤية 29 سبتمبر 2024

 

على مدار ثلاثة أيام (23- 25 سبتمبر)، أُقيم مُؤتمر دولي هو الأول من نوعه في العاصمة مسقط حمل عنوان التأريخ الشفوي "المفهوم والتجربة عربيًا"، هذا المؤتمر هو ثمرة تعاون بين هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، ومؤسسة وثيقة وطن بالجمهورية العربية السورية.

وخلال أيام المؤتمر التقى تحت سقف واحد ثلة من الأكاديميين والباحثين والمهتمين لعرض تجارب رائدة تُعنى بالتأريخ الشفوي، ومُناقشة مختلف الرؤى والأطروحات إلى جانب التحديات في هذا الجانب. وبالتالي البناء على الخبرات المتراكمة في كيفية توثيق الروايات الشفوية وتنظيمها، وإخضاعها للتحليل والدراسة من أجل الاستفادة منها في الدراسات والأبحاث كمصدر مهم ومكمل للمصادر الأخرى.  وفي هذا الإطار عُرضت تجارب رصينة من سلطنة عُمان ممثلة في هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، ووزارة الثقافة والرياضة والشباب، والجمهورية العربية السورية، إضافة إلى تجربة كل من ليبيا وتونس. ومن الخبرات الأخرى غير العربية، تم استعراض تجارب من إيران والصين وروسيا. وفي بث مرئي من خيام غزة، تحدّث رئيس مركز التاريخ الشفوي بالجامعة الإسلامية عن دور هذا المركز في توثيق وحفظ الروايات الشفوية الفلسطينية؛ إلّا أنّه مع أحداث العدوان الإسرائيلي على غزة طال الدمار أرشيف هذا المركز.

ولا شكّ أن الرواية الشفوية لها أهمية لعدة علوم خاصة العلوم الإنسانية منها التاريخ، وعلم المكتبات، وعلم الاجتماع وعلم النفس، والإعلام. ومن ثم يُمكن للرواية الشفوية أن تُسهم بمادة علمية تصبّ في وعاء الإنتاج الفكري، وتنشيط حركة البحث العلمي. وهذه المادة قد لا نجدها في المادة الوثائقية أو المطبوعة لا سيما للقاعدة العريضة من الناس، وعليه يُمكن كتابة التاريخ من أسفل إلى أعلى أو من القاعدة إلى القمة. ومن ناحية أخرى يُمكن من خلال هذه الروايات أخذ الدروس والعبر حول أحداث مرت بخيرها وشرها، وكذلك دحض الروايات الأحادية المغلوطة والزائفة، وتوثيق الحقائق للأجيال المتعاقبة.

ورغم ذلك فقد أشار الباحثون إلى أنَّ الجهود العربية في توثيق الرواية الشفوية لا تزال في بدايتها؛ بيد أن بعض الدول أدركت مبكرًا أن توثيق الرواية الشفوية لم يعد ترفًا؛ بل ضرورة ملحّة قبل أن تضيع معلومات مهمة تتعلق بالجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. خاصة بعد تعرض هذه الدول لمهددات خارجية قرعت جرس الإنذار بشأن خطورة الوضع؛ وذلك باستهداف طمس الذاكرة الوطنية، والقضاء على مفردات العيش المشترك من خلال تدمير الآثار والتراث الوطني المادي واللامادي حتى يفقد الناس ارتباطهم بهويتهم، وانتمائهم لأوطانهم. ومن جهة أخرى تبقى الروايات الموثّقة شاهد معاصر حي لأحداث مهمة يُستفاد منها كمادة علمية في الأبحاث والدراسات مع أهمية الأخذ في الاعتبار ضرورة تحليل هذه المادة وتمحيصها، وإخضاعها لمنهجية علمية صارمة.

وضمن رؤية "عُمان 2040" وتحديدًا أولوية المواطنة والهوية والتراث والثقافة الوطنية هنالك جهود مبذولة في هذا الجانب وما زالت كما أشرت سلفًا في هيئة الوثائق ووزارة الثقافة. وفي هذا المقام أود الإشارة كذلك إلى مشروع البرنامج الاستراتيجي للتراث الثقافي العُماني تحت مظلة مجلس البحث العلمي "سابقًا". وهدف هذا المشروع بشكل رئيس إلى دعم مشاريع بحثية ثقافية مهمة في التراث الثقافي غير المادي مثل توثيق اللهجات واللغات في عُمان، ومشروع الحكايات والأساطير المرتبطة بالأمكنة، وكذلك بحث الشخصيات العُمانية المشتغلة في التجارة والصناعة. وفي كل مشروع بحثي اختيرت عدة محافظات على أن يمتد المشروع لتغطية باقي المحافظات بشكل تدريجي. ووفقًا لخطة عمل المشروع أُنجزت دراسات نظرية وميدانية اعتمدت على جمع الروايات الشفوية لتوثيق موضوعات المشروعات البحثية كمرحلة أولى، وفي المرحلة الثانية للمشروع يتم إجراء دراسات تطبيقية للاستفادة من مخرجات تلك البحوث اقتصاديًا بما يحقق أهداف التنمية المستدامة.

وتأسيسًا على ذلك.. فإنّه من الأهمية بمكان استمرار مثل هذه المشروعات البحثية لأهميتها في توثيق المفردات الثقافية العُمانية من جهة، واستثمار مخرجاتها النظرية في الصناعات الإبداعية من جهة أخرى. وهذا يقودنا إلى التأكيد على أهمية العمل المؤسسي المنظّم من خلال كوادر بشرية مؤهلة، وإمكانيات مادية وفنية وغيرها، وتوظيف التقنيات الحديثة والمنصات الرقمية، وضرورة تكامل الجهود بين المؤسسات المختصة في مجال توثيق الروايات الشفوية والمؤسسات الأكاديمية والبحثية حتى نخرج بنتائج ايجابية وفقًا للخطط الوطنية المرسومة.

مجان.. تاريخ وحضارة

د. سليمان المحذوري

جريدة الرؤية 27 أكتوير 2024

 عُمان بموقعها الفريد في أقصى الجنوب الشرقي من شبه الجزيرة العربية، وإطلالتها على بحار مفتوحة، وتربعها على مضيق هرمز الذي يُعد من أهم المضائق الطبيعية في العالم؛ كانت مطمعًا للغزاة، وملتقى للحضارات القديمة مثل حضارات بلاد ما بين النهرين ودلمون، والسند، والهند، والحضارة الفرعونية والرومانية.

ومنذ القدم أبحرت السفن العُمانية في مياه المحيط الهندي شرقًا إلى إقليم جنوب شرق آسيا مرورًا بأرخبيل الملايو حتى الصين، وجنوبًا إلى اليمن وموانئ البحر الأحمر، وإقليم شرق إفريقيا من الصومال وحتى موزمبيق، كما أنّ البحارة العُمانيون كان لهم نشاط تجاري في الخليج العربي بضفتيه حتى ميناء البصرة. وخلال منتصف القرن السابع عشر ولمدة قرنين من الزمان تسيّد الأسطول العُماني في منطقة المحيط الهندي.

ونتيجة لقرب عُمان من حضارات وادي الرافدين كانت سفن مجان الشراعية تصل إلى العراق في عصور ما قبل التاريخ؛ حيث عُرفت عُمان بهذا الاسم في النصوص المسمارية في إشارة واضحة إلى وجود دولة قوية لها نشاط ملاحي، وعلاقات تجارية واسعة، وتفاعل مع الحضارات الأخرى.  واستنادًا إلى الدراسات التاريخية القديمة، والمسوحات الأثرية بات من الواضح أنّ عُمان كانت تصدر النحاس إلى العراق الذي يجلب من مناجم متفرقة في وادي الجزي بالقرب من صحار؛ مما يُعزز مكانة الإسهام الحضاري العُماني في المنطقة، وظلت عُمان أحد الأقاليم المستقلة في جزيرة العرب وكما وصفها ابن خلدون بأنّها "إقليم سلطاني منفرد".

وهذا الإرث الحضاري لعُمان في مختلف العصور يدعو إلى أهمية بحثه ودراسته، وتوثيقه للأجيال المتعاقبة، وهذا ما حدا بهيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية إلى إقامة ندوات علمية تبرز هذا التاريخ العظيم لكل شبر في عُمان. واستشعارًا لهذا الدور الوطني نظّمت هيئة الوثائق سلسلة من الندوات غطّت محافظات مسندم، والظاهرة، وجنوب الشرقية ومؤخرًا شمال الباطنة. وعلى مدار ثلاثة أيام (21- 23 أكتوبر الجاري) أقامت الهيئة بالتعاون مع مكتب محافظ شمال الباطنة ندوة "شمال الباطنة في ذاكرة التاريخ العُماني"؛ بمشاركة نخبة من الباحثين والمهتمين من سلطنة عُمان وخارجها ناقشوا موضوعات مُهمة تاريخية وأثرية واقتصادية وثقافية وجغرافية لمختلف ولايات المحافظة.

ولا يختلف اثنان على الموقع الاستراتيجي المهم لمنطقة الباطنة من جنوبها إلى شمالها؛ حيث تتمتع المنطقة بتنوع فريد في طبيعتها الجغرافية؛ إذ توجد فيها منطقة سهلية واسعة تضم أراضي خصبة وفّرت أمن غذائي لعُمان منذ القدم. كما أنّ الشريط الساحلي الممتد على بحر عُمان مكّن سكانه من ممارسة النشاط التجاري الملاحي، والتفاعل مع مختلف الشعوب والحضارات المجاورة، وفي الغرب شكّلت جبال الحجر الغربي ملاذًا آمنًا لقاطنيه، وعلى مدار العصور انشأوا لهم مستوطنات حضارية على ضفاف الأودية.  

هذه الندوة أُقيمت في صحار حاضرة شمال الباطنة التي تُعد إحدى المدن التجارية في ساحل الباطنة. ونظرًا لعُلُوِ مكانة صحار استقبلت مبعوث الرسول عليه الصلاة والسلام إلى عبد وجيفر ابني الجلندى حاكما عُمان آنذاك. وفي العصر الإسلامي ذاعت شهرة صحار؛ إذ كانت ميناءً مهمًا ذكرها المقدسي بأنّها "قصبة عُمان ليس على بحر الصين بلد أجمل منه"، وصحار "دهليز الصين وخزانة الشرق". ووصفها الاصطخري بقوله: "هي أعمر مدينة بعُمان"، وقال عنها ابن حوقل "لا توجد مدينة في كل أنحاء العالم مدينة تضاهي صحار في ثراء تجارتها".

ولا شكّ أنّ الندوة طرقت موضوعات في غاية الأهمية يُمكن التأسيس عليها لبناء مشاريع بحثية معمّقة من خلال الاعتماد على الوثائق بشتى أنواعها ناهيكم عن الروايات الشفوية لا سيما الأحداث التاريخية الحديثة نسبيّا، وتغطية ثغرات بحثية تُضيف مادة علمية رصينة إلى سجل تاريخ عُمان العريق. كما أنّ الندوة سلطت الضوء على منطقة جغرافية أسهمت بنصيب حضاري وافر في صرح الحضارة العُمانية؛ وذلك من أجل التعريف بها وإبراز عمقها التاريخي أولًا، وثانيًا حتى تكون نموذجًا حيًا وأرضية صلبة ليعلم أبناء عُمان أنّها لم تكن يومًا دولة طارئة على التاريخ؛ بل إن جذورها ضاربة في عمقه ليواصلوا المسيرة، والإسهام بلبنات أخرى في بناء الحضارة الإنسانية، ورفع مكانة هذا الوطن العزيز حاضرًا ومستقبلًا.

ختامًا.. خرجت ندوة محافظة شمال الباطنة بجملة من التوصيات المهمة لعل من أبرزها مواصلة العمل في عمليات التنقيب والمسح الأثري، وتبني مشروع إنشاء متحف يُبرز المعالم التاريخية والمقتنيات الأثرية والوثائق والمخطوطات، وإجراء مزيد من الدراسات بشأن الموروثات الثقافية المادية وغير المادية. وفي هذا الإطار من الأهمية بمكان استثمار المفردات السياحية بهذه المحافظة اقتصاديًا؛ سواءً كانت طبيعية أو ثقافية أو تراثية، واستغلال الميزة النسبية لها انسجامًا مع تحقيق مستهدفات رؤية "عُمان 2040".

آخر سلاطين زنجبار

 د.سليمان المحذوري

جريدة الرؤية 6 يناير 2025

في أواخر أيام 2024، تُوفي السلطان جمشيد بن عبدالله آخر سلاطين زنجبار من أسرة البوسعيد، وقد تولى السّيد جمشيد- رحمه الله- الحكم في سلطنة زنجبار بتاريخ 1 يوليو 1963 خلفًا لوالده السيِّد عبدالله بن خليفة الذي حكم لمدة ثلاث سنوات. 
ومن المفارقات أنّ حكمه لم يستمر سوى بضعة أشهر؛ حيث استقلت زنجبار عن سلطة التاج البريطاني في 10 ديسمبر 1963، وبعد نحو شهر حدثت إضرابات عنيفة، وأحداث أليمة في الجزيرة الوادعة في 12 يناير 1964، أدت إلى نتائج أقل وصف لها بأنّها كارثية؛ وذلك بالتآمر على الحكم الشرعي لدولة مستقلة، والإطاحة بحكم السّيد جمشيد كآخر سلطان لزنجبار. تلك الأحداث ما زالت عالقة في أذهان من عايشها سواء من بقي في زنجبار أو عاد إلى عُمان من قتل آلاف الأبرياء واغتصاب الممتلكات. وعلى إثر ذلك خرج السّيد جمشيد إلى المنفى في بريطانيا واستقر بها ردحًا من الزمن إلى أن عاد إلى عُمان موطن آبائه وأجداده في سبتمبر 2020.
بيد أنّ لهذه النهاية المأساوية إرهاصات سابقة إذ كانت زنجبار على صفيح ساخن، وباتت النهاية ناضجة وحتمية في عهد السّيد جمشيد. ومن المعلوم أنّ عُمان ارتبطت بإقليم شرق إفريقيا منذ آلاف السنين حيث كانت السفن الشراعية تبحر في مياه المحيط الهندي مع الرياح الموسمية ذهابًا وإيابًا بين عُمان وساحل إفريقيا الشرقي. ونتيجة لذلك استقرت هجرات عُمانية في المنطقة سواء في المناطق الساحلية أو الجزر المتناثرة على طول الساحل وصولًا إلى أعماق إفريقيا. ومن المحطات التاريخية المهمة في هذا الإطار استقرار السّيد سعيد بن سلطان - سلطان عُمان وزنجبار - في زنجبار منذ عام 1832 والذي كان يحكم إمبراطورية امتدت من الوطن الأم عُمان وتوابعها وحتى زنجبار وما يتبعها. إلا أنه وبعد وفاة السّيد سعيد بن سلطان عام 1856 وجدت بريطانيا أنّ الفرصة سانحة لتقسيم هذه الدولة الكبيرة وكان لها ما أرادت؛ إذ صدر قرار تقسيم جائر عام 1861 بفصلها الى سلطنتين عُمان ويحكمها الابن الأكبر للسيد سعيد وهو السّيد ثويني، وزنجبار تحت حكم السّيد ماجد بن سعيد، واستمر أبناء وأحفاد السّيد سعيد في حكم زنجبار حتى عهد السّيد جمشيد. وفي عام 1890 وضعت زنجبار تحت الحماية البريطانية وبالتالي أصبحت لا تملك من حكمها شيئًا، وبالنتيجة كانت بريطانيا هي من تدير دفة الأمور داخليًا وخارجيًا. وفي خضمّ التكالب الاستعماري على إفريقيا أضحت زنجبار فريسة للأطماع الأوربية، وتم تقسيم أوصالها إربًا إربًا بين القوى المتنافسة الإنجليزية والألمانية والإيطالية والفرنسية.
وكما هو ديدن المحتل الغربي زرع الفتن لتمزيق الشعوب طائفيًا أو مذهبيًا أو عرقيًا ضمانًا لاستمرار الهيمنة إن كنَّا نتعلم من دروس وعبر التاريخ؛ فقد استخدمت بريطانيا سياسة "فرق تسد" بين الطوائف المختلفة القاطنة في هذه الجزيرة؛ العرب والأفارقة والشيرازيين والهنود وغيرها من العرقيات، وتكريس الطائفية البغيضة؛ وذلك من خلال تشجيع تأسيس الجمعيات العرقية التي زادت زنجبار تشرذمًا. ومع التطورات السياسيّة في زنجبار خلال النصف الأول من القرن العشرين تمّ تأسيس الأحزاب السياسيّة مثل الحزب الوطني الذي كان يطالب باستقلال زنجبار وتوحيد الزنجباريين، والحزب الأفروشيرازي الذي تشكّل من أغلبية إفريقية سواء من زنجبار أو المهاجرين من البرّ الإفريقي، وحزب الأمة وغيرها من الأحزاب المتنافسة والمتنافرة في آن واحد. الأمر الذي عمّق الفرقة وأجّج الصراعات بين المكونات الزنجبارية، وانتشرت الدعايات المغرضة ضد العرب، وازدادت الانقسامات بين هذه الأحزاب. واستمر الوضع هكذا إلى أن نالت زنجبار استقلالها؛ إلا أنّها في حقيقة الأمر لم تكن تملك جيشًا ولا حكومة منظّمة فاستغل الانقلابيون هذا الوضع، وانقضوا على الدولة الوليدة، وأطاحوا بحكومتها الشرعية ولله الأمر من قبل ومن بعد. وهكذا طويت صفحة من تاريخ علاقة عُمان بإفريقيا الشرقيّة؛ بيد أنّ العلاقة الحضاريّة بين الجانبين ما زالت مستمرة ومتواصلة " فعُمان حاضرة في شرق إفريقيا حضور شرق إفريقيا في عُمان".

عُمان وأفريقيا الشرقيّة؛ تاريخ عريق وحضارة راسخة

7/12/2023

مسقط-أثير
إعداد
د. علي بن سعيد الريامي (رئيس قسم التاريخ_جامعة السلطان قابوس)
د. سليمان بن عمير المحذوري (هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية)
د. موسى بن سالم البراشدي (أستاذ التاريخ الحديث المساعد_جامعة السلطان قابوس)

مقدمة
يقول د.ابراهيم الزين صغيرون إن “الدراسات الأوربية وحتى الكثير من الدراسات الإفريقية والمعاصرة والمتأثرة بالمنهج الاستعماري الغربي قد كرّست مفاهيمها وتصوراتها ومناهجها لتشويه تاريخ العرب في أفريقيا، وحشدت الكثير من المفتريات والشبهات لتخلق نوعًا من الجفوة والتباعد بين العرب والأفارقة”

كانت علاقة عمان وما زالت بشرق أفريقيا علاقة حتمية متجذرة، فرضتها الجغرافيا الطبيعية، وأطّرتها الظروف السياسية، والمصالح الاقتصادية، وهي علاقة إنسانية ذات أبعاد اجتماعية وثقافية قبل أن تكون علاقة وجود ونفوذ، وبالنظر إلى الموقع الجغرافي لعمان، وتموضعها في خارطة العالم، وانفتاحها على ثلاثة مسطحات مائية مهمة هي بحر عمان وبحر العرب والمحيط الهندي فقد مثّلت القلب النابض بالحياة، والشريان الذي يربط بين أجزاء العالم القديم وعالم العصور الوسطى والعالم الحديث والمعاصر، حيث مثلت خطوط الملاحة البحرية بين الشرق والغرب القناة الرئيسة التي تتدفق عبرها البضائع من صادرات وواردات مختلفة ومتنوعة إلى الملايين من البشر.
وفي الجانب الآخر فإن الدول المطلة على الساحل الشرقي لأفريقيا مثل الصومال وكينيا وتنزانيا وموزنبيق إضافة إلى العديد من الجزر المتناثرة ومن أشهرها جزيرة زنجبار وبمبا وجزر القمر ومدغشقر وموريشيوس، بالإضافة إلى غناها بمختلف الموارد الطبيعية، فضلاً عن المناخ المعتدل جعل من هذه المنطقة بموقعها المتميز ملاذاً للعديد من الهجرات المتعاقبة، ودافعاً للتجارة والاستقرار ومن ثم الارتباط الاقتصادي والسياسي المباشر، والثقافي كذلك. ومن أوائل النصوص التاريخية التي أشارت إلى الساحل الشرقي لأفريقيا كتاب: “رحلة في البحر الأريتيري” حوالي سنة 120م من تأليف تاجر مجهول الاسم من الإسكندرية، وفيه تحدث عن سلع مهمة زخرت بها المنطقة مثل: “زيت النخيل، وأصداف السلاحف، وقرون الخرتيت، والقرفة والبخور والعاج والعبيد، كما أرّخ للموجات السكانية الأولى على طول الساحل الأفريقي الشرقي للأقوام الآتية من جنوب غرب الجزيرة العربية”، ثم أن هناك شهادات أخرى عديدة عن هذه المنطقة قدّمت من قبل الجغرافيين العرب الأوائل مثل اليعقوبي والمسعودي ومن جاء بعدهم من الجغرافيين والرحّالة.
هي علاقة ممتدة ومتجذرة عبر آلاف السنين، حيث تعاقبت على هذه المنطقة أمم وحضارات، وحكمتها شعوب وأعراق، وتبدلت فيها أنظمة حكم وحكومات، وقامت فيها حروب ومعارك، وتولدت على إثرها صداقات وعداوات، غير أن العلاقة بين عمان وشرق أفريقيا لم تنقطع والتواصل الإنساني بينهما ظل مستمرا ومتجددا، فالمصالح المشتركة كثيرة، والمؤتلفات كبيرة، وفوق هذا وذاك ارتبطت بفضل الاندماج والانصهار بصلة رحم لا تنفصم عراها، وهذا أكبر دليل على حالة التعايش، والمصير الذي كان يوماً مصيراً مشتركاً. وكما ذكرت بياتريشه نيكوليني في كتابها: “جزيرة زنجبار التاريخ والاستراتيجيا في المحيط الهندي(1799-1856)” “وليس محض صدفة أن الساحل الشرقي قد فضّل على الدوام إقامة روابط مع الخارج، مشكلاً ذلك الجزء الغربي من المحيط الهندي المرتبط بشكل لا ينفصم عراه مع السواحل الثلاثة الأخرى والداخل في نطاق دائري أوسع”
العوامل الداعمة لعلاقة عمان بشرق أفريقيا:
عوامل عدة كان لها الأثر الكبير في قيام تلك العلاقة الدائمة والنشطة يأتي في مقدمتها الموقع الجغرافي الذي سبق الإشارة إليه، والمرتبط بالبعد الاستراتيجي، وخبرة العمانيين في الملاحة البحرية الذي جعل منهم رواداً ومغامرين وتجار ماهرين، والاستفادة من هبوب الرياح الموسمية الشمالية الشرقية التي تهب في فصل الشتاء للإبحار بسفنهم الشراعية المتجهة إلى شرق أفريقيا، ثم الاستفادة من هبوب الرياح الموسمية الجنوبية الغربية في فصل الصيف للعودة من شرق أفريقيا إلى الموانئ العمانية حاملين معهم شتى صنوف البضاع من شرق أفريقيا الغنية بالموارد الطبيعية الزراعية والحيوانية والمعدنية، وقد وصل العمانيون بسفنهم كما ذكر حوراني في كتابه: العرب والملاحة في المحيط الهندي “ابتداءً من ميناء زيلع وسواكن ثم بربرة وزنجبار، وبراوة ومالندي وممباسة وكلوة وكان منتهى مطافهم إلى سفالة في موزنبيق، وقنبلة(مدغشقر)”.
زنجبار لؤلؤة الساحل الشرقي لأفريقيا
تبقى جزيرة زنجبار الوجهة الأكثر ارتيادا، وليس من المبالغة أن تصبح مدينة كوزموبوليتانية في ظل الحكم العربي في عهد دول البوسعيد وبالأخص فترة سعيد بن سلطان الذي حكم في الفترة من 1804-1856، وقد اتخذها عاصمة ثانية له بعد مسقط، وانتقل للإقامة الدائمة فيها منذ العام 1832، وبالتالي كان يتنقل بين شطري دولته الآسيوي والإفريقي كلما دعت الحاجة لذلك. حيث تعتبر جزيرة زنجبار من أكبر الجزر مساحة في المنطقة، وتبعد بنحو 25 ميلًا عن الساحل مما هيأ لها بعدًا أمنيًا. كما أن الجزيرة تمتاز بجمال الطبيعة، وتوفر المياه العذبة فضلًا عن تربتها الخصبة الصالحة لزراعة عدد من المحاصيل الاستوائية. إضافة إلى ذلك عمق مينائها جعلها نقطة مهمة لرسو السفن التجارية الكبيرة. وخلال منتصف القرن التاسع عشر أصبحت زنجبار مركزًا لامبراطورية تجارية تمتد على المحيط الهندي، ونقطة رئيسية لتوزيع السلع الصادرة والواردة إلى منطقة شرق أفريقيا. ونتيجة لذلك امتدت الامبراطورية العمانية في عهد السيد سعيد فبالإضافة إلى الوطن الأم عمان ضمت جوادر وبندر عباس وجزر قشم ولارك في آسيا، وفي أفريقيا امتدت من رأس جردفويCape Guardafui شمالًا الى رأس دلجادو Cape Delgado جنوبًا، كما وصل نفوذ سلطان عمان وزنجبار إلى أعماق أفريقيا ويدل على ذلك مثل إفريقي ترجمه أحد العرب إلى بيت شعري يقول:
إن تعالى زامر بزنجبار.. رقص الناس في البحيرات رقصًا
وفي ذلك دلالة رمزية إلى التثاقف والتأثير المتبادل ما بين الساحل الشرقي لأفريقيا والبر الأفريقي، في هذا السياق يمكن الإشارة هنا إلى نص مقتبس من كتاب صدر في نيويورك بعنوان:
Africa: A Social, Economic and Political Geography of Its Major Regions
للكاتب Fitzgerald, Walter
جاء فيه:” لا تزال زنجبار أرض التقاء بين أفريقيا والشرق، وتمثل واحدة من أبرز الأمثلة في عالم التعاون المرضي بين مجموعات عرقية واجتماعية متنوعة داخل مجتمع واحد”. لهذا لا عجب أن تصبح زنجبار ملجأ لمرتادي البحر من كل الجنسيات، وكما أشار نورمان بينت في كتابه: دولة زنجبار العربية بالقول: “وبشكل عام وفرت زنجبار موقعاً وسطاً مثالياً للتجارة البحرية من المحيط الهندي، فأصبحت ميناء لاستقبال ما تنتجه اليابسة القريبة وتخزينه ليتم نقله لاحقاً للسفن المبحرة التي تبحر بالرياح الموسمية المعتادة والتي تهب بين شرق أفريقيا وجنوب غرب آسيا والهند”.

علاقة عمان بشرق أفريقيا في العصور الإسلامية
توطدت علاقة عمان بشرق أفريقيا بصورة أكبر مع مجيء الإسلام، وهذه العلاقة كانت مقدمة لهجرات سكانية متعاقبة لطلب الرزق والتجارة، ونشر الإسلام والثقافة، كما كانت في بعض الظروف ملجأ في أوقات الأزمات سياسية كانت أو طبيعية، من ذلك مثلاً لجوء حكام أسرة بني الجلندى سعيد وسليمان ابني عباد بن عبد بن الجلندى وأسرهم بعد نجاح حملات الحجاج بن يوسف الثقافي في غزو عمان وكان ذلك في فترة حكم الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان(65-86ه/646-705م)، فكان ذلك كما يصفه الدكتور عبد الله الحارثي “أول لجوء سياسي عماني يسجله التاريخ”، وذكرت هدى الزدجالي في دراسة علمية بعنوان: “العمانيون وأثرهم الثقافي والفكري في شرق أفريقيا”: ” استقر آل الجلندى في أماكن متعددة منها منها: مافيا ولامو وباتا وبمبا وممباسا، وتسموا فيها باسم”كلينديني”، وكان مركز إمارتهم في أرخبيل لامو، وتعد هجرة آل الجلندى مقدمة لهجرات أخرى متعاقبة لعل من أهمها هجرة الحرث في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، وقد نجحت هذه القبيلة في تأسيس مدن مهمة في مقديشو وبراوة، وكانت مقديشوا في عهدهم “العاصمة السياسية والدينية والثقافية لساحل الزنج كله، وكان تأثير الحرث بارزاً في نشر الإسلام واللغة العربية بين القبائل الصومالية،… وكانوا دعاة حضارة وثقافة”. ويقول الدكتور محمد روكارا من جمهورية بورندي “لقد أدت الهجرات العربية بشكل عام لساحل شرق أفريقيا إلى تكوين ما يقرب من أربعين مدينة إسلامية، وهذه الهجرات التي وفدت جلبت معها بذور الحضارة والثقافة الإسلامية”.
ويعد الوجود العماني في شرق أفريقيا أكثر كثافة من وجود غيرهم، وهذا عامل اكسبهم ميزة في التعامل مع السكان الأصليين بما حملوه معهم من قيم إنسانية واجتماعية كالصدق والأمانة والتسامح والعدالة والمساواة في المعاملات، كما أنهم أصبحوا جزءاً من النسيج الثقافي والاجتماعي لدى الشعوب الأفريقية، وهذا بلا شك أثّر بمرور الزمن في الثقافة الأفريقية التي تطورت من خلال اكتسابها سمات حضارية جديدة مستمدة من الثقافة العربية ومن روح الإسلام وشريعته.
وفي مطلع القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، لجأ إلى مملكة بات أو باته/باتي في -الطرف الجنوبي لساحل كينيا- الملك النبهاني سليمان بن سليمان بن مظفر النبهاني، حيث أقام فيها حكما ملكيا وراثيا استمر زهاء 300 عام، بعد أن تزوج من ابنة الحاكم الأفريقي إسحاق الباتوي.
التنوع العرقي في الساحل الشرقي لأفريقي
العلاقة مع شرق أفريقيا ظلت قوية متماسكة طوال القرون اللاحقة، وهذا ما علق عليه نورمان بينت بالقول:” شهدت معاملات تجارية هامة، وتفاعلاً ثقافياً كان يجري بين السكان المحليين والزوار الخارجيين، والذين جاؤوا في قرون لاحقة للتجارة ومصاهرة أصحاب الأرض من كل المناطق”، أي من البر الأفريقي، ومهاجرين من إندونيسيا ومن مدغشقر، ومن مناطق البحر الأحمر والجزيرة العربية والخليج العربي ومن بلاد فارس ومن شبه القارة الهندية، وهذا يعني الهجرات إلى شرق أفريقيا لم تكن مقتصرة على عُمان فحسب، وإنما شهدت استيطان أعراق وشعوب أخرى وفي هذا ما يدحض نظرية احتلال العرب العمانيين لتلك المنطقة.
منذ القرن التاسع الميلادي بدأت تزدهر العديد من المراكز المهمة على الساحل الشرقي لأفريقيا منها على سبيل المثال مدينة ماندا بالقرب من جزيرة لامو، كما ازدهرت مدن إسلامية على ساحل بنادر الصومال في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، وخلال تلك الفترة نشأ ما يعرف بالشعب الشيرازي، الذين أقاموا مركز استقرار لهم في شنجوايا، وفي النصف الثاني من القرن الثاني عشر الميلادي هاجرت أجناس خليطة من الفرس ومن الخليج العربي ووصلوا إلى كلوة ، التي أصبحت تحت حكم أسرة شيرازية، وبحلول القرن الثالث عشر أصبحت مدينة مقديشو مركز سيطرة على طول ساحل شرق أفريقيا بسبب سيطرتها على تجارة الذهب الذي يأتي من داخل أفريقيا عبر منطقة سفالة في موزمبيق، في حين بدأت زنجبار تنافس كلوة في الأهمية مع القرن الخامس عشر، وكذلك ممباسا.
وبنظرة عامة على تلك المناطق والمراكز يلاحظ وجود العديد من الأنظمة السياسية القوية والمستقلة تحكمها أسر مسلمة من الأصول الأفريقية العربية أو الشيرازية، وأن هؤلاء المهاجرين من الخليج العربي أو الفارسي جاؤوا في الأصل من أجل التجارة، لكن غالبيتهم سرعان ما اندمجوا بعلاقات مصاهرة مع السكان المحليين، فكان هذا “المزيج العرقي والمكون من الأفريقيين والآسيويين (من جنوب غرب آسيا) ومن عرب الجزيرة العربية وبالأخص من اليمن(الحضارمة) وعُمان.
وبحلول القرن السادس عشر بدأت تتكشف ما عرف لاحقا بالثقافة السواحلية، واللغة السواحلية وهي مكونة من لغة البانتو، ومفردات من اللغة العربية والسنسكريتية وكلمات من اللغة البرتغالية، كل ذلك كان يعكس ثراءاً ثقافياً فريداً لا يمكن أن يزدهر في ظل احتلال، لأن المحتل غالباً ما يفرض سياساته ولغته وثقافته على المحتل، وهذا لم يكن موجود في ظل حكم عربي عماني متعايش ومتسامح مع سكان شرق أفريقيا، وقد أشار الأميرال المسيو جيان(1808-1875) إلى ازدهار شرق أفريقيا في ظل الحكم العربي العماني بالقول:” وكان العرب وأعقابهم حيثما استقروا يتركون من دلائل الثروة والرفاهية والنعيم أثراً لا يمحى”. وهذا يدل على أن مناطق الساحل الشرقي لأفريقيا كانت مزدهرة بسبب الوجود العربي هناك وهذا نقيض ما كان عليه الحال في سواحل غرب القارة الأفريقية، حيث يقول المسيو وجيان في موضع آخر: “أن البرتغاليين كانوا يعتقدون أنهم سيلقون فيما وراء رأس الرجاء الصالح أقواماً من الهمج والمتوحشين هم أقرب شبها إلى من رأوهم على السواحل الغربية من القارة الأفريقية”.
اليعاربة وعلاقتهم بشرق أفريقيا
بعد أن نجح العمانيون من تحرير بلادهم من الاستعمار البرتغالي، ولتأمين حدودهم البحرية، وسلامة الطرق البحرية، فقد حرصوا على تعقّب البرتغاليين لضمان عدم رجوعهم، أسهمو بشكل مباشر في تخليص سواحل الخليج العربي، وأغلب سواحل المحيط الهندي، والساحل الشرقي لأفريقيا من الهيمنة الاستعمارية البرتغالية التي كانت قد بدأت في نهاية القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر، حيث كان من أهدافهم الرئيسة السيطرة على طرق التجارة العالمية التي تمر بالمحيط الهندي، واحتكار تجارة التوابل والعاج الأفريقي، بهدف ضرب النشاط التجاري الذي كان يسيطر عليه العرب، حيث أنهم وبعد نجاحهم في الاستدارة حول رأس الرجاء الصالح، احتلوا الساحل الشرقي لأفريقيا، ومنه أطلت طلائع الحملات البرتغالية على المنطقة العربية وبالأخص المناطق الساحلية على بحر العرب والخليج العربي، وعانت عمان من الاحتلال البرتغالي منذ(1507-1650)، وقد أشاد (Walter) بالدور العماني في ضمان توفير السلم البحري فقال: “نجح عرب عمان في طرد البرتغاليين من أراضيهم عام 1650، وبعد ذلك شرعوا أيضاً في طرد الأوروبيين من شرق أفريقيا، وهكذا بدأ الاتصال السياسي بين عمان وزنجبار جنباً إلى جنب في سواحل الخليج وطاردوهم حتى سواحل شرق أفريقيا لتبدأ مرحلة من العلاقة مع الشاطئ المجاور للبر الرئيسي، والذي كان سمة بارزة من سمات الجغرافيا السياسية للعالم العربي أواخر القرن التاسع عشر”.
خصص الأميرال الفرنسي المسيو جيان الباب الخامس من كتابه المترجم بعنوان: “سلطنة عمان وأفريقيا الشرقية وثائق تاريخية وجغرافية وتجارية”، للحديث عن دور عرب عمان في تحرير سواحل شرق أفريقيا “من رأس دلجادو إلى جردفون” من الاحتلال البرتغالي، وقد أشار إلى معلومة مهمة تتعلق باستنجاد أهل ممبسة بالإمام سلطان بن سيف الذي كان يطارد فلول الغزو البرتغالي، وأنهم سألوه أن يخلصهم من نير الحكم البرتغالي، ثم يدلل على قوة الأسطول العماني في عهد دول اليعاربة، ودور هذا الأسطول في تعقب البرتغاليين في سواحل المحيط الهندي وفي شرق أفريقيا برواية كان قد دونها رحالة برتغالي معاصر لتلك الأحداث وهو القس مانويل جودنهو جاء فيها: “ولم يكتف-أي سلطان بن سيف- بإجلائنا عن بلاده، بل اجترأ على اقتفاء أثرنا حتى بالبلاد التابعة لنا، إذ حاصر منبسة، وعاكسنا في بمباي، وأسرت سفنه سفن برتغالية كثيرة”. ونستنتج مما سبق أن الوجود العماني في شرق أفريقيا، لم يكن بهدف الاحتلال بقدر ما كان الهدف تقديم العون والمساعدة بطلب من الزعامات القبلية في الساحل الشرقي لأفريقيا وتخليصهم من الاحتلال البرتغالي وما ارتكبوه في حق السكان المحليين من عنف وظلم واستبداد.
اليعاربة ودورهم في تحرير أفريقيا الشرقية:
يمكن القول أن عملية تحرير اليعاربة لأفريقيا الشرقية من السيطرة البرتغالية تعكس التضامن الإسلامي في أسمى صوره، وتمثل الكفاح المشترك بين العمانيين وإخوانهم المسلمين في شرق أفريقيا الذين استنجدوا بهم لتخليصهم من السيطرة والاستبداد البرتغالي، وكان ذلك نتيجة للروابط الدينية والتجارية التي ربطت بين العمانيين وسكان الساحل الشرقي لأفريقيا والتي أدت إلى تعميق الصلات وتبادل الأخبار بين المنطقتين، ولاسيما ما يتعلق بالاستعمار البرتغالي الذي كانت تعاني منه المنطقتان، ويُشير السديس في دراسته ” العمانيون والجهاد الإسلامي في شرق إفريقية 1034-1123هـ/1624-1711م إلى أن الانتصارات التي كانت تتحقق في عمان دفعت الأفارقة للثورة على البرتغاليين، وهو ما دفع بالبرتغاليين إلى تكليف فرانسيسكوا كابريرا Francisco Cabreira للقضاء على تلك الثورات، فكان من نتيجة ذلك تواصل سكان شرقي أفريقيا مع الإمام سلطان بن سيف بن مالك اليعربي عام 1063هـ/1652م، ولاسيما بعد وصول الأخبار بنجاحه في طرد البرتغاليين من بلاده عام 1061هـ/ 1650م، وما ترتب عليها من أصداء واسعة في العالم الإسلامي آنذاك.
لبى الإمام سلطان بن سيف الأول نداء الاستغاثة الذي وصله من إخوانه في كل من زنجبار وبته، فأرسل حملة عسكرية بحرية عام 1063هـ/1652م، تمكنت من هزيمة البرتغاليين في كل من زنجبار وبته وفازا، وشجعت المدن الأخرى على الساحل الشرقي لأفريقيا للثورة ضد البرتغاليين، ويرى السديس بأن هدف الإمام كان “التأكيد على الارتباط التاريخي والديني الوثيق بين ساحل شرق أفريقيا وعمان”
نظراً للنجاح الذي حققته البحرية العمانية في سواحل شرقي أفريقيا اتجه البرتغاليون إلى السواحل العمانية مستغلين فرصة وجود بعض قطع الأسطول البحري العماني في السواحل الشرقية لأفريقيا، الأمر الذي دفع بالإمام سلطان إلى سحب قواته من هناك وإعادتها إلى السواحل العمانية لمواجهة عودة البرتغاليين إليها، فكان ذلك مناورة من البرتغاليين الذين عادوا إلى سواحل أفريقيا الشرقية وتمكنوا من إخماد الثورات هناك وتعزيز حاميتهم في ممباسة.
بعد تمكن العمانيين من الدفاع عن سواحلهم أخذوا في تعزيز أسطولهم البحري مستثمرين الصراع الهولندي البرتغالي، وبدأوا في التحول من سياسة الدفاع إلى سياسة الهجوم عندما أرسلوا أسطولهم البحري عام 1071هـ/1660م إلى ساحل شرقي أفريقيا مرة أخرى الذي تمكن من فرض الحصار على ممباسا ومحاصرة قلعة اليسوع التي بناها البرتغاليون عام 1593م، لتكون قلعة برتغالية حصينة حسب تعبير الهنائي في كتابه”العمانيون وقلعة ممباسا”، ويأتي بناؤها بعد محاولة العثمانيين مواجهتهم عندما أرسلوا حملة بقيادة أمير علي بك عام 1558م، وهذا ما دفع بالبرتغاليين إلى معاملة أهالي ممباسا بالقسوة والطغيان.
وفي عام 1073هـ/1662م شن الأسطول العماني عدداً من الهجمات على مواقع متعددة على طول الساحل حتى رأس دليجادو ونجح في استعادة فازا وماليندي وأخضعوا الساحل الشمالي في منتصف ذلك العام ما عدا ممباسا التي دام حصارها مدة قدرها المؤرخون بخمس سنوات حتى سقطت قلعة اليسوع واستسلم قائدها جوزيف دا سيلفا Joseph Da Silva، وبعد التحرير عاد الأسطول العماني أدراجه إلى المياه العمانية، في إشارة واضحة إلى انتهاء المهمة المحددة لذلك الأسطول في تقديم النجدة لسكان ممباسا، دون الحاجة إلى البقاء، وهو ما يُدلل بشكل جلي على عدم سعي العمانيين إلى احتلال تلك المناطق أو استغلال حاجة سكانها وثرواتهم، إلا أن عودة الأسطول العماني إلى مسقط دفع البرتغاليين من جديد إلى استعادة ممباسا عام 1077هـ/1666م، ومعاقبة سكان ساحل أفريقيا الشرقية بسبب تعاونهم مع العمانيين.
ومما أثار الانتباه لدى البرتغاليين بعد عودتهم للسيطرة على قلعة اليسوع أن العمانيين لم يُحدثوا أية أعمال تخريبية في تلك القلعة وجدارنها، وزخارفها التي بقيت على حالتها دون تشويه، وهذا ما أكده إبراهيم البوسعيدي في دراسته “OMAN e PORTUGAL (1650-1730) Politica e Economia” ودلل من خلالها على التسامح الديني القائم على احترام دور العبادة وعقيدة الطرف الآخر؛ وهذا في حد ذاته ينفي ما يذهب إليه البعض من تعامل العمانيين مع القارة الأفريقية بوحشية ونظرة دونية.
استقبلت عمان في زمن قيد الأرض سيف بن سلطان الأول وفد أفريقي برئاسة شيخ بن أحمد الملندي الذي التقى بالإمام وعرض عليه ما جرى في ممباسا من أمر البرتغال، وقد استقبلهم الإمام بالحفاوة وأكرمهم غاية الإكرام، فلبى قيد الأرض النداء وجهز أسطولاً حربياً أرسله إلى ممباسا التي رسا في مرفأها وضرب عليها حصاراً في9 شعبان 1107هـ/ 13 مارس 1696م، وعمل على قطع الإمدادات عن البرتغاليين الذين عانوا من نقص المؤن والمعدات الحربية والبشرية إلى جانب ما عانوه من حالة نفسية وأمراض فتكت بهم أثناء الحصار الذي استمر لما يقرب من ثلاثة وثلاثين شهراُ حتى سقطت قلعة اليسوع وتحررت ممباسا من السيطرة البرتغالية في 11 جمادى الآخرة عام 1110هـ/ 14 ديسمبر 1698م، وبناءً على طلب الأهالي ترك الإمام سيف بن سلطان حاميات عسكرية في كل المراكز المهمة في شرق أفريقيا.
وهكذا نجح اليعاربة في تخليص ساحل أفريقيا الشرقي من النفوذ البرتغالي ووضعوا حداً للتفوق البرتغالي هناك، مما عزز الوجود العماني في الساحل الشرقي لأفريقيا من مقديشو شمالاً حتى خليج دلجادو جنوباً، ويُشير طلال المخلافي في دراسته بعنوان “دور العثمانيين والعمانيين في مقاومة الاستعمار البرتغالي ونشر الحضارة الإسلامية في شرق أفريقيا: القرنين السادس عشر والسابع عشر نموذجاً” إلى أن “ذلك الانتصار أتاح المناخ الملائم للدين الإسلامي وحضارته في الانتشار في شرق أفريقيا، فتم إيقاف انتشار المسيحية الكاثوليكية التي مكّن لها البرتغال طوال مدة استعمارهم للساحل، وبُنيت المساجد وتحفيظ القرآن والعلم الشرعي بدلاً عن الكنائس، وتوقف قتل المسلمين وتدمير منازلهم ونهب ممتلكاتهم وثرواتهم، ووجدت مقومات الحضارة الإسلامية فرصة جديدة للنمو والازدهار والانتشار”.
التجارة في أفريقيا
كانت التجارة من العوامل الرئيسية التي دفعت العمانيين لخوض غمار مياه المحيط الهندي والوصول إلى ساحل أفريقيا الشرقي. ولم يكتف التجار العمانيون بالمتاجرة مع المناطق الساحلية؛ بل توغلوا في المناطق الداخلية وصولًا إلى منطقة البحيرات الاستوائية. وقد أشار إلى ذلك بوضوح الرحالة الأوربين مثل Speke, Burton Stanley,Livingstone عندما التقوا بالتجار العرب في أواسط أفريقيا. وبالتالي يمكن القول إن العمانيين كانوا الأسبق في الولوج إلى داخلية أفريقيا. وكان التجار العرب محل ترحيب من قبل الملوك الأفارقة. وقد تركزت تجارة القوافل العربية في بيع الملح والأقمشة القطنية والأسلاك النحاسية والبارود التي كانوا يقايضونها مع سلع الداخل.
ومنذ أن أصبحت زنجبار حاضرة من الحواضر العمانية انفتحت على التجارة العالمية وللتجار من مختلف الأمم. وعلى إثر ذلك تاجر العمانيون في مختلف السلع المتوفرة في أفريقيا استيرادًا وتصديرًا مثل العاج والقرنفل والجلود وخشب المانجروف والصمغ وزيت النارجيل وغيرها؛ فيما شحنت السفن العمانية إلى الموانئ الإفريقية سلع متنوعة سواء كانت مصدرها عمان مثل التمور والليمون والسمك المجفف أو إعادة تصدير مثل السجاد والأقمشة والأواني الزجاجية والأسلاك ونحوها.
تجارة الرقيق:
من اللافت أن الكتابات الأوربية قد عنيت كثيرًا بتجارة الرقيق وضخمتها وكأنها التجارة الوحيدة في شرق أفريقيا. لذلك يحمِّل كثير من الكتَّاب الأوربيين أمثال كوبلاند وكيلي عرب عمان وزر هذه التجارة بوصفها أهم نشاط اقتصادي عربي في شرق أفريقيا. وأن زنجبار أصبحت أكبر مركز لتجارة الرقيق في الشرق.
تقول السيدة سالمة في مذكراتها “إن الكلام عن الرق والرقيق من أشد المواضيع حساسية وأكثرها مدعاة لاختلاف الرأي، وإن اثارة موضوع الرقيق واظهاره للوجود لم يكن سببه العواطف الإنسانية عند الفرد الأوربي فحسب بل كان للعوامل والألاعيب السياسية أثر كبير في بعث الأمر والتهويل به”.
ومما تجدر الإشارة إليه أنه لا تتوفر أرقام دقيقة وصحيحة عن حجم تجارة الرقيق يمكن الاعتماد عليها في تحديد أعداد الرقيق الحقيقية وتبقى الأرقام خاضعة لتقديرات وتكهنات المراقبين لذا من الصعوبة بمكان التأكد من العدد الفعلي للرقيق المصدر من مناطق شرق أفريقيا في ظل تضارب الأرقام الخاضعة لتقلبات السياسة البريطانية ومصالحها الخاصة في المنطقة. وحقيقة لا ننكرها إن كان العرب قد مارسوا هذه التجارة فإنها تمت بجهود فردية، وكانت في نطاق ضيق ومحدود ولم تكن بتلك الضخامة التي صورتها بريطانيا التي كانت تتخفى وراء الدوافع الإنسانية بينما كانت تهدف لزعزعة زنجبار اقتصاديًا وتفكيكها سياسيًا.
ومن جهة أخرى فإن الأوربيين مارسوا هذه التجارة مثل الإنجليز والفرنسيين والأسبان والبرتغاليين الذين أسسوا شركات لجلب الرقيق من شرق القارة وغربها لاستخدامهم في سد الحاجة المتزايدة من الأيدي العاملة الرخيصة في العالم الجديد. كما أن الأفارقة أنفسهم يتحملون جزءًا من المسؤولية باعتبارهم هم من يبيعون الرقيق إلى تجار الرقيق، والتجار الهنود كذلك لهم دور بسبب تمويلهم للقوافل التجارية للرقيق.
وعلى المستوى الرسمي أبرم السيد سعيد عدة اتفاقيات مع بريطانيا للحد من تجارة الرقيق مثل اتفاقية عام 1822 وذلك بتحريم بيع الرقيق في ممتلكاته الإفريقية، كما تضمن اتفاقية 1839-التجارة والصداقة مع الحكومة البريطانية – مواد تتعلق بوقف تجارة الرقيق، وفي عام 1845 تعهد السيد سعيد بمنع نقل الرقيق من ممتلكاته الإفريقية إلى ممتلكاته العربية . كما وقع سلطان زنجبار السيد برغش بن سعيد (1870-1888) معاهدة مع بريطانيا في عام 1873 تتعلق بإلغاء تجارة الرقيق، وفي عام 1897 وقع السلطان حمود بن محمد(1896-1902) معاهدة الغاء الرق من محمية زنجبار. وعلى ضوء ذلك كانت السفن البريطانية تجوب البحار بداعي التفتيش بغرض تحجيم هذه التجارة. ورغم الإجراءات المشددة التي اتخذتها سفن التفتيش البريطانية إلا أن السفن الفرنسية كانت لا تخضع للتفتيش لعدم توقيعها على الصك العام لمؤتمر بروكسل المعقود في 1889-1890، واستمرت في نقل الرقيق عبر مياه المحيط الهندي. كما أن أسبانيا والبرتغال لم تنضم إلى معاهدة تحريم تجارة الرقيق إلا نظير تعويضات مالية ضخمة؛ فيما ظلت الولايات المتحدة تراوغ في سياستها حتى لا تتورط في التزام جدي بوقف تجارة الرقيق.
الدور الحضاري للعمانيين في شرق أفريقيا
أثمر الوجود العماني المتجذر والمتواصل في شرق القارة السمراء عن مؤثرات حضارية في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. يقول مؤلف مخطوطة “شرق أفريقيا زنجبار” “بانتقال العرب من مسقط إلى زنجبار تعمرت السواحل، وشيدوا بها القصور، وعمروا فيها البساتين والضياع، وأجروا فيها العيون والأنهار فكثرت فيها النعمة والخيرات ، واصفى لهم الزمان زمام الأمان وهرعوا اليهم الخلق من كل فج، فشمروا عن ساعد مجد في الصناعة والتجارة والتقاط منها المال، فتعمرت الضياع والقرى ..”
العمانيون وشجرة القرنفل
كانت خصوبة أرض جزيرتي زنجبار وبمبا كانت من ضمن الأسباب المهمة لاستقرار العمانيين في المنطقة فضلًا عن العوامل الجغرافية والطبيعية الأخرى الأمر الذي مكنهم من الاشتغال بالزراعة الحرفة التي كانوا يمارسونها في عمان.
ويعد محصول القرنفل من أهم المحاصيل الزراعية على الاطلاق في المنطقة وهو من الركائز الاقتصادية التي اعتمدت على زنجبار في إيراداتها وما زالت. ويعود الفضل للعمانيين في ادخال هذه الشجرة من جزيرة موريشيوس الى زنجبار، وبالتالي تحولت هذه الشجرة الى عامل اقتصادي واجتماعي مهم لسكان جزيرتي زنجبار وبمبا.
بداية جرب السيد سعيد زرعة بذور هذه الشجرة في مزارعه الخاصة ولما نجحت التجربة وآتت ثمارها شجع رعاياه على زراعتها في مزارع شاسعة مما أدى الى ازدياد اعداد الأشجار المثمرة، وجذب هجرات بشرية الى زنجبار للعمل في مزارع القرنفل، وأضحت زنجبار تنتج حوالي 90% من إجمالي الإنتاج العالمي كما تذكر بعض المصادر. وكان الإنتاج يصدر الى الجزيرة العربية والهند والصين وأوروبا والولايات المتحدة.
انتشار الإسلام
اختلف المؤرخون في تحديد الفترة الزمنية التي وصل فيها الإسلام الى شرق أفريقيا؛ إلا أنه من الحقائق الثابتة أن انتشار الإسلام في شرق ووسط أفريقيا اعتمد بدرجة كبيرة على جهود التجار العرب؛ وذلك من خلال ما تحلوا به من صدق وأمانة في المعاملة، وما بذلوه من جهد في استمالة أعداد كبيرة من الأفارقة لاعتناق الإسلام.
وبسبب الصلات التجارية والبشرية القديمة بين عمان وساحل أفريقيا الشرقي كان للعمانيين دور في توصيل الدعوة الإسلامية إلى المنطقة بجانب المهاجرين الآخرين من العرب والمسلمين. ويأتي انتشار الإسلام في طليعة الدور الحضاري للعمانيين الذي لا يمكن أن تخطئه العين. وجنبًا إلى جنب انتشر الإسلام مع التجارة، ووصل إلى البرّ الإفريقي حتى أوغندا والكونغو وراوندا وبروندي وغيرها من المناطق. بيد أن انعدام تدوين هذه الجهود أضاع كثير من المعلومات في هذه الجانب ولعل قصة التاجر العماني أحمد بن إبراهيم العامري مع ملك بوغندا في منتصف القرن التاسع عشر تعد الأشهر بسبب توثيقها من قبل أمين باشا – حاكم جنوب السودان – في عهد الخديوي توفيق في مذكراته اليومية التي نشرت في المجلة الأوغندية. حيث استطاع هذا التاجر اقناع الملك بدخول الإسلام كنموذج رائع للداعية المسلم بشخصيته القوية المؤثرة، وأخلاقه السامية وكان هذا الحدث تمهيدًا لانتشار الإسلام في داخلية أفريقيا. ويشير حامد كرهيلا في كتابه “صراع الحب والسلطة” إلى أن الفضل في اعتناق السلطان عبد الرحمن سلطان موهيلي – إحدى جزر القمر- ومئات من مرافقيه الملجاش للإسلام في منتصف القرن التاسع عشر يعود بعد الله الى سلطان عمان وزنجبار.
وغني عن القول أن المذهب الاباضي وهو مذهب سلاطين زنجبار لم ينتشر كثيرًا في شرق أفريقيا رغم خضوع المنطقة ولفترة طويلة لسلاطين زنجبار. فقد غلب روح التسامح الديني والمذهبي، وساد جو من الألفة والتجانس والصلات الوثيقة بين كافة الأوساط الاجتماعية في سلطنة زنجبار. وفي هذا الصدد يذكر المغيري في “جهينة الأخبار” أنّ السيد سعيد بن سلطان أصدر أوامره إلى عماله بعدم التعرض للمذاهب الدينية في رسالة مؤرخة في 2 ربيع الأول سنة 1261ه/1845مـ ” من سعيد بن سلطان إلى جناب كافة ربعنا بحال القضاة، كل من حكم بحكم وأخطأ فيه يرجع إلى السؤال إلى من أعلم منه ، كل مذهب يتبع مذهبه ، هذا ما جرت العادة من قديم بذلك ، والسلام”.
العلماء في زنجبار
على الرغم من أن المذهب الإباضي هو المذهب الرسمي للدولة في زنجبار إلا أن السيد سعيد خص العلماء من مختلف المذاهب برعايته واهتمامه. حيث ظهر العلماء والفقهاء والقضاة على قدم المساواة في مجالس السلاطين وفي تعينهم لمناصب الدولة واتخاذهم مستشارين.
وقد أسهم هؤلاء العلماء بدور كبير في نشر الوعي والثقافة تدريسًا وتأليفًا، وهم من مذاهب مختلفة وتتلمذ على أيديهم أعداد غفيرة من سكان زنجبار والمناطق المجاورة لها. ومن هؤلاء العلماء في عهد الدولة البوسعيدية الشيخ عبد الله بن مبارك النزوي من أشهر القضاة، والشيخ ناصر بن جاعد الخروصي، والشيخ علي بن خميس البرواني، والشيخ محمد بن سليمان المنذري، والشيخ محي الدين بن شيخ القحطاني الذي يُعد أيضاً من أبرز القضاة، والشيخ علي بن عبدالله المزروعي، والشيخ عبدالعزيز الأموي، والشيخ ناصر بن سالم الرواحي، والشيخ عبدالله بن محمد باكثير وهو عالم من أصل حضرمي، والشيخ الأمين بن علي المزروعي قاضي قضاة كينيا، والشيخ عبدالله بن صالح الفارسي من أغزر العلماء تأليفًا بالسواحليه.
اللغة السواحلية
السواحلية من حيث الاسم مستمد من اللغة العربية، ومأخوذ من كلمة ساحل وسواحل ويعني الانتماء إلى الشريط الساحلي لشرق أفريقيا وجزره المتاخمة. يُشير بعض الباحثين مثل ر.روش إلى أن اللغة السواحلية بدأت في الظهور في الفترة ما بين القرن السابع والثامن الميلادي خلال فترة تدفق الهجرات العمانية إلى المنطقة خاصة هجرة النباهنة، فيما يذكر آخرون أنها كانت معروفة قبل الإسلام بحكم اختلاط التجار والمهاجرين العرب بالأفارقة.
واللغة السواحلة ولدت نتيجة لامتزاج اللغات واللهجات الإفريقية مثل البانتو يتخللها كثير من المفردات العربية خاصة الألفاظ المستخدمة في الشؤون التجارية؛ حيث تشير بعض التقديرات إلى أن المفردات العربية في هذه اللغة كما يذكر المختصون من أبناء السواحلية أنفسهم تقدر ما نسبته 22%، وظلت اللغة السواحلية تكتب بحروف عربية على مدى أكثر من خمسة قرون حتى دخول الاستعمار الأوروبي الذي بدأ بمحاربة المظاهر العربية في المنطقة. وفي عام 1891م ظهرت أول ترجمة بالسواحلية للإنجيل مكتوبة بالحروف اللاتينية. اقتضت سياسة الإدارة البريطانية في مجال التعليم في شرق أفريقيا استبدال كتابة اللغة السواحلية من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية مع بداية القرن العشرين.
إن الهجرات العمانية المتواصلة واستقراها في المنطقة، إلى جانب النشاط التجاري المستمر كان له دور مؤثر في تطور اللغة السواحلية وانتشارها وتوغلها في أواسط أفريقيا. وفي هذا المقام تجدر الإشارة إلى أن العمانيين تمكنوا من هذه اللغة، ونظموا قصائد باللغة العربية تنتهي بقافية سواحلية على سبيل المثال نظم علي بن سعيد الريامي قصيدة غرامية قال في مطلعها:
أحبائي رحلتم عني جُوزي(قبل أمس).. فراقكم حشى قلبي مجُونزي(حزن)
رحلتم نحو الأرض بيمبا(الجزيرة الخضراء).. زيارتكم عوام أو نميزي(شهور)
وهنالك أبيات شعرية تنسب إلى ناصر بن سالم الرواحي – الذي أبدع في تطوير اللغة السواحلية – معاتبًا خادمه حيث يقول:
يا خميسا يا مهوكا.. لا تقل اني مشوكا (تعبان)
كلما أدعوك دوما.. قيل لي هاكوكتوكا(خرج غير موجود)
السكان في شرق أفريقيا
أصبحت زنجبار ملتقى للعديد من الأجناس والشعوب فهي إفريقية بموقعها وطقسها وشرقية إسلامية بسكانها وحكامها حيث تنوعت الأصول العرقية في المجموعات التي كونت مجتمع شرق أفريقيا. وإلى جانب المجموعات السكانية بمختلف قبائلها والسواحليين استوطن زنجبار عرب عمان والحضارمة من اليمن، إضافة الى الهجرات القادمة من البحرين والإحساء، والشيرازيين والافريقيين والسواحليين وبعض منهم من جزر القمر والهنود بمختلف طوائفها، ومجموعات قليلة من الأوربيين.
ومن الظواهر الاجتماعية الجديرة بالتسجيل روح الاندماج والانصهار التي ميزت عرب عُمان في المجتمع الإفريقي من مختلف الأعراق والطوائف التي استوطنت زنجبار. وأصبحت هنالك علاقات نسب ومصاهرة مع المجتمع الإفريقي، وهذا ما نلاحظه بجلاء من وجود أسر عُمانية لها أقارب في مختلف دول شرق أفريقيا والعكس صحيح. إلى جانب روح التسامح الديني والمذهبي التي انتهجها العمانيون، وفي هذا الصدد يقول المغيري في جهينة الأخبار “ومن جميل أخلاق سلاطين زنجبار عدم التعصب في الجنسية والأديان، فجميع الأجناس النازلة بزنجبار من غير الجنس العربي قد قابلهم سلطان زنجبار بغاية الاحترام والمواساة في جميع أمور الحكومة وغير ذلك، ومهما تصفحت تاريخ زنجبار لا تجد فرقًا بين العرب وسائر الأجناس”.


خاتمة
أورد جمال زكريا قاسم في بحثه المضمّن كتاب “العرب في أفريقيا” مقولة في غاية الأهمية لوزير الدولة في حكومة الكونغو “لقد زور البلجيكيون كل شئ في الكونغو فليست مدينة ستنانلي فيل سوى مدينة تيبو تيب التي أقامها ذلك التاجر العربي قبل قدوم الرحّالة ستانلي، وليس العرب كما قالوا لنا تجار رقيق وإنما هم تلك الموجة الإنسانية التي اختلطت بنا وصاهرتنا وتركوا لنا على أرضنا دماءهم والبلجيكيون يحصدونهم بالأسلحة الحديثة وليس أعز علينا سوى هذا الدم العربي الذي سال في الماضي كما سال ويسيل دمنا الآن في بلادنا ..”
كما ذكر جيان في كتابه ” وثائق تاريخية وجغرافية عن أفريقيا الشرقية” ” ومما يملأ الفؤاد ويملأ القلب أسى وحزنا أنك إذا قارنت تلك البلاد] أي شرق أفريقيا [وهي في قبضة البرتغاليين بعرب عمان علمت أي الفريقين فريق البرتغال أم فريق عمان يحمل علمه منكسا إلى أسفل خزيًا وخجلًا وفسادًا وخللًا مع ما هو مشهور من وصف البرتغاليين بأنهم أمة متمدنة ووصف العرب بأنهم قوم برابرة متوحشون”
المراجع
– بينيت، نورمان، دولة زنجبار العربية: لمحة تاريخية، (ترجمة: رحمة الحبسي)، الرافدين، بيروت، 2020م.
– جيان، سلطنة عمان وأفريقيا الشرقية: وثائق تاريخية وجغرافية وتجارية، (نقله إلى العربية: الأمير يوسف كمال باشا)، دار الفضيلة، القاهرة، 2015م.
– روكارا، محمد، “دور العمانيين في نشر الثقافة الإسلامية في شرق أفريقيا: البناء والأصداء”، سلسلة البحوث والدراسات في الوثائق الوطنية والدولية (4)، الحضارة والثقافة الإسلامية والدور العماني في النواحي التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في دول شرق أفريقيا، ج1، هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، مسقط: 2014م.
– الزدجالي، هدى، العمانيون وأثرهم الثقافي والفكري في شرق أفريقيا 1870-1970م، الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، مسقط، 2021م.
– السديس، عبد الرحمن بن علي. العمانيون والجهاد الإسلامي في شرق إفريقية 1034-1123هـ/1624-1711م، أطروحة دكتوراه، جامعة أم القرى، مكة المكرمة: 1413هـ/1993م.
– سلطان، سالمة بنت سعيد، مذكرات أميرة عربية، ترجمة عبد المجيد القيسي، مسقط، وزارة التراث القومي والثقافة، 2001.
– صغيرون، إبراهيم الزين، “الاسهام العماني في المجالات الثقافية والفكرية والكشف عن مجاهل القارة الافريقية في العهد البوسعيدي “، مسقط، المنتدى الأدبي، 1993.
– العرب في أفريقيا الجذور التاريخية والواقع المعاصر، اشراف رؤوف عباس حامد ، القاهرة :دار الثقافة العربية ، 1987.
– المحذوري، سليمان بن عمير، زنجبار في عهد السيد سعيد بن سلطان(1804-1856 ) ، دمشق، دار الفرقد، 2014
– المخلافي، طلال حمود عبده. “دور العثمانيين والعمانيين في مقاومة الاستعمار البرتغالي ونشر الحضارة الإسلامية في شرق أفريقيا: القرنين السادس عشر والسابع عشر نموذجا”، سلسلة البحوث والدراسات في الوثائق الوطنية والدولية(4)، الحضارة والثقافة الإسلامية والدور العماني في النواحي التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في دول شرق أفريقيا، ج1، هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، مسقط: 2014م.
– المغيري، سعيد بن علي، جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار، تحقيق محمد بن علي الصليبي، ط5، مسقط: وزارة التراث والثقافة، 2017.
– مؤلف مجهول، مخطوطة شرق أفريقيا زنجبار، دائرة الوثائق والمخطوطات، وزارة التراث والثقافة، مسقط، رقم المخطوط 2170.
– النعماني، سعيد، الهجرات العمانية إلى شرق أفريقيا ما بين القرنين الأول والسابع الهجريين (دراسة سياسية وحضارية)، دار الفرق، دمشق، 2012م.
– نيكوليني، بياتريشة، جزيرة زنجبار التاريخ والاستراتيجيا في المحيط الهندي (1799-1856)، دار النهضة للنشر، بيروت، 1988م.
– الهناوي، مبارك بن علي. العمانيون وقلعة ممباسا، ط1، بيت الغشام للنشر والترجمة، مسقط: 2015م.
Al-busaidi, Ibrahim Yahya Zahran, Oman e Portugal (1650-1730) Politica e Econmia, Doutoramento em História, Universidade de Lisboa: 2010.
– G.S.P. Freeman, Grenville, The East African cost, Oxford. 1962.
– Hourani, George.F. Arab Seafaring in the Indian Ocean, Princeton University press, New Jersey, 1951.
– Walter F. Fitzgerald, Africa: A social, Econimic and Political Geography of its Major Regions, New York, 1939.