Thursday, September 18, 2025

تساؤلات حائرة بعد زيارة لمُتحف بيت الأمان والأرشيف الوطني الزنجباري

زاهر بن حارث المحروقي

أثير 10 سبتمبر 2025

يوم الاثنين السادس عشر من ديسمبر 2024م زرنا متحف “بيت الأمان” الذي يسمّيه البعض “بيت السلام”، وقد بناه السلطان خليفة بن حارب في عام 1925م بواسطة المهندس المعماري البريطاني جيه إتش سنكلير. يقع المتحف على طريق الخور في منطقة تسمى “منازي مموجا” وترجمتها “نارجيلة واحدة”، وهي التسمية نفسها لحارة في ولاية مطرح العُمانية، خلف سور اللواتيا مقابل الباب الصغير وملاصق لسوق الذهب؛ مّا يدل على أنّ التسمية جاءت من زنجبار.

ومتحف “بيت الأمان” عبارة عن مبنى مطلي باللون الأبيض بمخطط سداسي، مع نوافذ أرابيسك، وقبة مركزية كبيرة وست قباب أصغر، وهو يشبه مساجد “آيا صوفيا” في تركيا.

يبدو أنّ زوار المتحف قليلون، فلم نصادف أحدًا أثناء زيارتنا له. قدّم لنا المرشد - الذي انتظرْنا وصوله قليلًا - شرحًا عن مقتنيات المتحف، وأخبرَنا أنه أغلق فترة من الوقت، وأعيد فتحه في مايو 2024م بعد أن نُقلت بعض المقتنيات إلى “بيت العجائب”، ويقدّم المتحف للزوار - بمقتنياته - مزيدًا من المعلومات عن التاريخ والعادات في زنجبار، وضمن المعروضات بعض مقتنيات السلاطين العُمانيين وصورهم وبعض الهدايا التي أرسلت لهم من ملوك العالم. كما أنه يضم مجموعةً مميّزة من القطع الأثرية والكنوز التاريخية التي تقدّم لمحة عن التراث الثقافي الغني في زنجبار، مثل المنسوجات النادرة والرائعة، كالدشاديش و“الوزرة” و“اللواسي“، وكذلك الأثاث العتيق، وقطع زخرفية من عصر السلطنة، تعكس فخامة وعظمة ماضي زنجبار الملكي. كما يضم المتحف مجموعة من الآلات الموسيقية التقليدية التي كانت جزءا لا يتجزأ من التعبير الثقافي السواحيلي لأجيال.

ومن جميل ما شاهدنا المنحوتات المعقدة، بما في ذلك أبواب زنجبار الشهيرة، والتي تشتهر بتصميماتها المعقدة وأهميتها الرمزية، وبجانب المتحف يوجد متحف التاريخ الطبيعي الذي يقدِّم فكرة عن الحياة الفطرية والنباتات في الجزيرة، وقد اكتفينا بما شاهدناه في المتحف، لأنّ مقتنياته قليلة، فلم نكمل الجولة في متحف التاريخ الطبيعي، بسبب الرطوبة المرتفعة.

ومن الغريب أنّ المبنى بجماله لا يوجد به تكييف، لكنه على كلِّ حال يبقى شاهدًا على حُكم العُمانيين لزنجبار، ويحتفل هذا العام بمرور مائة عام على بنائه، حيث افتتح السلطان خليفة بن حارب رسميا يوم 11 نوفمبر 1925م.

كانت وجهتنا التالية الأرشيف الوطني الزنجباري. لم تكن الزيارة مُرضية من بدايتها؛ فحين نزولنا من السيارة وقفتُ أمام الأرشيف طالبًا من رفيقي سليمان المحروقي أن يأخذ لي صورة تذكارية، فقال لنا الحارس: “لا تصوّر قبل أن تدفع الرسوم”. دفعنا الرسوم، ودلفنا إلى الداخل. كان الاستقبال باردًا من رجل وامرأتين يعملون هناك. أردنا أن نشاهد ما يضمه الأرشيف من الوثائق العُمانية؛ فسألَنا الرجلُ بلغة عربية: هل تريدون إعداد بحوث؟!. أجبنا: “لا. إنما نود مشاهدة الوثائق من المخطوطات والصحف العربية ومراسلات السلاطين وغيرها”. قال: “لا بد أن تكتبوا طلبًا رسميًّا ونرفعه للمسؤول للموافقة”، لكنه بعد أخذ ورد، سمح لنا أن نشاهد أعدادًا من صحيفتَيْ “الفلق” و“النهضة” مجموعة في عدة مجلدات، مع منعنا من التصوير؛ فيما كان الرفيق الآخر سيف بن سعود المحروقي يكتب رسالة طلب للاطلاع على المراسلات السلطانية. بعد فترة عاد إلينا الرجل قائلًا: “إنّ المسؤول ليس هنا”.

كانت تلك حصيلة زيارتنا للأرشيف الوطني الزنجباري. خرجنا ونحن لا نعلم ما يضمه بين جنباته، فقد رأينا صناديق كرتونية كثيرة ومرقمة، مّا يدلّ على أنّ هناك الكثير الذي لم يمط اللثام عنه بعد، وبالتأكيد فإنّ تلك الوثائق والمخطوطات تحتاج لمعالجات دقيقة من قبل مختصين في علم الوثائق والأرشيف. كما أنها تحتاج لوجود خبراء صيانة وثائق، وهذا علم نادر لا يضطلع به إلا القلة من علماء الكيمياء على مستوى العالم لحساسيته وخطورته في الآن ذاته، وأظنّ أنّ طريقة التخزين والحفظ التي شاهدتُها لتلك الوثائق، لو استمرت لفترة طويلة بهذا الشكل، فسيجدونها تالفة بعد فتح تلك الكراتين؛ وقد اقترَحَ عليهم سيف معالجة تلك الوثائق إلكترونيًّا بالسرعة القصوى لضمان سلامتها، وسُعدنا عندما أبلغَنا الرجل بأنّ العمل جار الآن لتنفيذ هذا المشروع، وأستطيع القول إننا قد خرجنا من الأرشيف بخُفّيْ حنين، باستثناء بعض الصور الخاصة وأنا أشاهد مجلدات صحيفتَيْ “الفلق” و“النهضة“، وكنتُ أمنّي نفسي بأن أقرأ بعض التعليقات التي كان يُرسلها أبي لـ “الفلق”، كما ذكر لي.

يبقى أنّ الأرشيف الوطني الزنجباري (وهو في الحقيقة عُماني صرف) يتيح للباحثين والدارسين والمهتمين الاطلاع على جانب مهم من التاريخ العُماني في الساحل الشرقي لأفريقيا، ويمكن من خلال ذلك معرفة ودراسة مواطن القوة والضعف في هذا التاريخ.

ونحن خارجون من مبنى الأرشيف، تذكرتُ ما قاله لي الزميل الإعلامي والباحث إبراهيم اليحمدي عندما ذهب مع فريق تليفزيوني عُماني لتصوير ذلك المتحف، إذ لم يجد شيئًا ذا بال؛ فالكثير من الوثائق العُمانية اختفت، وذكر لي أنّه حتى المجلات والجرائد لم يجد منها إلا الأعداد القليلة التي لا يمكن أن تعطي الصورة الحقيقية لتلك الفترة الحية والمهمة في التاريخ العُماني، وتذكرتُ ما قاله لي صديقٌ من أنّ “أحد الخليجيين اشترى بطريقة ما مراسلات السلطان علي بن حمود بن محمد البوسعيدي كاملة بمبلغ زهيد جدًا”، وكما هو معلوم فإنّ السلطان علي كان له نشاط عالمي غير مسبوق، وكان له طموحات كبيرة وحاول أن ينشئ منظمة تُعنى بالتعاون الإسلامي، وزار في ذلك إسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية، وأجرى اتصالات كثيرة حول ذلك، واهتم كثيرًا بالتعليم والتعريب، مّا أدى إلى الإطاحة به من قبل البريطانيين، الذين كانت زنجبار خاضعة لسيطرتهم خلال فترة حكمه؛ وعلى ذلك فإنّ مراسلاته تلك تشكّل ثروة حقيقية لحقبة مهمة من التاريخ العُماني هناك، ولا ندري من المستفيد من ضياعها؟!.

وفي الحقيقة؛ فإنّ الراحل جمعة الماجد بذل من خلال مركزه الرائد للثقافة والتراث في دبي جهودًا في جمع التراث العُماني في زنجبار، حيث نسخ جميع موجودات المتحف الوطني الزنجباري وجمع كلَّ ما استطاع الوصول إليه وجعله متاحًا لكلِّ المراجعين من الباحثين والأكاديميين، إذ إنه استطاع أن يحافظ على البقية الباقية من مفردات ذلك التراث الكثيرة، وهو ما فعله كذلك الراحل السيد محمد بن أحمد البوسعيدي، إذ جمع بعض الوثائق والمخطوطات وأتاحها للباحثين.

كان سيف وسليمان ومرافقُنا في تلك الجولة أحمد المزروعي في حديث طويل ونحن عائدون إلى الفندق، وكنتُ أسمع أصواتهم فقط، بينما كان فكري قد ذهب بعيدًا إلى السؤال الحائر: أين هي كتب ومخطوطات العُمانيين في زنجبار؟ أين مراسلات السلاطين؟ أين الرسائل الخاصة التي كتبها العُمانيون في زنجبار لذويهم في عُمان والعكس؟ أين دواوين أشعارهم؟ أين وثائق أوقافهم؟ أين وصاياهم؟! سرح فكري بعيدًا ووصل ثانيةً إلى “المتوني” حيث عاش ومات ودُفن الشيخ ناصر بن جاعد الخروصي، وكنتُ أسأل نفسي: أين هي مؤلفاته الكثيرة؟ أين اختفت؟ ولماذا لم تر النور؟ أين هي الكتب التي أوقفها السيد حمود بن أحمد البوسعيدي لطلبة العلم في مساجده الثلاثة، ومن ضمنها كتب الشيخ ناصر بن أبي نبهان؟ أين أشهر مؤلفاته وهو كتاب “الحق اليقين” الذي ألفه في ستة مجلدات جوابًا على سؤال طويل يتعلق بقضايا العقيدة؟ أين كتاب “لطائف المنن في أحكام السنن”؟

سرحتُ طويلًا، وحلّقَت روحي وهي حائرة عطشى بعيدًا عن زنجبار، وعادت بي الذاكرة إلى عام 2006م حيث قرأتُ في منتدى “سبلة العرب” الإلكتروني، موضوعًا حول سرقة التراث القومي (ما يزال موجودًا في شبكة الإنترنت حتى اليوم) قالت التفاصيل فيه إنّ إحدى وزارات الدولة شكلت فريقًا من ثلاثة أشخاص عُمانييّن وهولندي (خبير) للذهاب إلى زنجبار لتتبع وجمع المخطوطات وأمهات الكتب، وجرت الاستعانة بالسفارة هناك، وبدأت رحلة التقصي، وتهافت العُمانيون على تقديم ما لديهم من أثمن المخطوطات ونفائس أمهات الكتب لتصويرها ثم إعادتها إليهم، وبالفعل جُمع ما يملأ ثلاث حقائب كبيرة، ثم شحنت لكن ليس إلى عُمان بل إلى هولندا؛ واختفى الخبير مع المخطوطات، وانتهت مهمة العُمانييَّن وعادا إلى أرض الوطن خاويَيْ الوفاض. كتبتُ حينها: “إنّ خبرًا كهذا كان يستدعي إجراء تحقيق كامل، ولكنه مرّ مرور الكرام ولم يُثر أية ردة فعل، ممّا يطرح تساؤلات كثيرة - إن كان الخبر صحيحًا - أولها لماذا لم يُلاحق الخبير الهولندي الذي (نصب) على القوم قانونيًّا وأنتربوليًّا؟ ولماذا تُرك له الحبل على الغارب ليحتضن هو وحده المخطوطات؟!.

لا يمكن بالطبع أن نتجاهل الدور الكبير الذي تضطلع به هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية في جمع الوثائق العُمانية والحفاظ عليها، فهو دور كبير ونبيل ومجهود واضح تشكر عليه؛ وقد آن الأوان - كخطوة تالية بعد الجمع - أن يُهتمَّ بدراسة وتحقيق المخطوطات العُمانية بأيدي مختصين حتى يعرف العُمانيون تاريخهم وماضيهم التليد؛ ومن نافلة القول إنه عندما يعرف أيُّ إنسان تاريخه وماضيه تمام المعرفة سينعكس ذلك على سلوكه الشخصي وأخلاقه وتصرفاته في الحاضر والمستقبل. 

Monday, September 8, 2025

حوارٌ مع حمود البرواني

 زاهر بن حارث المحروقي

أثير:3 سبتمبر 2025

نحن نغادر البيت الذي سكنه حمود بن محمد البرواني، متجهين إلى مُشاهدة بقية معالم المدينة الحجرية، كان بالي مشغولًا به. وجدتُ نفسي في حوار متخيّل معه، ولم يكن سهلًا أن أجري هذا الحوار وأكتُبه، فأنا لم ألتقِ به شخصيًّا، إذ مضى على “استشهاده” عند البعض، و“قتله” عند البعض الأخر أكثرُ من نصف قرن. أي أنّ الآراء قد تباينت حوله وحول مصيره أيضًا، لكنني حاولتُ أن أستحضر صوته وفكره، وربما حتى مشاعره، بقدر ما تسمح به المراجع والذاكرة والخيال معًا.

حمود بن محمد البرواني

تركتُ سيف المحروقي ومسعود الريامي يتحدّثان، وقلتُ لنفسي: اسرق دقائق أو ثوانٍ قليلة، واغتنم فرصة خروجك من بيت البرواني وتحدّث معه. سألتُه: “هل كان اغتيالك لعبيد كارومي انتقامًا شخصيًّا؟ أم تصفية حسابات بين أطراف، كنتَ أنتَ مجرد أداة تنفيذ فيها؟”.

أجابني بهدوء: “دعني أسألك قبل أن أجيب عن سؤالك. ما الذي دعاك أنتَ أن تلعب لعبة - وأنت طفل - تتخيّل فيها أنك تقتل كارومي؟”، وقبل أن أجيب واصل حديثه: “ربما كانت كلّ تلك الأسباب مجتمعة. لكن ما دفعني فعلًا هو رؤيتي لمقتلة العُمانيين رأي العين، والتمثيل بجثثهم، واغتصاب نسائهم، ونهب ثرواتهم، ودفنهم أحياء، وتهجيرهم من زنجبار. كان أبي واحدًا منهم، ولم نكن نعلم مصيره، غير أنّ الله سبحانه وتعالى قيّض أناسًا كُتب عليهم الإعدام، لكن الله أنجاهم وكانوا شهودًا على تلك الحادثة الأليمة، التي عرفتُ بها فيما بعد، فظلَّ قلبي يشتعل نارًا. لقد أُمر أبي ومن معه من الضحايا - تحت تهديد السلاح - بحفر قبر، ثم أطلقت النار عليهم ليسقطوا سريعًا في تلك الحفرة، دون محاكمة ودون جريرة ارتكبوها.

استُشهد مع أبي في هذه الحادثة كلٌ من محمد بن سالم البرواني (الشهير بجينجا)، وعامر بن زاهر الإسماعيلي، وحمزة بن محمد. وأهيل التراب على الحفرة دون التأكد من أنّ هناك من قد يكون به رمقٌ من الحياة. نفذوا جريمتهم تلك بدم بارد على مرأى من مجموعة من السجناء العُمانيين، الذين أحضروا إلى ذلك المكان خصيصًا لترهيبهم، وليؤمروا بعد ذلك بردم القبر. كان من ضمن هذه المجموعة سعيد بن علي بن حمود الحارثي وعبد الرحمن حيدر وسلطان بن بريك وهو من أصل حضرمي، وجوخة بنت محمد بن سالم بن علي الريامية، - وهي امرأة عُرفت بالسخاء وبنشاطها الاجتماعي -. وبعد أن فرغوا من ردم القبر قيل لهم إنّ قتلهم سيكون في الغد وبالطريقة التي شاهدوها“.

سكت حمود لحظات، ثم أضاف: “طريقة قتل والدي ومن معه، عرفناها من خلال هذه المجموعة التي نجت من الموت بمعجزة إلهية، إذ لم يُقتادوا إلى ذلك المصير المشؤوم في اليوم التالي كما كان مقررًا، وكأنّ رجالات القتل والتعذيب غفلوا عنهم فبقوا في السجن حتى أفرج عنهم”.

سألني: “هل عرفتَ سبب سؤالي لك: ما الذي جعلك تلعب لعبة القتل تلك وأنت بعيدٌ من موقع الانقلاب ولم يصبك ما أصابنا؟ لقد تألم قلبك - وأنت الطفل الصغير - من مصير إخوانك في الدم. ثم إنّ ما تعرضْتَ له أنت وأقرانُك من سخرية وتهديد، لا يمكن أن يقارن بما عشناه نحن في الواقع.

ألم تكتب أنتَ مرةً أنّ حكايات زنجبار تحتاج إلى مؤلفات كثيرة؟! أنا أتفق معك في هذه النقطة، فما قيل غيضٌ من فيض، ونحن عرفنا قصة استشهاد أبي ومَن معه، لأنّ الله كتب الحياة لمن شهد الحادثة، ولكن هناك المئات ذهبوا واختفوا دون أن يعلم بهم أحد، منهم والد الرجل الطيب الذي يمشي معكم الآن" (يقصد مسعود).

سألتُه: “يقول بعضُهم إنك بطلٌ قومي وإنك شهيد، بينما يراك آخرون مجرمًا قتل رئيس دولة. كيف ترى نفسك؟”

ردّ: “أرى نفسي ابنًا بارًّا لوالد قُتل ظلمًا، وعُمانيًّا لم يجد وسيلة أخرى للرد على كلِّ المظالم التي وقعت للعُمانيين. أما الألقاب، فليطلقوها كما يشاؤون. لا يهمني - وأنا في العالم الآخر - أن أكون بطلًا أو مجرمًا في نظر الناس، المهم أني لم أبع ضميري كما باعه الآخرون”.

هنا سألتُه: “هل كان الانتقام لوالدك فقط؟!”. قال: “وأنا في العالم الآخر أعلم أنّ هناك من قال ذلك. وهناك من قال إني لعبة في مشروع أكبر مني، لكني كما قلتُ لك: كلُّ ذلك لا يهم. أنا فخورٌ أني انتقمتُ لأرواح الآلاف من الأبرياء”.

سألتُه عن لحظة الاغتيال، فصمت قليلًا، ثم قال:

“الغريب أنني كنتُ ساكنًا تمامًا. دخلتُ عليه بكلِّ ثقة. لم أرتجف، لم أتردد. كنتُ فقط أنفذ. كأنّ الزمن توقف. كان داخلي يمتلئ بمشاهد القتل التي رأيتُها لعُمانيين عزّل، وبأصوات الأمهات، ونظرات الأطفال، والمقابر الجماعية، وقصص الفقد المؤلمة. كان صوتُ أبي يحفزني، ويدعوني: تقدّم يا حمود ولا تخف، تقدّم يا حمود، تقدّم ولا تخف. كان ذلك الصوت يبث في نفسي الراحة والطمأنينة والسكينة”.

ثم التفت إليّ، وصوتُه يتهادى بشيء من الطمأنينة وقال: “تريد أن تعرف كيف كانت لحظتي الأخيرة؟ سأقول لك، في ثانية واحدة فقط، شعرتُ كأنني انسلخت من هذا العالم. لا ألم، لا صراخ، فقط هدوء عجيب. رأيتُ أبي. نعم أبي كان هناك ينتظرني على الطرف الآخر. احتضنني بقوة لم أعهدها فيه من قبل، وهو يقول: “أهلًا يا حمود يا ولدي، أنت فعلًا ابن أبيك، أنت فعلًا ابن أبيك. ما إن فرغ من كلماته حتى رأيتُ آلاف الأرواح تنتظرني، كانت تبتسم وتضحك في آنٍ واحد. كانوا ضحايا الانقلاب، شهداء المذابح من 12 يناير 1964، حتى هذه اللحظة في 7 أبريل 1972. كنتُ بين تلك الأرواح عريسًا في زفة الشهداء. لم أكن ميِّتًا، كنتُ حيًّا معهم. لكني لاحظتُ أنّ هناك من بين المستقبلين من تختلف سحناتُهم عن سحنات الشهداء. كان في الاستقبال السلاطين والعلماء والشعراء والقضاة والشيوخ العُمانيون الذين عاشوا في هذه الجزيرة منذ مئات السنين”.

صمت قليلًا، وابتسم ابتسامة هادئة كأنه يراهم من جديد، وقال: “في تلك اللحظة فقط، شعرتُ أني وصلت”.

سألته: “هل ندمت على ما فعلت؟”.

التفتَ إليّ وبدا في عينيه شيء من الفخر والحنين، وقال بنبرة هادئة: “لقد فرحتَ، وأنت ابن العشر سنوات، حين علمتَ بما فعلتُه أنا، أتعرف لماذا؟ لأنّ الأطفال يعيشون على الفطرة، هم مرآة الحقيقة. حين فرحتَ أنت، وفرح أقرانُك، ومن هم في سنك، تيقنتُ أنّ ما فعلتُه كان يتّسق مع العدالة والكرامة، مع ردّ المهانة، فكيف تسألني اليوم: هل ندمت؟”.

بدا عليه شرود عميق، وقال بصوت منخفض كأنما يحدِّث نفسه: “تعرف؟ كلما تابعتُ ما يقدّمه الفلسطينيون من تضحيات، أتذكّر جيدًا أنّ منبع الشجاعة ليس التدريب ولا السلاح، بل الإيمان. أولئك يقاتلون لأنهم مقتنعون بعدالة قضيتهم، ولأنهم رأوا أهاليهم ممزقين أمام أعينهم، صارت الحياةُ والموتُ بالنسبة لهم سواء. وفي النهاية سينتصرون. أنا أيضًا سمعتُ عن والدي كيف قُتل بطريقة مهينة. بعد تلك اللحظة، لم أعد إنسانًا عاديًّا”.

ثم أردف بنبرة حادة: “ما يدفع الإنسان إلى التضحية القصوى هو الإحساس العميق بالظلم، والرغبة في أن ينكسر هذا الظلم يومًا ما، ولو بعدة طلقات”.

أعادتني كلمات حمود إلى فترة الثمانينيات من القرن الماضي عندما كنتُ أعدَّ وأقدّم برنامج “ضيف الأسبوع” في الإذاعة، فتحمستُ لمواصلة الحوار المتخيّل. وقبل أن أغادره، سألتُه عن نهايته، وقد كثرت الروايات حولها؛ إذ قيل إنه انتحر بعد تنفيذ العملية، وقيل إنّ الحراس أطلقوا عليه النار، بينما قال آخرون إنّ زميلًا له قتله بالخطأ أثناء الهروب. ابتسم بحزن وقال: “كلّ تلك الروايات قد تحمل جزءًا من الحقيقة، لكنها لا تعكس الواقع بالكامل. الشيء المؤكد أني لم أنتحر. بعد تنفيذ العملية، اندلع تبادلٌ لإطلاق النار. في خضم الفوضى، أصابتني رصاصة قاتلة. لا أعلم من أطلقها، وربما لم يكن مهمًا حينها. كنتُ مستعدًا للموت منذ لحظة اتخاذي القرار. المهم أنّ المهمة نجحت، والرسالة وصلت، وأنّ دم والدي ودماء الأبرياء لم تذهب سدى”.

تلاشت صورتُه أمامي، لكن صوته ظلّ يتردد في أذني، حتى سمعتُ صوتًا آخر يهمس لي من خلف كتفي: “وصلنا إلى البيت الذي تبحث عنه، هذا هو بيت المدفع”.

التفتُّ، فإذا هو مسعود الريامي، وإلى جانبه سيف المحروقي، وعدتُ من حواري مع حمود، إلى زنجبار الحقيقية.

*ملاحظة: حكاية استشهاد والد حمود ومَن معه، منقولة من كتاب ناصر بن عبد الله الريامي (زنجبار- شخصيات وأحداث).

Wednesday, August 27, 2025

في ضيافة حمود البرواني قاتل عبيد كارومي

 زاهر بن حارث المحروقي

أثير:27 أغسطس 2025

في جولتنا للمدينة الحجرية، أخذَنا الصديق مسعود الريامي إلى أولى المحطات، وكانت في منزل من منازلهم “القليلة” التي أعيدت إليهم، بعد أن صادرها الانقلابيون عام ١٩٦٤، وهو المبنى الذي استأجرته شركة تجارية ألمانية، وشهد بداية علاقة الحب بين السيدة سلمى وهنريش رويته، الذي سيصبح بعد ذلك زوجها. صعدنا إلى غرفة الألماني المطلة على حجرة سالمة في البيت المقابل، وكنتُ أتخيّل كيف كانت تقطع تلك السكة الضيقة بين البيتين في غسق الدجى والناسُ نيام، وقلتُ لا بد أنّ الحراس ساعدوا في تسهيل تلك اللقاءات. وبما أني سبق أن تناولتُ الموضوع، أكتفي بهذا فقط، فالمدينة كانت شاهدة على كلِّ شيء، حتى ما لا يُقال.

بعد خروجنا من البيت تجولنا في المدينة، فإذا مسعود يشير إلى شقة في الأعلى ويسألنا: “أتعرفون شقة من هذه؟!” أجبنا: “ننتظر منك التفاصيل”. قال: “هذه شقة حمود بن محمد البرواني الذي قتل الرئيس عبيد كارومي”. في تلك اللحظة كان شخصٌ ما يقدِّم طعامًا لقطة واقفة عند الباب، فيما يُخيّم الهدوء التام على المكان، وكأنّ الحادث وقع قبل لحظات، وكأنّ كلَّ سكان الحي قد تركوه هربًا أو خوفًا.

كان لكلام مسعود وقعٌ على نفسي، لأني أتذكر يوم الاغتيال ذاك، إذ كنتُ بالكاد قد بلغتُ العاشرة من عمري، ولا أذكر التفاصيل، ولكن هناك ما علق في ذهني؛ فلكثرةِ ما كنتُ أستمع إلى الإذاعة، حفظتُ اسم رئيس زنجبار عبيد كارومي، وقد تكوّنَتْ لديّ فكرةٌ سيئة عن الرجل، خاصةً من بعض الطلبة في المدرسة، الذين كانوا يفخرون به لأنّه قاد انقلابًا ضد العرب وسامهم سوء العذاب، وأقام لهم مذابح واغتصب نساءهم وأموالهم. وكان بعضُ الطلاب - وهم ممن تأثروا بالمناهج والدعايات الغربية ضد العُمانيين -، يهزؤون بنا ويقولون إنّ اليوم الذي سيحلقون لِحى آبائنا آتٍ لا محالة؛ “كما فعل كارومي بالعرب في زنجبار”.

هناك بعض الأمور لا يجد المرء لها تفسيرًا مهما حاول أن يفهمها، فلا يعلم كيف حدثت؟ ومنها ما حدث صبيحة يوم الجمعة 7 إبريل عام 1972م، حيث كنتُ ألعب خارج البيت. ومضيُّ هذه السنين الطويلة شوّش ذاكرتي، وجعلني أظن أنّه كان معي في هذا اليوم صديق الطفولة سعيد بن عبد الله المحروقي، لكن أمي تقول إني كنتُ بمفردي، وأقدمتُ على تمثيل دورٍ أقتل فيه عبيد كارومي، لأنه أهان العرب (كلمة العرب تطلق على العُمانيين). كانت أمي بالقرب مني، وكذلك بعض الناس ممن يشتغلون عندنا في محطة البنزين وفي الدكان؛ فنهرتني ونهتْني عن ذلك، خاصةً أني كنتُ أصرخ وأنا أمثل ذلك الدور، لكن المفاجأة - كما أخبرتني أمي لاحقًا - أنّ الأخبار جاءت مساء اليوم نفسه تقول إنّ شابًا عربيًّا هو حمود بن محمد بن حمود البرواني، قتل الرئيس كارومي؛ فما كان من أهلي إلّا أن خافوا خوفًا شديدًا من أن يصيبنا الانتقام؛ رغم أننا كنا بعيدين كثيرًا عن موقع الحدث، ولكن ما خوّفهم هو أنه عندما يتحدّث طفلٌ في حوالي العاشرة من عمره أمام الناس عن اغتيال رئيسٍ، في يوم وقوع الحدث بعد ساعات، فمعنى ذلك أنّ أهله كانوا على علم ودراية بذلك. لذا طلب مني أبي وأمي ألا أتحدّث عن هذا الموضوع ثانية أمام أيّ أحد، وفعلًا أغلقت فمي لأكثر من أربعين عامًا، حتى نشرتُ الموضوع في كتابي “بأعمالهم لا بأعمارهم” الصادر عن دار الانتشار العربي في بيروت عام 2015.

تقول تفاصيل الاغتيال: بينما كان الرئيس كارومي ومجموعةٌ من وزرائه في الطابق الأرضي لمقر حزب “الأفروشيرزاي” يلعبون طاولة الزهر؛ داهمهم حمود البرواني الذي كان عائدًا من التدريب العسكري من إحدى دول أوروبا الشرقية، ودخل عليهم شاهرًا سلاحه، فأفرغ طلقاته في كارومي الذي خرّ صريعًا، وانتهت العملية بمقتل مُنفذّها البرواني، ليبدأ فصلٌ جديدٌ في مأساة العُمانيين في زنجبار، الذين أُخذوا بـ “جريرة” حمود، فقُتل وأخفِي الكثيرون في ظروف غامضة، منهم والد مرشدنا مسعود “عبد الله بن سليمان الريامي”، الذي يقودُنا في هذه الجولة في المدينة الحجرية.

لا أستطيع أن أصف مشاعري بالتفصيل - أنا ابن العاشرة - لكني أعلم أني تلقيتُ نبأ اغتيال عبيد كارومي بفرح شديد. هل كان الاغتيال انتقامًا ربانيًّا لأرواح الآلاف من الأبرياء الذين ذُبحوا وعُذِّبوا وصودرت أموالهم بغير حق؟ هل سخريةُ بعض الطلاب منا وتهديداتُهم لنا ستتوقف؟! كنتُ في نفسي فخورًا أمام أولئك الطلاب ، وأعلم أنّ هناك الآن من يستطيع أن يرد على سخريتهم منا وتهديداتهم لنا، مثل حمود البرواني.

في كلِّ الأحوال؛ إنّ حمود البرواني سيبقى لغزًا، وستبقى خطوةُ إقدامه على قتل كارومي مثار تساؤلات، حتى تظهر الوثائق التي تتحدّث عن الموضوع، فهو شابٌ عمانيّ الأصل، نشأ على قصص المجازر التي طالت أهله وأبناء وطنه في زنجبار؛ إذ كان والده من بين الضحايا، ممّا جعل القضية عند البعض شخصية وعاطفية، بما يثبت أنّ الدم البريء الذي أريق لا يُنسى. واعتبر البعض الآخر أنّ الخطوة كانت تصفية حسابات بين أطراف خارجية وأخرى داخلية، وأنّ حمود كان مجرد منفذ لخطة كبيرة، ويدللون على ذلك بالقطيعة التي حصلت بين الرئيس التنزاني جوليوس نيريري وكارومي أكثر من عام، (كما قال لنا أحد الباحثين)، فيما يرى طرفٌ ثالثٌ أنّ الاغتيال كان انتقامًا لأرواح الآلاف ممن قتلوا ظلمًا وجورًا وعدوانًا، وأنّ البرواني بطلٌ قوميٌّ جسّد الغضب المكبوت، وحقق العدالة التي لم تتحقق عبر المحاكم، وأنه لم يكن قاتلًا مأجورًا، لكنه حمل على كتفيه تاريخًا من الألم، وقرر أن يكتب النهاية بيده.

ومصير حمود البرواني نفسه أثار علامات استفهام: هل كانت نهايته هو بيده؟! هناك من قال إنّ حمود انتحر، ولكن لا أحد يقدِّم دليلًا على ذلك. وهناك من قال إنه قُتل من قبل حراس عبيد كارومي، بعد أن أجهز عليه وأفرغ فيه رصاصاته، أما الاحتمال الثالث فيرى أنه قُتل بنيران صديقة أثناء الهرب من القاعة.

الذي حدث بعد ذلك الاغتيال هو تشديد القبضة الأمنية، تمثلت في اعتقالات موسعة، شملت كلَّ من أظهر الفرح، ووصل التخبط إلى “اعتقال شخص لأنه ذبح دجاجة، حيث فُسِّر تصرفه أنه احتفالٌ وابتهاجٌ بمقتل الرئيس”، حسب الروايات الواسعة الانتشار، كما ذكر ناصر الريامي في كتابه “زنجبار شخصيات وأحداث”. ومن المثير أنّ بعض العمانيين الذين أيدوا الانقلاب، قد دفعوا الثمن أيضًا، إذ طالهم الاعتقال والتعذيب وكأنهم دفعوا ثمن خيانتهم. ولا يمكن أن ننكر فرح أهالي الضحايا، فقد أعادت عملية القتل تلك فتح ملف المجازر التي ارتكبت في حق الأبرياء، وأجبرت العالم على النظر في تلك الحقبة السوداء من تاريخ الجزيرة.

يبقى السؤال مفتوحًا: هل ما فعله البرواني يُعتبر جريمة أم عدالة؟ في ميزان القانون، هو اغتيال. لكن في ميزان التاريخ، قد يُنظر إليه أنه عدالة ربانية ومقاومة ضد الإبادة، وربما صرخة في وجه نسيان الأحداث المؤسفة والمؤلمة التي تعرّض لها العُمانيون واليمنيون والهنود وحتى الأفارقة أنفسهم. ولا أعتقد أنّ حمود بن محمد البرواني نفذ عمليته تلك تصفيةً للحسابات فقط، - كما ذهب البعض -، وإنما بسبب التراكمات الكثيرة والمجازر الكثيرة التي ارتكبها الانقلابيون، ولو فرضنا أنّ هناك من خطط لذلك، فإنّ البيئة التي نشأ فيها حمود كانت تؤهله لينفذ عملًا انتقاميًّا جريئًا كذلك، وأنا أميل إلى ما كتبه ناصر الريامي في كتابه، الصفحة 152، أنّ “الله سبحانه وتعالى قيَّض للأمة الإسلامية والعربية والزنجبارية، شابًا عربيًّا من أصل عُماني، غيورًا على شرف الأعراض المنتهكة جهارًا نهارًا، دون وازع من دين أو ضمير أو خُلق، ليسقيه كأسًا من كؤوس الذل والمهانة التي طالما سقاها للأبرياء”.

بعد أن سجلتُ مقطع فيديو قصير من أمام شقة البرواني، واصلنا تجوالنا في المدينة الحجرية، وفي ذهني أنّ الاغتيال - وإن كان انتقامًا لقتل والده أو غير ذلك - فإنه لا ينفي أن يكون انتقامًا لأرواح الأبرياء والأعراض المنتهكة، وللأموال التي اغتُصبت بغير وجه حق، وهو رأي الكثيرين دون جدال، “فذلك كان أمل كلِّ من كان في قلبه ذرة من الغيرة والكرامة، ولكن فقدان الكثير منهم للجرأة المطلوبة وخوفهم من التبعات الحتمية، حالت بينهم والتنفيذ”. حسب رأي ناصر الريامي.

واصلنا تجوالنا وأنا أقول لسيف: ما زالت المدينة الحجرية تكشف لنا في كلِّ يوم وكلِّ لحظة سرًا من أسرارها، يا ترى ماذا ينتظرنا؟!

Friday, August 15, 2025

السيدة خولة رمز العطاء وضحية الأسطورة

 زاهر بن حارث المحروقي

أثير:6 أغسطس 2025

في المقال السابق، تحدثتُ عن السيد المحسن حمود بن أحمد البوسعيدي، والأوقاف التي تركها في زنجبار ومكة المكرمة، والتي عكست حسَّه الدينيّ ووعيَه الاجتماعي.

والحديثُ لا يكتمل إلا بتناول سيرة ابنته السيدة خولة بنت حمود البوسعيدي، التي ورثت عنه روح العطاء، وبرزت كواحدة من الشخصيات النسائية المؤثرة في تاريخ الوقف العُماني في كلٍّ من عُمان وزنجبار؛ فهي من أوائل النساء العُمانيات اللاتي أسهمن بأوقاف علمية واجتماعية ذات بُعد إنساني واسع؛ إذ أوقفت مخطوطًا علميًّا بعنوان “الأنوار ومفتاح السرور والأفكار” من تأليف الشيخ عبد الله بن ناصر بن عبد الله الإسماعيلي، وخصصته لطلبة العلم في عام 1274هـ، ويُحفظ هذا المخطوط حاليًّا في مكتبة الشيخ سالم بن حمد الحارثي بالمضيرب.

ومن أبرز الأوقاف التاريخية التي أوقفتها في ولاية بوشر بعُمان، وقف “المربّع” حيث تشير وثائق مؤسسة بوشر الوقفية إلى أنّ هذا الوقف يعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، وقد خُصص ريعه للفقراء والأيتام، بالإضافة إلى دعم الأنشطة الدينية والتعليمية.

اعتمدت السيدة خولة في تنفيذ وصيتها في عُمان على الشيخ العالِم سعيد بن ناصر الكندي، وكلّفته بشراء أراضٍ تُروى من الأفلاج لضمان استدامة الوقف واستمرارية الإنتاج الزراعي.

وتمتد أوقافُها إلى عقارات منتجة في بوشر، هذا عدا عن ممتلكاتها التي أوقفتها في زنجبار.

اشتهرت السيدة خولة بزراعتها أشجار المانجو (الأمبا) على جانبَيْ أحد الطرق، في منطقة “بونجي” جنوب المدينة الحجرية في زنجبار، لمسافة زادت على ثلاثة كيلومترات، وفكرةُ زراعة هذه الأشجار تعود إليها، وأنفقت عليها من حُرِّ مالها، وقد أحضر السلطان برغش بن سعيد (خالها) خبيرًا مختصًا في البستنة من تركيا لتخطيطها وزراعتها، هو محمد الأمين الذي التقى به السيد حمود بن أحمد البوسعيدي في مكة المكرمة، وما تزال هذه الأشجار شامخة إلى يومنا هذا، تؤتي أكلها كلَّ موسم، وأسهم المهندس التركي أيضًا مساهمة كبيرة في تطوير الزراعة في تلك المنطقة.

ونحن عائدون من منطقة “كيزمكازي”، بعد أن زرنا أقدم مسجد هناك، قطعنا الكيلومترات الثلاثة، تحيط بنا الأشجار على جانبَيْ الطريق، والتي وصل عددها إلى 360 شجرة، في كلِّ جانب 180 شجرة، كان النقاش مع رفيق الرحلة سيف المحروقي يدور حول الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية لهذه الأشجار، التي تبدو شاهدةً صامتةً على حكايات الزمن، وتحدّثنا عن ضرورة الحفاظ على ذاكرة التاريخ بعيدًا عن التشويه؛ فما نُسج حول السيدة خولة من القصص، فيه من الافتراء ما يجعل شعر الرأس يقف حتى للصلع أمثالنا، إذ إنه من أجل تشويه سمعة العُمانيين لجأ الانقلابيون إلى تلفيق تهم لهم لا يصدّقها عاقل، فادّعوا أنّ السيدة خولة كانت تزرع شجرة مانجو كلَّ ليلة، بعد أن توقِع رجلًا في حبائلها وتقتله وتدفن جمجمته، ثم تضع فوقها فسيلة شجرة مانجو، ويبدو أنّ مؤلف هذه الفِرْية متأثرٌ كثيرًا بحكايات ألف ليلة وليلة، التي جعلت الملك شهريار يقتل امرأة كلّ ليلة، قبل أن تأتي شهرزاد وتشاغله بحكاياتها. الفرق أنّ شهريار قتل ألف امرأة، بينما بلغ عدد القتلى المزعومين لأسطورة السيدة خولة - حاشاها عن ذلك - ثلاثمائة وستين فقط، على عدد الأشجار المزروعة.

عمومًا مثل هذه الخرافات سمعنا عنها في أكثر من مَعلم عُماني في زنجبار، فما قيل هنا يشبه تمامًا ما قيل عن بيت العجائب، بأنه بُني على جماجم البشر، وحاليًّا بيت العجائب في الترميم، وتأكد بطلان تلك الأكاذيب، ولم ينبس أحدُهم ببنت شفة.

بيت العجائب

والمؤسف أنّ هذا التشويه لحق بالسيدة خولة التي لها أفضال على زنجبار حتى يومنا هذا.

وإذا ما حاولنا إخضاع تلك الادعاءات لشيء من المنطق، لوجدناها تحمل بذرة كذبها بنفسها، إذ إنها تفتقر إلى أيِّ مصدر تاريخي موثوق. كما أنّ القصة تغيب تمامًا عن أيِّ مصدر معاصر لعهد السيدة خولة، سواء في السجلات التاريخية، أو في شهادات الرحالة، أو وثائق الأوقاف، أو الأرشيف البريطاني، ولا يوجد اسم شخص واحد قيل بأنه قتل؛ مَّا يؤكد أنها أُضيفت لاحقًا؛ إما لتشويه متعمد من الانقلابيين في زنجبار لكلِّ ما هو عُماني، وإما لإضفاء هالة أسطورية على مَعلم من معالم الجزيرة (وأعني به هذا الطريق المسيّج بأشجار المانجو) تسهم في جذب السياح إليه.

قلتُ لسيف - ونحن نقطع ذلك الشارع في يوم ماطر - إنّ الترتيب الهندسي المنتظم لهذه الأشجار، يُشير بوضوح إلى مشروع زراعي مخطط، وليس إلى تصرف فردي شخصي؛ مّا يعزز بطلان رواية الإفك تلك ويؤكد أنها متعمدة، ولا تليق بشخصية بحجم السيدة خولة بنت السيد حمود البوسعيدي وتاريخِها ناصع البياض.

وعدا عن اهتمامها بالزراعة فقد اشتهرت السيدة خولة بابتكار وحدة قياس محلية في زنجبار، تُعرف باسم “بيشي يا بي خولة”، وهي أكبر من الوحدة التقليدية، خُصصت لوزن القرنفل. ما يميّز هذه المبادرة أنها جاءت لتعكس رؤية إنسانية عادلة؛ فقد استُخدمت هذه الوحدة لضمان “دفع أجور منصفة لعمال مزرعتها” بما يتناسب مع كمية المحصول المجمع، كما يشير الأستاذ رياض بن عبد الله البوسعيدي في كتابه “تاريخ زنجبار المصور 1800–1964” (صـ64). وهذا الموقف يبرهن على إحساسها بالمسؤولية تجاه عمالها.

بقايا بيت السيدة خولة

تركت السيدة خولة منزلًا كبيرًا في مزرعتها في “بونجي”، وكان يعيش معها عددٌ كبيرٌ من العاملين في المنزل والمزرعة مع عائلاتهم؛ وأغلبُهم كانوا من الذين أعتقهم والدُها السيد حمود من حُرِّ ماله، وهم لم يكونوا عبيده، وقد أوصت السيدة خولة بأن يعيش كلُّ من يعمل في البيت والمزرعة في المنزل نفسه، وأن يتواصل إنفاق دخل المزرعة لهم ولنسْلِهم، وهذا ما حدث بعد وفاتها.

سألني سيف: إذًا، ماذا تبقى من مهمتنا؟

قلتُ: نحن بحاجة إلى إعادة قراءة تاريخ السيدة خولة وأمثالها، وتقديمه للناس من خلال حقائق موثقة، وبعيون تحمل احترامًا لموروثنا العُماني في زنجبار.

سيف: بعد كلِّ هذا البحث والزيارة، كيف ترى دور السيدة خولة الآن؟

قلت: إنّها شخصية تستحق التقدير والاحترام - مثل أبيها تمامًا - لأنها رمز للعطاء النسائي والوقف الاجتماعي في عُمان وزنجبار، ويجب أن نُعيد سرد التاريخ بدقة، لنحافظ على هذا الإرث العظيم للأجيال القادمة، بعيدًا عن أصحاب الأهواء. وأردفتُ: حكاية تشويه السمعة هذه، يبدو أنّ الهدف منها كان تبريرًا للاستيلاء على أموالها دون وجه حق، كما حصل مع بيوت وأملاك ومزارع العُمانيين بعد الانقلاب، لكن الغريب أنّ السيدة خولة ما تزال تموِّل خزينة زنجبار حتى الآن، عن طريق السياح الذين يزورون بيتها وتلك الأشجار، وهي فعلًا مفارقة عجيبة.

في الحقيقة، إنّ السيدة خولة ليست الوحيدة التي اشتغلت بالوقف؛ فهناك نماذج عُمانية نسائية مشرِّفة في كلٍّ من عُمان وزنجبار أوقفت من حُر مالها في المساجد والمدارس وغيرها، وهي نماذج تستحق الكتابة عنها ونفض الغبار عن كرمها وعطائها اللامحدود.

وجهٌ آخر للسيد حمود البوسعيدي

 زاهر بن حارث المحروقي

أثير: 13 أغسطس 2025

إذا كان السيد حمود بن أحمد البوسعيدي قد اشتهر بأوقافه الخيرية، فإنّ هناك جانبًا آخر في حياته لم يشتهر كما اشتهرت أعمالُه الخيرية، وهو كتابته لأدب الرحلات، ولم يكن الوحيد الذي تناول هذا الأدب، فهناك آخرون كتبوا مشاهداتهم ورحلاتهم من زنجبار إلى الحجاز والشام ومصر وإسطنبول وأوروبا وغيرها من المدن والأمصار، مثل زاهر بن سعيد الذي ألف كتاب “تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجبار” عن رحلة السلطان برغش بن سعيد إلى بريطانيا، والشيخ محمد بن علي البرواني الذي ألف كتاب “رحلة أبي الحارث”، وصدر أول مرة في زنجبار في عام 1915م، لخّص فيه تجربة رحلته إلى مصر والشام، ولمشاهداته لما وقعت عليه عينه هناك، بأسلوب وصفي رقيق العبارة، وهو ما سبق وأن فعله السيد حمود البوسعيدي في كتابه “الدر المنظوم في ذكر محاسن الأمصار والرسوم” الصادر عن وزارة التراث والثقافة بتقديم وتحقيق الدكتور محمد المحروقي في عام 2006م.

رافق السيد حمود السلطانَ برغش بن سعيد سلطان زنجبار إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج، وذلك ابتداءً من يوم 26 شوال من عام 1288 هجرية - الثامن من يناير عام 1872م، وهدفُ الرحلة - كما يؤكد الكاتب - هو إحياء شعيرة السياحة التي هي «من سنن الأنبياء والسادة الأتقياء، وفيها تضرب الأمثال والعبر».

السيد برغش

يشير المؤلف إلى أنه بعد سفر ثمانية عشر يومًا، أي في 14 من ذي القعدة وصلوا إلى ميناء جدة، ثم منها إلى مكة المكرمة لأداء شعيرة الحج، ثم سافر السلطان برغش إلى المدينة المنوّرة لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، عائدًا إلى جدة فزنجبار، ويفترق هنا الاثنان إذ يبقى السيد حمود في مكة المكرمة «مجاورًا لبيت الله الحرام وزمزم والمقام»، ثم يزور مدينة الطائف، ليبدأ بعد ذلك رحلة أخرى إلى بلدان تقع ضمن نفوذ الدولة العثمانية هي مصر التي يزور فيها القاهرة والإسكندرية وبورسعيد، وما كان يعرف بأرض الشام، زائرًا دمشق والقدس وبيروت.

ويكشف الكتاب عن إعجاب السيد حمود البوسعيدي بما رأى من مظاهر الحياة العصرية في الأماكن التي زارها ممّا يتصل بالصناعة والاتصالات والنقل والقصور والحدائق والحياة العلمية الزاهرة، مقارنًا كلّ مشاهداته بالبيئة التي قدِم منها، وهي زنجبار، ولا يخفى إعجابه بما يشاهده، فيتحدّثُ مثلًا عن مطبعة الكتب في القاهرة، وأنّ بها عشرة من العلماء لتصحيح الكتب، ويتحدّث عن صناعة الورق وطريقتي الطبع المختلفتين بالحجر والرصاص. كما أنه يتحدّث عن “كرخانة السراج” وهي المولدات الكهربائية الكبيرة التي أدهشه كيف أنها تشعل المصابيح في البيوت والطرقات. أما في دمشق فتستوقفه آلة صب الحديد فيقول: «ورأينا فيها كارخانات تعمل الحديد وآلة مراكب الدخان والكراكات التي تحفر البحر، والمحل الذي يصلحون فيه المراكب، وفيها يصبون الحديد مثل الرصاص، وعندهم آلات تقطع الحديد وتبرمه وتسحله مثل الشمع ليس مثل الخشب، بل الخشب أقوى منه وهو بارد بلا إدخال النار، وشيء من الآلات تطرُق الحديد وتشرخ الأخشاب وتقطعه للنجار، وهي تعمل بالنار، وهذه الكرخانات للفرنسيس». ويقصد الفرنسيين.

يافا القديمة

وفي الشام يصل يافا أولًا ويروقه تنظيمها إذ هي: «متفردة بشكلها فوق جبل. والبيوت فوق بعضها البعض، وشيء من الطرق يوصل للغرف العالية. وبنيانها أغلبه بالحجارة المنحوتة». ويشير إلى جودة فواكهها وإلى سكانها من النصارى الذين أثنى كثيرًا على أقوالهم وأفعالهم الموافقة للمسلمين، ويتعرف هناك على الفرق بين القسيسين والرهبان؛ “فالقسيسون يخالطون الناس في الكنائس وغيرها، والرهبان ينقطعون في الصوامع ولا يخالطون الناس”. من يافا يسافر على الخيل إلى بيت المقدس، فيجدها مدينة كبيرة عليها سور وأرضها غير مستوية، وبيوتها قديمة، وأغلب سكانها نصارى ويهود، ويقدِّم وصفًا دقيقًا للمسجد الأقصى، فيقول: «وهو مسجد عظيم لا مثيل له، يعجز الوصف عن وصفه. وفيه محاريب الأنبياء عليهم السلام. ونزلنا أسفله ورأينا بناءه القديم الذي بناه النبيُّ سليمان بن داوود عليهما السلام، وهو بالحجارة. والبناء الثاني وضع على أساسه السابق، وكلُ محراب في محله على أساسه»، ويستطرد في وصف جمال بنائه وفخامته. كما أنه يقدِّم وصفًا آخر عن كنيسة القيامة وما بها من زينة وزخرف وأواني ذهب وفضة وتماثيل، وينقل ما رأى بأسلوبه الفريد: «وزعْمُهم (أي النصارى) أنه الموضع الذي قُتل فيه سيدنا عيسى عليه السلام، ما تركوا شيئًا من ذلك حتى الدم مصور، وموضع ما دفن صورة قبر على حجر مثل الكهرب وعليه شيء كثير مما ذكرته. وصورة سيدتنا مريم في صباها وعليها من اللباس والحلي والجواهر ما لا يوصف. الحاصل أنّ العقل لا يسع ما رأينا ويعجز الواصف عن وصفه».

بيت المقدس قديما

ومن القدس يذهب إلى بيروت التي لا يقيم بها طويلًا ويصفها وصفًا سريعًا، فهي «مدينة طيبة فيها من المأكل الفاخر من الفواكه وغيرها شيء كثير. وأكثر سكانها نصارى ويهود، وبقدر الربع المسلمون فيها، والثلاثة الأرباع كفرة. وفيها جملة أسواق وبيوت فاخرة وبساتين، وأغلب طرقها مفروشة بالحجر. الحاصل أنها بلد حسنة وهواؤها صحيح»، ويبدو أنّ بيروت لم تكن سوى محطة في طريقه إلى دمشق؛ ففي عربة تجرها الخيل، يسميها “الكروسة”، سافر السيد حمود إلى دمشق، فوجدها «مدينة عظيمة، وفيها جملة أسواق ومساجد وحمامات، شيء كثير. وفي أسواقها شيء كثير من بضائع وغيرها من المآكل والمشارب والفواكه الفاخرة شيء لا يوصف. وحولها البساتين، والجبل دائر عليها محدق بها كلجّة البحر. ويدور الجبل حول البساتين كالسور. وتسقيها سبعة أنهار كبار وتتفرق على جملة أنهار أصغر. وما رأيتُ بلدًا مثلها، كثيرة المياه في كلِّ بيت بركة أو بركتان»، ثم يذكر قِدم البلد والجامع الأموي فيها، ويقدِّم وصفًا تفصيليًّا عن بنائه، ويصف دمشق أنها “جنة الدنيا”.

دمشق قديما

ومن الشام يعود المؤلف إلى مصر فالحجاز حيث يبلغ جدة في الأول من شعبان سنة 1289 ه‍، الموافق 4 أكتوبر 1872م، ومنها إلى مكة المكرمة حيث ينتهي سرد أحداث رحلته.

يقول الدكتور محمد المحروقي في مقدمة الكتاب، بعد أن اختصر مراحل الرحلة: “وعندما نحاول التعرف على شخصية الكاتب من خلال رحلته فأول وأبرز سمة هي سمة الالتزام الديني، فبين أيدينا نص لفقيه وقور ممتثل لأوامر الشريعة فيما يأتي ويترك، وقد رأينا أنّ أهمّ سبب لرحلته هذه كان سببًا دينيًّا، إذ هو «إحياء سُنّة من سنن الأنبياء والسادة الأتقياء»، كما قال. ويصف المحروقي الرحلة بأنها سياحة روحية لكسب المعرفة وتعزيز الشعور الديني، “ولذا فإنه يهتم كثيرًا بزيارة قبور الأنبياء عليهم السلام والصحابة والأولياء الكرام، ذاكرًا مشاهداته بتفصيل محب في ثنايا عرضه لخط رحلته. ودلالة على الأهمية المركزية لهذه المزارات نجده يعود ويفرد لها فصلًا خاصًا يصف فيها أماكنها تسهيلًا للمطالع للكتاب، وعندما لا يتمكن من الوصول إلى بعضها في الشام، نجده يعتذر بشدة عن تقصير اضطر إليه بسبب عارض المواصلات، يقول: «وما بين بيروت ودمشق يذكرون قبور أنبياء منهم إلياس وشيث عليهما السلام، وهما في ناحية من الطريق، هكذا أخبرونا لأننا مررنا بعيدًا عنها، ولم يمكن لنا الوصول إليها، ولأجل ذلك صحّ لنا مانع، وقرأنا لهم الفاتحة من بعد، ونرجو من الله القبول».

بيروت في نهاية القرن التاسع عشر

في كتابه كثيرًا ما قارن السيد حمود بين مشاهداته وواقع زنجبار؛ ومن ذلك وصفه لمدينة القاهرة كما بدت له من فوق تلة القلعة وعظمتها وكثرة بيوتها، “وأن زنجبار في السعة والقيمة عن محلة واحدة في مصر (القاهرة). ويصف زيارته للأزهر، ويذكر أنّ عدد المعلمين به كان 200 تقريبًا، وعدد الطلبة 5800 طالب، ويذكر المنح التي تقدِّمها الدولة للمتعلمين وعدد الكتب الكثيرة في الجامع، ويقدِّرها بنحو 200 صندوق، وأنّ عدد المساجد في القاهرة ثلاثة آلاف مسجد.

يبدو أنّ السيد حمود - في كلِّ مقارناته - كان يوجِّه رسالة مباشرة إلى السلطان برغش بن سعيد سلطان زنجبار، لنقل مثل ذلك التطور إلى بلده، وبالفعل فإنّ السلطان برغش - عمومًا - له الفضل الكبير في تطوير زنجبار عمرانيًّا وثقافيًّا، وأدخل إليها كلَّ التطور، فلا عجب أن يصفه الشيخ سعيد بن علي المغيري في كتابه “جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار” بأنه “آخر سلاطين زنجبار معنىً واسمًا” ص 327.

لقد أظهر كتاب “الدر المنظور في ذكر محاسن الأمصار والرسوم” للسيد حمود بن أحمد البوسعيدي وجهًا آخر له؛ ففي هذه الرحلة التي جاور فيها الحرم، وأوقف من حُرِّ ماله بيتَيْ الرباط الكبير والصغير لفقراء الحُجّاج من عُمان وزنجبار، واشتهر بأوقافه الكثيرة، إلا أنّه في هذا الكتاب يظهر إنسانًا مثقفًا محللًا وملمًّا بالثقافات والأديان الأخرى، وربما ما ميّز الكتاب - رغم لغته البسيطة التي يفهمها العامة - هي تلك الرسائل التي كان يوجهها للسلطان برغش بأسلوب غير مباشر كما سبقت الإشارة.

Wednesday, August 6, 2025

في حضرة السيد المحسن الجليل حمود بن أحمد البوسعيدي

 زاهر بن حارث المحروقي

أثير: 30 يوليو 2025

عود أول تعرّفي بالسيد حمود بن أحمد البوسعيدي إلى الأول من مايو 1988م، عندما قرأتُ كتاب “جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار” للشيخ سعيد بن علي المغيري، الصادر عن وزارة التراث القومي والثقافة قبل ذلك بسنتين تقريبًا.

وما لفت انتباهي وشدّني لشخصية السيد حمود هو ما كتبه المغيري: “إنّ أحسن ما ينبغي لنا أن نزيِّن به صفحات هذا التاريخ هو ذكر السيد المحسن الجليل حمود بن أحمد بن سيف البوسعيدي، ويناسب أن نخلد ذكره بجوار ذكرى مآثر هذا السلطان العظيم، رب المحامد والمكارم، السيد برغش بن سعيد. وحيث إنّ السيد برغش هو نادرة سلاطين زنجبار فكذلك السيد حمود بن أحمد نادرة رعاياه من عرب زنجبار. فكان - رحمه الله - أفضل المتقدمين والمتأخرين من العرب”.

ظللتُ فترةً من الوقت أخلط بين السيد حمود بن أحمد هذا، والسيد حمود بن محمد البوسعيدي الذي نصبه الإنجليز سلطانًا على زنجبار أواخر القرن التاسع عشر، بعد حادثة السيد خالد بن برغش والتي وقعت في 25 أغسطس 1896م.

قرأتُ دراسةً أعدّها الباحثُ سلطان بن مبارك بن حمد الشيباني تحت عنوان: “حَتَّى لا نَنْسَى.. وَقْفِيَّة بَيْتِ الرِّباط العُمَانِيّ”، نشرها يوم الثلاثاء 10 فبراير 2009م؛ مّا زاد الاهتمام عندي لمتابعة تاريخ وقصة السيد حمود؛ لذا كنتُ حريصًا على أداء الصلاة في مسجده في ماليندي بزنجبار، وهو واحدٌ من ثلاثة مساجد تركها في الجزيرة.

أوقف السيد حمود أوقافًا طائلة من أمواله في سبيل البر والرحمة؛ منها بيت الرباط الذي في مكة المشرّفة، وهو بيتٌ سكنيّ اشتراه من حُر ماله، وأوقفه لإيواء الحُجّاج والمعتمرين الفقراء القادمين من عُمَان وزنجبار وغيرها، وأصله دارٌ تمَلَّكها بالشراء الشرعيّ، ثم حوّلها إلى وقفيّة موثقة بالمحكمة الشرعية في مكة المكرمة، وضمّ إليها دارًا أخرى في السَّنة نفسها عُرفت ببيت الرباط الثاني، تمييزًا لها عن بيت الرباط الأول، وعَيَّن لهما أوقافًا معلومة لصيانتهما وعمارتهما وخدمة نُزلائهما على مدار السَّنة.

وقصة وقف بيت الرباط تعود إلى خروج السيد حمود بن أحمد من زنجبار يوم 8 يناير 1872م لأداء مناسك الحج برفقة السلطان برغش بن سعيد بن سلطان سلطان زنجبار، وبعد عودة السلطان من مكة تخلَّف عنه السيد حمود فأقام بها مجاورًا للبيت الحرام مدة تزيد على ثلاثة أشهر، اشترى أثناءها دار بيت الرباط الأول في أبريل 1872م، ثم بدأ رحلته التي دوّنها في كتابه “الدرّ المنظوم في ذكر مَحَاسن الأمصار والرُّسُوم”، في أقطار مصر والشام حتى عاد إلى مكة المكرمة بتاريخ 4 أكتوبر 1872م، ومكث فيها إلى موسم الحج، وفي هذه الفترة اشترى دار بيت الرباط الثاني.

بيت الرباط الأول (هو المعروف سابقًا ببيت الرباط الكبير) يقع قريبًا من الحرم المكي الشريف، حيث لا تبعد المسافة بينهما أكثر من ‏‏300 متر. أما بيت الرباط الثاني (وهو المعروف سابقًا ببيت الرباط الصغير) يقع أبعد عن الحرم المكي الشريف، وبينه وبيت الرباط الأول مسافة تقدر ‏بـ 250 مترًا، ثم أضاف السيّد حمود بتاريخ 16 فبراير 1873م بعضَ الموارد لهذا الوقف، وجعل غلتها لعمارته وعمارة بيت الرباط الأول، ولتوفير مياهٍ في صهاريج تكفي أهل الرباط من الحجّاج لشربهم وطبيخهم وغسيلهم، وأوقف كِتابًا في الحجّ لأهل بيت الرباط يُطالعون فيه.

يقول الشيخ سلطان الشيباني إنّ وصية السيد حمود بن أحمد - الذي رحل عن الدنيا بعد 9 سنوات من وقفيته - نصّت على تخصيص بعض عوائد ممتلكاته في زنجبار لصالح نزلاء بيت الرباط وسائر فقراء المسلمين بمكة المكرمة. كما تعدّدت وصايا كثير من العُمانيين من بعده للإسهام في خدمة بيت الرباط، وأنا أكتب هذه السطور فإنّه قد مرّ على وقف بيتَيْ الرباط في مكة المكرمة 153 عامًا.

وإذا كان السيد حمود اشتهر ببنائه بيتَيْ الرباط، فإنّ له - علاوة على ذلك - أوقافًا كثيرة أوقفها في زنجبار، لكن بعضها ضاع بعد الانقلاب على حُكم العُمانيين.

وقد أخبرني الشيخ عبد الله بن حميد البحري إمام مسجد السيد حمود في ماليندي بزنجبار أنّ الوثائق المتعلقة ببعض هذه الأوقاف أتلفت من قبل الانقلابيين، وأنه علم مؤخرًا أنّ السيد حمود أوقف ثلاثة عشر بيتًا في المدينة الحجرية لصالح مسجده لتعليم الناس العلوم الإسلامية والعربية، وتذكر بعض الوثائق أنّ السيد حمود ترك أيضًا بيتًا للرباط في زنجبار، ذلك لم يثبت حتى الآن إلا إذا كانت الوثائق قد أتلفت أيضًا.

شجّع السيد حمود حركة التعليم في زنجبار، وأوقف لها بعض الأموال، وعندما بنى مسجده جعل له وقفًا يُنفق منه لطلبة العلم والمعلمين والقائمين فيه، وأوقف كتبًا يستفيد منها طلبة العلم، منها مؤلفات الشيخ ناصر أبي نبهان الخروصي، ومن هنا أذكر أننا كنا - أنا وسيف بن سعود المحروقي وسليمان بن سالم المحروقي - خارج مسجد السيد حمود فإذا بفلسطيني يقيم في جدة يسألنا عن تاريخ المسجد، لأنه حسب قوله: “أحسستُ بروحانيات عجيبة وأنا أصلي فيه الفجر”. قلتُ في نفسي إنه الإخلاص في العمل عندما نتوجّه به خالصًا لله عزّ وجل.

من الأوقاف التي تركها السيد حمود في زنجبار “مبنى بيت القطار” وهو مبنى تاريخي حضاري، يقع على واجهة “سوق درجاني”، وكان وما يزال من أكبر المباني في السوق، وهو على شكل مستطيل وطويل على هيئة قطار، لذا سمي بهذه التسمية.

شُيّد المبنى في عهد السلطان برغش بن سعيد على نفقة السيد حمود، وصمّمه العُماني محمد بن سليمان الخروصي، وجعله السيد حمود وقفًا لخدمة أعمال مشروع تزويد المياه من منطقة مرتفعة تسمى “موانيانيا” الكائنة في “بوبوبو” إلى المدينة الحجرية في “أنغوجا”.

حقيقةً، إنّ شخصية السيد المحسن حمود بن أحمد بن سيف البوسعيدي شخصية نادرة، فهو حفيد الإمام أحمد بن سعيد، وعمته تكون والدة السيد سعيد بن سلطان، وتزوج السيدة زمزم شقيقة السلطان برغش، وممّا يُذكر أنه أعتق في حياته ألفًا ومائتي مملوكًا، في زمن لم يكن فيه امتلاك الأرقاء أمرًا منبوذًا، وهؤلاء الأرقاء الذين أعتقهم لم يكونوا من أرقائه، وإنما كان يشتريهم من حُرّ ماله ليعتقهم في سبيل الله.

لقد زهد السيد حمود في الدنيا آخر أيامه، ولازم سكنى “بوبوبو”، وبالأخص البيت الذي كان بالقرب من مسجده، ولزم المحراب إلى أن توفاه الله تعالى في اليوم العاشر من ربيع الأول سنة 1298هـ، 1880 ميلادي، ودُفن بجوار مسجده.

وقد زرنا - أنا وسيف - المسجد وقرأنا الفاتحة على قبره، وكان برفقتنا مرافقنا محمد بن أحمد الفلاحي، وحكى لنا جماعةُ المسجد أنّ المسجد يفتقر إلى الماء، ويرجون المساعدة في ذلك، لأنّ الناس ابتعدوا عنه.

الأخبار عن السيد حمود في كتب التاريخ العُماني قليلة، لكن يكفي أنّ أعماله تشهد له، وأراني أعود إلى كلام الشيخ سعيد بن علي المغيري في كتابه “جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار” إذ يقول: “يحق لعرب زنجبار أن يحتفلوا بذكرى هذا السيد المحسن الجليل في دار جمعيتهم في كلِّ عام، ويذكروا أعماله الجليلة ومآثره الحسنة ومناقبه الجميلة؛ وإذا قَدّرَت الأمةُ أعمال رجالها تقدّمت إلى الأمام، فعسى ولعل قلوب البقية الباقية تنتعش إلى الاقتداء الحسن بأولئك السادة الكرام في الأعمال الجليلة، حتى يبلغوا درجة مَن تقدمهم مِن رجال الفضل والسؤدد والمكارم، وينالوا شكر الأمة لهم، وهكذا تفعل الأمم الراقية”. نعم إنها لحقيقة، فهكذا تفعل الأمم الراقية