Wednesday, August 6, 2025

في حضرة السيد المحسن الجليل حمود بن أحمد البوسعيدي

 زاهر بن حارث المحروقي

أثير: 30 يوليو 2025

عود أول تعرّفي بالسيد حمود بن أحمد البوسعيدي إلى الأول من مايو 1988م، عندما قرأتُ كتاب “جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار” للشيخ سعيد بن علي المغيري، الصادر عن وزارة التراث القومي والثقافة قبل ذلك بسنتين تقريبًا.

وما لفت انتباهي وشدّني لشخصية السيد حمود هو ما كتبه المغيري: “إنّ أحسن ما ينبغي لنا أن نزيِّن به صفحات هذا التاريخ هو ذكر السيد المحسن الجليل حمود بن أحمد بن سيف البوسعيدي، ويناسب أن نخلد ذكره بجوار ذكرى مآثر هذا السلطان العظيم، رب المحامد والمكارم، السيد برغش بن سعيد. وحيث إنّ السيد برغش هو نادرة سلاطين زنجبار فكذلك السيد حمود بن أحمد نادرة رعاياه من عرب زنجبار. فكان - رحمه الله - أفضل المتقدمين والمتأخرين من العرب”.

ظللتُ فترةً من الوقت أخلط بين السيد حمود بن أحمد هذا، والسيد حمود بن محمد البوسعيدي الذي نصبه الإنجليز سلطانًا على زنجبار أواخر القرن التاسع عشر، بعد حادثة السيد خالد بن برغش والتي وقعت في 25 أغسطس 1896م.

قرأتُ دراسةً أعدّها الباحثُ سلطان بن مبارك بن حمد الشيباني تحت عنوان: “حَتَّى لا نَنْسَى.. وَقْفِيَّة بَيْتِ الرِّباط العُمَانِيّ”، نشرها يوم الثلاثاء 10 فبراير 2009م؛ مّا زاد الاهتمام عندي لمتابعة تاريخ وقصة السيد حمود؛ لذا كنتُ حريصًا على أداء الصلاة في مسجده في ماليندي بزنجبار، وهو واحدٌ من ثلاثة مساجد تركها في الجزيرة.

أوقف السيد حمود أوقافًا طائلة من أمواله في سبيل البر والرحمة؛ منها بيت الرباط الذي في مكة المشرّفة، وهو بيتٌ سكنيّ اشتراه من حُر ماله، وأوقفه لإيواء الحُجّاج والمعتمرين الفقراء القادمين من عُمَان وزنجبار وغيرها، وأصله دارٌ تمَلَّكها بالشراء الشرعيّ، ثم حوّلها إلى وقفيّة موثقة بالمحكمة الشرعية في مكة المكرمة، وضمّ إليها دارًا أخرى في السَّنة نفسها عُرفت ببيت الرباط الثاني، تمييزًا لها عن بيت الرباط الأول، وعَيَّن لهما أوقافًا معلومة لصيانتهما وعمارتهما وخدمة نُزلائهما على مدار السَّنة.

وقصة وقف بيت الرباط تعود إلى خروج السيد حمود بن أحمد من زنجبار يوم 8 يناير 1872م لأداء مناسك الحج برفقة السلطان برغش بن سعيد بن سلطان سلطان زنجبار، وبعد عودة السلطان من مكة تخلَّف عنه السيد حمود فأقام بها مجاورًا للبيت الحرام مدة تزيد على ثلاثة أشهر، اشترى أثناءها دار بيت الرباط الأول في أبريل 1872م، ثم بدأ رحلته التي دوّنها في كتابه “الدرّ المنظوم في ذكر مَحَاسن الأمصار والرُّسُوم”، في أقطار مصر والشام حتى عاد إلى مكة المكرمة بتاريخ 4 أكتوبر 1872م، ومكث فيها إلى موسم الحج، وفي هذه الفترة اشترى دار بيت الرباط الثاني.

بيت الرباط الأول (هو المعروف سابقًا ببيت الرباط الكبير) يقع قريبًا من الحرم المكي الشريف، حيث لا تبعد المسافة بينهما أكثر من ‏‏300 متر. أما بيت الرباط الثاني (وهو المعروف سابقًا ببيت الرباط الصغير) يقع أبعد عن الحرم المكي الشريف، وبينه وبيت الرباط الأول مسافة تقدر ‏بـ 250 مترًا، ثم أضاف السيّد حمود بتاريخ 16 فبراير 1873م بعضَ الموارد لهذا الوقف، وجعل غلتها لعمارته وعمارة بيت الرباط الأول، ولتوفير مياهٍ في صهاريج تكفي أهل الرباط من الحجّاج لشربهم وطبيخهم وغسيلهم، وأوقف كِتابًا في الحجّ لأهل بيت الرباط يُطالعون فيه.

يقول الشيخ سلطان الشيباني إنّ وصية السيد حمود بن أحمد - الذي رحل عن الدنيا بعد 9 سنوات من وقفيته - نصّت على تخصيص بعض عوائد ممتلكاته في زنجبار لصالح نزلاء بيت الرباط وسائر فقراء المسلمين بمكة المكرمة. كما تعدّدت وصايا كثير من العُمانيين من بعده للإسهام في خدمة بيت الرباط، وأنا أكتب هذه السطور فإنّه قد مرّ على وقف بيتَيْ الرباط في مكة المكرمة 153 عامًا.

وإذا كان السيد حمود اشتهر ببنائه بيتَيْ الرباط، فإنّ له - علاوة على ذلك - أوقافًا كثيرة أوقفها في زنجبار، لكن بعضها ضاع بعد الانقلاب على حُكم العُمانيين.

وقد أخبرني الشيخ عبد الله بن حميد البحري إمام مسجد السيد حمود في ماليندي بزنجبار أنّ الوثائق المتعلقة ببعض هذه الأوقاف أتلفت من قبل الانقلابيين، وأنه علم مؤخرًا أنّ السيد حمود أوقف ثلاثة عشر بيتًا في المدينة الحجرية لصالح مسجده لتعليم الناس العلوم الإسلامية والعربية، وتذكر بعض الوثائق أنّ السيد حمود ترك أيضًا بيتًا للرباط في زنجبار، ذلك لم يثبت حتى الآن إلا إذا كانت الوثائق قد أتلفت أيضًا.

شجّع السيد حمود حركة التعليم في زنجبار، وأوقف لها بعض الأموال، وعندما بنى مسجده جعل له وقفًا يُنفق منه لطلبة العلم والمعلمين والقائمين فيه، وأوقف كتبًا يستفيد منها طلبة العلم، منها مؤلفات الشيخ ناصر أبي نبهان الخروصي، ومن هنا أذكر أننا كنا - أنا وسيف بن سعود المحروقي وسليمان بن سالم المحروقي - خارج مسجد السيد حمود فإذا بفلسطيني يقيم في جدة يسألنا عن تاريخ المسجد، لأنه حسب قوله: “أحسستُ بروحانيات عجيبة وأنا أصلي فيه الفجر”. قلتُ في نفسي إنه الإخلاص في العمل عندما نتوجّه به خالصًا لله عزّ وجل.

من الأوقاف التي تركها السيد حمود في زنجبار “مبنى بيت القطار” وهو مبنى تاريخي حضاري، يقع على واجهة “سوق درجاني”، وكان وما يزال من أكبر المباني في السوق، وهو على شكل مستطيل وطويل على هيئة قطار، لذا سمي بهذه التسمية.

شُيّد المبنى في عهد السلطان برغش بن سعيد على نفقة السيد حمود، وصمّمه العُماني محمد بن سليمان الخروصي، وجعله السيد حمود وقفًا لخدمة أعمال مشروع تزويد المياه من منطقة مرتفعة تسمى “موانيانيا” الكائنة في “بوبوبو” إلى المدينة الحجرية في “أنغوجا”.

حقيقةً، إنّ شخصية السيد المحسن حمود بن أحمد بن سيف البوسعيدي شخصية نادرة، فهو حفيد الإمام أحمد بن سعيد، وعمته تكون والدة السيد سعيد بن سلطان، وتزوج السيدة زمزم شقيقة السلطان برغش، وممّا يُذكر أنه أعتق في حياته ألفًا ومائتي مملوكًا، في زمن لم يكن فيه امتلاك الأرقاء أمرًا منبوذًا، وهؤلاء الأرقاء الذين أعتقهم لم يكونوا من أرقائه، وإنما كان يشتريهم من حُرّ ماله ليعتقهم في سبيل الله.

لقد زهد السيد حمود في الدنيا آخر أيامه، ولازم سكنى “بوبوبو”، وبالأخص البيت الذي كان بالقرب من مسجده، ولزم المحراب إلى أن توفاه الله تعالى في اليوم العاشر من ربيع الأول سنة 1298هـ، 1880 ميلادي، ودُفن بجوار مسجده.

وقد زرنا - أنا وسيف - المسجد وقرأنا الفاتحة على قبره، وكان برفقتنا مرافقنا محمد بن أحمد الفلاحي، وحكى لنا جماعةُ المسجد أنّ المسجد يفتقر إلى الماء، ويرجون المساعدة في ذلك، لأنّ الناس ابتعدوا عنه.

الأخبار عن السيد حمود في كتب التاريخ العُماني قليلة، لكن يكفي أنّ أعماله تشهد له، وأراني أعود إلى كلام الشيخ سعيد بن علي المغيري في كتابه “جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار” إذ يقول: “يحق لعرب زنجبار أن يحتفلوا بذكرى هذا السيد المحسن الجليل في دار جمعيتهم في كلِّ عام، ويذكروا أعماله الجليلة ومآثره الحسنة ومناقبه الجميلة؛ وإذا قَدّرَت الأمةُ أعمال رجالها تقدّمت إلى الأمام، فعسى ولعل قلوب البقية الباقية تنتعش إلى الاقتداء الحسن بأولئك السادة الكرام في الأعمال الجليلة، حتى يبلغوا درجة مَن تقدمهم مِن رجال الفضل والسؤدد والمكارم، وينالوا شكر الأمة لهم، وهكذا تفعل الأمم الراقية”. نعم إنها لحقيقة، فهكذا تفعل الأمم الراقية

Wednesday, July 16, 2025

بيت الراس والأميـرة التي أثارت حفيظة العرب

 زاهر بن حارث المحروقي

أثير، 16 يوليو 2025

عد عودتي من زيارتي الأولى لزنجبار في ديسمبر 2024م بفترة غير قصيرة، تلقيتُ رسالة واتسب من الصديق سالم بن محمد الخنجري:

“أخي زاهر.. إذا زرتَ زنجبار مرةً أخرى هناك مَعلمٌ تاريخيّ اسمه بيت الراس، ما زالت بعض أطلاله قائمة، وهو غير بعيد عن قصر بيت المتوني. أرجو أن تذهب إليه. كثيرون لا يعرفون بيت الراس، هناك من يعتقدُ أنّ السيد سعيد بن سلطان خصّصه للشيخ العالِم ناصر بن جاعد الخروصي للتعليم، وهو الذي أسماه بهذا الاسم نسبة إلى [بيت الرأس] الكائن في العلياء بولاية العوابي في عُمان”.

الرسالة مشجِّعة ومحفزة لي لأهتم بالبحث عن بيت الراس هذا، خاصة أنها المرة الأولى التي أسمع فيها عنه، وقلتُ لنفسي: “سأجعل زيارته ضمن الأولويات في السفرة المقبلة لزنجبار بإذن الله”، وهو ما تحقّق بالفعل، والحمد لله. بعد الرسالة تواصلتُ مع بعض أقرباء الشيخ ناصر بن جاعد الخروصي، لكنّ معظم إجاباتهم كانت تشير إلى عدم صحة معلومة أنّ السيد سعيد بن سلطان خصّص البيت للشيخ ناصر للتعليم، وإن لم يستنكرها البعض، إذ سبق وأن مرّت بهم. لكن نفسي كانت تحدّثني بضرورة البحث عن الموضوع وربط بيتَيْ الراس في عُمان وزنجبار ببعضهما البعض.

شددنا الرحال إلى زنجبار للمرة الثانية - أنا ورفيق رحلتي السابقة سيف المحروقي - يوم الجمعة 25 أبريل 2025م بعد أن تواصلنا مع مرافقنا محمد بن أحمد الفلاحي، المعروف بـ“ود العم“، والشهير بالمقاطع الترويجية لزنجبار والتي يُنهيها دائمًا بصرخة: “صح”، وطلبنا منه أن يُدرج زيارة بيت الراس ضمن البرنامج، وهو ما تحقق لنا بالفعل يوم السبت 26 أبريل 2025م.

ونحن في الطريق من المدينة الحجرية إلى بيت الراس، كنتُ أفكّر في أهمية الحفاظ على بيوت بعض الشخصيات التاريخية البارزة، إذ إنّ الإهمال أدى إلى غياب معالمها، وفي أحيان أخرى أدى إلى عدم معرفة مواقعها، وهو في تصوري تفريط في ذاكرة الأمة؛ فهذه البيوت هي شواهد حية تُخلّد سيرة أصحابها وتُقرّب الأجيال من إرثهم الحضاري، وكان في ذهني المطرب العالمي فريدي ميركوري المولود في زنجبار في الخامس من سبتمبر 1946م والذي أصبح فيما بعد المغنّي الرئيسي لفرقة “الملكة” البريطانية الشهيرة، إذ تحوّل البيتُ الذي وُلد فيه في “بوستر” في حارة “شنجاني”، إلى متحف يضمّ تاريخه ومقتنياته، وفي المقابل دار في خاطري سؤالٌ طرحه عليّ الصديق مسعود بن عبد الله الريامي: هل بيت الشيخ أبي مسلم البهلاني ما زال موجودًا في زنجبار؟ إنه سؤالٌ مهمٌ حقًا، لكن إذا كان شخصٌ مثل مسعود يسألني أنا سؤالًا كهذا - وهو الخبير ببيوت المدينة الحجرية كلها - فهل هناك من سيعرف الإجابة أكثر منه؟!. أوضحتُ له أنني زرتُ قبر الشيخ البهلاني وهو معروفٌ في منطقة “مويمبي لادو” جنب مسجد الجمعية العربية، أما عن بيته فالأمر يحتاج إلى بحث، لكن ما يُتداول وليس هناك ما يؤكده، أنّه كان في منطقة ماليندي بالقرب من جامع الشوافع، وإنه لخطبٌ جلل حقًا أن يختفي بيت شخصية مهمة كأبي مسلم البهلاني.

للوصول إلى “بيت الراس” لا بد من الدخول إلى باحة مدرسة فنية ثانوية بُنيت في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وأطلق عليها اسم مدرسة السيد خليفة الثانوية، ويبدو أنها حُوّلت فيما بعد إلى مدرسة أو معهد لتكوين المعلمين، لكن للوهلة الأولى سقط من ذهني الربطُ بين بيتَيْ الراس في عُمان وزنجبار؛ فما بقي من أطلال البيت تدلّ على أنه كان بيتًا عملاقًا لا يمكن لشخص مثل الشيخ ناصر - وهو العالِم الزاهد - أن يعيش فيه.

في هذا المكان كانت لي أول تجربة تسجيل مقطع مرئي، تساءلتُ فيه عن العلاقة بين هذا البيت وبيت الراس في العلياء في ولاية العوابي. صعدنا إلى البيت سالكين السّلالم الحجريّة التي تؤدّي إلى الأعلى، وفي منتصف درجات السّلم وقفتُ فجأة لأتأمّل جمال ما حولي. سألتُ سيف: ترى هل يحتاج الشيخ ناصر إلى بيت ضخم كهذا؟ ولو فرضنا أنه بيته، فكم مرّة صعد ونزل هذه السلالم في رحلة ذهابه وإيابه إلى مسجده؟ وكم من طالب علم صعد هذه الدّرجات يومًا ما بحثًا عن إجابة لمسألة استعصى عليه حلّها؟، بل كيف بُنيت هذه الدّرجات أصلًا؟ وكيف استصلحت الأراضي الزّراعيّة المحيطة به؟ وهل صلى الشيخ ناصر في هذا المسجد القريب من البيت؟!

من المفارقات أننا في الوقت الذي كنّا نبحث فيه عن تاريخ بيت الراس في زنجبار، كان المعرض الدولي للكتاب في مسقط يدشن كتاب “تاريخ زنجبار المصور (1800 - 1964)”، للأستاذ رياض بن عبد الله بن سعيد البوسعيدي، الصادر عن دار “الآن ناشرون وموزعون”، وهو ربيب القصور السلطانية في زنجبار، قدّم فيه معلومات قيّمة وصورًا عن أطلال البيت؛ مّا ينفي الربط بين بيتَيْ الراس في عُمان وزنجبار إلا في تشابه الاسم فقط.

أهم المعلومات الواردة في الكتاب تقول إنه في عام 1847م وفي سن 56 عامًا، تزوج السيد سعيد بن سلطان الأميرة الفارسية شهرزاد ابنة الأمير أرش ميرزا، وحفيدة شاه بلاد فارس. كانت شابة جميلة ومفعمة بالحيوية تعيش حياة باذخة، انتقلت إلى زنجبار في عام 1849م برفقة حاشية كبيرة مكونة من 150 مرافقًا، بمن فيهم فرسان وخيولهم، وكانت بارعة في استخدام السيوف والرماية وتحمل دائمًا خنجرًا معها. يبدو أنّ حياة بيت المتوني لم تعجبها، خاصة أنّ معها حاشية كبيرة، فبدأ السيد سعيد بن سلطان في بناء قصر لها في بيت الراس، وجلب من بلاد فارس مصممين وحرفيين وبنائين، وبنى لها حمامات مزخرفة على الطراز الفارسي في منطقة “كيديتشي”، على بُعد بضع كيلو مترات من المدينة الحجرية، ما تزال أطلالها باقية حتى اللحظة.

أثار سلوك هذه الأميرة المتعالي الاستياء بين العرب، الذين لم يعهدوا هذا النوع من الحياة، وكذلك أثارت قدرًا كبيرًا من الدهشة والتعجب بين سيدات العائلة المالكة، وهو ما أشار إليه الشيخ سعيد المغيري في كتابه “جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار”، ورغم أنّ السيد سعيد شرع في بناء بيت الراس لها ولحاشيتها، إلا أنها أصبحت أكثر إسرافًا وتبذيرًا، وتزايدت مطالبُها، فغضب السلطان منها وطلقها، فعادت إلى بلادها دون أن يكون لها أيُّ ذرية من السيد سعيد.

توفي السيد سعيد قبل اكتمال بناء قصر بيت الراس، ولم يرغب خليفتُه السلطان ماجد في إكماله، فأرجع جميع البنائين الفرس إلى بلادهم، وأثناء بناء سكة حديد بوبوبو، هُدمت جدران القصر غير المكتمل واستُخدمت الحجارة لتعبيد مسار السكة الحديدية. لم يتبق من المبنى الآن سوى جزء صغير منه، وهو الشرفة العملاقة التي تتميّز بأقواسها العالية والدرجات التي تؤدي إلى أحد جوانبها، وقد بُني القصر باستخدام الحجر المرجاني، وهو مادة البناء التقليدية الشائعة في زنجبار، نظرًا لتوفرها في الجزيرة.

كانت تلك قصة بيت الراس الذي نغادره الآن لنكمل صورة حياة الأميرة الفارسية من خلال زيارتنا للحمامات الفارسية. تقع هذه الحمامات في منطقة كيديتشي (Kidichi)، شمال غرب زنجبار، كما سبقت الإشارة، على بُعد كيلومترات شرق المدينة الحجرية، بالقرب من مزارع التوابل الشهيرة، وكما مرَّ سابقًا فقد بناها السيد سعيد بن سلطان هدية لزوجته الفارسية شهرزاد، وحتى الآن احتفظت تلك الحمامات بطابعها القديم؛ مّا يدلّ على متانة البناء، وتتميّز بتصميمها المستوحى من العمارة الفارسية التقليدية، وقد تجوّل بنا المرشد السياحي في غرف البخار والماء الساخن والبارد، وشرح لنا عن نظام التهوية الذي يُعدُّ في ذلك الزمان متطورًا، وقال إنّ الأميرة كانت تَقْدِم من المدينة الحجرية يوميًّا فوق الحصان لتستمتع بالبخار والماء الساخن، وفي السابق كان بيت العجائب - في المدينة الحجرية - يُرى من هنا بوضوح (مشيرًا إلى زاوية معينة)، نظرًا لارتفاعها عن مستوى سطح البحر.

ونحن ننهي الزيارة، كان سيف متشككًا من قدرة الأميرة الحضور يوميَّا من المدينة الحجرية إلى هذا المكان البعيد نوعًا ما، لكن في كلِّ الأحوال ذهبَت الأميرة وتركت تلك الآثار مع ذكرى سيئة، حسب الشيخ المغيري الذي يقول إنها أثارت حفيظة العرب بتصرفاتها.

لكن هل انتهت قصة الأميرة الفارسية بطلاقها من السيد سعيد وعودتِها إلى بلادها؟! لا. يقول الأستاذ رياض البوسعيدي في كتابه “تاريخ زنجبار المصور”: “بعد عودتها إلى بلاد فارس، وبعد بضع سنوات، عندما ذهب السيد سعيد لمحاربة الفرس في هرمز، رأى زوجته السابقة مرةً أخرى، لكنها كانت على حصانها تقود وحدة من الجيش الفارسي ضده. لم ينتصر السيد سعيد في المعركة، وعاد إلى عُمان”.

Tuesday, July 15, 2025

عمان وزنجبار.. علاقات مستدامة

 د.عبدالملك عبدالله الهنائي

جريدة عمان، 14 يوليو 2025

تعود العلاقة بين عمان و شرق أفريقيا إلى عصور موغلة في التاريخ، لكننا لا نعرف عن بداياتها سوى ما وصلنا عن لجوء ملكي عمان سليمان وسعيد ابني عباد بن عبد بن الجلندى إلى تلك البلاد على إثر قيام الأمويين بإخضاع عمان لسلطتهم، وذلك في القرن الأول الهجري، أي السابع الميلادي. لكني لستُ هنا بصدد الكتابة عن تاريخ العلاقة بين عمان وشرق أفريقيا؛ فقد كُتب الكثير عن هذا الموضوع، ورفوف المكتبات وشبكة الإنترنت بها عدد هائل من الصفحات التي كتبها خبراء وباحثون ورحالة وصحفيون ومغامرون.

ما أردت الكتابة عنه جانب مما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين عمان وذلك الجزء من العالم، وتحديدا مع زنجبار التي هي اليوم جزء من جمهورية تنزانيا المتحدة حيث مازال كثير من العمانيين يرتبطون معها بعلاقات ثقافية واجتماعية واقتصادية وثيقة. وهنا يجب التأكيد على أن زنجبار جزء من جمهورية تنزانيا المتحدة، ويجب التعامل معها على ذلك الأساس؛ تجنبا لأي التباس قد يعكر صفو العلاقة بين عمان وتنزانيا.

حتى عهد قريب لاسيما قبل ظهور «الترمبية» -إن صح التعبير- كانت هناك ثلاث أسس للعلاقات بين الدول؛ فهي تكون على أساس المصالح المشتركة وهو الغالب، أو على أساس أيديولوجي مثل العلاقات التي تطورت بين بعض الدول خلال فترة الحرب الباردة، أو أنها تقوم في جانب منها على الأخلاق والقيم الإنسانية، مثل: احترام مبادئ حقوق الإنسان، والعدالة، والسلم العالمي وغير ذلك.

وفيما يتعلق بمستقبل علاقات عمان مع زنجبار خاصة، ومع تنزانيا عامة -وهو موضوع هذا المقال-؛ فإنني أرى أنه لا بد أن تؤسّس على عاملين اثنين، وبشكل متوزان، وهما عامل الأخلاق والقيم الإنسانية، وعامل المصالح المشتركة. وليس من التحيز لبلدي أو مجانبة للحقيقة القول: إن عمان هي من الدول النادرة في العالم التي مازالت تضع وزنا كبيرا لعامل الأخلاق والقيم الإنسانية في علاقاتها الدولية. ولما كان الأمر كذلك فإن جعل هذا العامل في المقدمة في العلاقة مع جمهورية تنزانيا مهم من النواحي السياسية والاقتصادية والدبلوماسية.

صحيح أن هناك من العمليين، أو البراجماتيين من يضعون المصالح المشتركة في مقدمة أسس العلاقة بين الدول، لكن العلاقة مع زنجبار تحتم أن تكون الأخلاق والقيم الإنسانية في المقدمة. ربما نحتاج إلى الرجوع إلى جانب من التاريخ غير البعيد لشرح وجهة نظرنا هذه، ولتقريب الموضوع إلى القراء الكرام.

نعرف أنه في ثلاثينيات التاسع عشر الميلادي نقل السيد سعيد بن سلطان عاصمة حكمه من مسقط إلى زنجبار؛ لأسباب كثيرة لا يتسع المقال لذكرها، وإن كانت الأسباب الاقتصادية هي الأبرز. وخلال فترة حكم السيد سعيد ازدهرت التجارة بين عمان وشرق أفريقيا، وزادت إيرادات عمان المالية، سواء من إيرادات الجمارك، أو من الصادرات من المنتجات الزراعية. صحيح أنه كان لعمان إيرادات مالية من موانئ ومناطق أخرى، مثل: مسقط، وبندر عباس، وجوادر، لكن معظم إيرادات الدولة العمانية في ذلك الوقت كان مصدره شرق أفريقيا، خاصة زنجبار. وعندما توفي السيد سعيد بن سلطان واختلف أبناؤه على حكم الإمبراطورية قلّت موارد عمان الاقتصادية، وتأثرت إيراداتها المالية بصورة كبيرة، وأثر ذلك على استقرارها السياسي والاجتماعي.

المعلوم أن أبناء السيد سعيد بن سلطان اتفقوا بعد فترة من وفاة والدهم على تقسيم الامبراطورية، وبموجب الاتفاق التزم الجانب الأفريقي بتقديم معونة مالية سنوية لعمان قدرها أربعون ألف قرش فضة من عملة ماريا تيريزا، وقد سميت «معونة زنجبار»، وبقيت حكومة زنجبار تدفع تلك المعونة لسنوات طويلة. وبدراسة اقتصاد زنجبار ومواردها الموالية في تلك الفترة نتحقق أنها جاءت من مصادر داخلية، وليس ريعا يأتي من الخارج.

وأهم تلك المصادر الضرائب، والرسوم الجمركية، والأيدي العاملة الرخيصة، خاصة في المزارع والموانئ والأنشطة التجارية، وهو ما يؤكد أنه من الواجب جعل عامل الأخلاق والقيم الإنسانية في مقدمة الأسس التي تبنى عليها العلاقة بين عمان وتلك البلاد.

أما الأساس الثاني في العلاقة بين الجانبين فهو المصالح المشتركة. المعروف أن عمان قدمت ولازالت تقدم كثيرا من المساعدات لزنجبار، سواء لترميم الآثار، أو في تحسين البنية الأساسية فيها، كما أنه مازال لبعض العمانيين حاليا مصالح اقتصادية هناك، سواء كان ذلك في قطاع العقار، أو في قطاع السياحة أو غيرها من القطاعات الاقتصادية، ومن المناسب تشجيع القطاع الخاص والقطاع الأهلي العماني، ممثلا في الجمعيات الخيرية، على زيادة النشاط التجاري و الاستثماري والخيري هناك.

ولا شك أن تنمية وتطوير العلاقة بين الجانبين سيساعد على منع آخرين ممن يحاولون تهميش استمرار الدور العماني في تلك البلاد. ولتنفيذ ذلك بمنهجية ومهنية عالية؛ لا بد من تبني برنامج تنموي مستدام وبأهداف واضحة للمديات القصيرة والمتوسطة والبعيدة. الهدف البرنامج المقترح المساعدة على إحداث تنمية شاملة ومستدامة في زنجبار؛ بحيث يركز على تمويل مشاريع في مجال التعليم، لاسيما التعليم الأساسي والمهني، وكذلك تمويل مشاريع القطاع الصحي، خاصة المراكز الصحية ومشاريع الصحة العامة.

كما أن البرنامج يجب أن يتضمن تمويل مشاريع للإسكان وفي البنية الأساسية، وبشكل خاص مشاريع الطرق التي تحتاج إلى تطوير واسع، لاسيما داخل مدينة زنجبار، إلى غير ذلك من مشاريع، سواء داخل المدن أو في الأرياف.

قد يتساءل البعض عن مدى كفاءة الجهاز الإداري في زنجبار لاستخدام موارد هذا البرنامج، وهو تساؤل في محله؛ لذلك من الأفضل التفاهم مع حكومة زنجبار على أولويات البرنامج والمشاريع التي ستمول، وأن تكون إدارة هذا البرنامج من سلطنة عُمان.

وفي كل الأحوال، وبغض النظر عن نوع مشاريع البرنامج، وحجم تمويله، وكيفية إدارته؛ فإنه من الأهمية السياسية والدبلوماسية أن تتبنى سلطنة عمان برنامجا تنمويا طويل الأجل في زنجبار، وألا تترك تلك البقعة المهمة لها من العالم لتنبت فيها ضغائن الماضي، أو لترعرع عليها مكائد المستقبل.


السيد خالد بن برغش: أبدًا لم تكن حربًا

 زاهر بن حارث المحروقي

أثير : 8 يوليو 2025

صلينا أنا ورفيق رحلتي إلى زنجبار سيف بن سعود المحروقي صلاتي المغرب والعشاء في مسجد ”فروضاني“. بعد خروجنا من المسجد وسلامِنا على شاب عُماني يبيع الفوشار (”الفرّاخ“ كما نسميه في لهجتنا العُمانية) يدعى حمد الغيثي، لمحتُ شبحًا نورانيًّا يمشي من حديقةٍ بين بيت العجائب وبيت الساحل، حيث كان قصر بيت الحكم قبل أن تدمره بريطانيا عام 1896، احتجاجًا على تولي السيد خالد بن برغش الحكم دون إذنها. سألتُ سيف: ”هل ترى ما أراه؟ أم أني أتخيّل شيئًا ليس له وجود؟!“. أجاب: ”ما تشاهده حقيقة وليس خيالًا“. قلتُ: ”إذن علينا أن نحث الخطى لنتبيّن حقيقة ما نرى“. اتجه الخيال النوراني إلى المقبرة السلطانية القريبة، ووقف أمام قبور بعينها يقرأ الفاتحة ويدعو الله للنائمين في تلك القبور.

اقتربتُ منه فإذا هو شاب في مقتبل العمر، قصير القامة، أبيض اللون مع لحية سوداء كثة وعلى رأسه العمامة السعيدية، ملامحُه توحي بالطمأنينة والسكينة. وعندما رأى اندهاشي وأنا أركز على ملامح وجهه، بادرني بالكلام فورًا دون أن أساله: ”نعم أنا خالد بن برغش بن سعيد بن سلطان. اعتادتْ روحي بين فترة وأخرى أن تزور هذا المكان من العالم الآخر، لتشاهد ما أُخفي عني من لحظة الهجوم البريطاني البربري عليّ وعلى قصر الحكم. ذلك الاعتداء الذي أودى بحياة أكثر من خمسمائة روح بريئة، وكل جرمها أنها أرادت الحرية والاستقلال، ورفضت التبعية والهيمنة البريطانية“.

كانت أصوات الباعة في ساحة ”فروضاني“ تتداخل مع هدوء المقبرة. قلتُ: ”لم أتوقع أن ألتقي بك هنا! كيف ترى الأحداث التي جرت بعد أن تصدّيْتَ للبريطانيين؟“. رد: ”على المستوى الشخصي دفعتُ ثمنًا غاليًا بسبب موقفي، وانتقلتُ من منفى لآخر أنا وأولادي الذين ليس لهم أيّ ذنب. كانت أيامًا مضطربة، لكني -رغم مرور كلِّ تلك السنين- ثابت على إيماني بأني لم أكن مخطئًا حين قاومتُهم. فالبريطانيون لم يأتوا ليحفظوا مجدنا، بل ليخدموا مصالحهم، كما هي عادتهم في كلِّ زمان ومكان“. قلتُ: ”لكنهم انتصروا عليك بسرعة في تلك الحرب الشهيرة، وأصبحوا يتغنون بها كأقصر حرب في التاريخ، هل كنتَ تتوقع مثل هذه النتيجة؟“. رد بانفعال: ”من الخطأ تسمية الحادثة بالحرب، كانت عدوانًا سافرًا على دولة مستقلة وحاكم له تأييد شعبي كبير. ولكن ما أود قوله الآن هو أنّ أسلافي ومن جاء بعدي من السلاطين، ظنوا أنّ البريطانيين حلفاء لهم، فمهّدوا لهم الطريق ليبسطوا نفوذهم. عندما حان وقت المواجهة، كان الميزان مختلًا لصالحهم، وهذه نتيجة منطقية للأمور“.

أحسستُ أنّ النقاش بيننا أخذ يسخن، فطلبتُ من سيف أن يسجله صوتيًّا حتى لا أفوّت كلمة قد تكون مهمّة، وأن يلتقط لنا صورًا تذكارية، لكن السيد اعتذر قائلا: ”لا داعي لذلك. فمصيري درسٌ بليغ وقاس لكلّ الأحرار الذي يرفضون السيطرة الأجنبية على أوطانهم، لكن ضميري مرتاح، وهذا هو المهم“. سألتُه: ”هل ترى أنّ العُمانيين كانوا سُذّجًا في تعاملهم السياسي مع القوى الأجنبية؟“. أجاب: ”ليس كلهم، ولكن بعضهم لم يدرك للأسف أنّ الوعود السياسية لا تُحفظ إلا بمقدار القوة التي تقف وراءها. كنا نحكم زنجبار، ولكن بدون استعداد حقيقي للحفاظ على السيادة، فضعُف موقفنا. والتدافع الاستعماري الغربي للسيطرة على أفريقيا ليس جديدًا. ففي عهد والدي السلطان برغش، استولى الألمان على مناطق البر الأفريقي التابعة لنا، بالتواطؤ مع الحكومة البريطانية (المفترض أنها صديقة لنا)، وعندما احتج الوالد بشدة على هذا الاستيلاء غير القانوني، أرسل الألمان خمس سفن حربية إلى زنجبار، وأمهلوه أربعًا وعشرين ساعة، إما أن يرضخ للأمر الواقع أو يقصفوه إلى أن يستسلم، ولم يكن أمامه خيار سوى الموافقة“. هنا دخل سيف إلى الحوار، وسأل السيدَ خالد: ”لو كان بإمكانك إعادة كتابة التاريخ، ماذا كنتَ ستفعل بشكل مختلف؟“، أجاب: ”كنتُ سأعمل على بناء تحالفات أعمق مع القوى الأخرى، ربما مع بعض الدول الإسلامية الكبرى، أو حتى تشكيل قوة عسكرية توازي البريطانيين. ولكن التاريخ لا يُعاد، وإنما يُتعلَّم منه. وأنا تعلمتُ الكثير، ودفعتُ الثمن من حالي ومالي. وما يؤلمني أنّ عائلتي دفعت الثمن معي دون جريرة اقترفتها“. شعرتُ برغبة شديدة في مواساته، لكنني وجدتُ نفسي أطرح بعفوية هذا السؤال: ”هل ترى أنّ زنجبار فقدَت هويتَها بسبب تلك الأحداث؟“، وبالعفوية نفسها أجاب: ”زنجبار ظلت زنجبار، بأهلها وتراثها، ولكن النفوذ العُماني تراجع فيها، بدليل أنكم تدخلونها الآن زائرين بغرض السياحة لا أكثر. والسؤال الذي لَطالما فكرتُ فيه: هل من المنطق أن يذهب كلّ شيء كأنه لم يكن؟! ربما كان ذلك حتميًا ولا مفر من قدر الله، وهذا ما نؤمن به، ونحن في العالم الآخر نرى ما لا ترون ونعلم ما لا تعلمون، ولكن ربما كان يمكن تفادي الانقلاب، لو كانت القرارات مختلفة“.

في هذه اللحظة، علا صوت أذان العشاء، فابتسم السلطان خالد وردّد الأذان مع المؤذن، ثم قال بصوت هادئ: ”على الأقل، لم تقدر القوى العظمى على محو صوت الإيمان من هذه الأرض، وهذا كان أحد المخططات“. سألته: ”سيدي كيف تنظر إلى ما حدث في ذلك اليوم المشؤوم؟“ نظر إليّ نظرة عجيبة، هي خليط بين الحزن والكبرياء، ثم قال: ”لم يكن يومًا مشؤومًا فقط، بل كان لحظة فارقة في تاريخ زنجبار. حينما توليتُ الحكم، كنتُ أعلم أنّ بريطانيا لن تتسامح مع استقلالية قرارنا، لكنني لم أتصور أنّ الحرب ستكون بهذه السرعة والوحشية. كنتُ أظن أنّ لدينا فرصة للمقاومة. أعددنا بعض القوات، وأغلقنا الطرق المؤدية للقصر، لكن حين بدأت القذائف تتساقط، أدركنا أنّ البريطانيين لم يكونوا يريدون مجرد مفاوضات، بل كانوا يريدون حسم الأمر بشكل قاطع. القصف دمّر بيت الحكم وأجزاء كبيرة من بيت الساحل وبيت العجائب، وكانت الخسائر فادحة، ولم يكن أمامي خيار سوى البحث عن ملاذ آمن، حفاظًا على ما تبقى من أرواح الأبرياء الذين وقفوا معي ضد الهيمنة البريطانية“.

- ”وهكذا انتهى بك المطاف في القنصلية الألمانية؟“

- ”نعم، كان الخيار الوحيد المتاح في ذلك الوقت. لم يكن من الحكمة البقاء، وإلا لأريق مزيد من الدماء، وكان مصيري الاعتقال أو ما هو أسوأ. الألمان وفروا لي ملاذًا مؤقتًا، ولكن بعد ذلك بدأ نفيي من مكان إلى آخر، وكانت الرحلة طويلة ومؤلمة“.

- ”كيف ترى اليوم قرارك بعد هذه السنوات؟ هل كان بالإمكان التصرف بطريقة مختلفة؟“

- ”لو عاد الزمن، ربما كنتُ سأحاول التفاوض بشكل مختلف، أو إعداد دفاع أكثر قوة، لكن الظروف كانت شديدة التعقيد، والمصالح الدولية كانت أقوى من إرادة رجل واحد. ومع ذلك، أؤمن بأنّ الشعوب دائمًا تجد طريقها لاستعادة كرامتها، مهما طال الزمن“.

- ”هل تشعر بالحسرة على زنجبار؟ بعد أن ذهبَت عن العُمانيين؟!“

- ”زنجبار ستبقى دائمًا في قلبي. إنها أرض تحمل تاريخًا عظيمًا. وأفخر أنني كنتُ جزءًا من هذا التاريخ، وقد جعل منها جدي السيد سعيد بن سلطان عاصمةً هامةً، تتهافت إليها الدول الكبرى، كما إنّ إنجازات والدي السلطان برغش لا يمكن إنكارها. وكان لي شرف الدفاع عن سيادتها، ولو ليوم واحد فقط“.

- ”هل تسمح لي عندما أعود إلى عُمان أن أكتب عن لقائي بك هنا؟“

- ”وما المانع؟! لقد صرتُ جزءًا من التاريخ، ومن حقّ أيٍّ كان أن يكتب عني وعن أجدادي. ولكني أتمنى عليك أن تشير إلى حادثة تاريخية مهمة حدثت قبل ولادتي بعام، ولها ما بعدها، وستظهر يومًا ما عندما تُنشر الوثائق“.

- ”أي حادثة تقصد؟“

- ”في عام 1873، أبلغ الإنجليز أبي، عبر مبعوث بريطاني أثناء اجتماع مع كبار المسؤولين أنّ الأفارقة سينقلبون عليكم، إذا شعروا بأنّ البريطانيين هم حلفاؤهم وليس العُمانيين. كانت النبرة لا تخلو من تهديد لأبي السلطان برغش، وكانت الخطة واضحة، ولكنها للأسف لم تؤخذ على محمل الجد. وبعد مرور واحد وتسعين عامًا، أي في يناير 1964، نُفِّذ الانقلاب فعلًا كما تعلمون. عندما تطالعون الوثائق ستدركون أنّ ما أقوله ليس رأيًا، بل حقائق مدعومة بالأدلة. لقد طبخت الطبخة بنار هادئة“.

- ”سأنشر -إن شاء الله تعالى- ما تقوله حرفيّا، ونحن نتشوق لهذه الوثائق، حتى يكون الناس على بيّنة من الأمر“.

- ”رائع. هذا أمر يريحني مثلما أراحني مجرد البوح لك ولزميلك بما يعتمل في نفسي. وأود أن أشير إلى أنّ السلاطين كانوا على علم بما يجري، لكنهم للأسف يفتقرون إلى البصيرة والرؤية البعيدة. لم يتوقعوا أن ينقلب عليهم البريطانيون، كما حدث في عام 1964. لم يدركوا أنّ ما فعله البريطانيون في زنجبار قد يتكرر في أيّ مكان وفي أيّ زمان“.

- ”نعم. بدليل أنه تكرر كثيرًا في زماننا، وهناك قول شهير لرئيس عربي وُلِد بعد وفاتك بسنة واحدة، قال عندما تخلت عنه أمريكا: ”المتغطي بالأمريكان عريان“.

- ”من المؤلم أن يعرف الإنسان الحقيقة بعد فوات الأوان، أُضيف لمقولة هذا الرئيس أن المتغطي بالبريطانيين أيضًا عريان، وكذلك كلّ من يعتمد على الخارج على حساب شعبه“.

وجهنا -سيف وأنا- تحية إجلال وإكبار للسلطان خالد بن برغش، وقلنا له بلسان واحد: ”سيظل اسمك دومًا محفورًا في ذاكرة زنجبار وأهلها، ليس بوصفك مجرد سلطانٍ تولى العرش، بل كقائدٍ رفض الإملاءات الأجنبية وأصر على حماية سيادة وطنه“. ويبدو أنه ابتهج بهذا التقدير، فقد وضع يده على كتفي وقال وهو يبتسم بوقار: ”أشكرك يا أبا محمد“.

اندهشتُ من كونه يعرف اسمي، فسألتُه: هل تعرفني؟

”سلامتك زاهر. لو ما كنتُ أعرفك ما سافرتُ معك!“

هنا عاد لي وعيي، وانتبهتُ أنّ الذي وضع يده على كتفي وكلمني هو سيف وليس السيد خالد. سألتُه باستغراب: ”ألم تكن قبل قليل تحاور معي السيد خالد بن برغش؟“

”كم كان سيسعدني ذلك، لكنه مات منذ سنين طويلة، كما تعرف. كلّ ما في الأمر أنني شاهدتُك تنسلّ إلى المقبرة كالمسرنم، فتبعتُك. هيا، علينا العودة إلى الفندق الآن“.

عدنا إلى الفندق وكان فكري مشغولًا بخالد بن برغش، لأنه ظهر وكأنه في آخر حياته استسلم عندما كتب رسائل الاستعطاف للإنجليز (كما سبق وأن أشرتُ إلى ذلك)، هل تلك الرسائل تهز صورة البطل الذي قاوم الإنجليز؟ قد يخفت بعض الإعجاب، ولكن لا ينفي صلابة الرجل في شبابه، ثم إنّ الحادثة كلها تشير إلى نقطة هامة، هي أنّ الإنجليز وجّهوا رسالة من خلال تعاملهم مع خالد لمن خلفه، هي أنهم لن يتسامحوا مع من يقف ضدهم أبدًا.

Monday, May 26, 2025

مساجد زنجبار والقوة العُمانية الناعمة

 زاهر المحروقي

جريدة عمان 26 مايو 2025

ليس بعيدًا عن مسجدَيْ السيد حمود وماليندي، اللذين تحدثتُ عنهما في المقال السابق، هناك مسجد فرضاني «مسجد الجمعة» المطل على الميناء، وهو الذي أعاد بناءَه الشيخ سعيد بن سيف المحرمي الحارثي، بعد أن تهدّم بسبب إعصار وقع في أبريل من عام 1846. يقول الشيخ عبدالله بن صالح الفارسي في كتابه «البوسعيديون حكام زنجبار»: «رغم أنّ الشيخ سعيد كان يعاني من مرض الشلل في بعض الأوقات، إلا أنه كان يُصرُّ على أن يكون موجودًا أثناء العمل في المسجد، وكان يتنقل محمولًا».

ويضيف أنّ الشيخ المحرمي هو الذي أنشأ أيضًا في الوقت نفسه المسجد الكبير المسمى «جيثاليلا»، وقد أعَدّ لنفسه مقرين أحدهما في مسجد الجمعة، والآخر في مسجد «جيثاليلا»، يراقب العمل في المسجدين. وأفادني الشيخ عبدالله بن حميد البحري عن هذه التسمية أنّ: «جيثاليلا هو اسم تاجر هندوسي كان يعيش بجوار المسجد، ونسب الناس المسجد إليه تسميةً فقط؛ والأصل أنّ اسم المسجد هو مسجد المحرمي. لكن حُوِّل الاسم عام 1986، إلى جامع الاستقامة».

ومن المساجد التاريخية في «المدينة الحجرية»، مسجد «بني رواحة»، وكان يؤم المصلين فيه الشيخ سالم بن محمد الرواحي، وبعد صلاه الظهر كان يتبعه أصحاب الحاجات، إذ كان مقصدًا للعامة في حلِّ مشكلاتهم. وتميّز المسجد منذ بداياته بإقامة حلقات درس بين صلاتي المغرب والعشاء، اشتملت على تعليم القرآن، ومن يختمه ينتقل إلى تعلُّم كتاب «تلقين الصبيان» للإمام نور الدين السالمي، ثم كتاب «الوضع - مختصر في الأصول والفقه»، لأبي زكريا يحيى بن الخير بن أبي الخير الجناوني، وكان ممن يصلي فيه سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي الذي كان يقرأ كتابًا ويُناقَش فيه.

ومن الكتب التي قرأها للحضور كتاب «تحفة الأعيان في سيرة أهل عُمان» للإمام السالمي -كما أخبرني بذلك الشيخ سعود بن حمد الرواحي- وتعاقب على المسجد أكثر من إمام، منهم الشيخ سعيد بن محمد الكندي، الذي عمل على تدريس القرآن الكريم، وعاد إلى عُمان بعد الانقلاب فعُيِّن قاضيًا، وكذلك الشيخ شامس بن عبد الله بن شامس الرواحي. ومن الأئمة المتأخرين للمسجد الراحل سالم بن محمد البلوشي، من قريات، والذي عاش فترة في زنجبار قبل أن يعود إلى عُمان.

من المساجد التي زرناها في المدينة الحجرية مسجد اللمكي الذي بناه الشيخ سليمان بن ناصر اللمكي، وزرنا قبره في ساحة بيته. كما زرنا مسجد المنذري الذي بناه الشيخ محمد بن سيف المنذري عام 1866، وقبره هو ابنه في الساحة الأمامية للمسجد. وهناك أيضًا مسجد رجب في منطقة «ماجستك» والذي بناه رجب عبدالرزاق لوغان عام 1896، أواخر حكم السلطان حمد بن ثويني وبداية حكم السلطان حمود بن محمد. وما زالت الصلوات تقام في هذه المساجد حتى الآن.

من المساجد القديمة في زنجبار، مسجد كيزيمكازي في منطقة ديمباني، حيث تشير الحفريات إلى أنّ هذا المسجد هو الأقدم الذي لا يزال قيد الاستخدام في زنجبار، ويرجع تاريخ بنائه إلى عام 500 هجرية، 1107 ميلادية، وأعيد بناؤه بشكل كبير عام 1184 هجرية، 1770 ميلادية، باستخدام أساس المسجد الأصلي والجدار الشمالي الذي كان لا يزال قائمًا. يحتوي الأساس على محراب صلاة مع نقش مكتوب بأحرف كوفية على اليسار، تخلد ذكرى بناء المسجد على يد الشيخ أبي موسى الحسن بن محمد، وهناك نقش آخر قريب على اليمين مكتوب باللغة العربية، ويذكر تاريخ إعادة البناء. وللمسجد بئر ماء يستفيد منها المصلون للوضوء، كما أنّ هناك عدة قبور، من بينها -حسبما هو مكتوب- «قبر الشيخ علي عمر، والسيد عبدالله سيد بن شريف، وموانا بنت ميمادي، وابنها مفعول علي عُمر»، والمسجد في منطقة تبعد عن المدينة الحجرية بسبعين كيلومترا.


لا يمكن لنا ونحن نتحدّث عن جوامع ومساجد زنجبار، إلا أن نتطرق إلى أحدثها، وهو جامع زنجبار الذي بُنِي على نفقة السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- في منطقة «مازيزيتي» على الشارع العام؛ وهو معلم إسلامي ومنارة ثقافية لما يحتويه من مكتبة ضخمة، ويشغل مساحة تزيد على خمسة عشر ألف متر مربع، ويشتمل على مرافق متعددة في مقدمتها قاعة الصلاة الرئيسية التي تتسع لألفٍ وثلاثمائة مصلٍّ، ومصلى خارجي، ومصلى للنساء يَسَع ثلاثمائة مصلية، كما جُهِّز الجامع بفصول دراسية ومختبر للغات والحاسب الآلي، ويضم كذلك قاعة متعددة الأغراض ومكتبة، ويتميّز بمعماره الفريد الذي يمزج بين الأصالة والمعاصرة، وتتجلى العمارة العُمانية والأفريقية في تصاميمه، حيث تبرز النقوش الإسلامية التي تزيِّن جدرانه وردهاته، وحاليًّا يتميز الجامع أنّ معظم مسؤولي زنجبار يصلون فيه، وقد أدينا هناك صلاة الجمعة يوم التاسع من مايو 2025، وممّا لاحظتُ أنّ الجامع بحاجة إلى بعض الصيانة، ولا بأس أن يخطب فيه -بعض الجمع- أئمة عمانيون ممن يتكلمون اللغة السواحلية.

وجامعُ زنجبار يقودني إلى الحديث عن القوة العُمانية الناعمة الفاعلة في الشرق الأفريقي كله، ألا وهي جمعية الاستقامة الخيرية الدولية؛ فهي تشرف على ثلاثة وخمسين مسجدًا في زنجبار وحدها، منها ثلاثة عشر جامعًا تقام فيها صلوات الجمعة والأعياد. وحسب إفادة الشيخ عبدالله البحري أحد نشطاء الجمعية في زنجبار وإمام مسجد السيد حمود، فإنّ الجمعية «تشرف على إدارة جزء من هذه الجوامع والمساجد إشرافًا تامًّا، وتبقي بقية المساجد تحت إشراف أصحابها، لكن بالتعاون مع الجمعية في بعض الجوانب، مثل توفير الأئمة والمدرسين، وإعداد خُطب الجمعة والعيدين، وتوفير المصاحف والكتب الدينية والسجاجيد، وكذلك توفير التمور أيام شهر رمضان». وما لفت نظري أنّ ثقافة حضور النساء للمساجد في زنجبار معدومة على ما يبدو، إذ تخلو معظم المساجد من مصليات النساء.

في الواقع لم يقتصر دور المساجد في زنجبار على إقامة الصلوات فقط؛ فقد اضطلعت بدور طليعي في بث العلم، وأخرجت علماء كثيرين، ومن تلك المساجد مسجد «بني رواحة» في ماليندي، الذي اهتم بالعلم وكان يُنظِّم حلقات لقراءة وتدارس علم الفقه والعقيدة.

والحديث عن مساجد زنجبار لا يخلو من المفارقات، بمعنى أنّ بعض المساجد تحتاج الآن إلى صيانة ومتابعة من أبناء وأحفاد بانيها، ومن هذه المفارقات أنّ مسجد الشيخ ناصر بن جاعد بن خميس الخروصي وهو مستشار السيد سعيد، رمّمته المهندسة فاطمة كارة وهي مسلمة هندية، وعند زيارتنا للمسجد، طلب القائمون عليه مساعدة لدفع فاتورة الكهرباء، وهو مبلغ زهيد. أما مفارقات مسجد السيد حمود البوسعيدي في «بوبوبو»، فقد قال لنا بعض المصلين إنّ المسجد من دون ماء الآن، وإنّ كثيرًا من المصلين تركوه لهذا السبب.

وقلتُ لنفسي: «سبحان الله.. هذا الرجل الذي أنفق ماله في سبيل الله، لا يجد مسجدُه الآن ماء للوضوء!».

سبق لي أن تحدّثتُ عن التنوع المذهبي في زنجبار، وهكذا فإنّ الزائر يرى في حي واحد عدة مساجد، في دلالة مهمة على التعايش الديني والمذهبي؛ ففي حي ماليندي -مثلًا- تجد مساجد للإباضية وللسُنّة، وعلى مقربة من ذلك وأنت تتجول في طرقات الحي، ستشاهد مسجدًا للخوجة الإثني عشرية، وبقربه مسجد للبهرة، وآخر للإسماعيلية، وغيره للآغا خان.

ولم يقتصر التسامح والتعايش بين أبناء الدين والواحد فقط؛ بل شمل الأديان كلها؛ فبرغم أنّ غالبية سكان زنجبار مسلمون، وبنسبة تزيد على 95%، فإنّ هناك في المقابل كنائس لمختلف الطوائف النصرانية، ومنها الكنيسة الأنجليكانية الموجودة داخل ما يسمى بـ«سوق العبيد»، وكنيسة أخرى كاثوليكية ضخمة، وهناك معبد للهندوس، الذين رغم أنّ عددهم قليل، فإنهم موجودون في الجزيرة من مئات السنين، وكما أوضح لنا دليلنا السياحي أنّ «لهم في الجزيرة ستة معابد قديمة، برغم قلة عددهم، وأنّ هناك عددًا أقل من طائفة السيخ ولهم معبد قديم في الجزيرة». إنّ كثرة المساجد في زنجبار -خاصة في المدينة الحجرية- وتنوعها لهو شاهد على درجة كبيرة من التسامح والتعايش بين أهل الجزيرة تحت حكم العُمانيين، ممّا يدحض أكاذيب المرشدين السياحيين وكتب الغربيين المغرضين التي تحاول النيل منهم.


Monday, May 19, 2025

هدية أمام ضريح الشيخ

 زاهر بن حارث المحروقي

جريدة عمان 19 مايو 2025

عدا مسجد الشيخ ناصر أبي نبهان الخروصي الذي تحدثنا عنه فـي المقال السابق، يوجد فـي «المدينة الحجرية» أكثر من خمسين مسجدًا، واللافت هنا أنّ لكلِّ مذهب مسجده الخاص، ويصل عدد مساجد الإباضية فـي هذه المدينة إلى عشرين مسجدًا، تحولت إلى مساجد للشافعية بعد انحسار الوجود العُماني فـي الجزيرة.

كنتُ قبل سنوات قد شاهدتُ فـيديو لصلاة العيد فـي مسجد السيد حمود فـي زنجبار، هكذا كتَبَ من أرسل الفـيديو فـي التعريف بالمسجد. ما شدّني فـي الفـيديو أنه لو لم يُذكَرْ فـيه أنّ الصلاة فـي زنجبار لما جادل أحدٌ أنها فـي عُمان؛ لأنّ كلَّ المصلين الظاهرين فـي المقطع عُمانيون وبلباسهم التقليدي. لذا حرصتُ فـي هذه الزيارة على أن نزور هذا المسجد ونصلي فـيه. وما زادني شوقًا لذلك أنني قرأتُ أنّه كان له دورٌ إصلاحيٌّ، إذ كان مدرسة يتعلم فـيها الناس أمور دينهم، كما أنّ الشيخ العلامة أبو إسحاق إبراهيم اطفـيّش كان يلقي دروسه فـيه ما بين صلاتي المغرب والعشاء أثناء زيارته لزنجبار، وكان طلبة العلم يتزاحمون على حلقته، من ضمنهم سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي الذي سيُصبح فـيما بعد المفتي العام لسلطنة عمان.

وقبل أن أواصل سرد حكاية المسجد، وعلى ذكر العلامة اطفـيّش، فقد حكى لي الشيخ سعود بن حمد الرواحي، أحد الذين قضوا فـي زنجبار ردحًا من الزمن، أنّ الشيخ أبو إسحاق كان فـي إحدى رحلاته إلى زنجبار ضيفًا فـي بيت الشيخ حمد بن سالم الرواحي؛ والد الشيخ سعود، طوال زيارته لزنجبار، وطلب منه والدُه أن يلازمه. وممّا يُذكر فـي هذا الشأن أنّ صورة انتشرت فـي مواقع التواصل يظهر فـيها الشيخ اطفـيّش مع طفل قيل إنه سماحة الشيخ أحمد الخليلي، لكن ثبت بعد ذلك أنّ الصورة لسعود الرواحي، بعد أن تحرّى عن الموضوع الباحث فـي تاريخ شرق إفريقيا محمد بن عبدالله الرحبي، وقد سألتُ الشيخ سعود عن نسبة الصورة إليه فأكد لي ذلك.

وأعود إلى حكاية المسجد، فقد كانت المفاجأة أننا وجدناه مسجدًا صغيرًا؛ وعلاوةً على ذلك فإنه بلا اسمٍ فـي واجهته، وإنما مكتوب على بابه «وقف». ولم أكد أبوح لسيف وسليمان بظنّي أنّ هذا ليس هو المسجد المقصود، حتى قطع الشيخ عبدالله بن حميد البحري إمام المسجد، الشكَّ باليقين بتأكيده أنه هو المسجد الذي نبحث عنه. سألني: «متى آخر مرة صليتَ فـيه؟» أجبتُ: «هذه أول مرة أزور فـيها زنجبار»، وحكيتُ له حكاية فـيديو الصلاة.

على أية حال؛ ما زالت جماعة المسجد تحافظ على إقامة دروس دينية فـيه بعد صلاة المغرب كل أربعاء. ولاحظتُ عندما صليتُ الفجر فـيه غير مرة، أنّ عادة السلام المتبعة فـي عُمان قبل جائحة كورونا ما زالت متبعة هناك، حيث يسلم الإمام ويصافح جميع المصلين بعد الصلاة، فـيما يسلم الجميع على بعضهم البعض. ولاحظتُ كذلك أنّ عدد المصلين فـي المسجد قليلٌ، وقد طلب منا الشيخ عبدالله البحري مرة أن نضع أحذيتنا فـي صناديق خاصة معدة لذلك، تشبه صناديق البريد، أو صناديق الأمانات فـي المولات التجارية، حيث يأخذ المصلي مفتاح الصندوق معه أثناء الصلاة. ويبدو أنّ ظاهرة سرقة الأحذية منتشرة هناك.

المسجدُ واحدٌ من ثلاثة مساجد تركها السيد حمود بن أحمد بن سيف البوسعيدي - ضمن أوقاف كثيرة - حيث ترك مسجدين آخرين فـي منطقة «بوبوبو»؛ الأول كان يسمى المسجد الصغير «مسكتي مدوغو» ويقع بالقرب من مركز الشرطة، وقد وُسِّع الآن وأصبح جامعًا كبيرًا، أما الآخر فموجود فـي الداخل حيث مزرعة السيد حمود وقصره، وقد دفن بجنب هذا المسجد بعد أن لازم محرابه فـي سنواته الأخيرة، وقبرُه لا يزال موجودًا هناك.

أفادني الشيخ عبدالله البحري إمام مسجد السيد حمود، أنه تعاقب على إمامة مسجد السيد حمود فـي ماليندي علماء وشيوخ أجلاء معظمهم من الكنود، منهم الشيوخ سعيد بن ناصر الكندي، ومحمد بن سعيد الكندي، وعبدالرحمن بن محمد الكندي، وصالح بن سعيد الكندي، عيسى بن سعيد الكندي، وموسى بن صالح الكندي، وعبدالله بن يحيى الكندي، ومحمد بن عبد الله الكندي، وعلي بن محمد الكندي. والآن المسجد بيد جيل جديد من الأئمة.

لا يفصل بين مسجد السيد حمود ومسجد «ماليندي» إلا شارع ضيّق يسمح بمرور سيارة واحدة فقط. ومسجد «ماليندي» هذا من أهم المعالم التاريخية المحمية؛ لأنه من أقدم المساجد فـي زنجبار، ويرجع تاريخه إلى القرن الخامس عشر، ويتبع القائمون على المسجد إحدى الطرق الصوفـية، وقد لاحظنا عند صلاتنا هناك أنّ الإمام والمصلين يهلِّلُون بشكل جماعي عقب الصلوات مباشرة، أما صلاة المغرب فتقام بعد الانتهاء من الأذان فورًا، بحيث لا يفصل بين الأذان والإقامة فاصل زمني. فـي الجانب الأيمن من المسجد تقبع عدة قبور، منها ضريح السيد أحمد بن أبي بكر بن سميط العلوي الحسيني، وبجواره تلميذه المربي الشيخ سعيد بن دحمان، ودُفِن أيضًا بجوارهما الحبيب أحمد بن حسين بن الشيخ أبي بكر؛ هؤلاء كلهم فـي ضريح واحد. وخارج الضريح هناك قبور الشريف أحمد بن علوي بن محمد باعلوي الحسيني، والشريف علوي بن أحمد بن علوي باعلوي الحسيني وغيرهم، وكلُّ قبر عليه شاهد يحمل اسم المتوفى.

والشيخ أحمد بن أبي بكر بن سميط، هو فقيه وقاض من أصول حضرمية، استقر فـي زنجبار، وعاش فـيها حياة حافلة بالنشاط والعطاء، فازدادت بذلك سمعته.

من المفارقات العجيبة أنّ صديقي أحمد بن فـيصل الجهضمي أرسل لي عبر الواتساب يطلب هدية بعينها من زنجبار، وهي عبارة عن صورة لضريح الشيخ ابن سميط، واصفًا لي موقع المسجد، ولم يكن يعلم أنني ورفـيقَيْ رحلتي صلينا فـيه مرارًا. وما حصل أنّني كنتُ حينئذ قريبًا جدًّا من المسجد، فذهبتُ إليه من فوري، والتقطتُ عدة صور؛ وإذا بإمام المسجد يداهمني فجأة ويسأل: «هل أتيت لزيارة الضريح؟»، أجبتُ: «نعم». قال: «أنا أيضًا أحسستُ برغبة عارمة لزيارته، لذا جئتُ». قلت له: «الله جابك»، فتح لي باب الضريح فدلفت إلى الداخل، قرأتُ الفاتحة وأخبرته بقصة صديقي الذي يريد هدية. التقطتُ الصور وأرسلتُها لأحمد، ولم يستغرق الأمر إلا دقائق قليلة لا تتعدّى الخمس. ومع اندهاش أحمد لهذه السرعة قلتُ له: «إنّ الله استجاب فورًا وأرسل لي الإمام شخصيًّا ليفتح لي الضريح».

وليس بعيدًا عن مسجدَيْ السيد حمود وماليندي، هناك مسجد فرضاني «مسجد الجمعة» المطل على الميناء، ومسجد بني رواحة، الذي سأتحدث عنهما وعن مساجد أخرى فـي مقال الأسبوع القادم إن شاء الله.


Friday, May 9, 2025

ماذا فعلتِ بنا يا سيدة رويته؟!

 زاهر بن حارث المحروقي

جريدة عمان 6 مايو 2025

ونحن نتمشّى في بيت المتوني بصحبة جوهر؛ كبير خدم السيد سعيد، تذكرتُ «البنجلة»، حسب ترجمة العُماني زاهر الهنائي لمذكرات السيدة سالمة، والتي جاءت في الترجمة الأخرى للعراقية سالمة صالح «البنديلة». دار في ذهني أنّ المترجم حين يُترجِم من اللغة الأم مباشرة فهذا يعني أنه يقبض على ميزة لا يتحصّل عليها الذي يترجم من لغة وسيطة. وهذا ما يجعل ترجمتَيْ زاهر الهنائي وسالمة صالح هما الأكثر دقة، لأنهما جاءتا عن الألمانية مباشرة، لا عن الإنجليزية كما هي ترجمة الدكتور عبدالمجيد القيسي. وقد تحدثّتْ المترجمة العراقية في مقدمتها عن أخطاء فادحة قلبت المعنى في ترجمات الكتاب السابقة من الإنجليزية. سألتُ جوهر: أين هي «البنجلة» أو «البنديلة»؟ فأجاب: «الأصح البنديلة. لقد اختفت مع مرور السنين، كانت أجمل مكان في بيت المتوني؛ إذ هي شرفة عظيمة مستديرة، وكان حولها عددٌ كبيرٌ من كراسي الخيزران، وهناك منظارٌ كبيرٌ للاستخدام العام، وكثيرًا ما كان السيد سعيد يمضي هناك ساعات طويلة جيئةً وذهابًا، مفكرًا في شؤون ملكه وأحوال الرعية ومطرق الرأس بحثًا عن الأفكار الجديدة الخلاقة التي تضيف المزيد من الرفاه لشعبه». وأنا أستمع لجوهر تذكرتُ أنّ السيدة سالمة ذكرتْ في مذكراتها أنّ والدها اعتاد وزوجتُه السيدة عزة بنت سيف البوسعيدي وكذلك جميع أولاده البالغين، أن يحتسوا القهوة هنا عدة مرات في اليوم، ومن أراد أن يكلم الأب دون أن يقطع عليه أحدٌ أتاه إلى هنا بالذات وليس في أيِّ مكان آخر.

في تجوالنا أشار جوهر إلى أحد الأجنحة قائلًا: «هذا جناح بيبي عزة»، يقصد السيدة عزة بنت سيف؛ وهي إضافةً إلى كونها زوجة السيد سعيد فهي أيضًا ابنة عمّه. وقد تخيلتُها كما ذكرَتْها السيدة سالمة في مذكراتها: «هي أميرةٌ عُمانية، وكانت الآمرة والناهية في البيت؛ كانت تملك على الرغم من قِصَرها وعدم وجود ما يميّزها في المظهر، سلطة لا تُصدَّق على أبي، حتى إنه كان يتبع تعليماتها طائعًا دائمًا. وكانت مستبدة للغاية تجاه النساء الأخريات وأولادهن، ومتعالية ومتطلبة»، ولا غرابة إذن أن تقول السيدة سالمة: «كان من حُسن حظّنا أنه لم يكن لها أولاد وإلا لكان جبروتُها حتمًا لا يطاق». وأنا أقفُ في جناحها الآن، كنتُ أشاهد ذلك الطابور الذي يأتيها يوميًّا ليؤدي واجب التحية الصباحية دون أن يكنّ لها الحب، «وهكذا كان الجميع يمكن أن يشعروا بالضغط العلوي الصادر منها، ولكن دون أن يسلب ذلك الكثير من روعة الحياة في بيت المتوني عند ساكنيه»، كما تقول السيدة سالمة.

أخذَنا جوهر إلى الغرفة التي وُلِدتْ فيها السيدة سالمة وعاشت سبع سنوات، قبل أن تنتقل هي وأمُّها إلى بيت «الواتورو» في العاصمة، بطلب من أخيها ماجد الذي خلف السيد سعيد في حكم زنجبار. الغرفة باقية كما هي، ودارت أفكارٌ وأسئلةٌ في نفسي: هل تخيلتْ جدرانُ هذه الغرفة وسكانُ بيت المتوني ما ستكون عليه سالمة فيما بعد؟ طلبتُ من سيف أن يلتقط لي صورًا تذكارية في هذه الغرفة بالذات؛ فأنا أدين للسيدة سالمة بأنها عرّفتني ببيت المتوني وساكنيه وبنمط حياة والدها، ويُحسب لها أنها وثّقت حياتها في كتاب، وإلا لما كنّا نعرفُ الكثير ممّا يدور خلف جدران القصور العالية، كما أدين لها كذلك أنها حبّبتني في بيت المتوني قبل أن أزوره؛ لذا فأنا أمام كلِّ غرفة وكلِّ ركن كنتُ أستحضر مذكراتها وسنواتها السبع التي عاشتها هنا.

كانت المفاجأة عندما خرجنا من الغرفة، فإذا نحن أمام السيدة سالمة بشحمها ولحمها، جاءت لزيارة البيت الذي ولدت فيه وعاشت طفولتها، ظهرت طويلة القامة ممتلئة الجسم، ترتدي فستانًا طويلًا، حاسرة الرأس وقد غزاها الشيب. بادرتُها بالسلام مستخدمًا اسمها المسيحي: أهلا سيدة رويته. ردّت علينا وفي وجهها جهامةٌ وكأنّها تتساءل: من هؤلاء المتطفلون على غرفتي؟ ألا يكفي ما أصابني؟! تنحّى عنّا جوهر وابتعد تمامًا عن المشهد؛ يبدو أنه استعاد تلك الأيام التي حملها بين يديه وهي طفلة، وهو يحفظ لوالدتها ذكرى طيبة، إذ كانت محبوبة من الجميع، ولا أدري هل كان ابتعاده من مهابتها في قلبه أم أنّ له موقفًا مما فعلتْه؟

سألتُها: «بعد كلِّ الذي جرى لك ألم تندمي؟ ألم تكوني تعلمين بأنّك بمغامرتك تلك ستوغِرين عليك صدور عائلتك، وسيعُدُّون -هم والعُمانيون جميعًا- ما فعلتِه تلطيخًا لسمعة العائلة وصورة والدكِ العظيم؟ ألم تكوني تعلمين أنك ستدفعين ثمنًا غاليًا؟ وهل بكتابتك مذكراتك كنتِ تدافعين عن نفسك؟!». لم أتلقَ الإجابة لأنني لم أجرؤ أن أطرح أسئلتي علنًا، كانت تلك التساؤلات في نفسي فقط، أما جهرًا فقد طرحتُ هذا السؤال: «سيدة رويته؛ كيف ترين بيت المتوني بعد هذا الغياب الطويل؟» أجابت: «حزنتُ أيّما حزن. فبدلًا من أن أرى بيتًا رأيتُ خرابة متهالكة بالكامل، ولم يكن لأيِّ صوت أو حس قدرة على أن ينفِّس عني الضيق الذي انتابني من هذا المشهد غير المتوقع على الإطلاق (...) لقد وقفتُ ذاهلة طويلًا وأنا أرى اختفاء أحد الجسرين اللذين يقودان إلى الغرفة المنعزلة. اختفى تمامًا. أما الجسر الآخر فقد نمت عليه النباتات وأصبح واهيًا إلى درجة أنّ المرء لا يمكن أن يصعد عليه دون مجازفة»، (أشارت بيدها إلى الجسر الباقي وطلبت منا ألا نقترب منه) لم تعطنا أيَّ فرصة للحديث أو السؤال، إذ واصلتْ: «أكثر من نصف البيت يبدو في حالة خراب تام، كما لو أنه قد انهار، والحماماتُ التي كان الإقبال عليها كبيرًا في يوم من الأيام، وكانت ممتلئة على الدوام بالناس المبتهجة، فقدَتْ جميعُها أسقفها تقريبًا، والذي يدلّ على موقع كلٍّ منها الآن مجرد كومة من الأنقاض، وما بقي قائمًا منها -كما ترون- تجرّد من سقوفه وأرضيته أيضًا. كلُّ شيء قد تداعى أو أوشك على الانهيار، وكما تشاهدون في الفناء بأكمله ترعرعت الحشائش من كلِّ نوع. لا شيء يجعل المُشاهد الذي ليس لديه خلفية عن القصر يدرك حتى أقل القليل من الأبهة التي كان عليها». قلتُ: «سيدة رويته؛ أنتِ تتأسفين على حال بيت المتوني، ماذا لو رأيتِ حال بيت المرهوبي، الذي بناه السلطان برغش؟!». أخرجت على الفور منديلًا من حقيبتها اليدوية يشبه المنديل الذي تحمله المطربة أم كلثوم، ومسحت جبينها فيما اتكأت بيدها الأخرى على الجدار وقالت -وعلامات الغضب بادية على محياها: «لا أعرف بيت المرهوبي، ولا أريد أن أعرفه!».

كان علينا في تلك اللحظة أن نتركها دون أن أفوّت فرصة شكرها إذ حبّبتني في البيت قبل أن أزوره، كما ذكرتُ قبل قليل.

انتقلنا إلى جناح زوجة السيد سعيد الشرعية الثانية وهي فارسية. يذكر الشيخ سعيد المغيري أنها ابنة أريش ميرزا العجمي، وصحِبَتْه إلى زنجبار عام 1849 ومعها حاشية كبيرة، ويقال إنها أغاظت العرب العُمانيين بسيرتها، إذ كانت تركب الخيل وتخرج حاسرة الرأس مع حاشيتها الكبيرة، لذا لم تعش معه طويلًا فطلقها وعادت إلى فارس.

يميّز بيت المتوني تلك الحمّامات التي تقع جميعُها في صف في الفناء عند أقصى نهايته، وفي معزل عنها يقع ما يُدعى بالحمّام الفارسي الذي تصفه السيدة سالمة بأنه «في الواقع حمّام بخاري تركي، كان يُعد في زنجبار فريدًا في طراز فنّه المعماري»، وقد أرانا جوهر الحمّام الخاص بالسيد سعيد وزوجته السيدة عزة، وفيه موضع للاستراحة، كما فيه موضع مرتفع مخصص لأداء الصلوات. يقول جوهر: «كان لا يُسمح لأيِّ أحد أن يطأ هذه المواضع العالية مرتديًا نعاله».

وما لاحظناه في بيت المتوني كثرة السلالم، ولم تكن مريحة. وأنا أصعد عليها وأرى أمامي جوهر وبقربي سيف يلهثان، كنتُ أتساءل كيف كانت النسوة والأطفال يصعدون مثل هذه السلالم «التي يبدو أنها وُضعت لعملاق من العمالقة» كما وصفتها السيدة سالمة؛ لكن يبدو أنّ نمط البناء القديم كان يستخدم سلالم كهذه؛ فهذا ما لاحظتُه في معظم سلالم البيوت القديمة في زنجبار، ومنها سلالم الفندق الذي نزلنا فيه.

على كلّ حال، واصلنا تجوالنا في أقسام البيت المختلفة، وشاهدنا مدرسة تحفيظ القرآن الكريم في الركن الخلفي من البيت، وكأني أسمع المعلم يحفّظ الأطفال القرآن، ويُعلّم الذكور القراءة والكتابة وبعض الحساب، وانتقلنا إلى المطبخ الذي تُعَدُّ فيه المأكولات العربية والفارسية والتركية، بسبب الأعراق المختلفة التي عاشت في هذا البيت وفي «بيت الساحل» في المدينة.

قلتُ لجوهر ونحن نغادر الساحة الداخلية للبيت: «لا أستطيع أن أتصوّر أنّ سكان هذا البيت يصل إلى ألف نفس، كما ذكرَتْ السيدة سالمة»، قال: «هناك أجنحة أخرى للخدم في الجهة الأخرى»، عندما رآني غير مقتنع أضاف: «ثم إنّ مولاي السيد سعيد شرع في بناء بيت الراس على مقربة من هنا، بعض أن ضاق بيت المتوني بساكنيه ولكنه رحل قبل أن يكمله»، ثم أخذَنا جوهر أنا وسيف إلى المدخل الذي دخلنا منه إيذانًا بانتهاء الزيارة.


Monday, April 28, 2025

في بيت المتوني: صورة السيد سعيد

 زاهر بن حارث المحروقي

جريدة عمان 21 ابريل 2025

ونحن نحثّ الخُطى في طريقنا إلى «بيت المتوني» عادت بي الذاكرة إلى السنين الخوالي، حين سكنت -بخيالي- في هذا البيت في ثمانينيات القرن الماضي، عندما صدر كتاب «مذكرات أميرة عربية» عن وزارة التراث القومي والثقافة العُمانية. نقلتني السيدة سالمة التي عُرفتْ لاحقًا باسمها الألماني «إميلي رويته» إلى جو البيت بِناسِهِ وصخَبه وغُرفِه وممراته وخَدمِه، بل حتى بالحيوانات التي تعيش فيه، وعرّفتني بأبيها السيد سعيد بن سلطان وزوجتِه السيدة عزة بنت سيف، وببعض جواري السيد سعيد، وكيف كان يعامل الجميع صغارًا وكبارًا، وكيف كانت الحياة تجري في هذا البيت، عندما يكون سيده موجودًا فيه.

حالي وأنا في طريقي إلى البيت يشبه تمامًا حال ذلك العاشق المتيّم الذي يذهب لملاقاة حبيبته بعد فترة غياب، ولم أكن بحاجة إلى تعرّق العشاق؛ فالرطوبةُ في مزارع البهارات التي جئنا منها قبل لحظات، أدّت هذا الدور على أكمل وجه. هيّأ لي عقلي الباطن أنّ السيد الذي شغل الدنيا في حياته، وأتعب الكُتاب والمؤرخين بعد رحيله، لا يزال على قيد الحياة في هذا البيت الأسطوري، وأنّ رحلتنا لن يُكتب لها النجاح إلا بلقاء هذا الرجل الأسطورة. من حُسن الحظ أنني كنتُ أحمل في جيبي بعض الزيوت العطرية، فتعطرتُ بها ونحن على مقربة من البيت. تساءلتُ في قرارة نفسي: كيف سنجد بيت المتوني؟ هل مثلما وصفته السيدة سالمة أم أنّ الدهر قد لعب به لعبته كما لعب بالنظام العُماني كله في الشرق الإفريقي؟ وهل السُكنى في مكان مثل هذا تمنح الإنسان القدرة على اتخاذ القرارات المهمة في حياته؟! وما الذي جعل السيد سعيد بن سلطان يتخذ هذا المكان أول سكن له قبل أن ينتقل إلى العاصمة؟! وما هي قصة بيت المتوني أصلًا؟ هل اشتراه السيد سعيد بالفعل من شخص يُدعى صالح بن حرمل العبري وأجرى عليه الإضافات، كما قيل أم أنه استولى عليه عقابًا لصالح بسبب مخالفته لمعاهدة «موريسبي» عام 1822 التي بموجبها يُحظَر على كلِّ مواطن عُماني أن يتاجر بالعبيد، كما قيل أيضًا؟

بطبيعة الحال بما أنّ بيت المتوني (Beit El Mtoni) تحديدًا يحتل مكانًا عليَّا في كلِّ تاريخ الجزيرة لارتباطه بأعظم سلاطين عُمان الذين حكموا زنجبار، فقد قيل عنه الكثير؛ ومن ذلك أنّ السلطان سعيد هو من بناه بنفسه في النصف الأول من القرن التاسع عشر بين عامي 1828 و1834؛ أما الرواية الأخرى فتقول: إنّ الذي بناه هو صالح بن حرمل العبري، وهو -كما وصفه المؤرخون- شخصية تجارية مهمة إبان حكم السيد سعيد، ونُسِب إليه إدخال زراعة القرنفل إلى الجزيرة. ويقال: إنه هرب لساحل «مريما»، وهناك التقى برجل فرنسي يُدعى «مسيمو سوسي»، ومن خلاله بدأ في زراعة القرنفل في المنطقة، كما أنه بنى هذا البيت في منطقة متوني، ثم انتقلت ملكيته للسيد سعيد، دون أن نعرف كيف حدث هذا الانتقال.. نزعًا أو شراءً؟ فلا توجد معلومات موثقة حول ذلك.

وصلنا إلى الباحة الخارجية لبيت المتوني، وتحت الأشجار انتظرنا إنهاء إجراءات الدخول، وكانت ثمة نبذة عن سيرة السيد سعيد بن سلطان مكتوبة باللغة الإنجليزية بخطّ واضح مع صورته وصورة ابنته السيدة سالمة، باعتبارها مولودة في هذا البيت. وفي اللوحة التعريفية صورة لامرأة جميلة قيل: إنها ربما تكون أم سالمة، وهي صورة المرأة نفسها التي رأيناها في متحف السيدة سالمة في شارع «هوروموزي»، إلا أنّ سعيد الغيثي مؤسس وصاحب المتحف لم يستطع الجزم أنها أم السيدة سالمة مكتفيًا بعبارة «يُقال ذلك». ولا يبدو من الأوصاف التي ذكرتها سالمة في كتابها أنّ الصورة لأمها، ثم إنّ السيد سعيد لم يكن ليسمح بتصويرها أصلًا، خاصةً إذا ما علمنا أنّ لديه تحفظات على مجرد فكرة التصوير؛ سواء لنفسه أو لغيره، وسواء لأغراض النشر العام أو الخاص.

وقبل أن ندخل البيت، أود أن أشير إلى أنّ الغربيين عامةً يهتمون كثيرًا بالسيدة سالمة نظرًا لقصتها التي خالفت فيها المألوف من إقامة علاقة -وهي المسلمة- مع ألماني مسيحي ثم الهرب والزواج منه، والأكثر من ذلك تغيير دينها. وقد لاحظتُ في حديثي مع أحد العُمانيين المقيمين في زنجبار أنه مستاء من سعيد الغيثي لأنه فتح متحفًا خاصًا بالسيدة سالمة يضم بعض مقتنياتها، وقال مستنكِرًا: «ما فائدة ذلك؟»، وفي مطلق الأحوال فإنّ الغيثي وبمجهوده الشخصي استطاع جمع مقتنيات خاصة بالسيدة سالمة -كما أشرتُ سابقًا- وبالتالي قدم خدمات معلوماتية ثرية لزوار متحفه.

يقع بيت المتوني على البحر ويبعد تقريبًا ثمانية كيلومترات عن مدينة زنجبار في ناحية جميلة، ويختبئ بين مجموعة من أشجار الأمبا والنارجيل وغيرها من النباتات الاستوائية العملاقة، واستمد اسمه من نهر صغير قادم من الداخل من بُعد عدة ساعات -كما قيل- ويبدو من آثار القصر أنه كان يقطعه بأكمله في عدة توصيلات على شكل أحواض ويصبُّ مباشرة خلف أسوار القصر في الخليج الذي يفصل زنجبار عن البر الإفريقي. وفي الوقت الحالي لا يبدو أنّ هناك ما يشير إلى وجود ذلك النهر.

وبينما نحن نستعد للدخول إلى بيت المتوني، إذا بـ«جوهر» كبير خدم السيد سعيد يتقدّم مشيرًا إلينا: «تقدّموا». تقدّمنا إلى الأمام فإذا نحن أمام شخصية مهيبة، بلحية كثة بيضاء، لا هو بالقصير، ولا بالطويل، وينم وجهه عن نبل ووقار كبير وجسم رشيق ممتلئ، يعتمر العمامة السعيدية ويلبس دشداشة عُمانية، زرُّها مقفل، مع بشت مزركش، تكسوه المهابةُ والوقارُ، ويشع من عينيه النور. يا إلهي! إذن نحن الآن أمام الشخصية التاريخية المهمة: السيد سعيد بن سلطان نفسه بكامل أُبَّهتِه ووقاره.

وبما أنني لا أجيد آداب التعامل مع الملوك نظرتُ إلى خلفي وجِلًا لأقدّم سليمان للسيد؛ فهو في هذا الأمر أدرى وأبصر منا، لأنه عَمِل نائبًا للوالي ثم واليًّا في أكثر من ولاية من ولايات سلطنة عُمان، لكني -لخيبتي- لم أجد سليمان. وفي لحظات كان عليّ أن أقرر؛ هل أقبّل يده؟ هل أنحني له؟ وماذا أقول له؟ ولكن بساطة الرجل وتواضعه أبعدا عني وعن رفيقي سيف كلّ المخاوف؛ فسلمنا عليه ورحّب بنا، وطلب من جوهر أن يؤدي الواجب تجاهنا، وتركناه في مكانه، فربما ينتظر ضيوفًا من الأكابر أو قناصل الدول العظمى. وفي الواقع فإنّ شكل الرجل يختلف كلّ الاختلاف عن الصور الشائعة عنه، وأشهرها الرسمة المعروفة بالرسمة الأمريكية التي ترجع للملازم والمستكشف الإيرلندي Henry Ploose Lynch، والمحفوظة في متحف Peabody Museum بالولايات المتحدة الأمريكية، وهي الرسمة التي سَلَّم كثيرون بأنها تمثل وجه السيد سعيد الحقيقي. وهناك رسمة أخرى فرنسية نُشرت في المجلة الفرنسية «l’illustration Journal Universal» بتاريخ 24 يناير 1852م أي قبل أربع سنوات تقريبًا من وفاة السيد سعيد بن سلطان، لكنها لم تنل شهرة الرسمة الأولى. كان المؤرخ الشيخ سعيد بن علي المغيري من أوائل من وثّق رفض نسبة تلك الرسومات إلى السيد سعيد بن سلطان، وقد كتب في «جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار» الصفحة 255: «لم يوجد للسيد سعيد رسم صورته، لأنه كان من مسلمي الطراز القديم الذين يحرّمون التصوير، لكن هذه الأيام القريبة قيل: إنه وُجدت صورتُه في المتحف الأمريكي، وقد وصلت إلى زنجبار؛ غير أنّ بعض العرب ينكر هذه الصورة، إنها لم تكن صورة السيد سعيد، لأنّ منظر اللباس الذي على هذه الصورة لا يشبه لباس عرب عُمان ولا لباس عرب زنجبار، ولأنّ السيد سعيد لا يرضى أن يُؤخذ شيءٌ من لحيته كما يُرى في الصورة الموجودة».

وبما أنّ صورة السيد سعيد قد شغلت المهتمين بالتاريخ العُماني، فقد أعاد فريقٌ عُمانيٌّ رسمه في إنتاج عالي الدقة، بعد اكتشاف أخطاء في الرسمة الأمريكية المشهورة، واعتمد الفريق على المصادر التاريخية بالوصوف المتوفرة عن هيئة السيد سعيد وشكله وتفاصيل ملابسه. كلُّ ذلك لا يعنينا الآن. وبما أننا تركنا السيد ينتظر ضيوفه، فإنّ علينا أن نكمل جولتنا في بيت المتوني. وهو ما سأتحدث عنه في مقال الأسبوع المقبل.


Monday, April 14, 2025

بيت المرهوبي.. النظر المحرّم من نافذة القصر!

 زاهر بن حارث المحروقي

جريدة عمان 14 ابريل 2025

وجهتُنا هذه المرة إلى بيت أو قصر «المرهوبي»، وهو بيت بناه السلطان برغش بن سعيد بن سلطان ما بين عامي 1881 و1882، قبل أن يشرع فـي بناء «بيت العجائب». أخذَنا المرشد السياحي إلى جنبات وباحات البيت شارحًا لنا كلَّ جزء منه. وفـي شرحه كانت هناك إشادة كبيرة بإنجازات السلطان برغش، سواء فـي البيت أو فـي زنجبار عمومًا، وممّا ذكره أنّ هذا البيت محاطٌ بأشجار الأمبا؛ الفاكهة التي أدخلها السلطان برغش إلى الشرق الإفريقي كله، بعد أن أتى بها من الهند، وأنه (أي السلطان) نقل إلى زنجبار التطور الذي شاهده فـي الهند وفـي أسفاره.


وفـي ظنّي أنّ المرشد -حاله مثل كثيرين فـي كلِّ الأماكن فـي زنجبار- خفّف من لهجة العداء ضد العُمانيين التي يَصُمُّون بها آذان الزوار خاصةً من الأوروبيين الذين يُسعدهم سماعه بطبيعة الحال، والذكاءُ السياحي التجاري البحت قد يقتضي هذا بعيدًا عن المسلمات الأخلاقية بالطبع، ثم إنّ المرشد عرف من زيِّنا أننا عُمانيون وأننا لن نقبل أيَّ إساءة، فضلًا عن أنّ إساءة كهذه لو برزت فستؤثر سلبًا على عمله وعلى الحركة السياحية التي يعتمد عليها اقتصاد الجزيرة، وهو يعلم أنّ عدد الزوار العُمانيين ليس قليلًا الآن. ويبدو أنّ الرجل يفهم قواعد عمله كما ينبغي، وهو ما حدث فعلًا عندما بدأ حديثه بوصف المرهوبي أنه أول عُماني يصل إلى هذه المنطقة للمتاجرة بالعبيد، فلما صحّح له سيف المعلومة بأنّ المرهوبي تاجرٌ يبيع كلَّ شيء وليس العبيد، قال: «إنّ هذا ما يقوله الإنجليز، فأين ما تقولونه أنتم؟!»، وقد سبق أن أشرتُ إلى هذا الموقف فـي مقال سابق. سردتُ حكاية هذا المرشد للباحث محمد بن عبدالله الرحبي المتخصص فـي تاريخ «أفرابيا» (تاريخ غرب المحيط الهندي «شرق إفريقيا» زنجبار)، فكان تعليقه أنه «يجب على حكومة زنجبار أن تتخذ تدابير مهمة تخصّ هؤلاء المرشدين السياحيين، من خلال تعليمهم وتدريبهم، للحدّ من هذه الحملات التدليسية التي يتربحون بها؛ ذلك أنّ الأكاذيب حين تكون مدرّة للمال فمن الصعب التخلّي عنها دون قانون صارم أو تدابير حاسمة. والمؤسف أنّ هؤلاء المرشدين دأبوا على إسماع السياح، خاصة الغربيين منهم، ما يودون سماعه فقط، من خلال اختلاق أعداء وهميين -هم فـي هذه الحالة العرب والهنود الذين ولدوا فـي زنجبار- وتجاهلهم ذكر الغربيين وتورطهم فـي تجارة العبودية».


ومن تدليس ذلك المرشد -مثلًا- زعْمُه أنّ السلطان برغش كان يقضي يومين فـي الأسبوع فـي هذا البيت الذي خصّصه لجواريه، وأنه «كان غيورًا جدًا، لدرجة أنه عند مغادرته القصر يحقن خدمه بأدوية تقتل فـيهم الذكورة!»، وهذا الزعم ذكّرني بما كتبه الكاتب محمود صقر فـي موقع «رابطة العلماء السوريين» تحت عنوان «زنجبار باقي الحكاية»: «ما إن خرجتُ من سوق العبيد أحمل غصة اتهام العرب وحدهم بتجارة العبيد، حتى ذهبتُ لزيارة أطلال قصر السلطان برغش بن سعيد المعروف بقصر المرهوبي، تجوّل بي المرشد السياحي بين أطلاله، وهو يشير إلى حالة الشبق العربي المتجسد فـي سلوك السلطان الذي كان ينظر من نافذة القصر لاصطياد من تقع عليها عينه من النساء، بخلاف عشرات المحظيات المجلوبات من خارج زنجبار. يعني خرجنا من سوق العبيد بتهمة للعرب وحدهم فـي الاتجار بالعبيد، ومن قصر المرهوبي باستباحة نساء الجزيرة»! وأنا أستمع إلى مرشدنا السياحي كنتُ أحدّث نفسي أنه من غير المُستبعد أن يكون هو نفسه الذي يتحدّث عنه محمود صقر فـي مقاله. يضيف محمود صقر: «بثثتُ شكواي لأحد الأصدقاء العرب المقيمين منذ زمن مع أسرته فـي زنجبار، فأضاف لي أنّ ما يدرسه أبناؤه فـي الكتب المدرسية لا يبعد كثيرًا عما اشتكيتُ له منه»، وهذه فـي الواقع كارثة كبيرة، فليس هذا ما ينتظره العُمانيون من حكومة زنجبار. وبما أنّ العلاقات جيدة الآن بين الطرفـين، وهناك مساعداتٌ كثيرة تُقدّم لحكومة زنجبار من الحكومة العُمانية ومن القوى الناعمة الأخرى داخل الجزيرة ومن الجمعيات الخيرية، فقد حان الوقت لتصحيح الوضع، وهو وضعٌ ليس فـي تصحيحه أيّ صعوبة، ولا يحتاج إلى أكثر من تحرّك دبلوماسي رسمي.

وربما يتساءل البعض عن هذا المرهوبي صاحب الأرض التي بُني عليها قصر السلطان وسُمِّي باسمه. وفـي الواقع لم تُمِطْ المصادر التاريخية اللثام عن هذه الشخصية، غير أنّ المؤكد أنه كان أحد أفراد عائلة لها نفوذ مالي فـي تلك الفترة. ومما يروى أنّ السلطان برغش استولى على أرض هذا الرجل لخلاف بينهما وأقام عليها قصره هذا، مع احتفاظه بالاسم نفسه «بيت المرهوبي» أو «قصر المرهوبي». وفـي ظنّي أنّ هذه الحكاية تحمل بذرة كذبها فـي داخلها، فلماذا يختار السلطان لقصره اسم شخص هو على خلاف معه؟! الأرجح عندي أن يكون المرهوبي نفسه هو من أهدى السلطانَ قطعة الأرض هذه فقرر السلطان تسمية القصر باسمه تكريمًا له وعرفانًا بعطائه.

يقع القصر شمال المدينة الحجرية، وهو محاطٌ بحائط مستوحى من جدران المتنزهات بإنجلترا، وتوجد به أحواض مائية كبيرة مليئة بزهور الزنبق، وبه أيضًا العديد من الممرات المائية والعديد من الحمامات الموصلة بالمياه العذبة من عين تسمى Chemchem. وتأتي المياه من بُعد أربعة كيلومترات، وكانت سلالم القصر من الرخام الأبيض والأسود المؤدية إلى شرفة كبيرة مدعومة على أعمدة حجرية وكلها مستدير الشكل. يقول المرشد: إنّ حريقًا اندلع بالقصر عام 1889 فدمّره ولم يتبق إلا شكله الحالي، فـيما يقول الباحث محمد بن عبدالله الرحبي: إنّ جميع البيوت والقصور بالريف الزنجباري موصولة إلى المدينة بالهاتف منذ عام 1880، ويضيف: «قصر المرهوبي كان مكانًا لاستراحة السلطان برغش، ويحتوي على الحمامات التركية التي لا يزال بعضها محافظًا على ملامحه، وغرف للجلوس بعد الاستحمام، كما كان يحتوي على برك سباحة وكراسٍ منحوتة من الحجر ونوافـير وحدائق غنّاء. وقد استوحى السلطان برغش التصميم من بعض البلدان الإسلامية، فنجد على سبيل المثال الزخارف والقباب العثمانية واضحة، كما حوّل قناة مائية قريبة من القصر إلى شبكة مياه لتزويد القصر بالماء للحمامات والنوافـير وبرك السباحة».

مع الإكرامية التي منحها له سيف -كعادته لمن يقدّم لنا خدمات فـي هذه الرحلة- كال لنا المرشد السياحي المديح والثناء، وقال: «إنّ زنجبار هي عُمان وعُمان هي زنجبار، وتاريخُنا واحد، ونرحّب بكم دائمًا»، وعلى قدر سعادتي بهذا الإطراء كان شيءٌ ما فـي داخلي متشككًا: «تُرى هل هذا ما يقوله عن عُمان والعُمانيين أمام الآخرين؟!». ويبدو أنّ سمة الترحيب عند التوديع هي سمة زنجبارية خالصة؛ فلم ندخل محلًّا أو مطعمًا إلا ويشكروننا فـي الوداع ويقولون بالسواحلية بكلّ لطف: «karibuni tena»، بمعنى: تفضلوا ثانيةً.

ونحن نغادر بيت المرهوبي، قلت لصاحبَيّ -سيف وسليمان- إنه رغم الحريق الذي التهم المبنى، فإنّ الملامح العامة للبيت ما زالت واضحة، وكذلك سُمك الجدران، وهذا يعني أنّ الترميم ليس مستحيلًا، بل أراه واجبًا ليلحق «بيت العجائب» و«بيت الساحل» فـي الترميم، ولماذا لا تشتريه الحكومة العُمانية؟ لأنّ البيت إرثٌ عُمانيٌّ يحكي تاريخَنا هناك، هذا التاريخ الذي يتعيّن أن يظلّ صامدًا فـي مواجهة أعاصير الزمن الهوجاء.


Friday, April 11, 2025

كتاب الحضور العماني في شرق إفريقيا

 يمكن الاطلاع على النسخة العربية من كتاب الحضور العماني في شرق إفريقيا

بزيارة البوابة الإعلامية عبر الرابط التالي
https://www.omaninfo.om/ar/library/55/show/11492

تعلّم الرومانسيّة ودع عنك التاريخ

 زاهر بن حارث المحروقي

جريدة عمان 9 ابريل 2025

قبيل ظهر الجمعة وصلنا إلى قرية «كيبويني»، وهي على بُعد ستة كيلومترات من «المدينة الحجرية» التي سكَنّا فـيها. وكانت وجهتُنا «قصر السعادة» الذي بناه السلطان خليفة بن حارب بن ثويني عام 1915. وفور وصولنا استقبَلَنا الدليل القائم على القصر بامتعاض، لأنّ الوقت الآن غير مناسب للزيارة، فقد اقترب موعد صلاة الجمعة. قلتُ محاولًا التخفـيف من امتعاضه: «اذهب للصلاة، ودع تلك المرأة تشرح لنا». ردّ وقطراتُ ماء الوضوء تقطر منه: «هذه عملها محاسبة فقط».

دفعنا الرسوم المقررة بعد السؤال التقليدي الذي يتكرر فـي كلِّ مكان نذهب إليه: «هل أنتم ضيوف؟»، وتأتي الإجابة ذاتُها فـي كلِّ مرة: «نعم. نحن ضيوف». وأظن أنهم يكررون لنا السؤال دائمًا لأنهم لا يستطيعون أن يجزموا هل نحن من زنجبار أو من عُمان، خاصةً أننا نتحدّث لغتهم. أخذَنا الدليل إلى أقسام «قصر السعادة» المختلفة؛ والذي تبدو حالته جيدة بعد أعمال الصيانة التي أجريت له. أخبرنا أنّ الحكومة الزنجبارية استخدمت القصر فـي بعض المراسم الرئاسية، وجعلت منه مقرًّا لسكن رئيس الوزراء فـي سنة 1986 لفترةٍ وجيزة؛ ثم حُوِّلَ إلى متحفٍ وطني يستقبل الزوار ابتداءً من عام 2022م. أخبرَنا أيضًا أنّ القصر كان استراحة السلطان خليفة بن حارب فـي عطلات نهاية الأسبوع، بعيدًا عن ضوضاء المدينة. وما لم يخبرنا به أنه بعد أحداث عام 1964، استولى الانقلابيون على القصر واستخدموه مقرًّا لاجتماعاتهم الرسمية، وبعد سنواتٍ من الإهمال أقدمت حكومة زنجبار على ترميمه. تساءلتُ فـي قرارة نفسي: تُرى كيف هو شعور أحفاد السلطان خليفة بن حارب وهم يرون أموالهم وبيوتهم تُسرَق من أمام أعينهم وهم بلا حول ولا حيلة ولا قوة؟! ثُمَّ وسّعتُ التساؤل: بِمَ يُحِسّ يا تُرى أولئك الذين نُهبت أموالهم بغير حقّ من العُمانيين واليمنيين والهنود؟! مثل هذه المآسي تحدُث عادةً عندما تقلم أظافر العدالة التي أمر بها الله عز وجل فـي كتابه الكريم، إنها تخلِّف فـي الحلق طعمًا أمرَّ من العلقم، غير أنّ المظالم الفادحة ستظلّ كتابًا مفتوحًا يُقرأ على رؤوس الأشهاد فـي ذلك اليوم الذي لا ينفع فـيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. وفـي ظلِّ هذه المظالم هناك من أعيد لهم بعض ممتلكاتهم بعد جهد جهيد. وقد حكى لي أحد هؤلاء أنّ الانقلابيين استولوا على عقار يعود لجدته، واستحلّوه سنين طويلة بغير وجه حقّ، وعندما أعيد لهم بعد ذلك الجهد، استغرق الأمر سنوات أخرى لبيعه (مضطرين) لأنّ العقار أصبح من حقِّ عشرات الورثة. والعقار حاليًّا يرمم من قبل المشتري الهندي ليصير فندقًا. ونستطيع أن نقيس هذا الأمر على أناس آخرين تعرضوا للنهب، وحين عادت ممتلكاتهم المنهوبة لم يستطيعوا الاستفادة منها بسبب التقادم؛ وهناك كثيرون استسلموا للأمر الواقع، مؤثرين الراحة بدلًا من صداع الرأس والجري هنا وهناك، لا سيما وأنّ الدلائل والشواهد تشير إلى أنّه لا أمل فـي عودة حقهم المسلوب. وقد قادني التساؤلات إلى أن أسأل نفسي: لماذا لا يشتري أحفاد السلطان خليفة بن حارب هذا القصر، طالما أنّ كلَّ شيء قابلٌ للبيع الآن؟!

فـي استراحة السعادة، شاهدنا المقتنيات الشخصية للسلطان خليفة وكامل الأثاث من أسرّة وكراسٍ وطاولات، وسمح لنا القائم عليها أن نلتقط صورة تذكارية فـي الكرسي السلطاني (كرسي العرش) الذي كان يترأس فـيه السلطان الاجتماعات، وبه شعاره الخاص. وكعادته استغل سيف الموقف فصوّر لقطات فـيديو نشرها فـيما بعد فـي حسابه فـي «إنستجرام» وفـي «تيك توك»، وكان لسليمان -كعادته أيضًا- تعليقاته اللطيفة واللماحة؛ فعندما رأى كرسيًّا خاصًّا مصممًا لشخصين يجلسان عليه متقابلين، بعدما وصفه الدليل بأنه «كرسي المحبة»، صرخ سليمان: «يا زاهر تعلّم الرومانسية وخلي عنك التاريخ».

أخبرني الباحث ناصر الريامي أنّ الأثاث الموجود فـي الاستراحة حاليًّا ليس هو الأثاث الأصلي للقصر، إذ إنّ معظم الأثاث الحالي منقول من «بيت العجائب» و«بيت الساحل»، بعدما تقرر غلقهما وحجب جمهور العامة عنهما منذ ما يربو على الثلاث سنوات؛ مخافةَ الانهيار بالكامل، بعد أن انهار جزء من «بيت العجائب»، ليعقب ذلك نقل أغلب أثاثهما إلى متحف استراحة السعادة (قصر كيبويني). وعليه؛ فإنّ هذا الوضع قد يُحدِث لبسًا لزوار المتحف، فـيظنون خطأً أنّ الأثاث المعروض هو ذاته الذي تزينت به الاستراحة فـي فترة السلطان المؤسس لها، ومن جلس على عرش زنجبار من بعده. وأنا شخصيًّا وقعتُ فـي الفخ، فظننتُ أنّ هذا أثاثُ القصر؛ لأنّ المرشد لم يشر إلى الموضوع، لا من قريب ولا بعيد.

هناك مقطع مصوّر يعرض نزول السلطان عبدالله بن خليفة بن حارب السُلّم وخلفه أخوه السيد حارب بن عبدالله، بينما يصطف بجانب السلّم ثلة من الشرطة تحية للسلطان. هذا المقطع لم أكن أعلم أنه مأخوذٌ من هذا القصر إلا بعد أن قرأتُ سلسلة المقالات التي كتبها الباحث ناصر الريامي عن القصور السلطانية فـي زنجبار، وإلا لكنتُ أخبرت سيف أن يلتقط لنا صورًا فـي السلّم نفسه للذكرى.

تجولنا فـي الاستراحة التي تتكون من ثلاثة طوابق. الطابق الأرضي به عدد من الغرف، خُصصت لمن يرافق السلطان من أفراد الأسرة المالكة، كما يشغلها الضيوف أحيانًا، وتوجد بجوار السُلّم غرفة للحارس مزودة بجهاز اتصال هاتفـي من النوع الكلاسيكي العتيق؛ فإذا ما قرر السلطان زيارة الاستراحة يجري الاتصال بالحارس وتنقل إليه التعليمات بتجهيزها لاستقبال جلالته وضيوفه. ومتى ما وصل السلطان يرفرف علم الدولة الأحمر على منارتها مربعة الشكل. أما عن المساحة الإجمالية لقصر السعادة فـيُقدِّرها الباحث محمد بن حمد العريمي ما بين ألفـين إلى ثلاثة آلاف متر مربع. ويعلّق العريمي على طريقة بنائه فـي مقال له فـي صحيفة «أثير» الإلكترونية بالقول: إنه «وعلى الرغم من عدم وجود المساحات الكبيرة التي تميّز القصور عادةً بسبب كونه قصرًا خاصًّا لاستراحة السلطان وقضاء إجازاته، إلا أنّ مكوناته وطريقة بنائه تنم عن ذوقٍ عالٍ فـي التصميم، وتشير إلى التقدم الحضاري الذي وصلت إليه زنجبار فـي تلك الفترة، ومسايرةِ حكامها للتطور الحاصل فـي العمارة والبناء. وقد اختير المكان بعناية حيث إنه مبنيٌّ على حافة الجبل ويطل بشكلٍ كامل على البحر».

هذه الإطلالة على البحر هي ما يجعل قصر السعادة من أجمل الأماكن التي تهفو النفوس لزيارتها أكثر من مرة، خصوصًا مع هدوء المكان، والمساحة الخضراء التي تحيط به من كلِّ جانب.

على كل حال، تركنا القائم على المتحف أو القصر أو الاستراحة ليلتحق بما تبقى من خطبة صلاة الجمعة، وواصلنا مسيرنا إلى «بيت المرهوبي» لنشاهد معلمًا آخر من معالم التاريخ العُماني فـي الشرق الأفريقي.


Tuesday, March 25, 2025

في بيت مغامر عُماني لا يخشى المجهول

زاهر بن حارث المحروقي

جريدة عمان 24 مارس 2025

يوم الجمعة الثالث عشر من ديسمبر (2024) كان يومًا حافلًا، فقد بدأناه بزيارة بيت التاجر والمغامر العُماني حمد بن محمد المرجبي الشهير بـ«تيبو تيب» فـي منطقة «شنجاني». وبيتُ تيبوتيب يُعدّ من المعالم التاريخية المميزة التي تعكس الطابع الثقافـي والمعماري لزنجبار، وقد ارتبط بفترة التجارة المزدهرة التي شهدتها الجزيرة فـي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عندما كانت زنجبار مركزًا تجاريًّا مهمًّا للتوابل والعاج. ومعظم من سكن منطقة شنجاني هم من أثرياء العرب، وما يلفت النظر أنّ هناك شجرة كبيرة فـي الجانب الأيمن من البيت، قال لي الشيخ سالم بن محمد الخنجري الخبير بشؤون زنجبار، إنها تسمى «أوشنجا»، استجلبها المرجبي من خارج زنجبار، وسببُ التسمية أنّ ثمار الشجرة تشبه فصوصًا حمراء اللون وسُمِّيت المنطقة نسبة إلى هذه الشجرة، التي قاومت كلَّ الأحداث وبقيت صامدة حتى يومنا هذا، وشهدت كلَّ الأحداث الحلوة والمرة، ولو قُدّر لها أن تتكلم ماذا عساها أن تقول؟!. لم ندخل البيت لأنه مغلق، وقد أخَذَنا شابٌّ زنجباري إلى قبر المرجبي القريب من المكان، حيث كانت هناك مقبرة، إلا أنها طمرت ولم يبق إلا قبر المرجبي، والذي كان كثيرون يعتقدون لسنوات طويلة أنّ اسمه الأول «حُميد»، إلى أن جاء الباحث والمترجم العُماني الدكتور محمد المحروقي صحّح الاسم فـي مقدمته لكتاب «مغامر عُماني فـي أدغال أفريقيا» إلى حَمَد، معتمِدًا على طريقة كتابته من قبل المستشرقَيْن «برود» و«وايتلي» اللذين كانا يرسمانه هكذا (Hamed).

فـي تجوالنا بين البيت والقبر، بدتْ لنا المنطقة مرتبة نوعًا ما بوضع «الإنترلوك» على الممرات. أخذني الشاب إلى القبر فـيما انشغل سيف بتصوير بعض اللقطات للذكرى، قبل أن يقول لي: «أريد إطلاعك على شيء، ولكن ليس الآن». وقفنا أمام قبر «تيبوتيب»، مستذكرين سيرة ذلك المغامر الذي شغل العرب والأوروبيين سنين طويلة. رآه البعض مغامرًا، ورآه آخرون جنديَّا مقاتلًا شجاعًا مقدامًا، فـيما ذهب البعض إلى أنه مستكشف ساعد الغربيين على اكتشاف مجاهل إفريقيا وبحيراتها ومن ثَم استعمارها ونهب ثرواتها، ولَمْ يَخْلُ الأمر من كارهين له وحانقين عليه، لم يروا فـيه أكثر من كونه تاجرًا للعبيد لا يستحق تلك السمعة التي نالها؛ لكن تيبوتيب فـي الحقيقة هو كلّ هؤلاء.

ربما يسأل البعض من هو هذا المرجبي بالضبط؟ ولماذا أضحى شهيرًا لهذا الحد؟ وفـي ذلك نقول إنه أحد أبرز الشخصيات العُمانية فـي شرق إفريقيا خلال القرن التاسع عشر؛ فقد بدأ حياته تاجرًا، إلا أنه لم يكن تاجرًا عاديًّا، إذْ كان قائدًا للقوافل التي كانت تتنقل ما بين زنجبار والعمق الإفريقي، ولعب دورًا محوريًّا فـي تجارة العاج والقرنفل، وقيل الرقيق، وقادته همّته لاستكشاف المناطق الداخلية فـي العمق الإفريقي حتى وصل لأعماق الكونغو، حيث أضحى زعيمًا محليًّا على عدد من المناطق، ممّا ساعده على تأسيس شبكة تجارية واسعة، وأقام علاقات قوية مع السلطان العُماني برغش بن سعيد. كانت للمرجبي علاقات مع الأوروبيين وساعدهم فـي رحلاتهم الاستكشافـية باعتباره صاحب خبرة لا تدانى فـي العمق الإفريقي. أما لقب «تيبو تيب» فقد أُطلق عليه بسبب الصوت الذي كانت تصدره أسلحته النارية، والذي كان يُسمَع هكذا: «تيبو تيب»، وهذا الصوت يشير غالبًا إلى صوت سلاح رشاش، وربما أنّ كلامه كان سريعًا كهذا السلاح أو أنه كان سريعًا فـي مغامراته ولا يخشى المجهول ولا العواقب. وقد ظلّ المرجبي ذا نفوذ كبير فـي القارة الإفريقية حتى قبل سنوات قليلة من وفاته عام 1905، حين تقلّص هذا النفوذ لتنامي الهيمنة الأوروبية فـي القارة.

فـي طريق عودتنا من قبر تيبوتيب إلى الفندق أطلعني سيف على ما أثار انتباهه، وهو أنه شاهد أغطية الصرف الصحي مكتوبًا عليها باللغة العربية «بلدية أبوظبي». أخبرتُه أنني قرأتُ بعض الأخبار عن بيع المنزل لشركةٍ خليجية بغرض استخدامه كمرفق لفندق ضمن الكثير من المنازل التي بيعت لمستثمرين، ولكن البيع لم يثبت حتى الآن، لأنّ اللوحة التعريفـية بالمرجبي ما زالت معلقة فـي الجدار. تعود ملكية المنزل أساسًا إلى الشيخ مسعود بن علي الريامي بعد أن اشتراه من ورثة المرجبي، إلا أنّ حكومة زنجبار صادرته ضمن الممتلكات التي صادرتها من العُمانيين عام 1964، وتركت تلك المنازل نهبًا للسرقات المنظمة من قبل لصوص الآثار، شارك فـيها -كما قيل- بعض المسؤولين، حتى أصبحت الأبواب والنوافذ ومتعلقات هذه المنازل تباع فـي الأسواق العالمية للآثار خاصة فـي جنوب إفريقيا. باعت حكومة زنجبار بعض منازل المدينة الحجرية للأوروبيين والهنود أولًا، والآن دخل على الخط مستثمرون خليجيون ومغاربة عملوا على مسح أيِّ ذكر لأصحاب تلك المنازل، ومن المباني التاريخية التي بيعت بالفعل، المنازل التابعة لقصر بيت الساحل وتقع خلف القصر مباشرة، وكذلك بيت الشيخ سالم بن بشير البرواني.

من جهتي كنتُ أؤمن دائمًا أنّ هذه الهجمة الشرسة على التاريخ العُماني فـي شرق إفريقيا ومحاولات البعض طمسه من الذاكرة لن تنجح؛ لأنّ المد العُماني فـي الساحل الشرقي لإفريقيا موثقٌ ومحصنٌ تمامًا، هكذا عبّرتُ عن رأيي لسيف الذي باغتني بالقول: «لا تحلم كثيرًا؛ فالمالُ يلعب دورًا مُهمًا فـي تحقيق ذلك الهدف، هذا إذا أضفنا إليها إهمالنا».

بجانب بيت حمد المرجبي، هناك مدرسة الشيخ عبد الله بن سليمان الحارثي لتعليم القرآن الكريم فـي منزل يسمى «بوماني». وقد أفادني الشيخ سالم الخنجري أنّ ورثة المنزل (عائلة عُمانية حارثية) اتفقوا على جعل هذا العقار وقفًا خيريًّا بعد إجراء أعمال الترميم والصيانة والتعديلات المناسبة، ليصبح مدرسة لتعليم القرآن وعلوم الدين الإسلامي، وتعيين ناظر للوقف. تكفّل بالمشروع المكرم الشيخ محمد بن عبد الله بن حمد الحارثي، عضو مجلس الدولة العُماني، وسلم الوقف إلى جمعية الاستقامة الخيرية، تحت مسمى «مدرسة الشيخ عبد الله بن سليمان الحارثي»، وذلك بتاريخ ٦ ديسمبر ٢٠٢٤م. وبدأت الدراسة الفعلية فـي يناير ٢٠٢٥م للإناث فقط بعدد يفوق المائة طالبة.

حقيقةً إنّ عرب زنجبار كانوا متقدمين فـي وقف أموالهم ومزارعهم، ويأتي على رأسهم السيد حمود بن أحمد بن سيف البوسعيدي الذي ترك أوقافًا كثيرة، منها بيتا الرباط فـي مكة المكرمة؛ الأول يسمى بيت الرباط الكبير، والثاني بيت الرباط الصغير، ومسجدان فـي «بوبوبو»، بالإضافة إلى مسجده فـي زنجبار -الذي صلينا فـيه غير مرة- ويدير أموره حاليًّا الشيخ عبد الله بن حميد البحري أحد نشطاء جمعية الاستقامة، وكذلك أوقف السيد حمود مبنى يسمى مبنى القطار فـي زنجبار.

ونحن نغادر منطقة شنجاني ومدرسة الحارثي، بُحتُ لسيف بما يدور فـي نفسي عن شخصية المرجبي التي أرى أنها لم تنل ما تستحقه من الدراسة، إذْ إنّ معظم من كَتب عنها هم مستشرقون غربيون تناولوها من وجهة نظرهم هم فقط، وهي بحاجة إلى اهتمام منا نحن العرب، كما فعل محمد المحروقي بترجمته سيرة تيبوتيب. ومن أبسط أبجديات المحافظة على تراث هذا الرجل المحافظة على إرثه وعدم التفريط بمنزله التاريخي المهدد بالاختفاء من الوجود، مثلما هي معظم مباني المدينة الحجرية فـي زنجبار إن لم تُفَعَّلْ منظومة فاعلة للحفاظ على هذا الإرث. كنتُ أبُثُّ سيف هذه الهواجس وأنا أستذكر تعليق أحد القراء العُمانيين على مقال قديم لي عن المرجبي دعوتُ فـيه إلى هذا الاهتمام به، فإذا به -أي القارئ- يكتب إليَّ متسائلًا: «أيُّ اهتمام تريد بمنزل هذا الرجل الذي اشتهر بأنه نخاس يبيع العبيد؟!! وما فائدة الاهتمام ببيته؟!». وفـي الحقيقة فإنّ ما لم يستطع هذا القارئ استيعابه أنّ التاريخ لابد أن يُكتب بكلِّ علاته وحسناته لفائدة الأجيال القادمة وأيضًا لفائدة التراث الإنساني العالمي. ولو سلّمنا جدلًا بصحة الادعاءات على تيبوتيب (وأنا شخصيًّا أعلم أنها مبَالغٌ فـيها) فإنّ علينا ألا ننسى أنّ القرآن الكريم حكى لنا قصصًا كثيرة عن الطغاة والكفرة والمجرمين والملحدين منذ أن خلق الله آدم عليه السلام، ولنا أن نتخيّل كم سيكون تاريخ البشرية مبتورًا لو أنّ كتاب الله حدثنا فقط عن الصالحين والأتقياء.