أحمد بن خلفان الشبلي
قلعة التاريخ: العدد 5 يونيو 2017
بعد
حوالي شهر ونصف من تولي السلطان خليفة بن سعيد مقاليد الحكم في سلطنة زنجبار ,
وبالتحديد في الخامس عشر من مايو عام 1888 م , بعث ( فليوناردي ) القنصل الإيطالي
بزنجبار , وبرسالة توبيخ إلى السلطان خليفة , يلومه فيها على تعمده عدم الرد على
رسالة ملك إيطاليا ( فيكتور عمانويل ) التي بعث بها إليه[1].
وقد طـالب لتصـحيح هذا الخطأ أن تتنازل سلطنة زنجبار عن مدينة كسمايو الواقعة على
ساحل البنادر الصومالي لصالح الحكومة الإيطالية , وقد أفهم ( فليوناردي ) السلطان خليفة أن بريطـانيا وألـمانيا سـتؤيدان
هذا الطلب [2].
أصاب
هذا الموقف السلطان خليفة بن سعيد بالحزن الشديد , وقد طلب من الجنرال ( ماثيوس )
أن يبلغ القنصل الإيطالي , أنه لم يتعمد اهمال رسالة ملك إيطاليا , وهو يأسف لهذا
التأخير الذي حدث بسبب وصول الرسالة في
شهر رمضان , الذي تتباطأ فيه معظم الأعمال
الرسمية , وأنه لم يتمكن بعد من الاطلاع
عليها [3].
إلا أن القنصل الإيطالي أصر على موقفه , وفي 6 / 6 / 1888 م , أبلغ قناصل كلا من
بريطانيا وفرنسا وألمانيا أنه أنزل علمه من على القنصلية الإيطالية , وقطع علاقته
بسلطنة زنجبار [4].
وعلى
الرغم من أن الخطوة التي أتخذها السفير الإيطالي تبدو لحظية , إلا أن إيطاليا كانت
مهتمة بساحل البنادر منذ مدة طويلة , حيث كانت تهدف من خلال السيطرة على ساحل البنادر للضغط على
الحبشة لإدخالها قسرا في دائرة نفوذها وتحت حمايتها [5].
لذا أرسلت حملة استكشافية على متن السفينة الحربية ( بارباريجو ) بقيادة الكابتن (
تشكي ) , إلى مصب نهر جوبا , وذلك للوصول إلى آخر نقطة صالحة للملاحة يمكن الوصول
إليها فيه . وكتابة تقرير عن أحوال الناس وحركة التجارة وإمكانية استغلال المنطقة
لصالح إيطاليا [6].
ويبدو أن البعثة لم تحقق أي معلومات من شأنها دفع إيطاليا نحو احتلال المنطقة
حينها , فاكتفت بعقد معاهدة تجارية مع السلطان برغش بن سعيد في مايو من عام 1885م[7],
حصلت بموجبها على امتيازات تجـارية مع حرية التنقل في أرجاء السلطنة [8].
ولزيادة
الضغط على السلطان خليفة بن سعيد للتنازل , طلب ( فليوناردي ) في اجتماع مع
السلطان وبشكل صريح ومباشر أن يتنازل له عن كسمايو , من دون قيد أو شرط , وعندما
رفض السلطان خليفة هذا الطلب , قام ( فليوناردي ) في اليوم التالي بإنزال العلم
الإيطالي من على بناية القنصلية الإيطالية , وقطع العلاقات مع سلطان زنجبار [9],
وهو ما كان يعني قطع العلاقات الدبلوماسية مع سلطنة زنجبار , تمهيدا للقيام بعمل
عسكري [10].
وعلى
الرغم من الضغوط التي مارسها القنصل الإيطالي على السلطان خليفة للتنازل عن كسمايو
إلا أنه لم يلتفت إلى هذا المطلب[11].
حيث أن السلطان خليفة قد حصل على تطمينات من جانب الألمان والبريطانيين , تضمنت
تعهدهما بعرقلة مشروع استيلاء إيطاليا على ساحل البنادر[12].
وهذا ما أكده القنصل الفرنسي في زنجبار ( أم . لاكو ) ( M . Lacaus ) في رسالته الموجهة لوزارة
الخارجية في باريس بتاريخ 10 / 6 / 1888 م [13].
ــ
موقف بريطانيا وألمانيا من رغبة إيطاليا الاستيلاء على ساحل البنادر :
لم
يكن التصرف الذي قام به القنصل الإيطالي ( فليوناردي ) , للاستيلاء على ساحل
البنادر ليرضي الألمان والبريطانيين على الأقل في ذلك الوقت , حيث لم يمضي وقت
طويل على استيلاء الدولتين على مساحات واسعة من أراض سلطنة زنجبار , ولا تزال
تداعيات ذلك مستمر , متمثلة في الغضب الشعبي الذي بدأ يجتاح البر الأفريقي من
السلطنة والذي سيطر عليه الألمان , حيث كانت البداية بالامتعاض الذي انتاب العرب
والأفارقة من سكان السلطنة نتيجة الممارسات الألمانية , والتي تسببت فيما بعد
بنشوب ثورة ضدهم بقيادة سالم بن بشير الحارثي , بدءا من أغسطس عام 1888 م [14].
وقد
اعلنت كلا من بريطانيا وألمانيا في 11 / 6 / 1888 م , عدم تأييدهما للمطالب
الإيطالية . بل أن المستشار الألماني بسمارك[15],
أعلن صراحة أنه لن يسمح لإيطاليا باستخدام القوة العسكرية ضد سلطنة زنجبار[16].
كما أمر في الوقت نفسه قنصله في زنجبار بتوجيه إنذار إلى القنصل الإيطالي لوقف هذا
الابتزاز ضد السلطان خليفة[17].
وفي
ذات الوقت وعلى الرغم من المعرضة الشديدة التي أبداها الألمان ضد رغبة الإيطاليين
التوسع في ساحل البنادر , والتي هددت فيها باستخدام القوة ضد التوسع الإيطالي ,
فإن المعارضة التي أبداها الإنجليز ضد رغبة التوسع الإيطالي في ساحل البنادر كانت
أقل حدة من الألمان , بل أنها كانت أكثر دبلوماسية في التعاطي مع الأمر . حيث سعت
بريطانيا لاستغلال الموقف وحاجة إيطاليا للسيطرة على ساحل البنادر , لتشكيل حلف
بريطاني إيطالي للحد من توسع ألمانيا والفرنسي في شرق أفريقيا , كما أن بريطانيا
كانت بحاجة إلى حليف أوروبي يدعم احتـلالها لمـصر[18].
وقد ظهرت بوادر هذا التحالف في إعلان رئيس جمعية شرق أفريقيا ( وليم ماكنون ) [19],
في 20 / 8 / 1888 م , والذي قال فيه : " إن نشر الحضارة والمدنية في شرقي
أفريقيا يحتاج إلى التعاون مع أمة فتية ورثت النشاط والحكمة الرومانية " [20].
لذا
فقد ناورت بريطانيا سياسيا من جديد , لتحقيق مصالحها في منطقة شرق أفريقيا , على
حساب سيادة أراض سلطنة زنجبار . وقد أبلغت إيطاليا بضرورة التريث حتى تدخل في
مفاوضات مع السلطان خليفة لإقناعه بالتنازل عن ساحل البنادر لإيطاليا[21].
مع إعطائها لضمانات بعدم وقوع منطقة ساحل البنادر بيد دولة أخرى[22].
وفي الوقت نفسه كانت حكومة رئيس الوزراء الإيطالي ( كرسبي ) حريصة على توثيق
علاقتها ببريطانيا , وذلك من أجل تنسيق سياستهما في حوض البحر الأبيض المتوسط [23].
ولإظهار بأن الأزمة قد انتهت بين السلطان خليفة
بن سعيد والإيطـاليين , وأن المطالب الإيطالية بالسيطرة على ساحل البنادر بالقوة
قد توقفت , حثت السلطات البريطانية
للسلطان خليفة على كتابة رسالة اعتذار لملك إيطاليا , بالإضافة إلى إطلاق وحد
وعشرين طلقة ترحيبية بعود العلاقات بين سلطنة زنجبار وإيطاليا [24].
كما أن الأزمة بين إيطاليا والدول الأوروبية في شرق أفريقيا قد انتهت في ديسمبر من
عام 1888 م , حيث تم قبول مشاركة إيطاليا كلا من ألمانيا وبريطانيا والبرتغال في
فرض حصار على سواحل شرق أفريقيا لقطع الإمدادات عن الثورة التي قامت ضد ألمانيا في
البر الأفريقي[25].
وكمكافئة
لموقف إيطاليا ورغبة في خلق توازن بين الدول الاستعمارية في ِشرق أفريقيا سعت
بريطانيا للضغط على السلطان خليفة بن سعيد لتأجير ساحل البنادر لها أولا , بحيث
تقوم فيما بعد بتأجيره لإيطاليا . وقد وقع
السلطان خليفه وفي 31 / 8 / 1889 م , على بنود تأجير ساحل البنادر للشركة
البريطانية , على أن تقوم هي بالتنازل عن المنطقة بمعرفتها [26],
وبنفس الشروط المتضمنة في عقد الامتياز الممنوح لها أو بأفضل الشروط التي يمكن أن
تحصل عليها الشركة من السلطان مستقبلا . وبعد شهرين ونصف تقريبا من ذلك , أي في 18
/ 11 / 1889 م , تنازلت الشركة البريطانية بدورها لإيطاليا عن كافة حقوقها
وامتيازاتها في موانئ ساحل البنادر باستثناء كسمايو[27].
ولم
تكتفي الحكومة الإيطالية بذلك بل عملت على الحصول على تنازل من قبل سلطنة زنجبار
عن ساحل البنادر لصالح إيطاليا , ودخلت في مفاوضات مباشرة مع السلطان حمد بن ثويني
, وبوساطة بريطانية , تمخضت عن عقد اتفاق في 13 / 1 / 1895 م , تدفع على أساسه
إيطاليا مبلغ وقدره ( 144 ) ألف جنيه [30].
مقابل تنازل السلطان عن ساحل البنادر الصومالي والممتد حوالي 1800 كيلوا متر[31].
وبذلك يكون ساحل البنادر قد خرج بشكل نهائي من سلطة سلطنة زنجبار . وقد عملت
إيطاليا على فرض سيطرتها المباشرة على الصومال , واعتبرت ساحل البنادر مستعمرة
إيطالية في عام 1898 م .
[1] ــ الإسماعيلي , عيسى بن ناصر
. زنجبار التكالب الاستعماري وتجارة الرق . دبي , دار الغرير للطباعة والنشر ,
2012 م . ص 40 .
[2] ــ العقاد , صلاح , وجمال
زكريا قاسم . زنجبار . القاهرة , مكتبة الأنجلو المصرية , ب ت . ص 215 .
[3] ــ الإسماعيلي , عيسى بن ناصر
. المرجع السابق . ص 40 .
[4] ــ رسالة من القنصل الفرنسي
في زنجبار السيد لاكو ( Mr . Lacaus ) موجهة بتاريخ : 10 / 6 / 1888 م , إلى إدارة
الشؤون التجارية والقنصلية بباريس .
[6] ــ عبار , عبدالقادر , الدولة والقبيلة في الصومال من الاستقلال إلى
الحرب الأهلية , تقديم السيد فليفل , مقديشو , مركز الشاهد للبحوث والدراسات الإعلامية
, 2013 م..
[7] ــ العقاد , صلاح . وجمال
زكريا قاسم . مرجع سابق . ص 215 .
[8] ــ عبار , عبدالقادر . المرجع
السابق . ص 70 .
[9] ــ الإسماعيلي , عيسى بن ناصر
. المرجع السابق . ص 41 .
[10] ــ قاسم , جمال زكريا . دولة البوسعيد في عمان وشرق أفريقيا . العين , مركز زايد للتراث والتاريخ , 2000 م.
ص 321 .
[11] ــ العقاد , صلاح . وجمال
زكريا قاسم . مرجع سابق , ص 215 .
[13] ــ رسالة موجهة من القنصل
الفرنسي ( أم . لاكو ) ( M . Lacaus ) إلى وزارة الخارجية بباريس بتاريخ 10 / 6 / 1888
م . المصدر : الأرشيف الوطني بأبوظبي . ب ر .
[14] ــ الريامي , ناصر بن عبدالله
. زنجبار شخصيات وأحداث. مسقط : بيت الغشام , ط 3 , 2016 م , ص 330 ــ 331
. والموسوعة العمانية . مرجع سابق . المجلد : 3 , ص 497 ــ 499 .
[16] ــ قاسم , جمال زكريا . مرجع
سابق . ص 321 .
[17] ــ الإسماعيلي , عيسى بن ناصر
, مرجع سابق , ص 41 .
[18] ــ مصلحي , محي الدين محمد . المخططات
الاستعمارية الإيطالية في شرق افريقيا في الفترة ما بين 1914 ــ 1939 م , القاهرة :
مجلة الدراسات الأفريقية , العدد : 13 و 14 . 1984 , 1985 . ص 4 .
[21] ــ الإسماعيلي , مرجع سابق ,
ص 42.
[22] ــ العقاد , صلاح , وجمال
زكريا قاسم . المرجع سابق . ص 216 .
[24] ــ رسالة موجهة من القنصل
الفرنسي ( أم . لاكو ) ( M . Lacaus ) إلى وزير الخارجية الفرنسي , في 15 / 9 / 1890 م
. المصدر : الأرشيف الوطني بأبو ظبي . ب ر .
[26] ــ العقاد , صلاح , وجمال
زكريا قاسم . مرجع سابق , ص 217 .
[27] ــ كان الاهتمام بالغا بميناء
كسمايو باعتباره أفضل الموانئ حينها , بالإضافة إلى أشرافه مباشرة على نهر جوبا
الذي كان يأمل منه أن يكون ممرا مائيا يقود إلى داخل القارة ومنطقة الحبشة
بالتحديد .
[28] ــ مثل الحكومة الإيطالية
قنصلها في زنجبار ( السنيور كوتوني ) بينما مثل الحكومة البريطانية وسلطنة زنجبار
القنصل البريطاني ( جيرالد بورتال )