زاهر بن حارث المحروقي
جريدة الرؤية
24/11/2015م
إنّ ما كُتب في الصحف المحلية عن كتاب "ذكريات من الماضي الجميل"، للدكتورة آسية البوعلي، كان كفيلاً بأن يجعل من يهتم بالتاريخ العماني في الشرق الأفريقي أن يهتم بالكتاب؛ فقد جاء في التعريف بالشخصية التي يتحدَّث عنها الكتاب، "أنّها فاطمة بنت محمد بن سالم البرواني المعروفة بفاطمة جينجا؛ وهي المخضرمة التي عايشت تفاصيل وأحداث مرحلتين في زنجبار: مرحلة ما قبل انقلاب 1964م وما بعدها، وهي الأديبة وربيبة القصر، وابنة شهيد، وزوجة لقائد جيش الانقلاب ولعدة رجال من جنسيات مختلفة، وهي أم زوجة الرئيس أماني عبيد كارومي رئيس زنجبار السابق، وكذلك أم لأحد الوزراء"؛ وهو تعريفٌ يكفي أن يُعطي الكتاب قيمة؛ إذ كيف تكون ابنة "شهيد" ثم تكون زوجة لقائد جيش الانقلاب؟ وكيف يكون ابن عبيد كارومي زوجاً لابنتها، وكارومي قائد الانقلاب؟! ربما هذا اللغز هو الذي جعل د. آسية البوعلي تقول عن بطلتها "نظراً لثراء وتناقض مفردات رحلة حياتها ولتقاطعها مع مفردات التاريخ والحياة السياسية في زنجبار أصبحت محلَّ شكٍ واتهام البعض ممن عرفها، وموضع حب وتقدير الآخرين" أي أنّها امرأة مثيرة في كلِّ الأحوال، وفي ظني بعدما قرأتُ كتاب "ذكريات من الماضي الجميل" أعتقد أنها فعلاً امرأة مثيرة لما تركت من أسئلة، وأستطيع أن أقول إنّ حياتها ليس فيها ما يُغري القارئ بمتابعته، سوى أنّها تزوجت من أربعة رجال من جنسيات مختلفة؛ فمِن يمنيِّ إلى عُماني إلى أفريقي ثم العماني نفسه مرة أخرى وأخيراً قبطي مصري، الذي أسلم حسب قولها، وعندما اكتشفت أنّه خدعها وظلّ على قبطيته تطلقت منه؛ وقد جاء عنوان الكتاب مخالفاً للواقع، فالماضي لم يكن جميلاً أبداً؛ والواقع أنّ هناك شخصيات عُمانية بارزة من الجنسين لها من التجارب ما يستحق أن يُوثّق، إلا أنّ يد المنون دائماً كانت أسرع، في ظلِّ الإهمال الشديد من قبل العمانيين لتدوين وتوثيق تجاربهم.
إنّ الحديث عن فاطمة جينجا، بعد نشر د. آسية البوعلي كتابها عنها، يفتح ملفات كثيرة كان مسكوتاً عنها، منها على سبيل المثال موضوع العُمانيين المتعاونين مع الانقلابيين، فلا يمكن أن تمر هذه السنون كلها، ويتم الحديث عن أنّ الأفارقة قاموا بثورة أو بانقلاب ضد الوجود العُماني، ويتم التركيز فقط على ما تعرض له العمانيون دون تناول سلبياتهم؛ فـ"المسألة قد خرجت عن نطاق الذاتية إلى موضوعية التاريخ، وأصبح من حق أيّ شخص أن يتناوله في دراسة أو مقال"، وهذا ما قالته د. آسية، وأنا أرى أنه قول صائب.
ولدت فاطمة جينجا عام 1930 من أبوين عُمانيين، ولقبُ جينجا التصق باسمها، لأنّ والدها كان ماهراً في كرة القدم، لذلك لُقب بجينجا، نسبة إلى لاعب كرة إنجليزي كان يأتي إلى زنجبار للعب، فأصبحت معروفة بهذا الاسم وهو الذي تدونه في كتاباتها الأدبية، إذ صدر لها حتى الآن أربع روايات؛ وتقول فاطمة جينجا من خلال ثمان مقابلات أجرتها معها د. آسية، العام الماضي في زنجبار: في طفولتي وشبابي كنت كثيرة التردد والمبيت في قصر السلطان خليفة بن حارب، حيث اعتبرتني السيدة نونو بنت أحمد البوسعيدي زوجةُ السلطان بمثابة ابنتها، لذا عرفت الكثير عن حياة القصر وما يدور في داخله، وكان لشخصية والدي حضور طاغ في حياتي، فوالدي الذي استشهد عام 1965م، عرف بحبه للقراءة والثقافة؛ وتحكي قصة استشهاد والدها، الذي اتُّهِم بأنّه يدبِّر لانقلاب مضاد، نقلاً عن أحد المسجونين الذي أطلق سراحه وكان شاهد عيان لما يحدث في السجن من عمليات التعذيب والتصفية الجسدية، حيث تمّ تعذيب والدها وآخرين على مدى شهور من قبل ثلاثة رجال هم "علي محفوظ" و"عامر الدغيشي" و"عبد الرحيم محمود" بالتناوب؛ وهم المعروفون بـ"الرفاق" وأعضاء حزب الأمة اليساري، وعندما أصبح والدها على مشارف الموت أخذوه إلى مكان بعيد وأرغموه هو وستة أو سبعة آخرين على حفر مقبرة جماعية كبيرة ثم أوقفوهم وظهورهم للمقبرة وأطلقوا عليهم الرصاص من الوجه ليقعوا جميعاً شهداء، وأنّ الذي أطلق الرصاص على والدها لم يكن من هؤلاء الثلاثة بل كان شخصاً أفريقياً اسمه "إبراهيم مكونجو" كان رئيساً للمخابرات أو الأمن؛ وتقول فاطمة جينجا "لقد أحسست بالضياع وبقدر كبير من خلط المفاهيم والأفكار بالنسبة لي؛ شبابٌ عرب عذّبوا والدي حتى مشارف الموت.. ورجلٌ أفريقيٌ يغتاله ويصفيه جسدياً"، وقد تكون هذه العبارة هي المفتاح الذي يمكن أن يلج إليه المحللون النفسيون لتحليل شخصية فاطمة جينجا وقراراتها التي تبدو غامضة؛ ففي الوقت الذي يقول المنطق إنّ عليها أن تقف ضد الانقلاب ورجاله الذين قتلوا والدها، فإذا بها تتزوج بعد استشهاد والدها بسنة من اللواء يوسف حميد مفتاح قائد جيش الانقلاب، وتبرر لهذا الزواج بأنّها عانت أشد المعاناة من كثرة اقتحام الرفاق لمنزلها وما سببه ذلك من متاعب نفسية لها ولمن تعيل، ثم تمّ طردها من عملها في الوحدة البيطرية لا لسبب إلا لأنّ مسؤولها كان من الرفاق؛ فكان عليها أن تبحث عن العمل لأنّ الأفواه الجوعى في البيت كانت تعتمد عليها وحدها، وعندما قابلت قائد الجيش لتشكو له حالها فإذا هو قد أحبها وعرض عليها الزواج فتمّ ذلك وهو الزواج الثالث في حياتها؛ وفي وصفها لزوجها تُقدِّم صورة عن الانقلابيين إذ تقول "كان أفريقيّاً خالصاً ولم يكن غنياً، ولكنه كان يملك النفوذ والسلطة بحكم وضعه كقائد للجيش ورتبته العسكرية، لم يكن متعلماً بل أمياً يستطيع بالكاد كتابة اسمه، وقبل أن يصير قائداً للجيش كان يعمل سائقاً للسيارات الثقيلة في المعسكر الإنجليزي في شمال أفريقيا، وعندما وقع الانقلاب، عُيِّن فيما بعد قائداً للجيش"، وهنا سألت د. آسية، فاطمة كيف لها وهي المثقفة أن تتزوج من أمّيّ؟ فكان جوابها "ابحثي في وضعية تعليم وثقافة من هو أعلى منه رتبة؛ رئيس زنجبار شخصياً هل كان أفضل من يوسف؟ إنّ الانقلاب لم يكن عسكرياً فحسب؛ بل كان انقلاباً لكلِّ مفاهيم العقل والمنطق"؛ وتبرر زواجها من يوسف قائلة "كنت أبحث عن الأمان والحماية والقوت وسد الرمق لي ولكل أفراد عائلتي بعد شهور سوداء عشتها، فأردت لها النهاية بزواجي ممن يستطيع منحي الحماية والأمن".
الملاحظ أنّ فاطمة دافعت بشدة عن الرئيس كارومي، ونفت عنه تهمة علمه بكلِّ التصفيات الجسدية التي تمّت في عهده، باعتبار أنّ الفوضى كانت عارمة؛ بل إنّها تذكر أنّ كارومي اعتذر لها عن قتل والدها وقال إنّه لم يكن يعلم بذلك، فلم يكن موجوداً إذ كان في بيمبا، ولكن فاطمة لا تكتفي بمدح كارومي وتبرئته، بل تخطو خطوة أخرى مثيرة للجدل، إذ تُزوّج ابنتها شادية من أماني عبيد كارومي وذلك عام 1967، وهي بنت قاصر لم تبلغ 14 سنة، وتدافع عن هذه الزيجة بأن تقول أردتُ لها حياة آمنة وأن تكون في أيدٍ أمينة، فأنا لم أبعها لرجل كهل بل تزوجها شاب في عمر 19 سنة أصبح فيما بعد رئيساً لزنجبار من عام 2000 حتى 2010، وأصبحت شادية سيدة زنجبار الأولى.
لقد تعاملت د. آسية مع فاطمة في كتابها بذكاء، حيث طرحت لها أسئلة محرجة وتركت الإجابة لها، وظلت هي في الأمان، ولو لم تركز على فاطمة، ما كان لينتبه إليها أحد؛ فهناك من النساء العمانيات أهم شأناً بكثير منها، وهناك الكثيرات ممّن عانين المعاناة نفسها أو أكثر، فهناك مآخذ كثيرة على فاطمة، منها ركوبها الموجة واغتنامها كلّ الفرص لتحقيق مآربها حتى وإن كان في ذلك، الزواجُ من قائد جيش الانقلاب الذي أقام مذابح للعمانيين، وتزويجُها ابنتها لابن كارومي، إذ رآه الكثيرون جريمة في حق أبناء جلدتها؛ ويجب أن نعتبر قضية زيجاتها قضية شخصية جداً وألا نخوض فيها، ولكن هناك نقاطاً تحتاج إلى إيضاحات وتحتاج أن تُفتح الملفات حولها، وهي قضية العمانيين الذين أعانوا الانقلابيين في إزهاق أرواح الأبرياء وفي الاستيلاء على أموالهم، والهدفُ من ذلك هو تقديم حقائق للتاريخ فقط؛ فالقضيةُ في حكم المنتهية من زمان، ولكن يجب أن تبقى الدروس حية، ولا أظن أنها قد تثير أيَّ حساسيات الآن.