آسية البوعلي .. وذكريات من الماضي الجميل
جريدة الوطن 26 يوليو 2015م
صدر مؤخرًا للكاتبة العمانية الدكتورة آسية بنت ناصر البوعلي كتاب “ذكريات من
الماضي الجميل”، يقع الكتاب في مائة صفحة من القطع الصغير ويتكون من ثماني مقابلات
ومقدمة ويتضمن عددًا كبيرًا من الصور النادرة لضيفة الكتاب والذي خصصت الكاتبة ريعه
لصالح الجمعية العمانية لمكافحة السرطان.
قدمت آسية البوعلي لكتابها “ذكريات من الماضي الجميل” بذكر شخصية “فاطمة جينجا” التي تصفها بأنها امرأة جديرة بالاهتمام عند الحديث عن زنجبار، فهي عايشت مرحلة ما قبل انقلاب 12يناير 1964م وما بعده وهي الأديبة وربيبة القصر وابنة الشهيد والزوجة (سابقًا) لقائد الانقلاب وهي أم لعشرة من الأولاد منهم: قرينة رئيس زنجبار السابق وأحد الوزراء، وتصف لنا الكاتبة كيف قطعت المسافة من مسقط لزنجبار للقائها وإجراء حوارات متعددة معها على مدار أيام.
الحوار الأول بدأ بالتعريف عن “فاطمة جينجا” التي ولدت في زنجبار في 13فبراير 1930م، من أبوين من أصول عمانية: والدها محمد بن سالم البرواني، ووالدتها: شريفة بنت ناصر بن علي البرواني، وهي أم لخمس بنات وخمسة ذكور توفي واحد منهم.
وعن التصاق لقب “جينجا” باسمها تقول: نظرًا لعشق والدها لكرة القدم ومهارته فأطلقوا عليه في زنجبار هذا الاسم نسبة للاعب كرة إنجليزي كان يتردد على زنجبار، وعن طفولتها تقول “فاطمة”: ولدت في حي (ماليندي) من عائلة ميسورة الحال، ماتت والدتي أثناء ولادة شقيقي الوحيد سالم ـ رحمه الله ـ وكنت في الثانية من عمري، ورغم ذلك تمتعت في طفولتي بقدر من الاستقرار والعناية والحب والمرح والانطلاق، تعلمت في مدرسة بنات حكومية وكانت لغة الدراسة الانجليزية والعربية والسواحلية، كنت الأولى على زنجبار في المرحلة الثانوية وكان المخطط التحاقي بجامعة اكسفورد البريطانية، لكن الظروف حالت دون ذلك.
كان لجدتي لوالدي “شنونة بنت سالم البوسعيدي: بصمة قوية على طفولتي وشبابي، فهي من قامت بتربيتي وتوجيهي في الحياة، وكنت على علاقة قوية بالسيدة: نونو بنت أحمد البوسعيدي زوجة حاكم زنجبار السيد خليفة بن حارب البوسعيدي، وكنت بمثابة ابنتها، لذلك اقتربت من حياة القصور وعرفت الكثير عن دهاليز الحكم وحياة القصر في تلك الفترة.
وعن تأثير والدها تقول “جينجا”: كان لوالدي حضور طاغ عليّ وعلى الكثيرين ممن عرفوه، فوالدي محمد بن سالم البرواني ولد في عام 1905م واستشهد في عام 1965م، كان معروفًا بقوة شخصيته وشدة ذكائه وحبه للقراءة والثقافة، وبسبب تفوقه الدراسي حصل على منحة من قبل الحكومة الزنجبارية للدراسة في بريطانيا عام 1938م، ونال درجة الماجستير في الآداب من جامعة كمبريدج، وماجستير آخر من جامعة أكسفورد في نفس التخصص عام 1945م.
كان يتسم بالمرح وخفة الظل، وكان حنونًا معي وصديقًا وكان أوسم الرجال قلبًا وقالبًا في نظري، لم يفكر بالزواج رغم صغر سنه عقب وفاة والدتي وكرس كل حياته لتربية ابنائه، كان يقرأ لي القصص والكتب الإنجليزية، وظل يشجعني على القراءة، فكان مثلي الأعلى بفلسفته ورؤيته للحياة. تزوج مرة أخرى متأخرًا بعد إلحاحي عليه حينما كبرت وبلغت الثامنة عشرة من عمري.
كانت له وجهة نظر في قضية التعليم، لذلك دخل في جدال ممتد مع مديره الإنجليزي بعد عودته من البعثة وتعيينه في مديرية التربية والتعليم، وكان يذهب إلى عمله يوميًا رافضًا أن يتقاضى راتبًا آخر الشهر رغم احتياجه للراتب لعدم اقتناعه بآليات العمل وجدواه في توصيل الخدمة التعليمية، وكان معروفًا في زنجبار بدفاعه عن حق الجميع في التعليم ضد الحكومة الإنجليزية.
ـ في المقابلة الثانية سألت الكاتبة فاطمة جينجا عن تفاصيل استشهاد والدها وأثر هذه الواقعة عليها؟
تقول جينجا: “إنك تفتحين جرحًا لا زال داميًا بداخلي إلى يومنا هذا، ومهما طال الزمن بي سيستمر نزفه، الواقعة بدايتها اتهام والدي من قبل من يطلقون على أنفسهم اسم “الرفاق” من أتباع حزب الأمة اليساري ؛ بأنه عميل للأمريكان والإنجليز وأنه حاول القيام بانقلاب آخر بعد انقلاب يناير 1964م، فقد أتى ثلاثة منهم إلى منزلنا بحي (مالندي) واقتحموه عنوة بحثًا عن والدي، دون مراعاة لحرمة المنزل، قلنا لهم إن والدنا لا يعيش معنا بالمنزل، وأنه تزوج ويعيش ببيت زوجته فردوس بنت محمد البرواني الخاص، حينئذ صمموا أن يأخذوا خادمًا اسمه موليدي ليريهم منزل والدي، وحين رفض انقضوا عليه بالضرب بوحشية، فطلبت جدتي من الخادم الذهاب معهم، رأفة به وإيمانًا منها بأن ابنها سيكون في رعاية المولى، وقبضوا على والدي وسجن ثم أطلق سراحه، ثم سجن مرة أخرى بسجن بعيد عن المدينة.
كنت في الخامسة والثلاثين ومرض ابني أحمد الذي كان في التاسعة من عمره بسرطان الدم وأقمت معه في المستشفى وهو يحتضر. أتى والدي لزيارة حفيده بعد صلاة العشاء، وكانت هذه المرة الأخيرة التي رأيته فيها وأتذكر آخر كلماته لي: “لا الإنجليز ولا الأمريكان سيساندون العرب في رجوع حكمهم في زنجبار، ولذا من يريد لذاته الأمان والبقاء حيًا عليه إما ينضم إلى الأفارقة أو يهرب كما فعل الكثيرون. عقب هذه الزيارة اختفى والدي، وفشلت في الوصول إليه أو معرفة مكان احتجازه، حتى أطلق سراح شخص كان مسجونًا مع والدي، هذا الشخص هو علي بن محمد البرواني، شقيق زوجة أبي فردوس، وحكى لأخته كيف هؤلاء الشخوص الثلاثة من جماعة الرفاق قاموا بتعذيب أبي بالتناوب على مدار شهور، وحين أصبح على مشارف الموت أخذوه إلى مكان بعيد وأرغموه مع ستة آخرين من الأبرياء على حفر مقبرة جماعية كبيرة، ثم أوقفوهم وظهورهم للمقبرة وأطلقوا عليهم الرصاص من الوجه، ليسقطوا جميعًا شهداء في الحفرة، وأرغم علي بن محمد البرواني مع آخرين بإهالة التراب على الجثث.
وعن تأثير استشهاد والدها عليها تقول فاطمة جينجا: “حين حكت لي زوجة أبي عن واقعة استشهاد والدي لم أصدق في البداية، كنت في حالة صدمة وذهول، لم أشعر سوى أن جسدي وكأن به تنميل أو مخدر لشهور، وبمرور الأيام بدأت أتقبل وأستوعب الحقيقة الأليمة لرحيل والدي الأبدي.
المقابلة الثالثة عن دور الرجل في حياة فاطمة جينجا التي تزوجت أكثر من مرة وأنجبت عشرة من البنات والبنين، وهي الآن بدون زوج، تقول: “تزوجت خمس مرات من أربعة رجال، لأن واحدًا من ازواجي تزوجته مرتين (طلقت منه ثم بعد زواجي من آخرين رجعت إليه وتزوجته مرة أخرى).
فالرجل بالنسبة لها مجرد مرحلة تبدأ بالزواج وتنتهي بالطلاق، سواء طالت هذه المرحلة أم قصرت، وأنا لا أستمد وجودي ولا كياني ولا هويتي من الرجل، بل من ذاتي وأولادي وبناتي وكتاباتي، لذلك بمجرد وقوع الطلاق احتضن ابنائي من طليقي ولا أطالبه بأي شيء وأقفل صفحته نهائيًا، وقد نجحت في هذا والدليل أن أبنائي من زيجات مختلفة، لكن الرابط الذي يربط بينهم هو شعور الأشقاء والانتماء إليّ ، فأنا الحضن والأم وأنا الأساس بالنسبة لهم.
وعن مفهومها للحب تقول: ” ظللت أتساءل هل أنا أحببت كل من تزوجتهم حقًا ؟ أم أنني كنت مدمنة لحالة الحب ذاتها كفكرة أو كموضوع؟! وأقصد بهذا حين يقول الشخص إنه أحب شخصًا ما، هل في هذه الحالة يكون حقًا عاشقًا للشخص ذاته ؟ أم لحالة الحب الجميلة التي يجد ذاته فيها؟ لذا الحب كمفهوم من وجهة نظري، أراه مركبًا ويصعب تعريفه.
المقابلة الرابعة كانت عن زواجها الثالث من المرحوم يوسف حميد مفتاح وكان إفريقيًا وبعد انقلاب 1964م رقي لرتبة لواء وعين قائدًا لجيش الانقلاب، تزوجته في نهاية 1966م، وعن الدافع لهذا الزواج تقول فاطمة: ” منذ استشهاد والدي وخلال فترة زواجي من زوجي الثاني المرحوم سالم بن حمد البرواني، كنت أعاني من مضايقات الرفاق واقتحامهم لمنزلي في أي وقت من النهار أو الليل للتفتيش، لم أفهم عمَّ كانوا يفتشون؟ أو عمَّن؟ ولك أن تتخيل حالة الهلع والرعب التي كنت أعيشها أنا وكل من في البيت من جراء هذا التهديد، منظر بشع وغير إنساني ولا رحمة فيه، وفي نفس الفترة طردني رئيسي في العمل من عملي بالهيئة البيطرية دون ذنب ارتكبته ؛ لمجرد أنه كان من الرفاق ومن أتباع حزب الأمة المعادي للعرب.
عانيت معاناة شديدة، لا نقود ولا عمل وأفواه جائعة جميعها تعتمد عليّ في القوت والرمق، اضطررت وأنا المدللة في تربيتي لتعلم خياطة الملابس والطبخ وأعمال أخرى كي أستطيع أن أعيش وأعول من أعول، وصل بي الحال للاستعانة بابنتي شادية (10) سنوات وإيمان (9) سنوات للوقوف على قارعة الطريق كي تقوما ببيع الأكلات التي كنت أطبخها للمارة، فلم يكن باليد حيلة وإن كان هذا الأمر كان يمزقني ألمًا.
وكنت أذهب إلى الشيخ محمد بن ناصر اللمكي للشكوى وكان يساعدني ويخفف عني معاناتي، وفي إحدى زياراتي له كان عنده اللواء يوسف حميد مفتاح قائد الجيش، ونصحني الشيخ أن أطلب مقابلته كي أشرح له مشكلتي، ربما يستطيع مساعدتي ويمنع مضايقات الرفاق عني وعن عائلتي.
وقابلته وأحبني وعرض عليّ الزواج، فتزوجته في نهاية عام 1966م، زواجًا دام 14سنة حتى عام 1980م، وأنجبت منه أبنائي منصور وأماني وشريفة وآخر العنقود ماريسا.
وعن اللواء مفتاح تقول:” كان إفريقيًا خالصًا ولم يكن ثريًا ولكنه كان يمتلك النفوذ والسلطة بحكم منصبه كقائد للجيش، لم يكن متعلمًا بل أميًا يستطيع كتابة اسمه بالكاد، وقبل أن يصير قائدًا للجيش كان يعمل سائقًا للسيارات الثقيلة في الكامب الإنجليزي في شمال إفريقيا وحين وقع انقلاب 1964م، عين فيما بعد قائدًا للجيش، بالنسبة لي كان شخصًا طيبًا ويحبني حبًا كبيرًا.
في المقابلة الخامسة ترد “فاطمة جينجا” على اتهامات من اعتبروا زواجها من قائد جيش الانقلاب خيانة لا تغتفر لبني جلدتها، لا سيما وانه كان إفريقيًا والانقلاب كان انقلابًا للأفارقة على العرب العمانيين.
تقول: “شر البلية ما يضحك”، أنا لم أعرف أنني أنثى جميلة، أو حتى كنت كذلك من وجهة نظر الآخرين، حتى أستطيع مراودة رجل عن نفسه، يوسف هو من أحبني منذ البداية وعرض علي الزواج وألح عليه، أليس بعد الانقلاب الكل فر وفلت بجلده من أجل البقاء حيًا، ومن وجد من ساعده على الفرار بالكثير أخذ أولاده معه والأمثلة على ذلك كثيرة، لكن الوضع معي كان مختلفًا، فحملي كان ثقيلًا، وقبل أن يعلق شخص أو يحكم عليّ، فليضع نفسه في موضعي، سيجد أن زواجي من يوسف كان أمثل السبل وأكثرها شرفًا لبقائي حية وبعزة نفس وكرامة، ولبقاء كل من كان معي.
وعن علاقتها بالقرآن الكريم تقول:” معرفتي بالقرآن الكريم كمعرفة أي مسلم تربى وترعرع في زنجبار، من الأجيال السابقة، فأنا أجيد قراءة القرآن، لأنني تعلمت قراءته في الكٌتاب منذ طفولتي، شأني في ذلك شأن أية طفلة من جيلي ومع مرور السنين وتكرار القراءة حفظت معظم آيات القرآن عن ظهر قلب، وتأسف فاطمة جينجا على ضعف الاهتمام بالقرآن لدى الأجيال الحديثة في زنجبار، فالبعض منهم ضعفاء في القراءة، أو لا يعرفون قراءة القرآن البتة، أو يقرأونه بدون فهم معانيه.
وعن علاقتها بالرئيس عبيد كارومي (1964م ـ 1972م)، تنفي “جينجا” عنه ضلوعه في عمليات الاغتيال والتصفية الجسدية التي انتشرت في زنجبار عقب الانقلاب الذي أطاح بالحكم العربي العماني، وأرجعته إلى أنه بعد الانقلاب كان هناك غوغائية وفوضى واضحة سادت البلاد، ووجود أكثر من جهة أو فرد يمارس نفوذه بطريقته الخاصة، وتذكر للرئيس كارومي مواقفه الإنسانية حين استنجدت به ليسمح لزوجها المسجون بزيارة ابنها الذي كان يحتضر في المستشفى، وكيف وافق على الزيارة وأعطاها مبلغًا من المال لعلمه بظروفها الصعبة، كما تذكر علاقة كارومي الجيدة بالشيخ محمد بن ناصر اللمكي.
في المقابلة السادسة تروي لنا “فاطمة جينجا” عن سبب تزويجها ابنتها الكبرى شادية في سن صغيرة (14) عامًا لأماني ابن رئيس زنجبار عبيد كارومي، وتنفي عن نفسها تهمة إجبار كريمتها على الزواج، وتؤكد أن الزواج تم برضاها وأن ظنها كان في محله، حيث عاشت حياة هنيئة مع أماني الذي أصبح فيما بعد رئيسًا لزنجبار في الفترة من (2000م حتى 2010م) وأصبحت شادية سيدة زنجبار الأولى.
وعن علاقتها بالسلطنة وردها على الشائعات التي تتحدث عن منعها من دخول السلطنة بسبب زواجها من قائد جيش الانقلاب ولذلك لم تزر السلطنة سوى في بداية التسعينيات تقول “فاطمة جينجا”: هذا الكلام لا أساس له من الصحة ومجرد شائعات مغرضة ومحض افتراء واختلاق، أنا لم أمنع من دخول السلطنة لا قبل التسعينيات ولا بعدها، فأنا لا أمارس العمل السياسي ولا علاقة لي بأية حركات مشبوهة سواء سياسية أو غير سياسية، وعمان بها حكومة واعية تعلم تمامًا ما الذي تفعله، وإذا كانت تريد منعي من دخول السلطنة لكوني مطلقة قائد جيش الانقلاب، فمن باب أولى كانت منعت أولادي وبناتي من قائد الجيش من دخول عمان، لمجرد النسب إلى والدهم، فعمان بها معارفي وأهلي وأولادي الثلاثة وابنتي من زوجي الثاني العماني المرحوم سالم البرواني، وجميعهم يحملون الجنسية العمانية، وأنني منذ فترة طويلة آتي إلى السلطنة لإجراء فحوصات طبية على القلب وأتلقى أفضل العلاج والرعاية الصحية بالمستشفيات الحكومية والخاصة، فحكومة السلطنة رحيمة ومعروف عنها عالميًا الإنسانية في تعاملها مع الآخر.
وعن مظاهر الثراء والرفاهية والكرم، التي تعيشها فاطمة جينجا اليوم، حيث تعيش في بيت كبير مملوك لها، مفتوح للضيوف طوال اليوم، في أرقى أحياء زنجبار، يطل على البحر مباشرة، ومبني على مساحة شاسعة للغاية، تحوي بيوتًا أخرى كبيرة “فلل” جميلة مملوكة لأولادها، تقول “جينجا” أما عن الكرم فأنا ابنة عصري ومكاني الذي ولدت فيه زنجبار الثلاثينيات وما بعدها، وسليلة عادات وتقاليد المجتمع المتنوع والثري في ثقافاته وأعراقه من أصول عمانية أو يمنية وهنود وفرس وأفارقة، وأنا فخورة بها وأحافظ عليها، فمن أبرز عاداتنا كعائلات عربية من أصول عمانية في زنجبار سواء الثرية أو العادية، البساطة في التعامل مع الآخر والبيوت المفتوحة لاستقبال الجميع وكرم الضيافة.
أما عن مصدر ثروتها، فتقول أن ما ترينه لم يأت في يوم وليلة، بل كفاح أكثر من ثلاثين سنة، فأنا أجيد التخطيط لحياتي، فبعد سنوات من تأمين حياتي بزواجي من قائد الجيش، وكبر أبنائي منه، استطعت أن أحول البيتين الكبيرين اللذين أملكهما في المدينة الأثرية القديمة بمنطقتي (مالندي) و(شاجاني) ـ بيت أهلي وبيت والدي ـ إلى فندقين يرتادهما السياح الأجانب، وذلك بمساندة بعض المستثمرين، فأنا لم أكن أملك رأس المال الكافي، وبتوفيق من الله نجح المشروع، وأصبح مزارًا سياحيًا يرتاده السياح على مدار العام، رغم رفضي تقديم أي مشروبات روحية فيهما، وكنت اشتري بأرباحي من المشروع قطع أرض، وكانت أسعار الأرض رخيصة منذ عشرين عامًا، ومع ارتفاع الأسعار بعت بعض الأراضي لأشتري مزرعة كبيرة كمشروع استثماري يدر عليّ ربحًا.
فأنا امرأة عصامية بنيت ذاتي بذاتي، وأتحدى أي شخص يقول عني عكس ذلك أو يتهمني بأنني استغللت نفوذ زوجي أو زوج ابنتي أو ابني في الاستيلاء على أملاك الآخرين، فالفساد لم يكن قط من مبادئي ولن يكون.
المقابلة السابعة بدأت بالسؤال عن الزوج الرابع والذي لم يستمر سوى عامين وعنه تقول “فاطمة جينجا”: زوجي الرابع هو المرحوم ماهر نجيب الجيزاوي، كان مصري الجنسية، أتى إلى زنجبار ليعمل مدرسًا لمادة الرياضيات الحديثة، كان يصغرني بتسعة أعوام، تزوجته في زنجبار بعد اعتناقه الإسلام سنة 1980م وطلقت منه عام 1982م في القاهرة، دون أن أنجب منه، تعرفت عليه عن طريق أصدقاء مصريين كانوا يعملون في زنجبار، ومن الوهلة الأولى أبدى إعجابه بيّ والذي سرعان ما تحول من ناحيته لحب جارف، رغم تحفظي معه لكونه مسيحيًا ولفارق العمر بيننا، لكنه ألح في مشاعر حبه والتمسك بي، وعرض عليّ الزواج وأبدى استعداده لاعتناق الإسلام، لم أوافق على الزواج به ليقيني أن اعتناق الإسلام في هكذا حالات لا يكون عن قناعة بالدين.
لم ييأس ماهر واستمر في إلحاحه، حتى استطاع إقناعي بالزواج، وقلت فلأمنحه الفرصة لمعرفة نواياه، ووضعت شرطًا لإتمام الزواج ؛ أن يقرأ عن الإسلام وأن اختياره له كدين تم عن قناعة، وبعد تيقني من إسلامه وقطعه صلته بالمسيحية كدين وافقت على الزواج، وكان ماهر صادقًا في وعده طوال زواجه مني في زنجبار، ولكن في عام 1982م انتقلنا للعيش في القاهرة، وهنا كانت الطامة الكبرى، لم يستطع ماهر مواجهة أهله ومجتمعه بحقيقة إسلامه، واكتشفت أنه كان يذهب إلى الكنيسة بحجة مرافقة والدته، ولم أوافق على ذلك وطلبت الطلاق.
وعن آخر زيجاتها تقول ” فاطمة جينجا”: تزوجت من المرحوم سالم البرواني زوجي الثاني مرة ثانية في انجلترا عام 1983م، وطلقت منه عام 1993م، وعن سبب الزواج رغم قولها سابقًا إنها تطوي صفحة الرجل من حياتها بمجرد حدوث الطلاق ؟.. تقول: أنا لم أسع لفتح أية صفحة من جديد، فالصفحة فتحت من تلقاء ذاتها برغبة كلينا في العودة للآخر، فسالم قال لي إنه لا يزال يحبني وأنه منذ طلاقنا لم يستطع أن يجد نفسه مع امرأة أخرى رغم أنه تزوج وطلق.
وكان سبب الانفصال الإحساس بالغربة وعدم الشعور بالاستقرار طوال عشر سنوات كنت أقضي ستة أشهر في زنجبار ومثلها في انجلترا، مما شكل عبئا نفسيًا عليّ لعدم قدرتي على التأقلم.
المقابلة الأخيرة كانت عن إنتاج فاطمة جينجا الأدبي، واختيارها اللغة الإنجليزية للكتابة، والتي لاحظت آسية البوعلي بعد قراءة روايتين لضيفتها أنها تجيد الكتابة بالإنجليزية التي ملكت ناصيتها على نحو سهل ممتنع، فضلًا عن مستوى وأسلوب في الكتابة ينم عن مستوى أعلى من المستوى الدراسي التي حصلت عليه، وعن سبب اختيارها الإنجليزية للكتابة دونًا عن العربية أو السواحلية، خاصة أنها تعلمت الثلاث لغات تقول: كنت أتمنى الكتابة باللغة العربية، لكن للأسف طوال مراحل دراستي لم أصادف معلمة تحببني في اللغة العربية، أنا وكل جيلي وهذه حقيقة مؤلمة، لأن المدرس هو العامل الأساسي في تقريب أو تنفير الطالب من المادة، فاختيارات مدرسات اللغة العربية كانت سيئة للغاية، لذلك كانت النتيجة صفرًا، عكس اللغة الإنجليزية التي أحببتها بتشجيع من والدي والمدرسة، وقرأت من خلالها عددًا كبيرًا من القصص والروايات.
في بداية رحلتي كنت أستعين بالقواميس عندما تقابلني كلمة إنجليزية لا أفهم معناها، ومع الزمن تكونت عندي حصيلة واسعة من المفردات والتعبيرات ونفس الشيء مع اللغة السواحلية، فهي لا تكتب بها ولا تعرفها كمعرفتها للغة الإنجليزية، وسبب ذلك أنه قبل انقلاب 1964م كانت العربية والإنجليزية هي لغة التدريس في المدارس، ولم يكن هناك اهتمام بالسواحلية والتي تحولت إلى اللغة الرسمية للدولة بعد الانقلاب.
وعن طقوس الكتابة عند “جينجا” والتي لا تؤثر العزلة أو الفردية التي يمارسها معظم الكتّاب وتقول: بالنسبة لي لدي المقدرة التامة على الفصل، فحين أكتب وأنا أكتب وسط الناس، لا أسمع من هم حولي سواء أكان الصوت صادرًا من شخص أو تلفاز أو مذياع أو هاتف، ففي تلك اللحظات أكون مستغرقة في عالمي فحتى من يقاطعني أرد عليه وأعود إلى الحالة الكتابية دون الشعور بالانقطاع.
وعن طبيعة كتاباتها الأدبية وحجمها وبدايتها، تقول: ” أكتب في جنس الرواية فقط، ليس لدي إنتاج أدبي ضخم، نشرت أربع روايات طويلة ـ جميعها بالإنجليزية ـ والآن أكتب سيرتي الذاتية، وقد بدأت الكتابة منذ كنت في العشرينيات من عمري، حين بدأت الكتابة النثرية على هيئة قصص قصيرة أو شبه طويلة، ولكن للأسف لم أحتفظ بأي منها لأنني لم أكن واعية بقيمة ما أكتبه ولأنني في الماضي كنت أستعين بالورق والقلم في الكتابة، فكانت لدي مسودات كثيرة وعدد ضخم من الأوراق فقدتها مع التنقل من بيت لبيت، بالإضافة إلى الظروف القاسية التي مررت بها بعد الانقلاب، لكني منذ خمس سنوات شرعت في الكتابة الأدبية بشكل منتظم، وأستعين بـ (اللاب توب) أو الحاسوب في الكتابة والذي أعانني على الاحتفاظ بكل ما أكتبه ومن ثم نشره.
وعن سبب اختيارها جنس الرواية كنمط للكتابة.. تقول: قرأت أجناسًا أدبية كثيرة منذ صغري ولكني كنت دومًا أميل نحو الرواية، كما أنني قرأت عددًا لا يحصى من الروايات لروائيين إنجليز وعرب وأتراك وإيرانيين.
وعن توظيف اللغة الرومانسية في كتاباتها تقول: الكتابة الإبداعية لا تخضع لخطة مفترضة أو سابقة التجهيز ويقرر الكاتب أن يسير عليها بدقة، فموضوع الرواية هو الموجه الأساسي نحو توظيف عناصرها الفنية.
وعن توظيف عنصر المكان في السرد الروائي تقول: اتخذت من زنجبار كجزيرة لها طبيعتها الجمالية فضاء رئيسيًا للحدث الروائي.
قدمت آسية البوعلي لكتابها “ذكريات من الماضي الجميل” بذكر شخصية “فاطمة جينجا” التي تصفها بأنها امرأة جديرة بالاهتمام عند الحديث عن زنجبار، فهي عايشت مرحلة ما قبل انقلاب 12يناير 1964م وما بعده وهي الأديبة وربيبة القصر وابنة الشهيد والزوجة (سابقًا) لقائد الانقلاب وهي أم لعشرة من الأولاد منهم: قرينة رئيس زنجبار السابق وأحد الوزراء، وتصف لنا الكاتبة كيف قطعت المسافة من مسقط لزنجبار للقائها وإجراء حوارات متعددة معها على مدار أيام.
الحوار الأول بدأ بالتعريف عن “فاطمة جينجا” التي ولدت في زنجبار في 13فبراير 1930م، من أبوين من أصول عمانية: والدها محمد بن سالم البرواني، ووالدتها: شريفة بنت ناصر بن علي البرواني، وهي أم لخمس بنات وخمسة ذكور توفي واحد منهم.
وعن التصاق لقب “جينجا” باسمها تقول: نظرًا لعشق والدها لكرة القدم ومهارته فأطلقوا عليه في زنجبار هذا الاسم نسبة للاعب كرة إنجليزي كان يتردد على زنجبار، وعن طفولتها تقول “فاطمة”: ولدت في حي (ماليندي) من عائلة ميسورة الحال، ماتت والدتي أثناء ولادة شقيقي الوحيد سالم ـ رحمه الله ـ وكنت في الثانية من عمري، ورغم ذلك تمتعت في طفولتي بقدر من الاستقرار والعناية والحب والمرح والانطلاق، تعلمت في مدرسة بنات حكومية وكانت لغة الدراسة الانجليزية والعربية والسواحلية، كنت الأولى على زنجبار في المرحلة الثانوية وكان المخطط التحاقي بجامعة اكسفورد البريطانية، لكن الظروف حالت دون ذلك.
كان لجدتي لوالدي “شنونة بنت سالم البوسعيدي: بصمة قوية على طفولتي وشبابي، فهي من قامت بتربيتي وتوجيهي في الحياة، وكنت على علاقة قوية بالسيدة: نونو بنت أحمد البوسعيدي زوجة حاكم زنجبار السيد خليفة بن حارب البوسعيدي، وكنت بمثابة ابنتها، لذلك اقتربت من حياة القصور وعرفت الكثير عن دهاليز الحكم وحياة القصر في تلك الفترة.
وعن تأثير والدها تقول “جينجا”: كان لوالدي حضور طاغ عليّ وعلى الكثيرين ممن عرفوه، فوالدي محمد بن سالم البرواني ولد في عام 1905م واستشهد في عام 1965م، كان معروفًا بقوة شخصيته وشدة ذكائه وحبه للقراءة والثقافة، وبسبب تفوقه الدراسي حصل على منحة من قبل الحكومة الزنجبارية للدراسة في بريطانيا عام 1938م، ونال درجة الماجستير في الآداب من جامعة كمبريدج، وماجستير آخر من جامعة أكسفورد في نفس التخصص عام 1945م.
كان يتسم بالمرح وخفة الظل، وكان حنونًا معي وصديقًا وكان أوسم الرجال قلبًا وقالبًا في نظري، لم يفكر بالزواج رغم صغر سنه عقب وفاة والدتي وكرس كل حياته لتربية ابنائه، كان يقرأ لي القصص والكتب الإنجليزية، وظل يشجعني على القراءة، فكان مثلي الأعلى بفلسفته ورؤيته للحياة. تزوج مرة أخرى متأخرًا بعد إلحاحي عليه حينما كبرت وبلغت الثامنة عشرة من عمري.
كانت له وجهة نظر في قضية التعليم، لذلك دخل في جدال ممتد مع مديره الإنجليزي بعد عودته من البعثة وتعيينه في مديرية التربية والتعليم، وكان يذهب إلى عمله يوميًا رافضًا أن يتقاضى راتبًا آخر الشهر رغم احتياجه للراتب لعدم اقتناعه بآليات العمل وجدواه في توصيل الخدمة التعليمية، وكان معروفًا في زنجبار بدفاعه عن حق الجميع في التعليم ضد الحكومة الإنجليزية.
ـ في المقابلة الثانية سألت الكاتبة فاطمة جينجا عن تفاصيل استشهاد والدها وأثر هذه الواقعة عليها؟
تقول جينجا: “إنك تفتحين جرحًا لا زال داميًا بداخلي إلى يومنا هذا، ومهما طال الزمن بي سيستمر نزفه، الواقعة بدايتها اتهام والدي من قبل من يطلقون على أنفسهم اسم “الرفاق” من أتباع حزب الأمة اليساري ؛ بأنه عميل للأمريكان والإنجليز وأنه حاول القيام بانقلاب آخر بعد انقلاب يناير 1964م، فقد أتى ثلاثة منهم إلى منزلنا بحي (مالندي) واقتحموه عنوة بحثًا عن والدي، دون مراعاة لحرمة المنزل، قلنا لهم إن والدنا لا يعيش معنا بالمنزل، وأنه تزوج ويعيش ببيت زوجته فردوس بنت محمد البرواني الخاص، حينئذ صمموا أن يأخذوا خادمًا اسمه موليدي ليريهم منزل والدي، وحين رفض انقضوا عليه بالضرب بوحشية، فطلبت جدتي من الخادم الذهاب معهم، رأفة به وإيمانًا منها بأن ابنها سيكون في رعاية المولى، وقبضوا على والدي وسجن ثم أطلق سراحه، ثم سجن مرة أخرى بسجن بعيد عن المدينة.
كنت في الخامسة والثلاثين ومرض ابني أحمد الذي كان في التاسعة من عمره بسرطان الدم وأقمت معه في المستشفى وهو يحتضر. أتى والدي لزيارة حفيده بعد صلاة العشاء، وكانت هذه المرة الأخيرة التي رأيته فيها وأتذكر آخر كلماته لي: “لا الإنجليز ولا الأمريكان سيساندون العرب في رجوع حكمهم في زنجبار، ولذا من يريد لذاته الأمان والبقاء حيًا عليه إما ينضم إلى الأفارقة أو يهرب كما فعل الكثيرون. عقب هذه الزيارة اختفى والدي، وفشلت في الوصول إليه أو معرفة مكان احتجازه، حتى أطلق سراح شخص كان مسجونًا مع والدي، هذا الشخص هو علي بن محمد البرواني، شقيق زوجة أبي فردوس، وحكى لأخته كيف هؤلاء الشخوص الثلاثة من جماعة الرفاق قاموا بتعذيب أبي بالتناوب على مدار شهور، وحين أصبح على مشارف الموت أخذوه إلى مكان بعيد وأرغموه مع ستة آخرين من الأبرياء على حفر مقبرة جماعية كبيرة، ثم أوقفوهم وظهورهم للمقبرة وأطلقوا عليهم الرصاص من الوجه، ليسقطوا جميعًا شهداء في الحفرة، وأرغم علي بن محمد البرواني مع آخرين بإهالة التراب على الجثث.
وعن تأثير استشهاد والدها عليها تقول فاطمة جينجا: “حين حكت لي زوجة أبي عن واقعة استشهاد والدي لم أصدق في البداية، كنت في حالة صدمة وذهول، لم أشعر سوى أن جسدي وكأن به تنميل أو مخدر لشهور، وبمرور الأيام بدأت أتقبل وأستوعب الحقيقة الأليمة لرحيل والدي الأبدي.
المقابلة الثالثة عن دور الرجل في حياة فاطمة جينجا التي تزوجت أكثر من مرة وأنجبت عشرة من البنات والبنين، وهي الآن بدون زوج، تقول: “تزوجت خمس مرات من أربعة رجال، لأن واحدًا من ازواجي تزوجته مرتين (طلقت منه ثم بعد زواجي من آخرين رجعت إليه وتزوجته مرة أخرى).
فالرجل بالنسبة لها مجرد مرحلة تبدأ بالزواج وتنتهي بالطلاق، سواء طالت هذه المرحلة أم قصرت، وأنا لا أستمد وجودي ولا كياني ولا هويتي من الرجل، بل من ذاتي وأولادي وبناتي وكتاباتي، لذلك بمجرد وقوع الطلاق احتضن ابنائي من طليقي ولا أطالبه بأي شيء وأقفل صفحته نهائيًا، وقد نجحت في هذا والدليل أن أبنائي من زيجات مختلفة، لكن الرابط الذي يربط بينهم هو شعور الأشقاء والانتماء إليّ ، فأنا الحضن والأم وأنا الأساس بالنسبة لهم.
وعن مفهومها للحب تقول: ” ظللت أتساءل هل أنا أحببت كل من تزوجتهم حقًا ؟ أم أنني كنت مدمنة لحالة الحب ذاتها كفكرة أو كموضوع؟! وأقصد بهذا حين يقول الشخص إنه أحب شخصًا ما، هل في هذه الحالة يكون حقًا عاشقًا للشخص ذاته ؟ أم لحالة الحب الجميلة التي يجد ذاته فيها؟ لذا الحب كمفهوم من وجهة نظري، أراه مركبًا ويصعب تعريفه.
المقابلة الرابعة كانت عن زواجها الثالث من المرحوم يوسف حميد مفتاح وكان إفريقيًا وبعد انقلاب 1964م رقي لرتبة لواء وعين قائدًا لجيش الانقلاب، تزوجته في نهاية 1966م، وعن الدافع لهذا الزواج تقول فاطمة: ” منذ استشهاد والدي وخلال فترة زواجي من زوجي الثاني المرحوم سالم بن حمد البرواني، كنت أعاني من مضايقات الرفاق واقتحامهم لمنزلي في أي وقت من النهار أو الليل للتفتيش، لم أفهم عمَّ كانوا يفتشون؟ أو عمَّن؟ ولك أن تتخيل حالة الهلع والرعب التي كنت أعيشها أنا وكل من في البيت من جراء هذا التهديد، منظر بشع وغير إنساني ولا رحمة فيه، وفي نفس الفترة طردني رئيسي في العمل من عملي بالهيئة البيطرية دون ذنب ارتكبته ؛ لمجرد أنه كان من الرفاق ومن أتباع حزب الأمة المعادي للعرب.
عانيت معاناة شديدة، لا نقود ولا عمل وأفواه جائعة جميعها تعتمد عليّ في القوت والرمق، اضطررت وأنا المدللة في تربيتي لتعلم خياطة الملابس والطبخ وأعمال أخرى كي أستطيع أن أعيش وأعول من أعول، وصل بي الحال للاستعانة بابنتي شادية (10) سنوات وإيمان (9) سنوات للوقوف على قارعة الطريق كي تقوما ببيع الأكلات التي كنت أطبخها للمارة، فلم يكن باليد حيلة وإن كان هذا الأمر كان يمزقني ألمًا.
وكنت أذهب إلى الشيخ محمد بن ناصر اللمكي للشكوى وكان يساعدني ويخفف عني معاناتي، وفي إحدى زياراتي له كان عنده اللواء يوسف حميد مفتاح قائد الجيش، ونصحني الشيخ أن أطلب مقابلته كي أشرح له مشكلتي، ربما يستطيع مساعدتي ويمنع مضايقات الرفاق عني وعن عائلتي.
وقابلته وأحبني وعرض عليّ الزواج، فتزوجته في نهاية عام 1966م، زواجًا دام 14سنة حتى عام 1980م، وأنجبت منه أبنائي منصور وأماني وشريفة وآخر العنقود ماريسا.
وعن اللواء مفتاح تقول:” كان إفريقيًا خالصًا ولم يكن ثريًا ولكنه كان يمتلك النفوذ والسلطة بحكم منصبه كقائد للجيش، لم يكن متعلمًا بل أميًا يستطيع كتابة اسمه بالكاد، وقبل أن يصير قائدًا للجيش كان يعمل سائقًا للسيارات الثقيلة في الكامب الإنجليزي في شمال إفريقيا وحين وقع انقلاب 1964م، عين فيما بعد قائدًا للجيش، بالنسبة لي كان شخصًا طيبًا ويحبني حبًا كبيرًا.
في المقابلة الخامسة ترد “فاطمة جينجا” على اتهامات من اعتبروا زواجها من قائد جيش الانقلاب خيانة لا تغتفر لبني جلدتها، لا سيما وانه كان إفريقيًا والانقلاب كان انقلابًا للأفارقة على العرب العمانيين.
تقول: “شر البلية ما يضحك”، أنا لم أعرف أنني أنثى جميلة، أو حتى كنت كذلك من وجهة نظر الآخرين، حتى أستطيع مراودة رجل عن نفسه، يوسف هو من أحبني منذ البداية وعرض علي الزواج وألح عليه، أليس بعد الانقلاب الكل فر وفلت بجلده من أجل البقاء حيًا، ومن وجد من ساعده على الفرار بالكثير أخذ أولاده معه والأمثلة على ذلك كثيرة، لكن الوضع معي كان مختلفًا، فحملي كان ثقيلًا، وقبل أن يعلق شخص أو يحكم عليّ، فليضع نفسه في موضعي، سيجد أن زواجي من يوسف كان أمثل السبل وأكثرها شرفًا لبقائي حية وبعزة نفس وكرامة، ولبقاء كل من كان معي.
وعن علاقتها بالقرآن الكريم تقول:” معرفتي بالقرآن الكريم كمعرفة أي مسلم تربى وترعرع في زنجبار، من الأجيال السابقة، فأنا أجيد قراءة القرآن، لأنني تعلمت قراءته في الكٌتاب منذ طفولتي، شأني في ذلك شأن أية طفلة من جيلي ومع مرور السنين وتكرار القراءة حفظت معظم آيات القرآن عن ظهر قلب، وتأسف فاطمة جينجا على ضعف الاهتمام بالقرآن لدى الأجيال الحديثة في زنجبار، فالبعض منهم ضعفاء في القراءة، أو لا يعرفون قراءة القرآن البتة، أو يقرأونه بدون فهم معانيه.
وعن علاقتها بالرئيس عبيد كارومي (1964م ـ 1972م)، تنفي “جينجا” عنه ضلوعه في عمليات الاغتيال والتصفية الجسدية التي انتشرت في زنجبار عقب الانقلاب الذي أطاح بالحكم العربي العماني، وأرجعته إلى أنه بعد الانقلاب كان هناك غوغائية وفوضى واضحة سادت البلاد، ووجود أكثر من جهة أو فرد يمارس نفوذه بطريقته الخاصة، وتذكر للرئيس كارومي مواقفه الإنسانية حين استنجدت به ليسمح لزوجها المسجون بزيارة ابنها الذي كان يحتضر في المستشفى، وكيف وافق على الزيارة وأعطاها مبلغًا من المال لعلمه بظروفها الصعبة، كما تذكر علاقة كارومي الجيدة بالشيخ محمد بن ناصر اللمكي.
في المقابلة السادسة تروي لنا “فاطمة جينجا” عن سبب تزويجها ابنتها الكبرى شادية في سن صغيرة (14) عامًا لأماني ابن رئيس زنجبار عبيد كارومي، وتنفي عن نفسها تهمة إجبار كريمتها على الزواج، وتؤكد أن الزواج تم برضاها وأن ظنها كان في محله، حيث عاشت حياة هنيئة مع أماني الذي أصبح فيما بعد رئيسًا لزنجبار في الفترة من (2000م حتى 2010م) وأصبحت شادية سيدة زنجبار الأولى.
وعن علاقتها بالسلطنة وردها على الشائعات التي تتحدث عن منعها من دخول السلطنة بسبب زواجها من قائد جيش الانقلاب ولذلك لم تزر السلطنة سوى في بداية التسعينيات تقول “فاطمة جينجا”: هذا الكلام لا أساس له من الصحة ومجرد شائعات مغرضة ومحض افتراء واختلاق، أنا لم أمنع من دخول السلطنة لا قبل التسعينيات ولا بعدها، فأنا لا أمارس العمل السياسي ولا علاقة لي بأية حركات مشبوهة سواء سياسية أو غير سياسية، وعمان بها حكومة واعية تعلم تمامًا ما الذي تفعله، وإذا كانت تريد منعي من دخول السلطنة لكوني مطلقة قائد جيش الانقلاب، فمن باب أولى كانت منعت أولادي وبناتي من قائد الجيش من دخول عمان، لمجرد النسب إلى والدهم، فعمان بها معارفي وأهلي وأولادي الثلاثة وابنتي من زوجي الثاني العماني المرحوم سالم البرواني، وجميعهم يحملون الجنسية العمانية، وأنني منذ فترة طويلة آتي إلى السلطنة لإجراء فحوصات طبية على القلب وأتلقى أفضل العلاج والرعاية الصحية بالمستشفيات الحكومية والخاصة، فحكومة السلطنة رحيمة ومعروف عنها عالميًا الإنسانية في تعاملها مع الآخر.
وعن مظاهر الثراء والرفاهية والكرم، التي تعيشها فاطمة جينجا اليوم، حيث تعيش في بيت كبير مملوك لها، مفتوح للضيوف طوال اليوم، في أرقى أحياء زنجبار، يطل على البحر مباشرة، ومبني على مساحة شاسعة للغاية، تحوي بيوتًا أخرى كبيرة “فلل” جميلة مملوكة لأولادها، تقول “جينجا” أما عن الكرم فأنا ابنة عصري ومكاني الذي ولدت فيه زنجبار الثلاثينيات وما بعدها، وسليلة عادات وتقاليد المجتمع المتنوع والثري في ثقافاته وأعراقه من أصول عمانية أو يمنية وهنود وفرس وأفارقة، وأنا فخورة بها وأحافظ عليها، فمن أبرز عاداتنا كعائلات عربية من أصول عمانية في زنجبار سواء الثرية أو العادية، البساطة في التعامل مع الآخر والبيوت المفتوحة لاستقبال الجميع وكرم الضيافة.
أما عن مصدر ثروتها، فتقول أن ما ترينه لم يأت في يوم وليلة، بل كفاح أكثر من ثلاثين سنة، فأنا أجيد التخطيط لحياتي، فبعد سنوات من تأمين حياتي بزواجي من قائد الجيش، وكبر أبنائي منه، استطعت أن أحول البيتين الكبيرين اللذين أملكهما في المدينة الأثرية القديمة بمنطقتي (مالندي) و(شاجاني) ـ بيت أهلي وبيت والدي ـ إلى فندقين يرتادهما السياح الأجانب، وذلك بمساندة بعض المستثمرين، فأنا لم أكن أملك رأس المال الكافي، وبتوفيق من الله نجح المشروع، وأصبح مزارًا سياحيًا يرتاده السياح على مدار العام، رغم رفضي تقديم أي مشروبات روحية فيهما، وكنت اشتري بأرباحي من المشروع قطع أرض، وكانت أسعار الأرض رخيصة منذ عشرين عامًا، ومع ارتفاع الأسعار بعت بعض الأراضي لأشتري مزرعة كبيرة كمشروع استثماري يدر عليّ ربحًا.
فأنا امرأة عصامية بنيت ذاتي بذاتي، وأتحدى أي شخص يقول عني عكس ذلك أو يتهمني بأنني استغللت نفوذ زوجي أو زوج ابنتي أو ابني في الاستيلاء على أملاك الآخرين، فالفساد لم يكن قط من مبادئي ولن يكون.
المقابلة السابعة بدأت بالسؤال عن الزوج الرابع والذي لم يستمر سوى عامين وعنه تقول “فاطمة جينجا”: زوجي الرابع هو المرحوم ماهر نجيب الجيزاوي، كان مصري الجنسية، أتى إلى زنجبار ليعمل مدرسًا لمادة الرياضيات الحديثة، كان يصغرني بتسعة أعوام، تزوجته في زنجبار بعد اعتناقه الإسلام سنة 1980م وطلقت منه عام 1982م في القاهرة، دون أن أنجب منه، تعرفت عليه عن طريق أصدقاء مصريين كانوا يعملون في زنجبار، ومن الوهلة الأولى أبدى إعجابه بيّ والذي سرعان ما تحول من ناحيته لحب جارف، رغم تحفظي معه لكونه مسيحيًا ولفارق العمر بيننا، لكنه ألح في مشاعر حبه والتمسك بي، وعرض عليّ الزواج وأبدى استعداده لاعتناق الإسلام، لم أوافق على الزواج به ليقيني أن اعتناق الإسلام في هكذا حالات لا يكون عن قناعة بالدين.
لم ييأس ماهر واستمر في إلحاحه، حتى استطاع إقناعي بالزواج، وقلت فلأمنحه الفرصة لمعرفة نواياه، ووضعت شرطًا لإتمام الزواج ؛ أن يقرأ عن الإسلام وأن اختياره له كدين تم عن قناعة، وبعد تيقني من إسلامه وقطعه صلته بالمسيحية كدين وافقت على الزواج، وكان ماهر صادقًا في وعده طوال زواجه مني في زنجبار، ولكن في عام 1982م انتقلنا للعيش في القاهرة، وهنا كانت الطامة الكبرى، لم يستطع ماهر مواجهة أهله ومجتمعه بحقيقة إسلامه، واكتشفت أنه كان يذهب إلى الكنيسة بحجة مرافقة والدته، ولم أوافق على ذلك وطلبت الطلاق.
وعن آخر زيجاتها تقول ” فاطمة جينجا”: تزوجت من المرحوم سالم البرواني زوجي الثاني مرة ثانية في انجلترا عام 1983م، وطلقت منه عام 1993م، وعن سبب الزواج رغم قولها سابقًا إنها تطوي صفحة الرجل من حياتها بمجرد حدوث الطلاق ؟.. تقول: أنا لم أسع لفتح أية صفحة من جديد، فالصفحة فتحت من تلقاء ذاتها برغبة كلينا في العودة للآخر، فسالم قال لي إنه لا يزال يحبني وأنه منذ طلاقنا لم يستطع أن يجد نفسه مع امرأة أخرى رغم أنه تزوج وطلق.
وكان سبب الانفصال الإحساس بالغربة وعدم الشعور بالاستقرار طوال عشر سنوات كنت أقضي ستة أشهر في زنجبار ومثلها في انجلترا، مما شكل عبئا نفسيًا عليّ لعدم قدرتي على التأقلم.
المقابلة الأخيرة كانت عن إنتاج فاطمة جينجا الأدبي، واختيارها اللغة الإنجليزية للكتابة، والتي لاحظت آسية البوعلي بعد قراءة روايتين لضيفتها أنها تجيد الكتابة بالإنجليزية التي ملكت ناصيتها على نحو سهل ممتنع، فضلًا عن مستوى وأسلوب في الكتابة ينم عن مستوى أعلى من المستوى الدراسي التي حصلت عليه، وعن سبب اختيارها الإنجليزية للكتابة دونًا عن العربية أو السواحلية، خاصة أنها تعلمت الثلاث لغات تقول: كنت أتمنى الكتابة باللغة العربية، لكن للأسف طوال مراحل دراستي لم أصادف معلمة تحببني في اللغة العربية، أنا وكل جيلي وهذه حقيقة مؤلمة، لأن المدرس هو العامل الأساسي في تقريب أو تنفير الطالب من المادة، فاختيارات مدرسات اللغة العربية كانت سيئة للغاية، لذلك كانت النتيجة صفرًا، عكس اللغة الإنجليزية التي أحببتها بتشجيع من والدي والمدرسة، وقرأت من خلالها عددًا كبيرًا من القصص والروايات.
في بداية رحلتي كنت أستعين بالقواميس عندما تقابلني كلمة إنجليزية لا أفهم معناها، ومع الزمن تكونت عندي حصيلة واسعة من المفردات والتعبيرات ونفس الشيء مع اللغة السواحلية، فهي لا تكتب بها ولا تعرفها كمعرفتها للغة الإنجليزية، وسبب ذلك أنه قبل انقلاب 1964م كانت العربية والإنجليزية هي لغة التدريس في المدارس، ولم يكن هناك اهتمام بالسواحلية والتي تحولت إلى اللغة الرسمية للدولة بعد الانقلاب.
وعن طقوس الكتابة عند “جينجا” والتي لا تؤثر العزلة أو الفردية التي يمارسها معظم الكتّاب وتقول: بالنسبة لي لدي المقدرة التامة على الفصل، فحين أكتب وأنا أكتب وسط الناس، لا أسمع من هم حولي سواء أكان الصوت صادرًا من شخص أو تلفاز أو مذياع أو هاتف، ففي تلك اللحظات أكون مستغرقة في عالمي فحتى من يقاطعني أرد عليه وأعود إلى الحالة الكتابية دون الشعور بالانقطاع.
وعن طبيعة كتاباتها الأدبية وحجمها وبدايتها، تقول: ” أكتب في جنس الرواية فقط، ليس لدي إنتاج أدبي ضخم، نشرت أربع روايات طويلة ـ جميعها بالإنجليزية ـ والآن أكتب سيرتي الذاتية، وقد بدأت الكتابة منذ كنت في العشرينيات من عمري، حين بدأت الكتابة النثرية على هيئة قصص قصيرة أو شبه طويلة، ولكن للأسف لم أحتفظ بأي منها لأنني لم أكن واعية بقيمة ما أكتبه ولأنني في الماضي كنت أستعين بالورق والقلم في الكتابة، فكانت لدي مسودات كثيرة وعدد ضخم من الأوراق فقدتها مع التنقل من بيت لبيت، بالإضافة إلى الظروف القاسية التي مررت بها بعد الانقلاب، لكني منذ خمس سنوات شرعت في الكتابة الأدبية بشكل منتظم، وأستعين بـ (اللاب توب) أو الحاسوب في الكتابة والذي أعانني على الاحتفاظ بكل ما أكتبه ومن ثم نشره.
وعن سبب اختيارها جنس الرواية كنمط للكتابة.. تقول: قرأت أجناسًا أدبية كثيرة منذ صغري ولكني كنت دومًا أميل نحو الرواية، كما أنني قرأت عددًا لا يحصى من الروايات لروائيين إنجليز وعرب وأتراك وإيرانيين.
وعن توظيف اللغة الرومانسية في كتاباتها تقول: الكتابة الإبداعية لا تخضع لخطة مفترضة أو سابقة التجهيز ويقرر الكاتب أن يسير عليها بدقة، فموضوع الرواية هو الموجه الأساسي نحو توظيف عناصرها الفنية.
وعن توظيف عنصر المكان في السرد الروائي تقول: اتخذت من زنجبار كجزيرة لها طبيعتها الجمالية فضاء رئيسيًا للحدث الروائي.